129

فإنّنا لو رفعنا يدنا عن جامع الشيء الذي هو ظاهر الموصول بحدّ ذاته في الحديث فحمله على جامع التكليف حتّى يشمل الشبهة الموضوعيّة والحكميّة معاً ممّا لا دليل عليه، فمن المحتمل أن يكون المراد بالموصول هو الفعل الذي لا يعلم عنوانه فيختصّ بالشبهة الموضوعيّة، فإنّ تفسير الموصول بذلك وتفسيره بالتكليف كلاهما خلاف الظاهر الأوّليّ للموصول، وليس أحدهما أولى من الآخر، فإن فرض رفع اليد عن الظاهر الأوّليّ لجهة من الجهات فالمصير إلى خصوص تفسيره بالتكليف لا شاهد له.

ويمكن دفع الإشكال بأن يقال: إنّ الرفع الصادر من الشارع ألصق بالتكليف منه بالفعل، وإنّما يصحّ إسناده إلى الفعل باعتبار التكليف، فهذا يصبح نكتة في ظهور الموصول ـ بعد رفع اليد عن ظاهره الأوّليّ ـ في إرادة التكليف في قبال إرادة الفعل.

 

نفي القرينة على الاختصاص:

وأمّا الأمر الثاني: فقد ادّعيت القرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة، وادّعيت أيضاً القرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الحكميّة، فنتكلّم في جهتين:

الجهة الاُولى: في اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة بالقرينة وعدمه، وقد ذكروا في المقام قرينيّة وحدة السياق في جملة: «ما لا يعلمون» مع مثل جملة: «ما اضطرّوا إليه» و «ما اُكرهوا عليه»؛ إذ لا شكّ في أنّ المقصود بالموصول في تلك الجمل هي الموضوعات الخارجيّة لا الأعمّ منها ومن الأحكام الشرعيّة، فكذلك الحال في «ما لا يعلمون» بقرينة وحدة السياق.

أقول: إنّ وحدة السياق في الكلمة المتكرّرة لا شكّ أنّها تؤثّر بلحاظ المراد

130

الاستعماليّ، أي: أنّ حمل تلك الكلمة بمدلولها الاستعماليّ تارةً على معنىً، واُخرى على معنىً آخر يكون خلاف ظهور وحدة السياق، فلو قال مثلاً: (أكرم الإمام وأطع الإمام) كان فرض حمل المراد الاستعماليّ في الأوّل على إمام الجماعة و في الثاني على إمام المسلمين خلاف مقتضى وحدة السياق.

وهناك إشكال في تأثير وحدة السياق بالنسبة للمراد الجدّي وعدمه بعد فرض اتّحاد الكلمتين في المراد الاستعماليّ، فمثلاً لو قال: (أكرم كلّ عالم وقلّد كلّ عالم) وكان المراد الجدّي له من الأوّل ما يعمّ العالم العادل والعالم الفاسق، ومن الثاني خصوص العالم العادل، فهل هذا ينافي ظهور وحدة السياق بعد فرض اتّحاد الكلمتين في المراد الاستعماليّ، أو لا؟ يمكن الاستشكال فيه وإن كان الصحيح عندنا عدم منافاته لظهور وحدة السياق.

وأمّا إذا فرض أنّه لم يكن اختلاف في مفاد الكلمتين بلحاظ المراد الاستعماليّ، ولا بلحاظ المراد الجدّي، وإنّما كان الاختلاف بينهما بلحاظ المصداق الخارجيّ، فهنا لا إشكال في عدم تأثير وحدة السياق وعدم اقتضائها لاتّفاق الكلمتين في المصداق، فلو قال مثلاً: (لا تغصب ما تأكل، ولا تغصب ما تطالع، ولا تغصب ما تلبس) فالمراد الاستعماليّ والجدّي من (الموصول) في هذه الجمل هو مفهوم الشيء، إلاّ أنّ المصداق الخارجيّ للشيء الذي يقبل الأكل هي الأطعمة، وللشيء الذي يقبل المطالعة هي المكاتيب، وللشيء الذي يقبل اللبس هي الثياب المحيطة بجسم الإنسان، وهذا الاختلاف في المصاديق الخارجيّة ليس خلاف مقتضى وحدة السياق جزماً؛ لأنّ عدم الاتّحاد في عالم التطبيق يكون مربوطاً بماهيّات تلك الأشياء لا بعناية من قِبل المتكلّم بوجه من الوجوه.

وما نحن فيه من هذا القبيل، حيث إنّ ما لا يُعلم قابل للانطباق على الموضوع وعلى الحكم، ومثل «ما اضطرّوا إليه» إنّما ينطبق على الموضوعات والأفعال

131

الخارجيّة دون الأحكام، وليس هنا اختلاف في المدلول الاستعماليّ أو المرادالجدّيّ، فالمقام أجنبيّ عن مسألة تأثير وحدة السياق.

الجهة الثانية: في اختصاص الحديث بالشبهات الحكميّة بالقرينة وعدمه. قد ذكر المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(1) قرينة على اختصاص الحديث بالشبهة الحكميّة، وجعل ذلك ردّاً على ادّعاء اختصاص الحديث بالشبهة الموضوعيّة بالقرينة السابقة، فإنّه(قدس سره)أجاب على ذلك بجوابين، أحدهما جواب مستقلّ عن قرينة العكس ـ أعني: قرينة الاختصاص بالشبهة الحكميّة ـ وهو جواب غير صحيح، ونحن تركنا ذكره(2) واقتصرنا على الجواب الصحيح الذي مرّ بنا في الجهة الاُولى. والثاني الجواب بمعارضة تلك القرينة بقرينة اُخرى توجب الاختصاص بالشبهة الحكميّة، وقال: إنّ هذه القرينة أقوى من تلك القرينة ومقدّمة عليها، وتلك القرينة عبارة عن أنّ تطبيق (ما لا يعلمون) على الحكم صحيح بلا عناية، فإنّه في



(1) راجع نهاية الأفكار، القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 216.

(2) وذلك الجواب هو: أنّه لا يوجد اتّحاد في السياق يقتضي كون المراد بالموصول في (ما لا يعلمون) الفعل لا الحكم؛ وذلك لأنّ من الفقرات في الحديث: (الطيرة والحسد والوسوسة) ولا يكون المراد منها الفعل، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبه.

أقول: ينبغي أن يكون مقصود من يتمسّك بوحدة السياق لإثبات اختصاص (ما لا يعلمون) بالفعل أو الموضوع وعدم شموله للحكم أنّ (ما) الموصولة تكرّرت في سياق واحد عدّة مرّات، واُريد بها في بعض المرّات الفعل، أو الموضوع دون الحكم، فيحمل الباقي أيضاً على ذلك. أمّا وجود كلمات اُخرى غير الموصول إلى جنب الموصول اُريدت بها معانيها لا الفعل أو الموضوع، ولا الحكم، فهذا لا ارتباط له بوحدة السياق بالنسبة للكلمة المكرّرة وهي الموصول، خاصّة وأنّها لم تقع بين الموصولات، بل وقعت على طرف منها.

132

الشبهات الحكميّة يكون الحكم غير معلوم حقيقة، فتكون داخلة في مفاد الحديث.وأمّا إضافة عدم العلم إلى الموضوع الخارجيّ، كالمائع المردّد بين كونه ماءً أو خمراً، فتكون بضرب من المسامحة والعناية؛ لأنّ المجهول ليس هو ذات الموضوع، بل هو عنوانه، فإنّ ذات الموضوع عبارة عن ذات هذا المائع، وهو ليس مجهولاً، وإنّما هو مجهول العنوان، فتوصيف ذات الموضوع بالجهل يكون من باب توصيف الشيء بحال متعلّقه، فهذا غير مشمول لإطلاق الحديث، فإنّ الإطلاق إنّما يتكفّل شمول المفهوم لأفراده الحقيقيّة، لا لأفراده العنائيّة(1).



