745

 

إبطال المراجع الاُخرى المحتملة:

المقام الثاني: في إبطال سائر ما تحتمل مرجعيّته عند الانسداد في مقام الامتثال ممّا يفرض قيام دليل عليه في نفسه، فنقول:

أمّا الاستصحاب: فهو إمّا يكون مثبتاً للتكليف، أو نافياً له:

أمّا الاستصحاب النافي: فحاله بعد فرض قيام الدليل عليه في نفسه حال البراءة التي فرغ الانسداديّ عن عدم جواز إجرائها لمحذور منجّزيّة العلم الإجماليّ وغيرها، حيث أوجبت تلك المحاذير تساقط الاُصول المؤمّنة.

وأمّا الاستصحاب المثبت: فيقع الكلام فيه من ناحيتين:

الاُولى: في أنّه هل هناك مقتض للتمسّك بالاستصحاب بحسب مقام الإثبات، أو لا ؟ والظاهر أنّه ليس هناك مقتض للاستصحاب أصلاً، فإنّ دليله إنّما هو ظاهر أخبار آحاد، والمفروض عدم حجّيّة ذلك، وإلّا لم يكن انسداد فكيف يمكن فرض الاستصحاب مرجعاً لدى الانسداد ؟!

الثانية: أنّه بعد فرض وجود المقتضي للاستصحاب ـ كما لو كان دليل الاستصحاب دليلاً قطعيّاً ـ هل هناك مانع عن التمسّك بالاستصحاب في المقام، أو لا ؟ والمانع المتصوّر في المقام إمّا ثبوتيّ أو إثباتيّ:

أمّا المانع الثبوتيّ: فهو مخالفته للعلم الإجماليّ بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف، حيث إنّ الانسداديّ لمّا لم تتمّ عنده أمارة معتبرة يثبت بها في كثير من الموارد انتقاض الحالة السابقة كثرت عليه موارد الاستصحاب، فلو لوحظت مجموع تلك الموارد حصل العلم الإجماليّ بالانتقاض في بعضها، فإجراؤه في تمام تلك الموارد خلاف العلم الإجماليّ، وفي بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

746

وهذا المحذور غير صحيح كبرويّاً؛ لما سنحقّقه ـ إن شاء الله ـ في محلّه: من أنّ الاُصول ـ سواء الاستصحاب وغيره ـ إنّما لا يمكن إجراؤها في أطراف العلم الإجماليّ إذا لزم من ذلك المخالفة العمليّة القطعيّة لا مطلقاً، ولا يلزم من الاُصول المثبتة للتكليف ذلك، فإنّها دائماً في صالح المولى لا العبد.

على أنّه لو سلّمنا هذا المحذور كبرويّاً ففي المقام في غير باب المعاملات ننكر العلم الإجماليّ بالخلاف؛ لأنّ الشبهات الحكميّة التي يكون الشكّ فيها في البقاء في غير المعاملات، كالشكّ في بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر، وحرمة دخول الحائض في المسجد بعد النقاء وقبل الغسل، ووجوب الصوم بعد غروب القرص وقبل ذهاب الحمرة، ونحو ذلك من الشبهات لو جمعناها لم يكن لنا علم إجماليّ بالانتقاض في بعضها، ولا موجب لعلم إجماليّ من هذا القبيل.

نعم، في الشبهات في موارد المعاملات يوجد علم إجماليّ بالخلاف؛ إذ بعد فرض انسداد باب العلم والعلميّ وعدم التمسّك بالأخبار وظواهر الآيات وبإطلاق أو عموم، سنشكّ في ترتّب الأثر على أيّ معاملة تقع بحسب الخارج، ومن الواضح أنّنا نعلم إجمالاً بأنّه يوجد في الشريعة نكاح وبيع وإجارة، ونحو ذلك، والقدر المتيقّن منها لا يفي بحلّ مثل هذا العلم الإجماليّ.

وأمّا المانع الإثباتيّ: فهو أيضاً بلحاظ العلم الإجماليّ بانتقاض الحالة السابقة بناءً على ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره): من أنّ هذا يوجب التناقض بين صدر رواية الاستصحاب الدالّ على السلب الكلّيّ وهو نفي نقض اليقين بالشكّ، وذيله الدالّ على الإيجاب الجزئيّ وهو النقض بيقين آخر؛ إذ لو لاحظنا مجموع الأطراف كان لدينا يقين إجماليّ بانتقاض بعضها، وهذا اليقين الإجماليّ مشمول لذيل الحديث، وبعد تساقط الصدر والذيل لا يبقى لنا دليل على الاستصحاب.

747

أقول: إنّ تحقيق أصل هذا المبنى صحّة وبطلاناً يأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه، ولو تمّ هذا المبنى كبرويّاً في موارد العلم الإجماليّ فلا مجال له في المقام في غير باب المعاملات؛ لما عرفت: من منع الصغرى، وهو العلم الإجماليّ بالانتقاض.

والمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) تصدّى للجواب عن هذا المانع على تقدير مبنى الشيخ الأعظم(رحمه الله): من تناقض الصدر والذيل، فذكر: أنّ المجتهد الذي يجري هذه الاستصحابات لا يتحقّق في حقّه تمام الاستصحابات في عرض واحد؛ لأنّ كلّ استصحاب يتوقّف على يقين وشكّ، وهو لا يحصل له في زمان واحد الشكّ الفعليّ في تمام المسائل، وإن كانا بحيث لو التفت لشكّ، فإنّه في آن واحد لا يلتفت إلى جميع المسائل حتّى يحصل له الشكّ في البقاء في جميعها، وإنّما يلتفت إلى بعض المسائل ويشكّ ويستصحب غافلاً عن باقي المسائل، ثُمّ يلتفت إلى بعض آخر ويغفل عن المسألة السابقة، ويجري الاستصحاب في البعض الجديد وهكذا، ولا يمرّ عليه وقت يكون مشمولاً لصدر دليل الاستصحاب بلحاظ تمام هذه الشبهات حتّى يقع التعارض بين شمول الصدر للاستصحاب في جميعها وذيل الحديث الدالّ على الموجبة الجزئيّة، بل هو دائماً لا يكون مشمولاً للصدر إلّا بلحاظ شخص الواقعة التي يحاول أن يستنبط حكمها.

أقول: ظاهر عبارته(رحمه الله) أنّ هذه الاستصحابات ثابتة في حقّ نفس المجتهد، ونحن لا نريد الآن أن نتكلّم عن ذلك وأنّه هل يجري الاستصحاب بالأصالة أو بالنيابة ونحو ذلك.

وإنّما نتكلّم عمّا افترضه: من حلّ إشكال التناقض بين الصدر والذيل بعدم الالتفات دفعة واحدة إلى تمام المسائل وعدم فعليّة الشكّ فيها في وقت واحد، وهذا جوابه واضح، لا ندري كيف خفى على المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)، بيان ذلك: أنّ هذا المجتهد في أوّل أوقات اجتهاده في تلك المسائل يكون على يقين بأنّ الحالة

748

السابقة في بعض المسائل التي سوف يلتفت إليها منقوضة، فهو مشمول لذيل الحديث بالفعل، وأمّا صدره فلئن سلّمنا ما ذكره(رحمه الله): من عدم ثبوت الشكّ في زمان واحد بالنسبة لتمام تلك المسائل وأنّه مهما يشتغل بمسألة يغفل عن الاُخرى، فهو لا يكون مشمولاً للصدر بلحاظ تمام تلك الشبهات في آن واحد، فلا شكّ في أنّه مشمول له بلحاظ تمامها في عمود الزمان تدريجاً، وهو من هذا الآن يعلم أنّ بعض الاستصحابات التي سوف يصير فعليّاً في حقّه يكون منقوضاً باليقين، فيعلم لا محالة بمناقضة الصدر الذي يكون مشمولاً له في تمامها تدريجاً والذيل الذي يأمر بالنقض باليقين الثابت له فعلاً، ولا يفرّق في حصول المعارضة بين عرضيّة الشمول بالنسبة لجميع الاستصحابات وطوليّته.

وعلى أيّة حال، فبناءً على جريان الاستصحابات المثبتة في حقّ الانسداديّ لا يؤثّر ذلك في سير دليل الانسداد ولا يضرّ بغرض الانسداديّ، فإن ضمّها إلى ما هو معلوم تفصيلاً لا ينتج انحلال العلم الإجماليّ؛ لقلّة مواردها.

وأمّا أصالة البراءة: فقد حملنا المقدّمة الثالثة على إبطالها وتكلّمنا فيها في ذلك مفصّلاً.

وأمّا أصالة التخيير: فإن اُريد بها أن يفتي الانسداديّ بالاحتياط في بعض الشبهات لا بعينها، وإعطاء الخيار بيد المكلّف في تطبيق الاحتياط على أيّ طرف شاء، فمثل هذا التخيير ليس له أصل ثابت بدليل من الأدلّة بقطع النظر عن الانسداد حتّى يرى أنّه هل نرجع إلى ذاك الدليل بعد الانسداد، أو لا؟ فالبحث عنه إنّما يناسب المقدّمة الخامسة دون هذه المقدّمة المعدّة لإبطال مرجعيّة شيء يفترض قيام دليل على مرجعيّته في نفسه.

