150

قلت: بعد أن فرض أنّ الرفع حقيقيّ، وأنّه ليس رفعاً للوجودات الخارجيّة للعناوين المذكورة في الحديث، وإنّما هو رفع حقيقيّ لشيء قابل للرفع الحقيقيّ، فظاهر حال المتكلّم بوصفه مشرِّعاً كون مقصوده رفع وجود تلك الأشياء في عالم تشريعه للأحكام. والمبطليّة ونحوها ليست من عالم تشريعه، وإنّما هي منتزعة عن أحكامه وتشريعاته. نعم تعدّينا إلى ترك الواجب من باب أنّ العرف يرى وجوب الشيء مساوقاً لحرمة تركه، وكأنّهما شيء واحد، ولا نتعدّى إلى ما هو أبعد من ذلك عن عالم التشريع من قبيل المبطليّة. ومقتضى الجمود على مفاد الحديث حرفيّاً هو عدم التعدّي حتّى إلى ترك الواجب، وإنّما تعدّينا إليه في طول القطع بأنّ العرف لا يفرّق في فهم الحديث بين فعل الحرام وترك الواجب، ولم نكن استفدنا عدم الفرق وشمول الحديث لترك الواجب بسبب قولنا بالتعدّي. وأمّا في مثل موضوع المبطليّة فعدم تفرقة العرف في مفاد الحديث بينه وبين موضوعات أحكام الشارع وتشريعاته غير مسلّم.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الحديث ـ بناءً على المبنى المختار ـ لا يدلّ على صحّة الصلاة وغيرها من الواجبات مع ترك بعض الأجزاء اضطراراً.

 

دلالة الرفع على ثبوت الملاك:

الجهة الثانية: أنّه هل يستفاد من حديث الرفع ثبوت ملاكات الأحكام المرفوعة ومقتضياتها في حالات الاضطرار والإكراه ونحو ذلك أو لا؟ واستفادة ذلك تؤثّر أثراً فقهيّاً في تصحيح العمل المأتيّ به في هذه الحالات، فلو اُكره المكلّف مثلاً على ترك الوضوء، فتحمل مشقّة الإكراه وتوضّأ ولم يكن الإكراه بدرجة يحرم الاقتحام حتّى يبطل الوضوء من باب النهي في العبادة، صحّ وضوؤه بنكتة اشتماله على الملاك بناءً على استظهار ذلك من حديث الرفع، وإلاّ فغاية ما

151

يتحصّل للفقيه من هذا الحديث عدم وجوب الوضوء على هذا المكره، وبعد انتفاء الوجوب لا يبقى دليل على أصل وجود الملاك حتّى يحكم بصحّة وضوئه في هذه الحال. وما يمكن أن يحاول إثبات هذه النكتة به من الحديث أحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أنّ ظاهر الحديث ـ كما أشرنا إليه سابقاً ويأتي تفصيله إن شاء الله ـ هو كونه مسوقاً مساق الامتنان، والحكم الذي ليس له مقتض في نفسه ليس رفعه امتناناً، وإنّما الامتنان في رفع الحكم يكون عند فرض وجود المقتضي للحكم.

أقول: إنّ هذا التقريب إنّما يتمّ بالنسبة للموالي العرفيّين الذين يلاحظون في أوامرهم على عبيدهم مصالح أنفسهم لا مصالح العبيد، فيصحّ للمولى أن يمتنّ على عبده برفع اليد عن تلك المصلحة، وينتفي هذا الامتنان في فرض عدم الملاك وانتفاء المصلحة في ذاتها. وأمّا بالنسبة للمولى الحقيقيّ ـ تعالى شأنه ـ فلا يتصوّر أن يمنّ على العباد برفع حكم عنه بعنوان أنّه رفع اليد عن تحقيق مقتضي الحكم وتحصيل مصلحته، فإنّ مصلحته راجعة إلى العباد أنفسهم لا إلى المولى. وإنّما الامتنان المعقول في حقه في هذا الرفع هو أن يمنّ عليهم برفع الحكم عنهم بعنوان أنّ هذا الرفع كان في صالحهم فحقّق لهم مصلحتهم بهذا الرفع، سواء فرض أنّه كانت في الحكم مصلحة وكان الرفع مفوّتاً لها، لكنّه كانت مصلحة الرفع أقوى من المصلحة الفائتة، أو أنّه لم تكن في الحكم مصلحة أصلاً، وكانت المصلحة في الرفع فحسب، ولا معنى لصحّة الامتنان في خصوص فرض مفوّتيّة الرفع لمصلحة أدنى دون فرض عدم مفوّتيّة لها.

التقريب الثاني: أنّ الشارع قد بيّن النفي في هذا الحديث بلسان الرفع، وهذا اللفظ إنّما يستعمل حقيقة في النفي بعد الوجود، فإنّ الرفع نفي وإعدام للموجود، لا نفي للوجود من أوّل الأمر. ومن المعلوم أنّ الحكم في الحصّة التي تكون مورداً

152

لهذه العناوين، كالاضطرار والإكراه منفيّ من أوّل الأمر، لا أنّه يحرم أوّلاً إتيان ما اضطرّوا إليه أو اُكرهوا عليه ثمّ ترفع الحرمة. ويحتاج استعمال لفظ الرفع في مثال هذا المورد إلى علاقة مصحّحة، وهي في هذا المقام عبارة عن الوجود الاقتضائيّ والملاكيّ للحكم، فكأنّه رفع للشيء الموجود وإن لم يصدق الرفع حقيقة لعدم وجوده.

وتحقيق الحال في هذا المقام أن يقال: إنّه إن بنينا على المبنى غير المرضيّ عندنا من أنّ الرفع رفع تشريعيّ للوجود الخارجيّ، أمكن أن تكون العلاقة الملحوظة المصحّحة لاستعمال كلمة (الرفع) نفس الوجود الخارجيّ لتلك الأشياء، وهذا وإن لم يكن خالياً من العناية؛ لأنّ الرفع الحقيقيّ نفيٌ بعد الوجود ـ أي: نفي في الآن الثاني ـ وهذا نفي ثابت في الآن الأوّل، لكنّ هذه العلاقة كافية لتصحيح استعمال الرفع في المقام بلا حاجة إلى مسألة الملاك والمقتضي.

وأمّا إذا بنينا على المبنى المرضيّ عندنا من أنّ الرفع رفع حقيقيّ للوجود التشريعيّ، فالوجود الخارجيّ ليس مصحّحاً للرفع؛ إذ ليس رفعاً له ـ بحسب الفرض ـ فلابدّ من تصوير وجود آخر لتصحيح كلمة (الرفع) وذلك يتصوّر بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أن يفرض أنّ هذه العناوين كان الحكم فيها ثابتاً في أوّل الشريعة، فكان يجب ترك المحرّم المكره عليه أو المضطرّ إليه ونحو ذلك، ثمّ رفع ذلك ونسخ بحديث الرفع.

الثاني: أن يفرض أنّ الحكم فيها كان ثابتاً في الشرائع السابقة، فرفع ونسخ في هذه الشريعة، ويصحّ إطلاق كلمة (الرفع) عن هذه الشريعة؛ لأنّ الحكم المشرّع في أيّة شريعة لا يشرّع بنحو مقيّد وذي أمد من أوّل الأمر، بل يشرّع بنحو الإطلاق ثمّ ينسخ، فحاله حال حكم جعل في نفس هذه الشريعة ثمّ نسخ.