(1) الموجود في نهاية الأفكار يختلف عمّا نقله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام من وجهين:

الأوّل: أنّه لم يجعل إضافة عدم العلم إلى الموضوع الخارجيّ خلاف الظاهر بنكتة كون توصيف الشيء بحال متعلّقه خلاف الظاهر، بل جعله خلاف الظاهر بنكتة وحدة السياق باعتبار أنّ المراد بالموصول في غير (ما لا يعلمون) من العناوين هو ما كان بنفسه معروضاً للوصف من الاضطرار أو غيره، فلو حمل (ما لا يعلمون) على ما لا يكون بنفسه معروضاً لوصف عدم العلم وإنّما المعروض له هو عنوانه، كان هذا خلاف وحدة السياق. إذن لا ينبغي حمل الموصول في (ما لا يعلمون) على الفعل؛ لأنّه ليس بنفسه غير معلوم، وإنّما يكون عنوانه غير معلوم.

والثاني: أنّه لم يجعل هذا قرينة على اختصاص الحديث بالشبهات الحكميّة، وإنّما جعله قرينة على عدم اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة، باعتبار أنّ فرض اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة يتطلّب تفسير الموصول بمعنى الفعل، وهو مجهول بعنوانه لا بنفسه، وهذا خلاف مقتضى وحدة السياق، فلابدّ من تفسير الموصول بمعنى الحكم، والحكم بنفسه مجهول في الشبهات الحكميّة وفي الشبهات الموضوعيّة معاً، إلاّ أنّ منشأ الشكّ في الشبهات الحكميّة فقد النصّ، أو إجماله، أو تعارض النصّين، وفي الشبهات الموضوعيّة الاشتباه في الاُمور الخارجيّة.

133

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه قد يكون في الشبهة الموضوعيّة ذات الموضوع مجهولاً، كما لو فرض الشكّ في وجوب الحجّ للشكّ في أصل وجود الاستطاعة ومالكيّته لمال مّا مثلاً. وإذا ثبت شمول البراءة لمثل هذه الشبهات تعدّينا إلى غيرها؛ لعدم احتمال الفرق بين شبهة موضوعيّة وشبهة موضوعيّة اُخرى.

وثانياً: أنّه لا حاجة إلى انطباق عنوان (ما لا يعلمون) على ذات الموضوع، فلو أردنا مثلاً تطبيق الحديث على المائع المردّد بين كونه خمراً أو ماءً، طبّقناه على عنوان الخمر في هذا المثال لا على ذات المائع، فنقول: إنّ خمريّة هذا المائع غير معلومة، فهي مرفوعة، وعنوان الخمر هو المناسب أن يكون مصبّاً للرفع والوضع باعتباره موضوعاً للحكم الشرعيّ لا ذات المائع؛ لأنّ الحرمة إنّما جعلت على عنوان الخمر لا على ذات المائع. إذن فليس المقصود تطبيق عدم العلم على الذات كي يقال: إنّه تطبيق عنائيّ، وإنّ الذات ليس مجهولاً حقيقة، وإنّما المقصود التطبيق على العنوان، فإنّه الموضوع للحكم الشرعيّ والقابل للوضع والرفع من قِبل الشارع، والمفروض أنّ العنوان مجهول حقيقة.

وقد تحصّل: أنّ الحديث يشمل الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معاً، ولا موجب لاختصاصه بأحد القسمين دون الآخر.

 

فقه الحديث:

وأمّا المقام الثالث: وهو في فقه هذا الحديث، ففيه جهات عديدة من البحث:

 

نسبة الرفع إلى المرفوعات:

الجهة الاُولى: في تصوير نسبة الرفع إلى المرفوعات في هذا الحديث، حيث إنّ

134

ما فيه من الخطأ، والنسيان، وما اضطرّوا إليه، وما استكرهوا عليه، ونحو ذلك ليست اُمور مرفوعة حقيقة، وإنّما هي اُمور محقّقة وثابتة في الخارج ومع ذلك نسب الرفع إليها، فلابدّ عندئذ من تصوير وجه لتصحيح هذه النسبة فنقول:

الذي يظهر من كلام الشيخ الأعظم(قدس سره) هو الالتزام بالتقدير. وأصحاب هذا الوجه وقعوا في البحث عن أنّ المقدّر هل هو المؤاخذة، أو مطلق الآثار، أو بعض الآثار دون بعض؟ وما هو الضابط في هذا التبعيض؟ وذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّه لا حاجة إلى التقدير الذي هو خلاف المتفاهم العرفيّ جدّاً، بل يسند الرفع إلى نفس الاُمور المذكورة في الحديث، إلاّ أنّ العالم الذي لوحظ الرفع بالنسبة إليه هو عالم التشريع لا عالم التكوين، فيكون الرفع رفعاً تشريعيّاً لا رفعاً تكوينيّاً. وادّعى جملة من المحقّقين (قدّس الله أسرارهم) أنّ الرفع في المقام يكون رفعاً تنزيليّاً لا رفعاً حقيقيّاً، وتشوّشت جملة من الكلمات، فوقع الخلط فيها بين الرفع التشريعيّ والرفع التنزيليّ.

والتحقيق: أنّ العناية المتصوّرة في المقام تتصوّر بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: أن تكون هي عناية التقدير من دون تدخّل وإعمال عناية في نفس الرفع أو المرفوع، فيكون المقصود من الرفع هو الرفع الحقيقيّ، والمقصود من العناوين المرفوعة وجوداتها الخارجيّة الحقيقيّة، إلاّ أنّ المرفوع في الحقيقة ليس منتسباً إلى نفس تلك العناوين ممّا اضطرّوا إليه أو استكرهوا عليه، ونحو ذلك، وإنّما هو منتسب إلى العقاب أو إلى أثر آخر من آثارها.

وترجع إلى ذلك دعوى نسبة الرفع الحقيقيّ إلى الوجود الحقيقيّ لتلك العناوين نسبة مجازيّة، فإنّ معنى ذلك أنّه في عالم المراد الجدّيّ يكون الرفع الحقيقيّ لأثر من آثار تلك العناوين لا لنفس تلك العناوين، فهناك شيء في عالم المراد الجدّيّ للكلام لم يذكره في الكلام، وهو المقصود من التقدير.

135

الثاني: أن تكون العناية في الرفع بأن لا يقدّر شيء، وينسب الرفع إلى نفس العناوين الخارجيّة، ويكون المقصود من تلك العناوين وجوداتها الخارجيّة، إلاّ أنّ رفع تلك الوجودات الخارجيّة ليس رفعاً حقيقيّاً، وإنّما المقصود الرفع التنزيليّ أو الاعتباريّ من باب رفع موضوعات بعض الأحكام تعبّداً الذي يكون حاكماً على تلك الأحكام، كقوله: (لا ربا بين الوالد وولده)(1)، وقوله: (لا شكّ لكثير الشكّ)، وقوله: (لا سهو مع حفظ الإمام)، وقوله: (الطواف بالبيت صلاة) ونحو ذلك، وهذه حكومة في مستوى عقد الوضع.