وإن اُريد بها أصالة التخيير بمعناها المصطلح، أعني: التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين الذي يرجع إليه الانفتاحيّ، فهذا أصل صحيح قام عليه

749

الدليل في نفسه. والصحيح: أنّه يجوز للانسداديّ أيضاً الرجوع إليه بنفسذلك الدليل، وهو: أنّ المعلوم إنّما هو الجامع بين الوجوب والحرمة، وهذاالعلم يستحيل تنجيزه لخصوص الوجوب أو الحرمة، على تحقيق يأتي في محلّه إن شاء الله.

نعم، يفترق الانسداديّ عن الانفتاحيّ بأنّه إن أدّى انسداده به إلى كثرة الشبهات التي يدور الأمر فيها بين المحذورين بحيث لم يحتمل تماثل تلك الشبهات وجوباً أو حرمة، دخل ذلك تحت قانون اشتباه الواجب بالحرام؛ إذ تولّد له علم إجماليّ آخر، وهو العلم بوجوب بعض هذه الاُمور وحرمة بعضها، فبناءً على أنّه لا يجوز في علم إجماليّ من هذا القبيل المخالفة القطعيّة لأحد الطرفين يثبت فيما نحن فيه أنّه لا يجوز له الإتيان بالجميع ولا ترك الجميع، بل لابدّ من التبعيض لئلاّ تلزم المخالفة القطعيّة.

ومرجعيّة أصالة التخيير لا تضرّ باقتناص حجّيّة الظنّ من مقدّمات دليل الانسداد لو تمّت في نفسها، ولا تهدم دليل الانسداد.

وأمّا التقليد: فقد يتوهّم مرجعيّته للانسداديّ بدعوى أنّه جاهل بحسب اعترافه في المقدّمة الثانية، فيجب عليه الرجوع إلى العالم الانفتاحيّ عملاً بقانون رجوع الجاهل إلى العالم.

إلّا أنّ الصحيح أنّ هذا التوهّم باطل، ولا يجوز له الرجوع إلى مجتهد انفتاحيّ، سواء كان المراد بذلك المجتهد الانفتاحيّ المعاصر له، أو كان المراد به المجتهد الانفتاحيّ في زمن متقدّم يعتقد هذا الانسداديّ أو يحتمل أنّ دعوى الانفتاح في ذلك الزمان كانت في محلّها:

أمّا الأوّل: فلأنّ المفروض أنّ الانسداديّ يؤمن ببطلان نكتة إفتاء الانفتاحيّ، فليست لإفتائه كاشفيّة في المقام بالنسبة للانسداديّ، فلا يشمله دليل التقليد: من

750

الارتكاز وبناء العقلاء(1)، فإنّه لوحظت فيه نكتة الكاشفيّة.

وأمّا الثاني: فلأنّ هذا الانسداديّ إمّا نفرض قطعه ولو إجمالاً، أو احتماله لكون ذاك المجتهد السابق غير ملتفت إلى بعض النكات التي التفت إليها هذا الانسداديّ ممّا يكون دخيلاً في الحكم، أو نفرض أنّه لا يحتمل ذلك، وأنّه يعلم أنّ فكر ذاك المجتهد مطابق تماماً لفكره الصحيح عنده، وإنّما الفرق بينهما أنّ الأوّل وقع في عصر الانفتاح، وهذا وقع في عصر الانسداد، فلو كان واقعاً في ذاك العصر لكان انفتاحيّاً ولأفتى بكلّ ما أفتى به ذاك الانفتاحيّ، فإن فرض الأوّل لم يجز له التقليد أيضاً؛ لأنّ الارتكاز والسيرة العقلائيّة غير قائمين على رجوع شخص عارف لنكات إلى من يعلم أو يحتمل فقدانه لتلك النكات الدخيلة في الحكم، وإن فرض الثاني فمعنى ذلك أنّ إفتاء المجتهد السابق أصبح بالنسبة لهذا الانسداديّ كاشفاً قطعيّاً عن الواقع أو الحجّة المعتبرة، وهذا خلف المفروض في المقام، فإنّه خلف للانسداد وللتقليد معاً.

وأمّا القرعة ـ لو احتمل أحد مرجعيّتها في المقام، ولا تحتمل عادة ـ: فيرد عليها:

أوّلاً: أنّ دليل القرعة لو تمّ فهو ظهور أخبار آحاد، وليس حجّة في رأي الانسداديّ وإلّا لم يقل بالانسداد، وإنّما يمكن اقتراح مرجعيّتها بعد الانسداد لا بدليل سابق كاقتراح مرجعيّة الظنّ، وهذا ممّا يرتبط بالمقدّمة الخامسة لا بهذه المقدّمة.

وثانياً: ما هو محقّق في محلّه من عدم تماميّة دليل القرعة في مثل المقام في


(1) أمّا الدليل اللفظيّ فلا يتمّ منه ما عدا ظهور لبعض الأخبار الآحاد، والمفروض لدى الانسداديّ عدم حجّيّته، على أنّه منصرف أيضاً إلى نكتة الكاشفيّة المركوزة لدى العقلاء.