153

الثالث: أن يفرض للحكم وجود اقتضائيّ وملاكيّ كما هو المقصود.

أمّا الوجه الأوّل: فهو قطعيّ البطلان؛ إذ لا نحتمل ثبوت هذه الأحكام في الشريعة يوماً مّا.

وأمّا الوجه الثاني: فلو احتملنا عقلائيّاً ثبوت تكاليف شاقّة في غاية الضيق في الاُمم السابقة ـ كما يحتمله بعض وكما يظهر من بعض الروايات في كتاب الطهارة(1) ـ أصبح الحديث مجملاً مردّداً أمره بين الوجه الثاني والثالث. لكن الإنصاف أنّه لا ينبغي أن يكون من المحتمل احتمالاً عقلائيّاً ثبوت تكاليف في الاُمم السابقة من هذا القبيل، كالتكليف بما لا يطيقون، وما اضطرّوا إلى خلافه، أو اُكرهوا على ذلك، فيتعيّن بذلك الوجه الثالث، ونستظهر من الحديث الوجود الاقتضائيّ والملاكيّ لتلك الأحكام، وترتّب على ذلك ما يناسبه من الآثار والثمرات في الفقه(2).

 


(1) راجع الوسائل، ج 1، ب 1 من الماء المطلق، ح 4، ص 100.

(2) لا يخفى أنّنا لو شككنا في مورد مّا، كالوضوء مثلاً بعد طروّ بعض هذه العناوين في أنّه هل الملاك موجود فيصّح العمل لو تحمّل المكلّف الحرج أو لا؟ فإنّما يمكن إثبات الملاك بالتمسّك بإطلاق حديث الرفع لو قلنا: إنّ موضوع الحكم في حديث الرفع هو مطلق ما اُكرهوا عليه مثلاً أو ما اضطرّوا إليه أو ما لا يطيقون، فيقال: إنّ التعبير بالرفع دلّ على ثبوت الملاك في مطلق تلك الموارد. أمّا لو قلنا: إنّ التعبير بالرفع دلّ على اختصاص الحديث بفرض ثبوت الملاك، فالتمسّك بإطلاق الحديث لإثبات الملاك تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للعامّ، والتردّد بين الاحتمالين كاف في عدم جواز التمسّك بالإطلاق. إذن فالتمسّك بالإطلاق يتوقّف على تعيين الاحتمال الأوّل.

154

إن قلت: لعلّه أطلق الرفع باعتبار وجود تلك الأشياء قبل طروّ تلك العناوين، فمثلاً الوضوء يرفع في الوقت الذي لا يطاق، واستعمال كلمة (الرفع) يكون بمناسبة ثبوت الوضوء قبل طروّ عدم الطاقة.

قلت: لم يلحظ في الحديث المكلّف وثبوت حالين له كما فعل ذلك في دليل الاستصحاب، وإنّما لوحظ فيه عالم التشريع. ومن المعلوم أنّ الوضوء في حال الطاقة والوضوء في غير حال الطاقة يكونان بحسب عالم التشريع حصّتين في عرض واحد(1)، ووجود أحدهما لا يصحّح إطلاق الرفع على نفي الآخر، وإنّما


نعم، هناك طريق لتصحيح مثل الوضوء الحرجيّ رغم التردّد بين الاحتمالين، وهو أنّ احتمال ثبوت الملاك يساوق احتمال التخيير بين الوضوء والتيمّم، واحتمال عدمه يساوق احتمال تعيّن التيمّم، وسيأتي في محلّه إنّ الأصل لدى دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو البراءة عن التعيين.

نعم، لو كان دليل البدل الاضطراريّ ظاهراً في التعيّن لم يجز الاكتفاء بالأصل الضرريّ، كما هو الحال في الصوم على ما يبدو من ظاهر قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَر﴾(1) وقوله تعالى: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَر﴾(2).

(1) وقد يكون عدم الطاقة بالنسبة لمكلّف مّا ثابتاً من أوّل الأمر، وهو مشمول لهذا الحديث. وهذا شاهد على أنّ الحديث لم يلحظ حالة عدم الطاقة كحالة ثانية للمكلّف ـ كما لاحظ دليل الاستصحاب حالة الشكّ كحالة ثانية له ـ كي يكون الرفع بلحاظ وجود الحكم في الحالة الاُولى، وهي حالة وجود الطاقة.


(1) سورة 2 البقرة، الآية: 184.

(2) سورة 2 البقرة، الآية: 185.

155

الرفع يطلق على نفي ما كان بنفسه موجوداً، لا على نفي ما كان أمر آخر في عرضه موجوداً.

 

الآثار المقيّدة بالعنوان المرفوع:

الجهة الثالثة: أنّ الآثار المقصود رفعها تارةً يفرض ترتّبها على العناوين الأوّليّة بقطع النظر عن العناوين الثانويّة المأخوذة في حديث الرفع وجوداً وعدماً، واُخرى يفترض تقيّدها بعدم تلك العناوين، وثالثة يفرض تقيّدها بتلك العناوين.

والقسم الأوّل هو القدر المتيقّن رفعه من الحديث بلا إشكال.

والقسم الثاني لا إشكال في عدم شمول الحديث له؛ إذ بطروّ تلك العناوين ينتفي موضوع تلك الأحكام في نفسه بقطع النظر عن حديث الرفع.

ويقع الكلام في القسم الثالث هل يشمله حديث الرفع أو لا؟ فمثلاً لو وقع نسيان في الصلاة فهل يدلّ حديث الرفع على أنّ هذا النسيان لا يوجب سجدتي السهو، فإن ورد دليل على وجوب سجدتي السهو في هذه الحالة كان معارضاً لحديث الرفع ويتقدّم عليه بالأخصّيّة، وإن لم يرد على ذلك وشككنا في وجوب سجدتي السهو عليه كان إطلاق دليل رفع النسيان دليلاً على عدم الوجوب بلا حاجة إلى الأصل، أو أنّ حديث الرفع لا يدلّ على مثل ذلك، فلو ورد دليل على وجوب سجدتي السهو في هذه الحالة قلنا بالوجوب، لا لأجل تخصيص حديث الرفع بهذا الدليل، بل للأخذ بدليل غير مبتلىً بالمعارض ولو بنحو العموم. ولو لم يرد دليل على وجوبهما وشككنا في وجوبهما واقعاً احتجنا في نفي الوجوب إلى الأصل.

المشهور بين المحقّقين هو أنّ حديث الرفع لا يشمل حكماً يفرض تقيّده بنفس هذه العناوين. وذكر المحقّق الخراسانيّ والمحقّق العراقيّ(قدس سرهما) ـ ووافقهما السيّد

156

الاُستاذ ـ في وجه ذلك: ما يكون بعد التوجيه متألّفاً من أمرين:

الأمر الأوّل: ما ظهر فيما سبق من أنّ حديث الرفع يدلّ بنفسه على ثبوت المقتضي للحكم تصحيحاً لاستعمال كلمة الرفع.

الأمر الثاني: أنّ ظاهر حديث الرفع كون هذه العناوين بنفسها سبباً للرفع، لا ملازمة لشيء آخر هو السبب للرفع.