الثالث: عكس الثاني، ففي الثاني فرض قصد الرفع التشريعيّ للوجود الحقيقيّ لتلك العناوين، وهنا يفرض قصد الرفع الحقيقيّ للوجود التشريعيّ لها، حيث إنّ موضوع الحكم كما يكون له وجود حقيقيّ في عالم الخارج، كذلك يكون له وجود عنائيّ في عالم التشريع والحكم؛ لأنّ الحكم متقوّم بموضوعه بوجه من الوجوه، فقد يرفع حقيقة هذا الوجود العنائيّ عن عالم التشريع، كقوله: (لا رهبانيّة في الإسلام)، فإنّ معناه بقرينة (في الإسلام) هو رفع الرهبانيّة عن صفحة التشريع الإسلاميّ، وهذا ليس رفعاً تعبّداً للوجود الحقيقيّ للموضوع، وإنّما هو راجع إلى رفع الحكم عن الموضوع، فإنّ رفع وجوده في عالم التشريع والحكم يعني نفي كونه مشرّعاً، ورفع كونه موضوعاً للحكم، ورفع موضوعيّته للحكم مساوق لرفع الحكم، وهذه حكومة في عقد الحمل، وإن شئت فقل: إنّها تشبه الحكومة في عقد



(1) أفاد (رضوان الله عليه): أنّ ظاهر هذا كونه رفعاً عنائيّاً للوجود الحقيقيّ للربا، لا رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ للربا، فإنّه على الثاني تلزم إرادة عالم معيّن من التشريع هو عالم الحرمة، وهي خلاف الظاهر، فإنّ معنى رفع الوجود التشريعيّ للربا عدم كونه مشرّعاً، فيحمل على الرفع العنائيّ للوجود الحقيقيّ.

136

الحمل لا أنّها هي بالذات؛ إذ ليس ذلك عيناً من قبيل (لا ضرر ولا ضرار) بناءً على تفسير الشيخ الأعظم(قدس سره)له من كونه رفعاً للحكم الضرريّ، بل يشتمل المقام على شيء من الالتواء(1).

وعلى أيّة حال، فالوجه الثاني والثالث متعاكسان، ولابدّ من التمييز بينهما وعدم الخلط في المقام، وعبائر التقريرات مشوّشة، فبعضها يناسب الثاني، وبعضها يناسب الثالث. والذي كنت اُقدّره ـ لولا التزامه ببعض النتائج المناسبة للوجه الثاني ـ أنّ مقصود المحقّق النائينيّ(قدس سره)كان هو الثالث.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّه مهما تعلّق الرفع بموضوع من الموضوعات فضابط كونه حكومة في مستوى عقد الوضع، أو حكومة في مستوى عقد الحمل، هو أنّه إن كان رفعاً تشريعيّاً للوجود الحقيقيّ فهي حكومة في مستوى عقد الوضع، وإن كان رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ، فهي حكومة في مستوى عقد الحمل.

إلاّ أنّ السيّد الاُستاذ جعل الضابط شيئاً آخر، وهو أنّه إذا تعلّق الرفع بالعنوان الأوّليّ كما في (لا ربا بين الوالد وولده) كانت حكومة على عقد الوضع، وإذا تعلّق بالعنوان الثانوي كالاضطرار في قوله: (رفع ما اضطرّوا إليه) كانت حكومة على عقد الحمل.

وتوضيح مرامه: أنّه إن رفع العنوان الأوّلي للموضوع فهذا رفع لنفس الموضوع، فتكون حكومة على عقد الوضع. وإن رفع العنوان الثانوي وهو



(1) ففي مثال (لا ضرر) على تفسير الشيخ(رحمه الله) فرض المرفوع وهو الضرر عنواناً للحكم، بينما فيما نحن فيه فرض المرفوع هو الموضوع، ولكنّه رفع عن صفحة التشريع؛ ولعلّه لهذا ورد في تقرير الشيخ النائينيّ(رحمه الله) عدّ ذلك من الحكومة على عقد الوضع. راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 127.

137

الاضطرار مثلاً، فهذا عند التدقيق ليس رفعاً للموضوع؛ إذ لو فرض رفعاً للموضوع فلا يخلو الحال من أن يكون المرفوع إمّا هو ذات الموضوع من دون أن يكون الاضطرار حيثيّة تقييديّة في المرفوع، وإنّما هو حيثيّة تعليليّة، أو هو العنوان الثانويّ بأن يتحفّظ على تقييديّة الاضطرار، فرفع (ما اضطرّوا إليه) مثلاً، رفع للاضطرار لا لذات الموضوع.

فإن فرض الأوّل صحّت الحكومة على عقد الوضع، إلاّ أنّه خلاف ظهور الكلام في تقييديّة العنوان الثانويّ في المرفوع. وإن فرض الثاني، بأن يكون المرفوع هو العنوان الثانويّ، فهذا يعني ـ كما قلنا ـ أن يكون رفع (ما اضطرّوا إليه) رفعاً للاضطرار لا لذات الموضوع، ومعنى ذلك أنّ الفعل الحرام الذي ارتكبه المكلّف اضطراراً قد حكم الشارع تعبّداً بعدم كونه اضطراراً، لا بعدم صدور الفعل منه، وهذا لا يؤدّي إلى رفع الحرمة برفع الموضوع، وإنّما يؤدّي إلى فرض كون الفعل الحرام غير اضطراريّ، وهذا خلاف المقصود. إذن فلابدّ أن يكون معنى رفع (ما اضطرّوا إليه) رفع الحكم وهو الحرمة عمّا اضطرّوا إليه، وهذه حكومة على عقد الحمل.

أقول: قد ظهر ممّا مضى أنّه إن تعلّق الرفع الحقيقيّ بالوجود التشريعيّ، فهي حكومة على عقد الحمل، ولو كان المرفوع العنوان الأوّليّ كقوله: (لا رهبانيّة في الإسلام)، فإنّ هذا رفع للموضوع عن صفحة الحكم، وليس رفعاً له بقول مطلق بمعنى نفيه وإنهائه. وإن تعلّق الرفع التشريعيّ بالوجود الحقيقيّ، فهي حكومة على عقد الوضع ولو كان المرفوع العنوان الثانويّ كقوله: (رفع ما اضطرّوا إليه)، فإنّه قابل لتفسيره بكونه رفعاً للوجود الحقيقيّ بقطع النظر عن نكتة سوف نذكرها ـ إن شاء الله ـ لاستظهار المعنى الثالث من الحديث وهو رفع الوجود التشريعيّ.

وأمّا مسألة أنّ المرفوع هل هو ذات الموضوع أو العنوان الثانويّ؟ والاستشكال

138

على كلّ من التقديرين، فتارةً نختار التقدير الأوّل وندفع الإشكال، واُخرى نختار التقدير الثاني وندفع الإشكال، فتتمّ الحكومة على عقد الوضع على كلا التقديرين:

أمّا التقدير الأوّل: وهو رفع ذات الموضوع، فالاستشكال فيه بكونه خلاف ظهور كون العنوان الثانويّ جهة تقييديّة في المرفوع مدفوع:

أوّلاً: بمنع هذا الظهور في نفسه، فإنّه إنّما يكون ظاهراً في كون العنوان الثانويّ قيداً في الرفع وليس ظاهراً في كونه قيداً في المرفوع لا جهة تعليليّة فيه.

وثانياً: أنّه لو سلّم هذا الظهور، وجب رفع اليد عنه حتّى على تقدير حمل الحديث على الحكومة في مستوى عقد الحمل، فإنّ المرفوع إنّما هو المحمول والحكم الثابت على الموضوع، لا حكم الاضطرار الذي هو العنوان الثانويّ ـ أي: أنّ المرفوع إنّما هو حرمة الفعل في حال الاضطرار لا حكم الاضطرار ـ كما ذكر ذلك جملة من المحقّقين، وسيأتي نقله عن السيّد الاُستاذ. إذن فهذا الظهور المدّعى في المقام لا يناسب الحكومة على عقد الحمل أيضاً، فلا مورد لجعله إشكالاً على فرض الحكومة على عقد الوضع.