751

نفسه؛ لأنّ ما يستفاد من أخبار القرعة إنّما هو مرجعيّتها في الرتبة المتأخّرة عن أيّ وظيفة شرعيّة، بل وأيّ وظيفة عقليّة، حيث إنّ المأخوذ فيها عنوان تفويض الأمر إلى الله، وذلك ظاهر فيما ذكرناه، فإنّ التفويض إلى الله إنّما يكون عند عدم طريق من قبل الله تأسيساً أو إمضاء لحكم العقل. وأمّا مع وجود مثل هذا الطريق فلا يكون رفضه والتمسّك بالقرعة تفويضاً للأمر إلى الله، وإنّما هو رفع اليد عمّا فرضه الله تأسيساً أو إمضاء، وفيما نحن فيه يوجد بقطع النظر عن القرعة ملجأ آخر يلجأ إليه، حيث يثبت بمثل العلم الإجماليّ وقاعدة نفي الحرج ونحو ذلك التنجيز بالنسبة لبعض الاُمور والتعذير لبعض الاُمور(1). وتفصيل المطلب في تأخّر القرعة عن كلّ القواعد العقليّة والشرعيّة يُرجأ إلى مجال آخر.

 

5 ـ بطلان الرجوع إلى الوهم دون الظنّ:

المقدّمة الخامسة: بطلان الرجوع إلى الوهم دون الظنّ؛ لكونه ترجيحاً للمرجوح على الراجح، وهو قبيح مثلاً، وبهذا يبطل آخر الشقوق في القضيّة


(1) عنوان التفويض إلى الله وارد في بعض روايات القرعة، من قبيل ما عن أبي جعفر(عليه السلام) بسند تامّ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ليس من قوم تقارعوا ثُمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج سهم المحقّ»(1). والمفهوم من تفويض الأمر إلى الله في تشخيص الواقع ليس هو افتراض عدم وجود طريق آخر لتعيين الوظيفة خاصّة إذا لم يؤدّ ذاك الطريق إلى أمر إلزاميّ، ولكن هناك أكثر من نكتة لصرف هذا الحديث عمّا نحن فيه، منها: أنّ المفهوم عرفاً من نسبة الأمر إلى قوم وفرض انقسامهم إلى المحقّ وغير المحقّ إنّما هو باب النزاع. وتمام الكلام نوكله إلى بحثنا المفصّل في ذلك في كتاب القضاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، ب 13 من كيفيّة الحكم، ح 6، ص 188.

752

المنفصلة، ويتعيّن الرجوع إلى الظنّ. وتفصيل الكلام في ذلك: إنّك قد عرفت أنّ في فرض الانسداد مباني ثلاثة:

المبنى الأوّل: التبعيض في الاحتياط. وأساسه أنّه بقطع النظر عن لزوم العسر والحرج كان مقتضى القاعدة والعلم الإجماليّ الاحتياط التامّ، وبمقتضى العسر والحرج ترفع اليد عن الاحتياط بمقدار رفع العسر والحرج، ويبقى الاحتياط في أزيد من ذلك ثابتاً على حاله، فيدور الأمر بين الأخذ بالظنّ والأخذ بالوهم، لكن لا بمعنى الوهم المقابل لذلك الظنّ، بل بمعنى أنّ الأمر دائر بين الاحتياط فيما هو مظنون الوجوب أو في الشيء الآخر الذي هو موهوم الوجوب، وقد عرفت فيما مضى أنّ للقول بوجوب الاحتياط التامّ في نفسه في أطراف العلم الإجماليّ مسلكين:

المسلك الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ بنفسه ينجّز مباشرة الموافقة القطعيّة، وعلى هذا لا إشكال في أنّه بعد تعذّر ذلك يتنزّل العقل إلى أقرب المراتب إلى ذلك، فأوّلاً لا يرفع العقل اليد إلّا عن الموهومات الضعيفة، فإن لم تكف لرفع العسر والحرج رفع اليد عمّا هو أقوى منها وهكذا.

المسلك الثاني: أنّ العلم الإجماليّ إنّما ينجّز بنفسه حرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة، ولكن البراءة العقليّة تتساقط في المقام ـ كالبراءة الشرعيّة ـ بالتعارض في الأطراف، فعندئذ تصبح الموافقة القطعيّة واجبة بقطع النظر عن العسر والحرج، وبالنظر إلى ذلك يرتفع عنه وجوب الموافقة القطعيّة، وعليه مضى فيما سبق تصوير وجه فنّيّ للزوم الاحتياط في المظنونات، وتطبيق الترخيص المستفاد من قاعدة نفي الحرج على الموهومات على كلا المبنيين في حكومة القاعدة، أعني: على مبنى حكومتها على الحكم الواقعيّ، وعلى مبنى حكومتها على وجوب الاحتياط.