إذا عرفت هذين الأمرين قلنا: إن فرض الحكم مترتّباً على عنوان أوّليّ لا على هذه العناوين، فلا إشكال في شمول حديث الرفع له، ويكون كلا الأمرين ثابتاً في المقام، فذاك العنوان الأوّليّ مقتض للحكم، والعنوان الثانوي كالنسيان مثلاً رافع له. وأمّا إن فرض الحكم مترتّباً على نفس هذه العناوين الثانويّة فلا يمكن شمول حديث الرفع له؛ إذ يلزم من ذلك كون المقتضي للحكم نفس ذلك العنوان، والرافع له أيضاً نفس ذلك العنوان، ويستحيل اتّحاد المقتضي والرافع وكون شيء واحد مقتضياً للنقيضين. نعم، لو أنكرنا الأمر الثاني وفرضنا الرافع شيئاً آخر ملازماً لهذا العنوان ارتفع هذا الإشكال؛ لعدم اتّحاد المقتضي والرافع، كما أنّنا لو أنكرنا الأمر الأوّل ارتفع الإشكال أيضاً، فإنّ حديث الرفع بإطلاقه يدلّ عندئذ على عدم وجوب سجدتي السهو مثلاً للنسيان ولو من باب عدم المقتضي له؛ إذ المفروض أنّ نفس حديث الرفع لا يفرض وجود المقتضي، فدليل وجوب سجدتي السهو يصبح معارضاً لحديث الرفع ومقدّماً عليه بملاك الأخصّيّة.

هذا توضيح ما يستفاد من كلام الأعلام(قدس سرهم) بعد توجيهه.

وإنّما نقول: «بعد توجيهه» لأنّ ظاهر كلامهم هو المفروغيّة عن اقتضاء هذه العناوين للحكم، لكونه هو مفروض الكلام؛ لأنّنا نتكلّم في أنّ حديث الرفع هل يشمل آثار نفس هذه العناوين أو لا؟ فلم يحتاجوا إلى الأمر الأوّل من الأمرين اللذين قدّمناهما من استفادة ثبوت الاقتضاء من نفس حديث الرفع.

157

لكنّك ترى أنّ هذا الكلام لا يرجع إلى محصّل، فإنّنا لو غضضنا النظر عن دلالة نفس حديث الرفع على ثبوت الاقتضاء، أصبح دليل وجوب سجدتي السهو مثلاً معارضاً لحديث الرفع ومقدّماً عليه بالأخصّيّة، فإنّه وإن دلّ على اقتضاء النسيان لوجوب سجدتي السهو وتحقّق الوجوب بسبب هذا المقتضي، لكن حديث الرفع يدلّ على انتفاء الوجوب ولو بانتفاء الاقتضاء، فلم يتحقّق ما هو مقصودهم من خروج مثل هذا الفرض عن مورد حديث الرفع تخصّصاً لا تخصيصاً.

وبكلمة اُخرى: إنّ مجرّد فرضنا لاقتضاء هذه العناوين للحكم لا يمنع عن دلالة حديث الرفع على نفي الحكم ولو بعدم المقتضي، غاية الأمر أنّ هذا الاقتضاء المفروض وفعليّة تأثيره لو دلّ عليهما دليل كان ذاك الدليل مخصّصاً لإطلاق حديث الرفع.

وتوجيه كلامهم هو ما ذكرناه من استفادة ثبوت الاقتضاء من نفس الحديث، فيلزم من شمول الحديث لأحكام نفس هذه العناوين اتّحاد المقتضي والرافع.

وبكلمة اُخرى: إنّه إذا كان مفاد الحديث هو الرفع على تقدير ثبوت الاقتضاء، فمفاده حتماً هو الرفع على تقدير ثبوت الاقتضاء في عنوان آخر غير نفس هذه العناوين؛ لعدم إمكان رافعيّة هذه العناوين ما تقتضيه نفسها، ففرض اقتضاء نفس هذه العناوين لحكم مّا يعني فرض خروج ذلك عن مورد الحديث تخصّصاً. وهذا بخلاف ما إذا كان مفاد الحديث مجرّد النفي المنسجم مع عدم المقتضي. فعندئذ ليس فرض اقتضاء نفس هذه العناوين لحكم مّا مساوقاً لفرض خروج ذلك عن مورد الحديث تخصّصاً، وغاية ما هناك فرض خروجه عنه تخصيصاً.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام بعد هذا التوجيه أيضاً غير تامّ، فإنّ اقتضاء هذه العناوين كالنسيان للحكم ليس من قبيل اقتضاء المقتضي الفاعليّ التكوينيّ لشيء، وإنّما معنى اقتضائها للحكم إيجابها لاتّصاف الشخص أو الفعل بخصوصيّة

158

توجب كون سجدتي السهو مثلاً صلاحاً للعبد وكمالاً له، فالسهو مثلاً يوجب منقصة في العبد يكون جبره بسجدتي السهو، أو يوجب اتّصاف هذا الفعل بخصوصيّة يصبح بها كمالاً للعبد فيجب. وأيّ مانع من افتراض شيء واحد كالنسيان مثلاً مقتضياً لدخول خصوصيّتين في الفعل مثلاً غير متنافيتين في أنفسهما، ويكون بلحاظ إحدى الخصوصيّتين إيجاب الفعل صلاحاً للعبد، وبلحاظ الاُخرى فساداً بالنسبة له، ويفرض أنّه بعد الكسر والانكسار يغلّب جانب الفساد، فرفع الشارع الإيجاب مع وجود المقتضي له من دون أن يلزم تأثير شيء واحد في أمرين متنافيين.

والذي ينبغي أن يقال ـ في مقام إثبات عدم شمول الرفع لآثار نفس هذه العناوين ـ هو: إنّ ما اضطرّوا إليه مثلاً ونحوه إمّا أن يفرض أخذه في الحديث بنحو المعرّفيّة إلى ذلك الفعل، أو يفرض أخذه بنحو الموضوعيّة، ويستحيل الجمع بين اللحاظين. فإنّ فرض لحاظ المعرّفيّة هو فرض ملاحظة الذات بما هي، وفرض الموضوعيّة هو فرض ملاحظة الذات المقيّدة، والذات الواحدة لا يمكن أن تلحظ مطلقة ومقيّدة في استعمال واحد وبإنشاء واحد.

فإن فرض أخذه بنحو المعرّفيّة اختصّ الرفع برفع آثار ذات الشيء بعنوانه الأوّلي دون آثار هذه العناوين الثانويّة، وكون الذات دخيلاً بنحو جزء الموضوع في أثر العناوين الثانويّة وإن كان يصحّح عقلاً فرض كون رفعه بلحاظ هذا الأثر أيضاً، لكنّه لا يبرّر فهم ذلك من الحديث عرفاً.

وإن فرض أخذه بنحو الموضوعيّة اختصّ الرفع بخصوص آثار نفس هذه العناوين الثانويّة، فيتحصّل أنّه لا يصحّ الجمع بين كلا قسمي الأثر في الرفع. وبما أنّه لا إشكال ـ بحسب الفهم العرفيّ ـ في شمول الحديث للقسم الأوّل من الأثر في مثال رفع ما اضطرّوا إليه، فلا نشكّ في أنّ الصحابة حينما سمعوا هذا الحديث

159

فهموا منه أنّ من يضطرّ إلى شرب الخمر ترتفع حرمة شرب الخمر عنه مثلاً، ولا نحتمل فهم العرف لرفع خصوص القسم الثاني من الأثر في قبال القسم الأوّل. إذن نستنتج أنّ هذا الحديث لا يشمل القسم الثاني من الأثر(1).