وأمّا التقدير الثاني: وهو رفع العنوان الثانويّ، فلو حمل الحديث على رفع العنوان الثانويّ لم يرد الإشكال عليه بأنّه يساوق رفع الاضطرار لا رفع ذات الموضوع؛ وذلك لأنّ رفع العنوان الثانويّ، وهو شرب الخمر المضطرّ إليه مثلاً، يكون بنحوين: برفع وجود أصل الشرب، وبرفع اضطراريّته، بأن يكون الشرب موجوداً لا بنحو الاضطرار، وظهور الحديث في كونه مسوقاً مساق الامتنان الذي هو إحدى القرائن في الحديث على تقييده في كثير من المجالات ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ يعيّن الأوّل، فتتمّ الحكومة على مستوى عقد الوضع.

وبعد أن اتّضحت لك الاحتمالات الثلاثة في الحديث وهي التقدير، والعناية

139

في الرفع، والعناية في المرفوع، يقع الكلام في مقامين: أحدهما تعيين ما هو الأظهر في الحديث، والآخر بيان الثمرات المترتّبة على هذه الاحتمالات، وأنّ الفرق بينها ليس مجرّد فرق عنواني، بل يختلف الأمر باختلاف تلك الحالات.

أمّا المقام الأوّل: وهو تعيين ما هو الأظهر من الاحتمالات الثلاثة، فلنا فيه دعويان: الاُولى تعيّن الاحتمالين الأخيرين في قبال الاحتمال الأوّل، والثانية تعيّن الاحتمال الثالث في قبال الثاني.

أمّا الدعوى الاُولى: وهي تعيّن الاحتمالين الأخيرين في قبال الأوّل، فهي وإن كانت خلاف ما قد يتراءى في النظر من كون الاحتمالات الثلاثة في عرض واحد؛ إذ المفروض أنّه لا يمكن الأخذ بالمقتضى الأوّليّ للظهور في الحديث ولابدّ من إعمال عناية، ولا فرق بين فرض العناية في التقدير، أو في الرفع، أو في المرفوع، فيقع التعارض بين أصالة عدم التقدير وأصالة الظهور في جانب الرفع وأصالة الظهور في جانب المرفوع، لكنّها تظهر بالالتفات إلى نكتة، وهي أنّ ظاهر حال الشارع عند تكلّمه بمثل هذا الكلام هو أنّه يتكلّم متقمّصاً قميص المولويّة بوصفه صاحب الشريعة، وبلحاظ هذه الحال ليست إرادة الرفع التشريعيّ، أو رفع الوجود التشريعيّ خلاف ظاهر الكلام وإن كانت خلاف ظاهر الكلام بقطع النظر عن هذه الحال، لكون مقتضى الطبع الأوّليّ لكلّ مفهوم في مقام الاستعمال فناءه في الفرد الحقيقيّ لذلك المفهوم دون الفرد العنائيّ، وهذا بخلاف الحذف والتقدير، فإنّه خلاف ظاهر الحال، وإن فرض تقمّص المتكلّم بقميص المولويّة، فإنّ المتكلّم في أيّ مجال، وبأيّ حال من الأحوال يكون ظاهر حاله أن يذكر في مقام الإثبات كلّ ما يقصده في مقام الثبوت ولا يحذف منه شيئاً، فتجري أصالة عدم التقدير من دون معارضة بأصالة الظهور في جانب الرفع أو المرفوع.

وأمّا الدعوى الثانية: وهي تعيّن الرفع الحقيقيّ للوجود التشريعيّ في قبال

140

الرفع التشريعيّ للوجود الخارجيّ، فهي وإن كانت خلاف ما قد يتراءى من أنّه بعد أن كانت العناية في الرفع والعناية في المرفوع كلتاهما على طبق الطبع الثانويّ لكلام المولى ـ كما عرفت ـ فلا موجب لتقديم إحداهما على الاُخرى، فلو فرض على أحد التقديرين وجود فائدة زائدة ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ وجب الاقتصار على القدر المتيقّن، ولكنّها تظهر بالالتفات إلى نكتة، وهي أنّ الرفع التشريعيّ للوجود الخارجيّ للشيء يتوقّف على ثبوت وجود خارجيّ لذلك الشيء، والعناوين المذكورة في الحديث ليست جميعها من هذا القبيل، فإنّ واحداً منها وهو «ما لا يطيقون» غير موجود بحسب الخارج، لفرض تركه بعدم الطاقة، وكذلك النسيان إن جعل كناية عن المنسيّ ـ كما يفسّره الاُصوليّون(قدس سرهم)، ويأتي الكلام فيه إن شاء الله ـ وبما أنّ ظاهر الحديث كون الرفع في الجميع بنهج واحد، فلابدّ من حمل الحديث على رفع وجود تلك العناوين في عالم التشريع لا رفع وجودها الخارجيّ.

وليكن المراد من عالم التشريع هو عالم المسؤوليّة المولويّة وحساب المولى، لا عالم الجعل بالخصوص حتّى لا يستشكل من حيث إنّ بعض الأشياء ليس له وجود في عالم الجعل، فمثلاً لو أنّ إنساناً اضطرّ إلى ترك واجب فالمضطرّ إليه، وهو ترك الواجب ليس موضوعاً لحكم شرعيّ ولا متعلّقاً لحكم شرعيّ ـ بناءً على أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ ـ فكيف يفرض في المقام نفي موضوعيّته، أو متعلّقيته مع أنّ الفهم العرفيّ لا يفرّق في مقام فهمه للحديث بين ترك الواجب، وفعل الحرام؟ فيظهر أنّ العرف يفهم من رفع الشيء بحسب عالم التشريع رفعه في عالم المسؤوليّة المولويّة، وعالم حساب المولى بنحو ينطبق على فعل الحرام وترك الواجب وإن فرض أنّه بالتدقيق الاُصوليّ يفترق فعل الحرام عن ترك الواجب، بأنّ الأوّل وقع موضوعاً لحكم شرعيّ والثاني لم يقع موضوعاً لحكم شرعيّ.

141

وأمّا المقام الثاني: وهو بيان الثمرة العمليّة للاحتمالات، فيذكر فيه أمران: أحدهما في الفرق من حيث الثمرة العمليّة بين الاحتمال الأوّل وهو التقدير، والآخرين وهما العناية في الرفع أو المرفوع، والثاني في الفرق من حيث الثمرة بين الاحتمال الثاني والثالث.

أمّا الأمر الأوّل: فالفرق بينهما هو تماميّة الإطلاق على الأخيرين، وعدم تماميّته على الأوّل. توضيح ذلك: أنّه بناءً على الاحتمال الأوّل وهو التقدير لا ندري ما هو المقدّر، ولا يتعيّن كون المقدّر مثلاً عنوان (جميع الآثار)، أو شيئاً يثبت بالإطلاق إرادة جميع الآثار منه، كعنوان (الأثر)، فإنّه ليست هناك مناسبات عرفيّة تعيّن ذلك، كتعيّن الشرب بالمناسبات العرفيّة للتقدير في مثل (حرّمت عليكم الخمر)، فمن المحتمل أن يكون المقدّر مثلاً كلمة (المؤاخذة)، ومع تردّد المقدّر بين اُمور عديدة يجب الاقتصار في الأثر على القدر المتيقّن، ولا يمكن التمسّك بالإطلاق، فإنّ الإطلاق ومقدّمات الحكمة وظيفتها إنّما هي نفي القيد الزائد عن المفهوم المعيّن الذي أطلقه المتكلّم، لا تعيين المفهوم، أو اللفظ المردّد بين أمرين، فمثلاً لو تكلّم المولى بكلام ولم نسمعه هل قال: (أكرم العالم)، أو قال: (أكرم الفقيه)، والمفروض أنّ العالم أعمّ من الفقيه لم يمكن تعيين إرادة العالم بالإطلاق ومقدّمات الحكمة. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ المفروض أنّ في الكلام كلمة مقدّرة، والمقدّر كالمذكور، ولا يمكن تعيين تلك الكلمة بالإطلاق ومقدّمات الحكمة.