753

المبنى الثاني: الحكومة. وأساسها أنّ العقل العمليّ يحكم بأنّ على الإنسان أداء حقّ العبوديّة بالنسبة لمولاه جلّ شأنه، وعند الانفتاح كان يؤدّي حقّ العبوديّة بامتثال التكاليف المعلومة، وبعد أن فرض انسداد باب العلم عليه ولم يتمكّن من امتثال التكاليف المعلومة بمقدار قضاء حقّ العبوديّة حكم عليه العقل بأداء حقّ العبوديّة بامتثال التكاليف المظنونة، وعندئذ لا إشكال في ترجيح الظنّ على الوهم، ويجب على هذا المبنى أن يكون المقصود من كون تقديم الوهم ترجيحاً للمرجوح على الراجح وهو قبيح: أنّه لو اقتصر في مقام الامتثال على الإتيان بالتكاليف الموهومة حكم عليه العقل العمليّ بقبح ذلك، أي: بعدم خروجه عن عهدة حقّ العبوديّة.

المبنى الثالث: الكشف. وأساسه دعوى الإجماع والقطع بأنّه ليس بناء الشريعة على الاحتياط، لا بمعنى حرمته أو وجوب قصد الوجه ونحو ذلك، بل بمعنى أنّ الشريعة تجعل دائماً طريقاً آخر للامتثال غير الاحتياط، فيقع الكلام عندئذ في أنّ الطريق الذي جعله الشارع هل هو الظنّ، أو الوهم ؟ وأنّه على الأوّل هل الطريق هو الظنّ الشخصيّ كما هو غرض الانسداديّ، أو الظنّ النوعيّ ؟ فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّ الطريق المجعول هل هو الظنّ، أو الوهم ؟ والمحتملات في المقام ثلاثة: جعل الحجّيّة للظنّ، وجعلها للوهم، وجعل الحجّيّة التخييريّة بينهما، وذلك معقول، فإنّه قد يكون مقدار اهتمام المولى بأغراضه بدرجة تحصل بمجرّد جعل الحجّيّة التخييريّة بينهما ويكفي في الوصول إلى أغراضه بمقدار اهتمامه العمل بإحدى الطائفتين.

وقد جعلت هذه المقدّمة لإبطال الشقّ الثاني وهو حجّيّة الوهم، وهنا يجب أن تجري قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح في حقّ المولى لا في حقّ العبد

754

كما في فرض الحكومة، فإنّ الكلام في جعل المولى للحجّيّة.

فنقول: بعد أن كان المفروض أنّ جعل الحجّيّة للظنّ أو الوهم ليس بملاك نفسيّ، وإنّما هو بملاك التحفّظ على أغراضه الواقعيّة، ليس من المعقول جعل المولى لرجحان الاحتمال الموصل إلى أغراضه وقوّته مانعاً عن الحجّيّة، فإنّه نقض للغرض، وهو محال أو قبيح مثلاً، وإذا بطلت بهذه المقدّمة الحجّيّة التعينيّة للوهم ودار الأمر بين الحجّيّة التخييريّة والحجّيّة التعيينيّة للظنّ أخذنا بالقدر المتيقّن، وهو حجّيّة الظنّ، فإنّه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مثل المقام، أعني: باب جعل الحجّيّة بعد فرض تماميّة منجّز للتكاليف في المرتبة السابقة، وجب الأخذ بجانب التعيين، وبكلمة اُخرى: إنّ فرض التخيير بين الظنّ والوهم معناه تحكيم الوهم على ذلك المنجّز وتقديمه عليه من دون علم بحجّيّته، وهو غير جائز كما مضى في بحث أصالة عدم الحجّيّة عند الشكّ في الحجّيّة.

المقام الثاني: في أنّ الطريق المجعول هل هو الظنّ الشخصيّ أو الظنّ النوعيّ كخبر الثقة مثلاً، وبينه وبين الظنّ الشخصيّ عموم من وجه، فقد يوجد الخبر ولا يوجد ظنّ بالفعل، وقد يوجد ظنّ بالفعل صدفة من دون ما يفيد الظنّ النوعيّ كخبر الثقة، وقد يوجد خبر الثقة المورث للظنّ بالفعل مثلاً.