هذا مضافاً إلى بعض الروايات التي استشهد فيها الإمام(عليه السلام)بحديث الرفع، فإنّه(عليه السلام) طبّق حديث الرفع على ما كان من قبيل القسم الأوّل، فطبّقهُ على ما إذا حلف بالطلاق ونحو ذلك مكرهاً(2)، ومن الواضح أنّ الأحكام التي رفعها الإمام(عليه السلام) بتطبيق حديث الرفع في مثل الطلاق والعتاق ليست مترتّبة على عنوان الإكراه، فإذا ثبت بذلك شمول الرفع للقسم الأوّل من الأثر ثبت عدم شموله للقسم الثاني؛ لما عرفت من عدم صحّة الجمع بينهما.

 

اختصاص الحديث بما في رفعه التخفيف:

الجهة الرابعة: أنّ ظاهر الحديث اختصاص ما دلّ عليه من الرفع بخصوص الأحكام التي يكون في رفعها تخفيف على العباد، والقرينة على ذلك أمران:

الأوّل: تعدية الرفع بـ (عن)، فالرفع عن شخص إنّما هو بمعنى إزالة الأمر الثقيل عنه.

والثاني: سوق الحديث مساق الامتنان والتحبّب من قِبل سيّد الأنبياء(صلى الله عليه وآله)حيث إنّه أضاف الرفع إلى اُمّة أضافها إلى نفسه. وهذا اللسان لسان مشعر بالتحبّب والتمنّن عليهم. وهذا قرينة على أنّ الرفع سنخ رفع يتودّد به إلى الاُمّة، ويتحبّب إليهم، وهذا معنى قولهم: (إنّه مسوق مساق الامتنان) فيختصّ بخصوص ما إذا كان في نفع الاُمّة ورفعاً لأمر ثقيل عنهم.



(1) هذا بيان إنّيّ لإثبات المقصود، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ بيانه اللمّيّ في آخر الجهة الخامسة.

(2) راجع الوسائل، ج 16، ب 12 من الأيمان، ح 12، ص 136، وب 16 منها، ح 6، ص 144.

160

وهاتان القرينتان وإن كانتا مشتركتين في إثبات المدّعى، ولكنّهما بالدقّة تختلفان في بعض الخصوصيّات؛ وذلك لأنّ القرينة الاُولى لا تكون قرينة على أزيد من اشتراط التخفيف بالنسبة للشخص المرفوع عنه، حيث إنّ الرفع في قوله: «رفع عن اُمّتي...» رفع انحلاليّ، ينحلّ إلى الرفع عن كلّ فرد فرد، فكلّ شخص يكفي في صحّة رفع حكم عنه كون رفعه تخفيفاً بالنسبة له، وإن فرض ثبوت تحميل في هذا الرفع بالنسبة لشخص آخر، فإنّ هذا أيضاً داخل في الإطلاق، لكن هذا الإطلاق انهدم بالقرينة الثانية، حيث إنّه أضاف(صلى الله عليه وآله) الرفع إلينا بعنوان مجموعيّ بما نحن اُمّة بنسبة واحدة بينه(صلى الله عليه وآله)وبين أفراد الاُمّة، فلابدّ أن لا يكون ذلك تحميلاً على شخص آخر(1).

وترتّب على هذا الذي استفيد من الحديث ثمرات:

منها: التفصيل بين المعاملات الإكراهيّة والمعاملات الاضطراريّة، فالمعاملات



(1) قد يقال: إنّ كلمة الاُمّة إن كانت تعطي معنى المجموعيّة إذن لابدّ من فرض عدم كون الرفع عن شخص تحميلاً على شخص آخر. وإن حملت على الاستغراق والانحلال كفى في شمول الرفع كونه تخفيفاً عن شخص المرفوع عنه وامتناناً عليه، فالمقياس في ذلك ليس هو كون القرينة على شرط التخفيف كلمة «عن» أو الامتنان، وإنّما المقياس هو استظهار المجموعيّة، أو الانحلال من كلمة «اُمّتي». ولكن لا يبعد أن يكون مقصوده(رحمه الله)أنّنا لو كنّا وكلمة «عن» فحسب لحملت كلمة «اُمّتي» على الانحلال لا المجموعيّة، كما يقال في (اغسلوا وجوهكم): إنّ مقابلة الجمع بالجمع تفيد التوزيع، وهذا مقتضى الطبع الأوّليّ لكلّ العمومات والألفاظ الدالّة على الشمول، فإنّها تحمل عادة على الانحلال، ولكن قرينة الامتنان والتحبّب وإظهار الرحمة والوداد تمنع عرفاً عن الحمل على الانحلال وتكون قرينة على المجموعيّة؛ لأنّ نسبة عطوفة مقام النبوّة والحنان المرتبط بعلاقة النبوّة بين النبيّ واُمّته إلى جميع أفراد الاُمّة على حدّ سواء، فلا معنى للتضحية براحة فرد منهم في سبيل راحة الفرد الآخر بملاك العطوفة والحنان المرتبطين بتلك العلاقة.

161

الإكراهيّة باطلة؛ لأنّ في رفعها امتناناً على العباد بخلاف المعاملات الاضطراريّة،كمن اضطرّ إلى بيع داره لتحصيل مال ينفعه في علاج ولده مثلاً، فإنّ رفع ذلك تثقيل عليه وليس تخفيفاً عنه. فعلى سبيل الإجمال نقول هنا: إنّ هذا هو سرّ تفصيل الفقهاء بين بيع المكره عليه وبيع المضطرّ إليه بالبطلان في الأوّل والصحّة في الثاني. أمّا البحث عن خصوصيّات ذلك من قبيل أنّه لو اُكره على دفع مال ولم يكن يمتلك المال فباع داره لأداء ذلك، فهل يلحق بالقسم الأوّل، أو القسم الثاني؟ فهو موكول إلى بحث المكاسب.

ومنها: أنّ هذا الحديث لا يشمل الإكراه على إيذاء شخص مثلاً أو قتله؛ إذ هو تحميل على ذلك الشخص وإن كان تخفيفاً للمكره، فهذا ليس داخلاً في باب حديث الرفع، وإنّما هو داخل في باب التزاحم، فمثلاً لو قال الظالم له: (لو لم تضرب زيداً لقتلتك) فدار الأمر بين ضرب ذلك الشخص الذي هو حرام في نفسه وتعريض نفسه للقتل الذي هو حرام أيضاً في نفسه، قدّم الأوّل على الثاني بقوانين باب التزاحم.

وقد ذكر المحقّق العراقيّ(قدس سره) هنا ثمرة اُخرى وهي أنّ الحديث لا يشمل ما إذا حصل الاضطرار مثلاً أو النسيان بسوء الاختيار؛ لأنّ عدم الرفع في هذا الفرض لا يكون خلافاً للامتنان(1).

أقول: لا إشكال في أنّ إطلاق الحديث بمعناه الحرفيّ شامل لهذا الفرض ـ بقطع النظر عن النكتة التي سوف نبيّنها إن شاء الله ـ وإنّما الكلام في أنّ سوق الحديث مساق الامتنان هل هو قرينة على تقييد هذا الإطلاق أو لا؟ ولمعرفة ذلك



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 212.