أمّا إذا اُعملت العناية في المرفوع واُريد رفع الوجود التشريعيّ ـ كما هو المختار ـ فمن الواضح أنّ مقتضى الإطلاق هو رفع تمام الأحكام، فإنّ الفعل المضطرّ إليه مثلاً، له وجودات تشريعيّة بعدد الأحكام التي تترتّب عليه، فحينما ينصبّ الرفع على وجوده التشريعيّ يكون مقتضى الإطلاق رفع تمام وجوداته

142

التشريعيّة، ومعنى ذلك رفع تمام الأحكام المتعلّقة به. نعم، ما يكون رفعه غير موافق للامتنان يخرج عن الإطلاق بقرينة الظهور الامتنانيّ للحديث كما سوف يأتي إن شاء الله.

وأمّا إذا اُعملت العناية في الرفع، وكانت الحكومة في مستوى عقد الوضع، فنقول: إنّ هناك بحثاً في كلّ الحكومات التي تكون في مستوى عقد الوضع ـ أشرنا إليه في مسألة قيام الأمارات مقام القطع الطريقيّ، أو الموضوعيّ ـ وحاصله: أنّ قوله مثلاً: (لا ربا بين الوالد وولده) و (الطواف بالبيت صلاة) ونحوهما هل هو تنزيل أو اعتبار؟ والفرق بينهما أنّ التنزيل أمر إضافيّ فلا محالة يجب أن يكون بلحاظ أثر يكون منزّلاً بالإضافة إليه، فالطواف منزّل منزلة الصلاة بالإضافة إلى أثر لها، والربا منزّل منزلة عدمه بالإضافة إلى عدم الحرمة. وأمّا الاعتبار فهو عبارة عن أن يجعل الطواف مثلاً صلاة على طريقة المجاز السكّاكي، وهذا في هويّته لا يحتاج إلى أثر، فإنّ الاعتبار سهل المؤونة؛ إذ مرجعه إلى الفرض والخيال، ويمكن فرض الطواف صلاة وإن لم يكن للصلاة أثر أصلاً، وليس الاعتبار أمراً إضافيّاً لا يتصوّر إلاّ بالإضافة إلى أثر بخلاف التنزيل الذي لا يكمل في عالم اللحاظ إلاّ بملاحظة أثر يكون التنزيل بلحاظه. ولعلّ أوّل من تنبّه إلى الفرق بينهما هو المحقّق النائينيّ(قدس سره) على ما سبقت الإشارة إليه في بحث جعل الطريقيّة، حيث إنّ جعل الطريقيّة في باب الأمارات تارةً يتصوّر بنحو التنزيل، واُخرى بنحو الاعتبار.

ويعتقد صاحب مبنى الاعتبار أنّ دليل الحكم على موضوع يشمل كلّ فرد من أفراد ذلك الموضوع حقيقيّة واعتباريّة، فمجرّد أن يعتبر المولى شيئاً مّا ذلك الموضوع يصبح داخلاً تحت إطلاق ذلك الدليل، ويكون ذلك الاعتبار إيجاداً لفرد لذلك الموضوع، وكذلك اعتبار فرد من أفراد ذلك الموضوع معدوماً إعدام لحصّة

143

من حصص موضوع ذلك الحكم، فلا يشمله ذلك الحكم. إذا عرفت ذلك قلنا في المقام:

إنّنا إن فرضنا أنّ الحكومة كانت بنحو الاعتبار لا بنحو التنزيل ـ وقد عرفت أنّه لا حاجة في عمليّة الاعتبار إلى ملاحظة الأثر ـ فمن الواضح تماميّة الإطلاق، فمثلاً مقتضى الإطلاق إذا قال: (الطواف بالبيت صلاة) هو ثبوت تمام أحكام الصلاة للطواف، وهذا ـ في الحقيقة ـ تمسّك بإطلاق أدلّة تلك الأحكام، حيث يقال: إنّها تشمل بالإطلاق الفرد الحقيقيّ والاعتباريّ للصلاة معاً، وهذا الإطلاق يتمسّك به بالنسبة لكلّ حكم من أحكام الصلاة، فيثبت المطلوب من ترتّب تمام الأحكام. والأمر فيما نحن فيه يكون ـ في الحقيقة ـ على عكس التمسّك بالإطلاق ـ أي: أنّه إعدام للإطلاق لا إثبات للإطلاق ـ فالفعل المضطرّ إليه يرفع عنه تمام أحكامه باعتبار أنّ هذا الفعل اعتبر معدوماً، فتنعدم بهذا الاعتبار حصّة من حصص موضوع جميع أدلّة أحكام ذلك الفعل.

وإن فرضنا أنّ الحكومة كانت بنحو التنزيل فعندئذ قد يتوهّم أنّ هذا حاله حال التقدير، فإنّنا نحتاج في التنزيل إلى الأثر، وهو أمره مردّد بين جميع الآثار وبعض الآثار، كما هو الحال في التقدير، لكن الصحيح أنّ قياسه بالتقدير قياس مع الفارق، فإنّنا في مورد التقدير نحتاج إلى المقدّر في نفس الكلام حذف إثباتاً، وهو موجود في عالم الثبوت، وهو ـ في الحقيقة ـ قرينة متّصلة أمرها مردّد بين الأقلّ والأكثر، و في مثل ذلك يتحقّق الإجمال للكلام لا محالة(1).

وأمّا فيما نحن فيه فلا نحتاج إلى ملاحظة الأثر في عالم مدلول الكلام، وإنّما



(1) نعم، لو لم يكن هناك قدر متيقّن في مقام الخطاب فكان عدم الإطلاق مساوقاً للإهمال، فظهور حال المتكلّم في عدم كونه في مقام الإهمال يثبت الإطلاق.

144

نحتاج إليها في عالم نفس عمليّة التنزيل. والرفع التنزيليّ حقيقة يكون متعلّقاً بوجود نفس العناوين المذكورة في الحديث، ولمّا كانت للرفع التنزيليّ لوجودها الخارجيّ حصص عديدة بعدد أحكام تلك الموضوعات؛ إذ رفعها بلحاظ أيّ واحد من تلك الأحكام حصّة من الرفع التنزيليّ، فالعرف يعتبر وجود تلك العناوين متعدّداً بتعدّد رفعه، أي: أنّه بارتكاز تقابل الرفع والمرفوع يرى العرف المرفوع متعدّداً إذا تصوّرت للرفع حصص عديدة، فكأنّ للمرفوع حصصاً عديدة بعدد حصص الرفع. فإذا شككنا في أنّ الرفع في الحديث هل يشمل جميع حصص الرفع التنزيليّ، وبالتالي شككنا في أنّ الرفع هل تعلّق بجميع حصص وجودات تلك العناوين، كان مقتضى إطلاق رفع وجوداتها رفع جميع حصص تلك الوجودات، فيثبت تحقّق جميع حصص الرفع، ولهذا لا يشكّ أهل العرف في التمسكّ بجميع إطلاقات أدلّة التنزيل ما لم يكن هناك ظهور عرفيّ ناشئ من المناسبات الارتكازيّة يقتضي صرف التنزيل إلى جهة مخصوصة(1).