وقد ظهر بالعرض الذي عرضناه: أنّ ما في كلمات الأصحاب(قدس سرهم) من استنتاج انحصار الحجّيّة في الظنّ، أي: الظنّ الشخصيّ بإبطال حجّيّة الوهم، خلط بين المقامين، وكان المفروض الفصل بينهما، فإنّ إبطال حجّيّة الوهم وحده غير كاف لإثبات انحصار الحجّيّة في الظنّ الشخصيّ؛ إذ يبقى احتمال حجّيّة الظنّ النوعيّ. والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) أفاد: أنّ الوهم لا يكون مرجعاً لعدم معقوليّة حجّيّته؛ إذ ليست فيه جهة كشف أصلاً حتّى يجعل حجّة. وهذا الكلام ـ بقطع النظر عن صحّته وبطلانه في نفسه ـ إمّا ناظر إلى خصوص إبطال مرجعيّة الوهم، أو مبنيّ على

755

الخلط بين المقامين(1). وعلى أيّ حال، فالمقصود أنّ هذا الوجه لو تمّ لا يثبت به تعيّن الظنّ الشخصيّ في قبال الظنّ النوعيّ، فلو لم نقبل باشتمال الوهم على الكشف وإمكان جعل الحجّيّة له فلا ينبغي الإشكال في أنّ الظنّ النوعيّ له جهة كشف ويعقل جعله حجّة.

وما يمكن أن يقال في تعيين الظنّ الشخصيّ في قبال الظنّ النوعيّ وجهان:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ البناء العقلائيّ أو السيرة العقلائيّة في الأغراض المباشريّة عند فرض عدم الاهتمام بها إلى درجة لزوم إحرازها القطعيّ بالاحتياط ونحوه قائم على العمل بالظنّ الشخصيّ، أمّا العمل بما يفيد الظنّ النوعيّ إذا وجد في مورد ولم يفد ظنّاً شخصيّاً فلم نحرز بناءهم فيه على العمل به. وعندئذ فحجّيّة الظنّ الشخصيّ نثبتها بالإمضاء الثابت بعدم وصول الردع؛ لأنّ عملهم بالظنّ الفعليّ في تلك الأغراض المباشريّة لا يبقى وقفاً على خصوص تلك الأغراض، بل تشكّل سيرتهم خطراً على أغراض المولى ببعض التقريبات الماضية في بحث السيرة، فلو لم يكن الشارع راضياً بذلك لردع عن إعمال ذلك في الشريعة، ولم يصلنا ردع عن ذلك من قِبَل الشارع. نعم، لولا الانسداد لكنّا نقول بوجود الرادع، وهي العمومات الرادعة عن العمل بالظنّ أو أدلّة حجّيّة الأمارات والاُصول، لكن مع فرض الانسداد لم يصلنا مثل هذا الردع، وهذا


(1) نصّ العبارة الواردة في فوائد الاُصول ـ الجزء 3، ص 100 ـ ما يلي: «لابدّ في الطريق من أن يكون له جهة كشف وإراءة عن الواقع؛ ليمكن تتميم كشفه بجعله ونصبه طريقاً، وبحسب الدوران العقليّ ينحصر ذلك بالعلم والظنّ، والمفروض انسداد باب الأوّل، فلم يبق إلّا الثاني، فلا مجال لاحتمال نصب غير الظنّ طريقاً». والظاهر أنّ مقصوده بالظنّ هو الظنّ الشخصيّ، وهو مشتمل على نفس الخلط الواقع فيه الأصحاب في المقام.

756

يكشف عن الإمضاء، وأمّا حجّيّة الظنّ النوعيّ فلا دليل عليها، ويكفينا في ذلك عدم إحراز السيرة والبناء العقلائيّ على حجّيّته، فإنّ هذا كاف في الشكّ في حجّيّته، فنرجع في مورده الخالي عن الظنّ الشخصيّ إلى البراءة العقليّة. نعم، لو فرضنا عدم إحراز البناء على حجّيّة الظنّ النوعيّ لا إحراز عدمه أشكل الأمر عند تعارض الظنّين، أي: الظنّ الشخصيّ والظنّ النوعيّ.

وعلى أيّ حال، فهذا الوجه إضافة إلى ابتنائه على دعوى عدم إحراز بناء العقلاء في الأغراض الشخصيّة، أو فيما بين الموالي والعبيد على العمل بالظنّ النوعيّ أيضاً، وإلّا لم يصحّ الاقتصار على الظنّ الشخصيّ، يكون مبتنياً على القول بأنّه في مثل المقام لابدّ للشارع مع عدم الرضا من ردع واصل إلينا بالقطع أو الحجّة رغم الانسداد. أمّا لو قلنا بأنّ من المحتمل اقتصاره على الردوع الصادرة عنه ولو لم تصلنا في هذا الزمان بالقطع أو الحجّة لأجل الانسداد، فلا يثبت الإمضاء، ولا يتمّ هذا الوجه.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ مصبّ الإجماع الذي مضى دعواه على عدم ابتناء الشريعة على الاحتياط واشتمالها على جعل طريق ليس هو مجرّد جعل طريق ولو لم يصل؛ إذ لا فائدة فيه، وإنّما مصبّه هو جعل الطريق الواصل، وعلى هذا نقول: إذا دار الأمر بين جعل الحجّيّة للظنّ الفعليّ وجعلها للظنّ النوعيّ ولم يصلنا من الشارع بيان لتعيين أحدهما تعيّن الأوّل؛ لأولويّته في نظر العقل، أي: أنّه لو اُعطيت الحجّيّة بيد العقل لحكم بحجّيّة الظنّ الفعليّ، فإنّ الذي كان حجّة على الحكومة إنّما هو الظنّ الفعليّ لا النوعيّ، وهذا نظير ما يقال في باب الإطلاق المقاميّ: من أنّ المولى إذا قال مثلاً: (أحلّ الله البيع) وقلنا بكون البيع اسماً للصحيح فلم يتمّ الإطلاق اللفظيّ فيه، نثبت كون المقصود من البيع ما هو بيع عند العقلاء ما لم يرد الخلاف بالإطلاق المقاميّ؛ لأنّ المولى في مقام بيان غرضه