162

لابدّ أن نرى أنّه هل يكون في الرفع بالنسبة لهذا الشخص امتنان أو لا؟ ومن الواضح ثبوت الامتنان في ذلك؛ إذ إنّ رفع ما اضطرّ إليه مثلاً ـ وإن كان بسوء اختياره ـ يريحه ويرفع ثقلاً عن كاهله بلا إشكال، فإخراج هذا الفرض من الحديث بهذه القرينة في غير محلّه.

نعم، الصحيح أنّ فرض الاضطرار بسوء الاختيار خارج عن الحديث في نفسه وبقطع النظر عن هذه القرينة؛ وذلك لأنّ مثل هذا الفعل لا يعدّ اضطراريّاً في قبال أصل الاختيار؛ إذ هو ناشئ عن اختياره وإن كان اضطراريّاً في قبال الاختيار في نفس ساعة الاضطرار، فمن ألقى نفسه مثلاً من شاهق فمات يقال عنه: إنّه قتل نفسه باختياره، لا أنّه هلك اضطراراً ومن دون قدرته، وإن كان بعد إلقاء نفسه لا يكون في الهواء قادراً على إيقاف نفسه وإنجائها من الهلاك. فالمفهوم عرفاً من الاضطرار إنّما هو الاضطرار في قبال أصل الاختيار، لكن هذا البيان ـ كما ترى ـ لا يأتي في باب النسيان، فإنّه يقال عمّا نسيه: إنّه منسيّ حتّى مع فرض كون ذلك بسوء اختياره، فالعرف لا ينفي هنا النسيان كما كان ينفي الاضطرار(1).


(1) لا يبعد أن يقال: إنّ من ألقى نفسه من شاهق فهو في حين الإلقاء قد خالف باختياره دليل حرمة إلقاء النفس في التهلكة، أو دليل حرمة قتل النفس، أو حرمة الإضرار بالنفس. وهذا خارج موضوعاً عن دليل نفي الاضطرار ولو فسّر ذلك بمعنى الاضطرار في ساعة الاضطرار. أمّا لو فرضنا أنّه حين ألقى نفسه من شاهق لم يكن بعدُ قد نزل الحكم بتحريم الإلقاء في التهلكة وقتل النفس وحرمة الإضرار بها، وبعد أن ألقى نفسه نزل الحكم بتحريم الإضرار بالنفس، وبترتّب بعض التبعات على ذلك من كفّارة، أو حدّ، أو تعزير ونحو ذلك، ثمّ سقط على الأرض وانكسرت رجله، كان ذلك داخلاً تحت دليل نفي

163

إذن فمدّعاه(رحمه الله) في باب الاضطرار صحيح دون النسيان. ودليله على مدّعاه غير صحيح.

 

وقفة حول الخطأ والنسيان:

الجهة الخامسة: ذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّه شذّت في هذا الحديث كلمة (الخطأ والنسيان) ففي مثل ما اضطرّوا إليه ذكر الشيء بصياغة طروّ العنوان الثانوي عليه، ولكن في هاتين الكلمتين ذكر نفس الخطأ والنسيان، لا المخطيّ أو المنسيّ، فهل المرفوع هو المخطيّ أو المنسيّ ـ كما هو الحال في مثل ما اضطرّوا إليه ـ أو نفس الخطأ والنسيان؟ أفاد المحقّق النائينيّ(قدس سره): أنّ المرفوع هو المخطيّ والمنسيّ لا نفس الخطأ والنسيان؛ إذ لو رفع نفس الخطأ والنسيان كان ذلك خلاف الامتنان وتحميلاً على العبد؛ إذ معنى ذلك أنّ ما ارتكبه من الحرام خطأً أو نسياناً كأنّه ارتكبه عمداً(1).

أقول: هذا أيضاً ممّا لا ينسجم مع مبنى كون الرفع في هذا الحديث رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ، وإنّما ينسجم مع العكس وهو كون الرفع رفعاً تشريعيّاً للوجود


الاضطرار؛ لأنّه من حين نزول الحكم كان مضطرّاً ولم يكن له مناص. وكذلك نقول في النسيان: إنّه لو وجبت المحافظة من ناحية النسيان لإحرازنا لأهمّيّة الموضوع، أو لاقتضاء إطلاق دليل وجوب ذلك الواجب المحافظة عليه في داخل الوقت، أو لأيّ دليل آخر، ثمّ ورّط نفسه في النسيان فقد خالف ـ في ساعة ترك المحافظة ـ الحكم متذكّراً وهو خارج عن حديث رفع النسيان موضوعاً، وإلاّ فهو مشمول للحديث.

(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 127، وأجود التقريرات، ج 2، ص 170.

164

الحقيقيّ؛ إذ عندئذ يقال: إنّ رفع الخطأ والنسيان يعني فرض انتفائهما خارجاً، وافتراض الفعل الصادر بمنزلة الفعل العمديّ الذي لا خطأ فيه ولا نسيان، وهذا خلاف الامتنان. أمّا بناءً على الرفع الحقيقيّ للوجود التشريعيّ فمعنى رفع الخطأ والنسيان رفعهما عن صفحة التشريع بلحاظ ما يفترض لهما من أحكام ثقيلة على العبد، كوجوب سجدتي السهو مثلاً، وهذا موافق للامتنان.

نعم، مع ذلك نقول: إنّ المرفوع هو المخطيّ والمنسيّ لا نفس الخطأ والنسيان؛ وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: وحدة السياق، حيث إنّك عرفت(1) أنّ العنوان الثانويّ في مثل «ما اضطرّوا إليه» اُخذ بنحو المعرّفيّة ومشيراً إلى ما طرأ عليه الاضطرار. وبما أنّ الخطأ والنسيان أيضاً يصلحان لفرضهما عنواناً مشيراً ومعرّفاً للمخطيّ والمنسيّ باعتبارهما شأناً من شؤونهما، ومقتضى وحدة السياق كونهما ملحوظين كذلك، فهما أيضاً كالاضطرار ونحوه اُخذا جهة تعليليّة.

إن قلت: فكيف نصنع بالحسد والطيرة والوسوسة، حيث إنّ المرفوع نفس هذه الاُمور ولم تؤخذ معرّفاً ومشيراً؟

قلنا: إنّ هذه الاُمور ليست عناوين ثانويّة كالاضطرار والإكراه والخطأ والنسيان، ممّا لابدّ من فرض عنوان أوّلي سابق عليها، فوحدة السياق المقتضية لمشيريّة العنوان الثانويّ إلى الذات الثابتة في الرتبة السابقة تختصّ بغيرها وتؤثّر فيما عداها.

الوجه الثاني: أنّ ظاهر الحديث ـ كما مضى ـ هو كون هذه العناوين رافعة.



(1) بالوجه الإنّيّ الماضي في آخر الجهة الثالثة، وبما اُشير إليه هناك من بعض الروايات.

165

ومقتضى مناسبات الحكم والموضوع والارتكاز العرفيّ هو أنّ مثل الاضطرار(1)والخطأ والنسيان تصلح رافعة لآثار ما تطرأ عليها، لا رافعة لآثار نفسه، وهذه المناسبة العرفيّة تصبح قرينة على أنّ الخطأ والنسيان اُخذا معرّفين ومشيرين إلى ذات المخطيّ والمنسيّ، وجهة تعليليّة لرفعها.