 


(1) إنّما التجأ(رحمه الله) إلى ذكر مؤونة فرض تعدّد المرفوع بتعدّد الرفع؛ لأنّ تعدّد الرفع لم يكن كافياً لإجراء الإطلاق لإثبات إرادة كلّ حصصه، فإنّ الاطلاق الشموليّ يعني ثبوت المحمول لجميع حصص الموضوع، ولا يعني ثبوت جميع حصص المحمول للموضوع، فلو قال: (النار حارّة) دلّ الإطلاق على ثبوت الحرارة لكلّ حصّة من حصص النار لا على ثبوت جميع حصص الحرارة للنار، وتوضيح ذلك موكول إلى محلّه. والرفع فيما نحن فيه محمول على المرفوع، فلولا فرض تعدّد المرفوع بتعدّد الرفع لا يتمّ القول بأنّ مقتضى الإطلاق ثبوت جميع حصص الرفع التنزيليّ للمرفوع.

أقول: لا يخفى أنّنا لو سلّمنا بما أفاده(رحمه الله) في المقام من فرض تعدّد المرفوع في منظار

145


التنزيل بتعدّد الرفع فإنّما يؤدّي هذا إلى تماميّة الإطلاق في مثل حديث الرفع ممّا تفترض دلالته على الرفع التنزيليّ، ولا يؤدّي إلى تماميّة الإطلاق في جميع التنزيلات من قبيل (الطواف بالبيت صلاة)، فإنّه إن كان تعدّد الرفع التنزيليّ موجباً لفرض تعدّد المرفوع بمنظار التنزيل بنكتة أنّ تعدّد الرفع الحقيقيّ يوجب تعدّد ما يقابله من المرفوع، فهذه النكتة غير موجودة في تنزيل شيء منزلة شيء آخر، وإنّما تختصّ بالرفع، فلو كانت من الواضح عرفاً تماميّة الإطلاق في تمام موارد التنزيل حتّى مع وجود قدر متيقّن في مقام الخطاب، فلابدّ من التماس نكتة اُخرى لها.

ولا يبعد أن يقال: إنّ قاعدة (حذف المتعلّق يفيد العموم) صحيحة رغم مناقشة اُستاذنا(رحمه الله) فيها ـ بأنّ الإطلاق يدفع القيد الزائد على المفهوم المحدّد في كلام المتكلّم، ولا يحدّد المفهوم في دائرة واسعة عند تردّده بينها وبين دائرة ضيقة ـ وذلك بدعوى أنّ العرف يرى أنّ المتعلّق الخاصّ كأنّه قيد، وكأنّه عند العموم ليس قيداً فيحذف. ويقال بمثل ذلك في باب التنزيل، فإذا قال: (الطواف بالبيت صلاة) فالأثر الخاصّ لو كان منظوراً في التنزيل كان بمنزلة القيد، فعدم ذكره يكون عرفاً بمنزلة الإطلاق.

ولو لم يتمّ هذا لم يكن لنا تخريج للإطلاق في موارد التنزيل إلاّ إذا لم يكن في البين قدر متيقّن في مقام الخطاب، فكان عدم الإطلاق مساوقاً للإهمال والدوران بين المتباينين، فعندئذ قد يقال: إنّ نفس لزوم الإهمال والدوران بين المتباينين نكتة لفهم الإطلاق عرفاً.

وخلاصة الكلام في موارد حذف المتعلّق وموارد التنزيل: أنّه لو لم يكن قدر متيقّن في مقام الخطاب تمّ الإطلاق حتّى على مبنى اُستاذنا(رحمه الله)، ولو كان قدر متيقّن في مقام

146

وأمّا الأمر الثاني: فيتصوّر الفرق والثمرة بين الرفع التشريعيّ للوجود الحقيقيّ الذي تكون الحكومة فيه حكومة في مستوى عقد الوضع، والرفع الحقيقيّ للوجود التشريعيّ الذي تكون الحكومة فيه حكومة في مستوى عقد الحمل من ناحيتين:

الناحية الاُولى: أنّه هل يختصّ الرفع بالاُمور الوجوديّة، كما لو اضطرّ المكلّف إلى شرب الخمر مثلاً، فتنتفي منه الحرمة ووجوب الحدّ، أو يشمل الاُمور العدميّة أيضاً، فلو حلف على إكرام فقير ثمّ ترك إكرامه اضطراراً لا تجب عليه الكفّارة؟ وقد ذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى أنّ حديث الرفع لا يشمل الأمر العدميّ؛ لأنّ الرفع لا يناسب تعلّقه بالأمر العدميّ، فإنّ رفع الأمر العدميّ إنّما هو وضع للوجود، فمرجعه ـ بحسب الحقيقة ـ إلى الوضع لا الرفع، وارتكاز التقابل بين الرفع والوضع ـ بحسب الفهم العرفيّ ـ يقتضي عدم شمول الرفع للاُمور العدميّة؛ لأنّ شموله لها يطعّمه معنى الوضع وهو خلاف ارتكاز التقابل بينهما(1).

أقول: إن بنينا على ما هو المختار من كون الرفع رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ لتلك العناوين فلا مجال لشبهة اختصاص الحديث بالاُمور الوجوديّة؛ إذ كما أنّ


الخطاب، فإن لم تكن هناك مناسبة عرفيّة تشير إلى تقديره، أو إلى كونه أثراً كان التنزيل بلحاظه تمّ الإطلاق بناءً على البيان الذي أشرنا إليه، ولم يتمّ بناءً على مبنى اُستاذنا(رحمه الله)، وإن كانت هناك مناسبة عرفيّة تشير إلى ذلك، فإن كانت المناسبة تنفي غير ذلك فلا كلام في عدم الإطلاق، وإلاّ فالظاهر أيضاً عدم الإطلاق حتّى بناءً على البيان الذي أشرنا إليه؛ لأنّ تلك المناسبة تجعل ذاك المحذوف، أو الأثر بمنزلة المذكور، ولا يبقى دليل على إرادة غيره.

(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 128 و 129.

147

الأمر الوجوديّ إذا صار موضوعاً لحكم كان له وجود بحسب عالم التشريع، كذلك الأمر العدميّ إذا صار موضوعاً لحكم كان له وجود بحسب عالم التشريع، فلا مانع من تعلّق الرفع به، فيشمل حديث الرفع بإطلاقه الوجوديّات والعدميّات معاً وهو المناسب لارتكاز العرف، فلا ينبغي الإشكال في أنّ العرف لا يخطر بباله من هذا الحديث الفرق بين الأمر العدميّ والأمر الوجوديّ، ولا نحتمل أنّ اصحاب الرسول(صلى الله عليه وآله) حينما سمعوا هذا الحديث خطر ببالهم الرفع بلحاظ مثل شرب الخمر المضطرّ إليه دون ترك الواجب المضطرّ إليه.

وأمّا إذا بنينا على أنّ الرفع رفع تشريعيّ للوجود الحقيقيّ، فعندئذ يوجد مجال لما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من التفصيل بدعوى أنّ رفع العدم مساوق لوضع الوجود، فشمول الإطلاق له خلاف ارتكاز التقابل بين الرفع والوضع.

وهذا أيضاً لا يتمّ على الإطلاق، فإنّ الرفع التشريعيّ تارةً نختار تعلّقه بالعنوان الأوّليّ ـ أي: بذات ما اضطرّوا إليه ـ وعنوان الاضطرار مشير إلى الذات، واُخرى نختار تعلّقه بالعنوان الثانويّ، أي: بالمضطرّ إليه بما هو مضطرّ إليه.