757

وطريقة البيع الذي أحلّه، فلو كان نظره إلى طريقة اُخرى غير ما بيد العقلاء لبيّنها، وكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ المولى في مقام إيصال ما جعله حجّة، فلو كان نظره إلى غير ما ينظر إليه العقلاء وهو الظنّ الفعليّ؛ لأنّه المعيّن عند الحكومة، لأوصله.

ويرد عليه:

أوّلاً: منع كون مصبّ الإجماع ذلك، وإنّما مصبّ الإجماع هو اشتمال الشريعة في نفسها على طريق آخر غير الاحتياط، وفائدة ذلك كون الشريعة بنفسها كاملة ومؤثّرة بالنسبة لمن يصله ذلك، وإن فرض عدم وصوله صدفة إلى هذا الانسداديّ.

وثانياً: أنّ المولى لو كان في مقام إيصال ما جعله حجّة لم يصحّ له أن يعتمد على حكم العقل بحجّيّة الظنّ الفعليّ على الحكومة، فإنّ الحجّيّة الثابتة لدى العقل على الحكومة مباينة للحجّيّة المقصود إثباتها على الكشف جوهراً وملاكاً، فإنّ الاُولى حجّيّة بمعنى تحديد الحقّ المولويّ على أساس التحسين والتقبيح المدركين بالعقل العمليّ، والثانية حجّيّة بمعنى جعل الشارع طريقاً ظاهريّاً على أساس درجة الاهتمام بالأغراض الواقعيّة عند التزاحم، فكيف يعقل جعل كون مصبّ الاُولى الظنّ الفعليّ دليلاً على كون مصبّ الثانية أيضاً ذلك ؟! وبكلمة شاملة: إنّ الاستفادة من طريق عقليّ أو عقلائيّ إنّما تمّ في إحدى حالات ثلاث:

الاُولى: أن يوجب ذلك ظهوراً لكلام الشارع، كما في مثال ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾.

والثانية: أن ينطبق عليه قوانين السيرة.

والثالثة: أن يكون حكم العقل في نفس دائرة الشيء الذي يراد إثباته في المقام.

والاُولى في المقام مفقودة؛ لعدم وجود كلام للشارع في المقام حتّى يتمسّك بظهوره، كما كنّا نتمسّك بظهور ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾ في انصرافه إلى البيع العقلائيّ. والثالث أيضاً مفقود؛ لما عرفت: من أنّ حكم العقل إنّما هو في دائرة غير مربوطة بما يكون المقصود إثباته، ولا ملازمة بينهما. والثاني رجوع إلى الوجه الأوّل الذي مضى.

758

فتحصّل: أنّ هذا الوجه غير صحيح، فإن تمّ الوجه الأوّل فهو، وإلّا شككنا في أنّ الطريق المجعول هل هو الظنّ الفعليّ أو النوعيّ، ولابدّ من إجراء دليلالانسداد ثانياً، ولابدّ من الانتهاء بالآخرة إلى الحكومة إن لم يكن قدر متيقّنكاف وهو مجمع الظنّين النوعيّ والشخصيّ؛ إذ لا تنحلّ هذه المشكلة بالكشف(1)، وإنّما تصل النوبة إلى الحكومة إن تمّت المقدّمات ثانية. أمّا إن قلنا: إنّه لا حرج في الاحتياط بالعمل بالظنّ الشخصيّ والنوعيّ معاً فلابدّ من الاحتياط، ولا يمكن إبطال ذلك بالإجماع على ثبوت طريقة اُخرى في الشريعة غير الاحتياط، فإنّ الحكومة حالها في ذلك حال الاحتياط، وليس العمل في الحكومة على غير الاحتياط(2).

هذا تمام كلامنا في المقدّمة الخامسة.