 

ما لا يشمله الرفع:

الجهة السادسة: أنّ هناك آثاراً لا يشكّ فقيه في عدم شمول الرفع لها من قبيل حصول النجاسة بملاقات النجس، والجنابة بتحقّق موضوعها ونحو ذلك، فإنّه لو حصل ذلك ـ ولو اضطراراً مثلاً ـ ترتّبت الآثار من النجاسة والجنابة ونحوهما لا محالة، ويقع الكلام في أنّ خروج ذلك عن الحديث هل هو بالتخصيص أو بالتخصّص؟

ذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى أنّ خروج ذلك بالتخصيص بالإجماع(2).

وذهب السيّد الاُستاذ إلى أنّ ذلك خارج عن مفاد الحديث تخصّصاً؛ لأنّ الاضطرار في نظر العرف صفة للفعل المضطرّ إليه، فإن كان هناك حكم مترتّب على نفس الفعل، كالكفّارة المترتّبة على الإفطار ارتفع بالاضطرار والإكراه. وأمّا إذا كان الحكم مترتّباً على عنوان الملاقاة مثلاً كما في النجاسة، أو أيّ عنوان آخر غير الفعل، فهو لا يرتفع بحديث الرفع؛ لأنّ ما يتّصف بالاضطرار وهو الفعل ليس هو موضوعاً للحكم، وما يكون موضوعاً للحكم ليس متّصفاً بالاضطرار إليه(3).



(1) هذا هو البيان اللمّيّ الذي وعدناه في ذيل الجهة الثالثة.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 176، وفوائد الاُصول، ج 3، ص 130 ـ 131.

(3) راجع مصباح الاُصول، ج 2، ص 269. والعبارة قابلة للحمل على معنىً آخر، وهو الوجه الذي اختاره اُستاذنا الشهيد وإن كان أظهر في المعنى المذكور هنا، ولا يوجد عندي فعلاً تقرير آخر من تقارير بحثه.

166

أقول: إنّ هذا الكلام وإن كان لا يخلو من وجاهة إلاّ أنّه لا يأتي في النسيان، فلئن كان مثل الاضطرار يتعلّق بفعل المكلّف دون شيء آخر، فالنسيان يتعلّق بالفعل وبغير الفعل، فإذا نسي الملاقاة للنجاسة فقد أصبح موضوع الحكم منسيّاً، ومع ذلك لا يحكم بعدم النجاسة. ولا يمكن التمسّك بوحدة السياق؛ لأنّنا قلنا: إنّ وحدة السياق لا ترتبط بباب التطبيق، وهذا بابه باب التطبيق، فالاضطرار لا ينطبق إلاّ على الفعل، والنسيان ينطبق على غيره أيضاً، نظير أنّ (ما لا يعلمون) كان ينطبق على الحكم الذي هو فعل المولى وغيره لم يكن كذلك.

والصحيح مع هذا: أنّ خروج مثل ذلك يكون بالتخصّص لا بالتخصيص، والوجه في ذلك هو أنّ مقتضى مناسبات الحكم والموضوع والارتكاز العرفيّ، هو أنّ الاضطرار والنسيان ونحوهما من العناوين إنّما تصلح لرفع الأثر الذي يترتّب على ما يسند إلى الشخص، حيث إنّ هذه العناوين تجعل إسناد الشيء إلى الشخص وانتسابه إليه ضعيفاً في نظر العرف، والنجاسة لا تترتّب على الملاقاة باعتبار الإسناد إلى الشخص، بل على ذات الملاقاة ولو من دون توسط فعل الشخص، كأن يقع الثوب على النجاسة بواسطة تحريك الهواء له، فما يكون من هذا القبيل لا يرفع بحديث الرفع.

 

تطبيق الحديث على أقسام الحكم:

الجهة السابعة: في تطبيق حديث الرفع على أقسام الحكم، أعني: التكليفيّ الاستقلاليّ، والتكليفيّ الضمنيّ، والوضعيّ على ضوء النكات الماضية فنقول:

تشترط في إمكان التمسّك بحديث الرفع ـ على ضوء ما مضى ـ اُمور ثلاثة:

1 ـ كون الشيء معروضاً للحكم في عالم التشريع، بأن يكون موضوعاً أو متعلّقاً له.

167

2 ـ كون الرفع توسعة على المكلّف من دون أن يستلزم تحميلاً على غيره.

3 ـ كون الحكم مترتّباً على الشيء بما هو منتسب إلى المكلّف.

فنتكلّم في الأقسام الثلاثة للحكم على ضوء هذه الشروط الثلاثة:

القسم الأوّل: هو الحكم التكليفيّ الاستقلاليّ، ونقسّم ذلك بتقسيمين:

التقسيم الأوّل: أنّ الحكم قد يكون مترتّباً على الشيء بما هو منتسب إلى العبد، وقد يكون مترتّباً عليه بقطع النظر عن الانتساب إليه، فموضوع وجوب الصدقة مثلاً، قد يكون عبارة عن فتح العبد للباب، كأن يقول المولى: (إن فتحت الباب فتصدّق)، واُخرى يكون عبارة عن انفتاح الباب ولو بواسطة الهواء مثلاً، كأن يقول المولى: (إذا انفتح الباب فتصدّق)، ففي الأوّل يجري حديث الرفع، وفي الثاني لا يجري؛ لانتفاء الشرط الثالث.

التقسيم الثاني: أنّ الحكم قد يكون انحلاليّاً، وقد يكون متعلّقاً بصرف الوجود.

أمّا الأوّل: كما لو قال: (أكرم كلّ عالم) فقد يفرض تعلّق الاضطرار أو الإكراه فيه بترك العمل على وفق هذا الأمر في فرد من الأفراد، واُخرى يفرض الاضطرار أو الإكراه على العمل على وفقه كما لو اُكره على إكرام زيد العالم مثلاً، ففي الأوّل يجري حديث الرفع، وفي الثاني لا يجري؛ لفقدان الشرط الثاني.

وأمّا الثاني: كما لو قال: (أكرم عالماً)، فإن اُكره على العمل بما يوافق الأمر فأيضاً لا يجري حديث الرفع؛ لفقدان الشرط الثاني. وإن اُكره على الترك، فإن فرض إكراهه على ترك الطبيعيّ جرى فيه حديث الرفع، وإن فرض إكراهه على ترك إكرام عالم بعينه لم يجرِ حديث الرفع؛ لانتفاء الشرط الأوّل؛ لأنّ إكرام هذا بالخصوص ليس معروضاً للحكم، وإنّما معروض الحكم طبيعيّ إكرام العالم، وهو لم يكره على تركه ويمكنه إكرام فرد آخر. وقد مضى أنّ الحديث رفع حقيقيّ للوجود التشريعيّ، وليس لترك إكرام هذا الفرد وجود تشريعيّ حتّى يرفع. نعم لو

168

قلنا: إنّه رفع تنزيليّ للوجود الحقيقيّ أمكن أن يقال في المقام بصدور الامتثال تنزيلاً، بأن يدّعى أنّ عدم الترك الذي نزّل الترك منزلته يكون عرفاً عبارة عن الفعل.