فعلى الثاني لا تأتي الشبهة أيضاً في المقام؛ لأنّ «ما اضطرّوا إليه» وإن كان مصداقه هو الأمر العدميّ لكن نفس هذا العنوان عنوان ثبوتيّ وليس عنواناً عدميّاً؛ إذ لم يستبطن أداةً من أدوات النفي ولا مفهوماً عدميّاً، لا بنحو المفهوم الاسميّ كمفهوم (العدم)، ولا بنحو المفهوم الحرفيّ كمفهوم (لا)، فهو مفهوم ثبوتيّ وعنوان ثبوتيّ، فلا عناية في نسبة الرفع إليه، وإن كان منطبقاً على أمر عدميّ، فمثلاً لو ورد شخص على شخص فلم يقم له، فعدم القيام أمر عدميّ لكن قد ينتزع منه عنوان الإهانة وهو عنوان ثبوتيّ منطبق على أمر عدميّ، ويصحّ إسناد الرفع إليه بأن يقال: (رفعت عنك الإهانة) من دون أيّ مؤونة أو عناية.

نعم، على الأوّل وهو تعلّق الرفع بذات المضطرّ إليه قد يقال بالتفصيل بالتقريب

148

الذي ذهب إليه المحقّق النائينيّ(قدس سره)(1).

وبهذا البيان كما ظهرت حال هذه الثمرة التي يمكن ادّعاؤها في المقام، كذلك ظهر أنّ ما اختاره المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في المقام إنّما يناسب فرض الإيمان في فهم معنى الحديث بالرفع التشريعيّ للوجود الحقيقيّ، فلو كان مبناه هو العكس ـ أي: الرفع الحقيقيّ للوجود التشريعيّ ـ فالذي اختاره هنا لا يناسب مبناه.

الناحية الثانية: أنّ الحديث هل يفيد نفي آثار متعلّق الاضطرار مثلاً فحسب، أو يثبت أحكام نقيضه أيضاً، فمثلاً لو فرض أنّ موضوع جواز الائتمام هو العادل الذي لم يشرب الخمر، فوجدنا عادلاً شرب الخمر اضطراراً، فهل يثبت بحديث الرفع جواز الائتمام به الذي هو أثر عدم شرب الخمر، أو لا يثبت به عدا نفي الحرمة والحدّ، ولا يجوز الائتمام به؛ لأنّه لا يصدق عليه أنّه لم يشرب الخمر؟

إن بنينا على أنّ الرفع رفع تشريعيّ للوجود الخارجيّ ثبت ترتّب أثر عدم المضطرّ إليه أيضاً؛ إذ المفروض أنّه نزّل وجوده منزلة عدمه في الأثر، أو أنّه اعتبر هذا الموجود معدوماً ومرتفعاً. أمّا إذا بنينا على أنّه رفع حقيقيّ للوجود التشريعيّ فلا يقتضي ذلك إلاّ رفع آثار وجود المضطرّ إليه وأحكامه؛ إذ بوجود أحكامه يكون للمضطرّ إليه وجود تشريعيّ والمفروض رفعه. وأمّا ثبوت أثر نقيضه ـ أي: أثر عدم المضطرّ إليه ـ وهو جواز الائتمام مثلاً، فلا يدلّ عليه الحديث. ولمّا كان المختار هو الثاني ـ أعني: كون الرفع رفعاً حقيقيّاً للوجود التشريعيّ ـ فنحن نبني على أنّ حديث الرفع ينفي أحكام ما وقع تحت الاضطرار ولا يثبت أحكام نقيضه.



(1) وإن كان فيه إشكال أيضاً؛ لعدم وضوح الانصراف العرفيّ للرفع عن رفع العدم لمجرّد كونه مساوقاً للوضع المقابل للرفع.

149

وهذا البحث يترتّب عليه أثر مهمّ في باب العبادات فيما إذا اضطرّ إلى ترك جزء مثلاً، فلو بنينا على المبنى الأوّل وهو تنزيل المضطرّ إليه منزلة نقيضه، أو اعتباره معدوماً ومرتفعاً صحّ الإتيان بالباقي، فإنّ ترك الجزء الذي تركه اضطراراً وهو الفاتحة مثلاً منزّل منزلة الإتيان به مثلاً ـ بناءً على شمول الحديث للأعدام كما يشمل الوجودات ـ فهذه صلاة واجدة للفاتحة تنزيلاً، أو اعتباراً، فقد تحقّقت بالحكومة توسعة لدائرة الواجب في (أقيموا الصلاة)، فتصحّ الصلاة على القاعدة بموجب حديث الرفع بلا حاجة إلى التمسّك بدليل خاصّ. وإن بنينا على المبنى الثاني ـ وهو المختار ـ من الرفع الحقيقيّ للوجود التشريعيّ، فغاية ما يدلّ عليه الحديث عدم وجوب الصلاة مع الفاتحة، وعدم حرمة ترك ذلك لكونه مضطرّاً إليه. أمّا وجوب باقي الأجزاء فلا يدلّ عليه.

لا يقال: أنّ الفاتحة قد رفع وجوبها الضمنيّ وجزئيّتها ومبطليّة تركها بالاضطرار إلى الترك، فيصحّ الباقي.

لأنّا نقول: إنّ الوجوب الضمنيّ لا يرتفع إلاّ بارتفاع وجوب أصل الواجب الذي هو في ضمنه، فالحديث يدلّ على عدم وجوب الصلاة مع الفاتحة، أمّا وجوبها بلا فاتحة فلا يدلّ عليه، وجزئيّة الفاتحة تنتزع من وجوبها ضمن وجوب الكلّ، وكذلك مبطليّة تركها.

إن قلت: إنّ لترك الفاتحة وجوداً في عالم المبطليّة، ولشرب الإمام الخمر في المثال السابق وجوداً في عالم مبطليّته لصلاة المأموم، وهذا يمكن رفعه حقيقة ولو بتغيير في منشأ انتزاع المبطليّة. وهذا يشبه ما مضى من دعوى شمول الحديث لترك الواجب وإن قلنا إنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، مع أنّ ترك الواجب ـ في الحقيقة ـ ليس موضوعاً لحكم شرعيّ، لكنّه بوجه من الوجوه داخل في حساب المولى.

150

قلت: بعد أن فرض أنّ الرفع حقيقيّ، وأنّه ليس رفعاً للوجودات الخارجيّة للعناوين المذكورة في الحديث، وإنّما هو رفع حقيقيّ لشيء قابل للرفع الحقيقيّ، فظاهر حال المتكلّم بوصفه مشرِّعاً كون مقصوده رفع وجود تلك الأشياء في عالم تشريعه للأحكام. والمبطليّة ونحوها ليست من عالم تشريعه، وإنّما هي منتزعة عن أحكامه وتشريعاته. نعم تعدّينا إلى ترك الواجب من باب أنّ العرف يرى وجوب الشيء مساوقاً لحرمة تركه، وكأنّهما شيء واحد، ولا نتعدّى إلى ما هو أبعد من ذلك عن عالم التشريع من قبيل المبطليّة. ومقتضى الجمود على مفاد الحديث حرفيّاً هو عدم التعدّي حتّى إلى ترك الواجب، وإنّما تعدّينا إليه في طول القطع بأنّ العرف لا يفرّق في فهم الحديث بين فعل الحرام وترك الواجب، ولم نكن استفدنا عدم الفرق وشمول الحديث لترك الواجب بسبب قولنا بالتعدّي. وأمّا في مثل موضوع المبطليّة فعدم تفرقة العرف في مفاد الحديث بينه وبين موضوعات أحكام الشارع وتشريعاته غير مسلّم.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الحديث ـ بناءً على المبنى المختار ـ لا يدلّ على صحّة الصلاة وغيرها من الواجبات مع ترك بعض الأجزاء اضطراراً.

 

دلالة الرفع على ثبوت الملاك:

الجهة الثانية: أنّه هل يستفاد من حديث الرفع ثبوت ملاكات الأحكام المرفوعة ومقتضياتها في حالات الاضطرار والإكراه ونحو ذلك أو لا؟ واستفادة ذلك تؤثّر أثراً فقهيّاً في تصحيح العمل المأتيّ به في هذه الحالات، فلو اُكره المكلّف مثلاً على ترك الوضوء، فتحمل مشقّة الإكراه وتوضّأ ولم يكن الإكراه بدرجة يحرم الاقتحام حتّى يبطل الوضوء من باب النهي في العبادة، صحّ وضوؤه بنكتة اشتماله على الملاك بناءً على استظهار ذلك من حديث الرفع، وإلاّ فغاية ما

151

يتحصّل للفقيه من هذا الحديث عدم وجوب الوضوء على هذا المكره، وبعد انتفاء الوجوب لا يبقى دليل على أصل وجود الملاك حتّى يحكم بصحّة وضوئه في هذه الحال. وما يمكن أن يحاول إثبات هذه النكتة به من الحديث أحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أنّ ظاهر الحديث ـ كما أشرنا إليه سابقاً ويأتي تفصيله إن شاء الله ـ هو كونه مسوقاً مساق الامتنان، والحكم الذي ليس له مقتض في نفسه ليس رفعه امتناناً، وإنّما الامتنان في رفع الحكم يكون عند فرض وجود المقتضي للحكم.

أقول: إنّ هذا التقريب إنّما يتمّ بالنسبة للموالي العرفيّين الذين يلاحظون في أوامرهم على عبيدهم مصالح أنفسهم لا مصالح العبيد، فيصحّ للمولى أن يمتنّ على عبده برفع اليد عن تلك المصلحة، وينتفي هذا الامتنان في فرض عدم الملاك وانتفاء المصلحة في ذاتها. وأمّا بالنسبة للمولى الحقيقيّ ـ تعالى شأنه ـ فلا يتصوّر أن يمنّ على العباد برفع حكم عنه بعنوان أنّه رفع اليد عن تحقيق مقتضي الحكم وتحصيل مصلحته، فإنّ مصلحته راجعة إلى العباد أنفسهم لا إلى المولى. وإنّما الامتنان المعقول في حقه في هذا الرفع هو أن يمنّ عليهم برفع الحكم عنهم بعنوان أنّ هذا الرفع كان في صالحهم فحقّق لهم مصلحتهم بهذا الرفع، سواء فرض أنّه كانت في الحكم مصلحة وكان الرفع مفوّتاً لها، لكنّه كانت مصلحة الرفع أقوى من المصلحة الفائتة، أو أنّه لم تكن في الحكم مصلحة أصلاً، وكانت المصلحة في الرفع فحسب، ولا معنى لصحّة الامتنان في خصوص فرض مفوّتيّة الرفع لمصلحة أدنى دون فرض عدم مفوّتيّة لها.

التقريب الثاني: أنّ الشارع قد بيّن النفي في هذا الحديث بلسان الرفع، وهذا اللفظ إنّما يستعمل حقيقة في النفي بعد الوجود، فإنّ الرفع نفي وإعدام للموجود، لا نفي للوجود من أوّل الأمر. ومن المعلوم أنّ الحكم في الحصّة التي تكون مورداً

152

لهذه العناوين، كالاضطرار والإكراه منفيّ من أوّل الأمر، لا أنّه يحرم أوّلاً إتيان ما اضطرّوا إليه أو اُكرهوا عليه ثمّ ترفع الحرمة. ويحتاج استعمال لفظ الرفع في مثال هذا المورد إلى علاقة مصحّحة، وهي في هذا المقام عبارة عن الوجود الاقتضائيّ والملاكيّ للحكم، فكأنّه رفع للشيء الموجود وإن لم يصدق الرفع حقيقة لعدم وجوده.

وتحقيق الحال في هذا المقام أن يقال: إنّه إن بنينا على المبنى غير المرضيّ عندنا من أنّ الرفع رفع تشريعيّ للوجود الخارجيّ، أمكن أن تكون العلاقة الملحوظة المصحّحة لاستعمال كلمة (الرفع) نفس الوجود الخارجيّ لتلك الأشياء، وهذا وإن لم يكن خالياً من العناية؛ لأنّ الرفع الحقيقيّ نفيٌ بعد الوجود ـ أي: نفي في الآن الثاني ـ وهذا نفي ثابت في الآن الأوّل، لكنّ هذه العلاقة كافية لتصحيح استعمال الرفع في المقام بلا حاجة إلى مسألة الملاك والمقتضي.

وأمّا إذا بنينا على المبنى المرضيّ عندنا من أنّ الرفع رفع حقيقيّ للوجود التشريعيّ، فالوجود الخارجيّ ليس مصحّحاً للرفع؛ إذ ليس رفعاً له ـ بحسب الفرض ـ فلابدّ من تصوير وجود آخر لتصحيح كلمة (الرفع) وذلك يتصوّر بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أن يفرض أنّ هذه العناوين كان الحكم فيها ثابتاً في أوّل الشريعة، فكان يجب ترك المحرّم المكره عليه أو المضطرّ إليه ونحو ذلك، ثمّ رفع ذلك ونسخ بحديث الرفع.

الثاني: أن يفرض أنّ الحكم فيها كان ثابتاً في الشرائع السابقة، فرفع ونسخ في هذه الشريعة، ويصحّ إطلاق كلمة (الرفع) عن هذه الشريعة؛ لأنّ الحكم المشرّع في أيّة شريعة لا يشرّع بنحو مقيّد وذي أمد من أوّل الأمر، بل يشرّع بنحو الإطلاق ثمّ ينسخ، فحاله حال حكم جعل في نفس هذه الشريعة ثمّ نسخ.

153

الثالث: أن يفرض للحكم وجود اقتضائيّ وملاكيّ كما هو المقصود.

أمّا الوجه الأوّل: فهو قطعيّ البطلان؛ إذ لا نحتمل ثبوت هذه الأحكام في الشريعة يوماً مّا.

وأمّا الوجه الثاني: فلو احتملنا عقلائيّاً ثبوت تكاليف شاقّة في غاية الضيق في الاُمم السابقة ـ كما يحتمله بعض وكما يظهر من بعض الروايات في كتاب الطهارة(1) ـ أصبح الحديث مجملاً مردّداً أمره بين الوجه الثاني والثالث. لكن الإنصاف أنّه لا ينبغي أن يكون من المحتمل احتمالاً عقلائيّاً ثبوت تكاليف في الاُمم السابقة من هذا القبيل، كالتكليف بما لا يطيقون، وما اضطرّوا إلى خلافه، أو اُكرهوا على ذلك، فيتعيّن بذلك الوجه الثالث، ونستظهر من الحديث الوجود الاقتضائيّ والملاكيّ لتلك الأحكام، وترتّب على ذلك ما يناسبه من الآثار والثمرات في الفقه(2).

 


(1) راجع الوسائل، ج 1، ب 1 من الماء المطلق، ح 4، ص 100.

(2) لا يخفى أنّنا لو شككنا في مورد مّا، كالوضوء مثلاً بعد طروّ بعض هذه العناوين في أنّه هل الملاك موجود فيصّح العمل لو تحمّل المكلّف الحرج أو لا؟ فإنّما يمكن إثبات الملاك بالتمسّك بإطلاق حديث الرفع لو قلنا: إنّ موضوع الحكم في حديث الرفع هو مطلق ما اُكرهوا عليه مثلاً أو ما اضطرّوا إليه أو ما لا يطيقون، فيقال: إنّ التعبير بالرفع دلّ على ثبوت الملاك في مطلق تلك الموارد. أمّا لو قلنا: إنّ التعبير بالرفع دلّ على اختصاص الحديث بفرض ثبوت الملاك، فالتمسّك بإطلاق الحديث لإثبات الملاك تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للعامّ، والتردّد بين الاحتمالين كاف في عدم جواز التمسّك بالإطلاق. إذن فالتمسّك بالإطلاق يتوقّف على تعيين الاحتمال الأوّل.