وهنا تقسيم ثالث: وهو كون الإكراه على أمر وجوديّ كفتح الباب الموضوع لوجوب التصدّق مثلاً، أو على أمر عدميّ كعدم الفتح مع فرض إيجاب المولى التصدّق عند عدم الفتح. وقد مضى عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)دعوى التفصيل بين القسمين بجريان الرفع في الأوّل دون الثاني؛ لأنّ رفع العدم مساوق للوضع، وهو لا يستفاد عرفاً من حديث الرفع. وقد مضى أيضاً دفعه بأنّه بناءً على المبنى الصحيح من كون حديث الرفع رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ لا صورة لهذا الإشكال؛ لأنّ العدم الموضوع لحكم شرعيّ له وجود تشريعيّ، وبناءً على المبنى الآخر هناك مجال لهذا الإشكال على كلام فيه.

القسم الثاني: وهو الحكم التكليفيّ الضمنيّ كما لو حصل الاضطرار إلى ترك جزء أو شرط أو إتيان مانع، والكلام فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في جريان الرفع في ذلك وعدمه.

والصحيح: أنّ الاضطرار إن لم يكن مستوعباً لتمام الوقت لم يجرِ الرفع، لاختلال الشرط الأوّل؛ لأنّ الفاتحة في الساعة الاُولى مثلاً المضطرّ إلى تركها ليست هي الموضوع، وإنّما الموضوع هو الطبيعيّ، وهو غير مضطرّ إلى تركه، وإن استوعب تمام الوقت جرى الرفع، ولا وجه معتدّ به لعدم الجريان إلاّ من ناحية أنّ رفع العدم وضع، فلا يجري في ترك الجزء أو الشرط، وقد عرفت جوابه.

المقام الثاني: في أنّه بعد جريان الرفع هل يصحّ الباقي أو لا؟

التحقيق: أنّه لا يصحّ كما ذهب إليه مشهور المحقّقين؛ إذ غاية الأمر هو رفع الوجوب الضمنيّ، والوجوب الضمنيّ لا يرتفع إلاّ بارتفاع وجوب المركّب؛

169

للترابط بين الوجوبات الضمنيّة. وعندئذ إن تعلّق الأمر بالباقي صحّ، وإلاّ فلا، وحديث الرفع حياديّ من هذه الناحية.

ولا يقاس الحديث بدليل تخصيص الجزئيّة، كأن يقول مثلاً: المستعجل لا يقرأ السورة؛ إذ ذلك ناظر إلى مسألة الجزئيّة، فالأمر بالباقي يثبت بنفس الدليل السابق، وحديث الرفع لا ينظر إلى الجزئيّة، وإنّما ينظر إلى الوجود التشريعيّ لموضوع الحكم فيرفعه، والحكم الذي تكون السورة موضوعاً له هو الوجوب الضمنيّ لا الجزئيّة، وإنّما الجزئيّة من منتزعات عالم التشريع، وغاية ما يمكن أن يقال في تصحيح الباقي أو النتيجة المطلوبة من ذلك وجهان:

الوجه الأوّل: ما مضى من فرض كون مفاد الحديث الرفع التنزيليّ للوجود الخارجيّ بضمّ دعوى أنّ العرف يرى رفع العدم مساوقاً للوجود، فيحصل وجود تنزيليّ للسورة المتروكة، وقد عرفت بطلان المبنى.

الوجه الثاني: ما يثبت بحسب الحقيقة نتيجة الصحّة لا نفسها، وذلك في فرض الاستيعاب، وهو أن يقال: إنّ المقصود من إثبات الصحّة رفع وجوب القضاء، ونحن نثبت هذه النتيجة بإجراء حديث الرفع في موضوع هذا الوجوب، فإنّ موضوع وجوب القضاء هو ترك الفريضة الكاملة، وقد تحقّق ذلك عن اضطرار فلا يجب القضاء.

وتحقيق الحال في ذلك: هو أنّه لابدّ أن يرى ما هو الموضوع لوجوب القضاء، هل هو الترك،أو عدم الإتيان، أو الفوت؟ وهي اُمور ثلاثة بعضها غير بعض. فالأوّل هو الترك بنحو العدم النعتيّ، والثاني يكون بنحو العدم المحمولي، والثالث عنوان ثبوتيّ منتزع من الأمر العدميّ. فعلى الأوّل يصحّ التمسّك بحديث الرفع، وعلى الأخيرين لا يصحّ؛ لانتفاء الشرط الثالث، وهو كون الأثر مترتّباً على الشيء باعتبار جهة انتسابه إلى المكلّف.

170

القسم الثالث: هو الحكم الوضعيّ.

فإن ترتّب الأثر الوضعيّ على الشيء في نفسه، كالنجاسة المترتّبة على الملاقاة بقطع النظر عن جهة الانتساب إلى الشخص، فلا يجري حديث الرفع؛ لفقد الشرط الثالث. وإن ترتّب الأثر بالنظر إلى جهة الانتساب، كما في المعاملات جرى حديث الرفع مع ملاحظة الشرطين الآخرين.

وقد ينفقد أحد الشرطين الآخرين فلا يجري حديث الرفع، ولذا لا نقول بالرفع في الاضطرار إلى المعاملة؛ لفقد الشرط الثاني بخلاف الإكراه عليها، وأيضاً لا نقول بالرفع في الإكراه على ترك المعاملة، أو أن يجعلها بشكل فاسد، كإجراء الصيغة بالفارسيّة بناءً على اشتراط العربيّة وإن كان هناك امتنان في تحقّق نتيجة المعاملة الصحيحة، وذلك لاختلال الشرط الأوّل؛ إذ المعاملة الفاسدة أو ترك المعاملة ليس موضوعاً لحكم.

وهنا شبهة، وهي: أنّ ترك المعاملة الصحيحة موضوع لبقاء الملك، فإنّ بقاءه مشروط بعدم إيقاع المعاملة الصحيحة، فلم لايصحّ إجراء حديث الرفع لنفي بقاء الملكيّة بلسان رفع الوجود التشريعيّ لموضوع ذلك؟ فإن لم تتصوّر منّة في نفي هذه الملكيّة نقلنا الكلام إلى نتيجة المعاملة المقصودة للمتعاملين وقلنا: إنّ عدم هذه المعاملة موضوع لعدم تحقّق تلك النتيجة، ورفع هذا العدم وإثبات تلك النتيجة موافق للامتنان.

والاستشكال في ذلك بأنّ عدم تلك النتيجة ليس حكماً شرعيّاً وإنّما هو عدم لحكم شرعيّ، يمكن دفعه بأنّ هذا يشبه ما مضى من ترك الواجب، وقد قلنا هناك: إنّ ترك الواجب وإن لم يكن موضوعاً لحكم شرعيّ بناءً على أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، لكنّ المقصود من عالم التشريع عالم حساب المولى بمعنىً يشمل هذا المورد، ويمكن أن يقال بمثل ذلك فيما نحن فيه.

171

إلاّ أنّ الإنصاف أنّ كون ما نحن فيه مثل ترك الواجب الذي يترتّب عليه العقاب ويعدّ عرفاً حراماً في مساعدة الفهم العرفيّ على عدّ ذلك من عالم التشريع غير معلوم.

ولكن مع هذا لا نتخلّص بذلك عمّا عرفتها من الشبهة، بل يبقى لها مجال في بعض الموارد، فمن فرض مثلاً مبتلى بزوجة مؤذية فاضطرّ إلى طلاقها، لكن ظالماً أكرهه على ترك الطلاق، فانتفاء الزوجيّة يكون امتناناً له بلا إشكال، وبقاء الزوجيّة موضوعه عدم الطلاق، فأيّ مانع من إجراء حديث الرفع ونفي بقاء الزوجيّة بلسان رفع الوجود التشريعيّ لموضوعه؟ وهذه شبهة مستعصية.

وحلّ هذه الشبهة يكون بالالتفات إلى الشرط الثالث وأنّ ترك المعاملة، وكذلك ترك الطلاق بما هو عدم نعتي ليس موضوعاً لبقاء الملكيّة أو الزوجيّة، وإنّما الموضوع لذلك ـ بحكم الجمع بين دليل الملكيّة الاُولى أو الزوجيّة، ودليل نفوذ البيع أو الطلاق ـ هو عدم البيع أو الطلاق بنحو العدم المحموليّ، وعندئذ نقول: إن اُريد تطبيق حديث الرفع على العدم النعتيّ، فالشرط الأوّل مفقود، وإن اُريد تطبيقه على العدم المحموليّ فالشرط الثالث وهو الانتساب إلى المكلّف مفقود.

 

سند الحديث:

وأمّا المقام الرابع: وهو في سند الحديث. فقد أورد صاحب الوسائل في كتاب الجهاد عن الصدوق في الخصال، وعنه في التوحيد عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله(عليه السلام)قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «رفع عن اُمّتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لايعلمون، وما لايطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة»(1).



(1) الوسائل، ج 11، ب 56 من جهاد النفس، ح 1، ص 295.

172

والظاهر أنّ هذه الرواية بهذا السند هي منشأ الصيغة المعروفة على الألسن، أعني: «رفع عن اُمّتي تسعة»، إلاّ أنّ هذه الرواية إشكالها هو أنّ الصدوق(قدس سره) ينقلها عن أحمد بن محمّد بن يحيى وهو لم يثبت توثيقه إلاّ بناءً على أنّ مشايخ الثلاثة كلّهم ثقات، فأحمد بن محمّد بن يحيى عندئذ يصبح ثقة؛ لأنّه من مشايخ الصدوق(رحمه الله)الذي روى عنه هذا الحديث. وأمّا بناءً على عدم ثبوت مثل هذه القاعدة فتكون هذه الرواية ضعيفة سنداً بقطع النظر عمّا يأتي من بحث نظريّة التعويض، فلابدّ من التفتيش عن طريق آخر لإثبات حديث (رفع ما لا يعلمون).

وقد ذكر الصدوق(رحمه الله) في مَن لا يحضره الفقيه(1) في باب الوضوء: أنّه قال أبو عبد الله(عليه السلام): إنّه قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) وذكر نفس الصيغة(2) الواردة في التوحيد والخصال مع حذف السند، ومن المحتمل قويّاً أنّ نظره إلى ذلك السند الذي سجّله مفصّلاً في الخصال والتوحيد. وعلى أيّ حال فمثل هذا المرسل ـ وإن فرضت نسبة الصدوق(قدس سره) له ابتداءً إلى الإمام ـ لا يمكن الاعتماد عليه بناءً على ما نبني عليه من عدم الفرق في عدم حجّيّة المرسل بين إرساله بعنوان (رُوي) وإرساله بعنوان (قال الإمام)، وأنّ المناط في سقوط المرسل عن الحجّيّة هو وجود واسطة محذوفة لا يعرف حالها.

وروي في الوسائل في كتاب الأيمان بسنده عن كتاب أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحلبيّ، عن أبي عبد الله(عليه السلام) أنّه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «وضع عن



(1) ج 1 من المجلّدات الجديدة، ح 32، ص 36.

(2) هناك فرق مختصر لفظيّ بينهما كتبديل رفع بوضع، والاختلاف في ترتيب ذكر بعض العناوين التسعة، وفرق مختصر معنويّ وهو حذف (ما اضطرّوا إليه) وإضافة (السهو). راجع الوسائل، ج 4، ب 37 من قواطع الصلاة، ح 2، ص 1284.

173

اُمّتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»(1). وهذه الرواية لو تمّت سنداً وغضضنا النظر عن عدم إمكان نقل أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحلبيّ مباشرةً(2) لا تنفعنا في المقام؛ إذ ليس فيها عنوان (ما لايعلمون).

وهناك رواية اُخرى أيضاً في الوسائل في كتاب الأيمان تنتهي إلى أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ربعي، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «عفي عن اُمّتي ثلاث: الخطأ، والنسيان، والاستكراه». قال أبو عبد الله(عليه السلام): «وهنا رابعة وهي: ما لا يطيقون»(3). وهذه الرواية أيضاً لا تنفعنا؛ لعدم وجود عنوان (ما لا يعلمون) فيها.

نعم، هنا رواية اُخرى في الوسائل تنتهي إلى أحمد بن محمّد بن عيسى، عن إسماعيل الجعفيّ، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سمعته يقول: «وضع عن هذه الاُمّة ستّ خصال: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه»(4). وهذا الحديث مشتمل على الجملة المقصودة



(1) الوسائل، ج 16، ب 16 من الأيمان، ح 5، ص 144.

(2) هذا الإشكال يقوى لو حملنا الحلبيّ على الحلبيّ المعروف ـ أعني: محمّد بن عليّ بن أبي شعبة ـ أو على أخيه ـ أعني: عبد الله بن عليّ بن أبي شعبة ـ أمّا لو حمل على يحيى بن عمران الحلبيّ الذي يروي عن الصادق والكاظم(عليهما السلام)فالإشكال يكون أخف، ولكن الإنصاف أنّ نقل أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الصادق(عليه السلام) بواسطة واحدة بعيد في الغاية، وهذا العيب موجود في حديث ربعي أيضاً.

(3) الوسائل، ج 16، ب 16 من الأيمان، ح 4، ص 144.

(4) المصدر السابق، ح 3. وهناك روايات اُخرى في حديث الرفع كلّها غير مفيدة في المقام:

فقد روي في الوسائل في نفس الباب الحديث السادس، عن أحمد بن محمّد بن عيسى

174


في نوادره، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، ثمّ قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): وضع عن اُمّتي ما اُكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا». وهذا الحديث وإن كان تامّاً سنداً إلاّ أنّه غير مشتمل على (ما لا يعلمون).

وروي في الوسائل ـ ج 11، ب 56 من جهاد النفس، ص 295، الحديث الثاني ـ عن عمرو بن مروان بسند فيه معلّى بن محمّد، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «رفع عن اُمّتي أربع خصال: خطأُها، ونسيانها، وما اُكرهوا عليه، ومالم يطيقوا...». وهذا أيضاً غير مشتمل على (ما لا يعلمون).

وروي في نفس الباب، الحديث الثالث، وهي مرفوعة محمّد بن أحمد النهدي، عن الصادق(عليه السلام)عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «وضع عن اُمّتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكر في الخلق، والحسد ما لا يظهر بلسان أو يد». وهذا وإن كان مشتملاً على (ما لا يعلمون) لكنّه ساقط سنداً.

وخير الروايات المشتملة على (ما لا يعلمون) سنداً هي الرواية التي مضت عن الوسائل عن الخصال والتوحيد، وعيبها السنديّ الوحيد هو أنّ الصدوق رواها عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار الذي لم يرد نصّ على توثيقه.

توثيق (أحمد بن محمّد بن يحيى):

وهنا طريق لإثبات توثيق أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار لو تمّ ينتفي بذلك إشكال سند حديث الرفع، وهو أنّ الشيخ الطوسيّ(رحمه الله) نقل بشكل مكثّف في الجزء الأوّل من