 


(1) بل إنّ مبرّر الكشف انفقد هنا من أصله؛ لأنّ الكشف كان على أساس الإجماع على اشتمال الشريعة على طريقة اُخرى للامتثال غير الاحتياط، وهي العمل بحجّة شرعيّة، وقد افترضنا أنّه ليس من اللازم وصول ذاك الطريق إلينا؛ إذ المهمّ بحسب الفرض اكتمال الشريعة في ذاتها وإن فرض نقص في المقدار الواصل إلينا صدفة، وهذا يعني أنّه في الانسداد الثاني لا نمتلك إجماعاً على وجود طريقة اُخرى غير الاحتياط لامتثال الطرق الاحتماليّة.

أمّا افتراض أنّ المشكلة لا تنحلّ في المقام بالكشف فليس إلّا منبّهاً إلى أنّ هناك خللاً في حساب من يقول بالكشف في المقام، وذاك الخلل هو عبارة عمّا شرحناه: من فقدان مبرّر الكشف.

(2) عرفت في التعليق السابق أنّنا في الانسداد الثاني نفقد الإجماع من أساسه.

759

 

تلخيص مباني الكشف والحكومة

وفي الختام نودّ جمع المتفرّقات التي حصلت ضمن الأبحاث الماضية حول مباني الكشف والحكومة فنقول:

 

شرائط الكشف:

أمّا الكشف: فيبتني على شروط ثلاثة:

الشرط الأوّل: ثبوت الإجماع على عدم بناء الشريعة على الاحتياط بمعنى اشتمالها على طريق آخر غير الاحتياط وإن جاز سلوك الاحتياط أيضاً، فإذا ثبت بذلك أنّ هناك طريقاً وحجّة يمكن العمل بها في مقام الامتثال، وضمّ ذلك إلى بطلان سائر الطرق المحتملة غير الظنّ تعيّنت حجّيّة الظنّ.

ويختلف فرض جعل الشارع الحجّيّة للظنّ في المقام عن فرض إيجاب الاحتياط بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج في أمرين:

الأوّل: أنّ الاحتياط بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج ليس له ضابط معيّن بخلاف فرض جعل الظنّ حجّة.

والثاني: أنّه على فرض جعل الحجّيّة للظنّ على الإطلاق يصحّ العمل بالظنّ الترخيصيّ الذي هو في قبال الأصل الإلزاميّ بخلاف فرض إيجاب الاحتياط، وبتجميع الظنون الترخيصيّة وضمّ بعضها إلى بعض(1) يطمئنّ الإنسان إجمالاً بوجود مصالح في الترخيص لا يرضى الشارع بفواتها عند الشكّ، حيث إنّ الترخيص


(1) بعد الالتفات إلى أنّها جميعاً خلاف الأصل الإلزاميّ، على ما هو المختار: من أنّ الأصل العقليّ الأوّليّ هو الاحتياط لا البراءة.

760

كثيراً مّا ينشأ عن مصلحة في الترخيص لا عن مجرّد عدم المفسدة والمصلحة.

وهذان الفارقان بين فرض جعل الحجّيّة للظنّ وفرض وجوب الاحتياط نكتتان لحصول الاطمئنان أو القطع بعدم اكتفاء الشارع بمجرّد الاحتياط بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج، كما مضى منّا: أنّ مصبّ الإجماع بقطع النظر عن نفس الإجماع ممّا يطمأنّ به أو يقطع به.

وأمّا حجّيّة المثبتات بناءً على جعل الظنّ حجّة، أو جواز إسناد الحكم إلى الشارع بناءً عليه؛ لقيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ، فهذان الأمران لا نقطع ولا نطمئنّ بتحقّقهما فيما نحن فيه بقطع النظر عن الإجماع؛ إذ نكتة القطع غير موجودة فيها، وإنّما نقول بقيام خبر الثقة مقام القطع الموضوعيّ ـ إن قلنا به ـ لأجل استظهار ذلك من لحن لسان الدليل اللفظيّ على حجّيّته؛ لأنّ ظاهر قوله: «آخذ عنه معالم ديني»، وقوله: «قول من أقبل» مثلاً هو الأخذ والقبول بمعنى فرضه عالماً بنفس الحكم الواقعيّ وإسناده إلى المولى، وليس المقصود مجرّد البناء على الحكم الظاهريّ؛ لأنّ هذا إنّما يتحقّق في طول قول الراوي، أمّا الذي يؤخذ من الراوي ويقبل فإنّما هو الحكم الواقعيّ(1).

والحاصل: أنّ هذين الأمرين الأخيرين، أعني: حجّيّة المثبتات، وإسناد الحكم المظنون إلى الشارع، ليس لدينا اطمئنان بتحقّقها فيما نحن فيه بقطع النظر عن الإجماع.

بل لو تمّ الإجماع حتّى بلحاظ هذه الخصوصيّات فحصول القطع منه بها صعب، فالقدر المتيقّن فيما نحن فيه هو الأمران الأوّلان.

الشرط الثاني: ثبوت منجّز للمظنونات في المرتبة السابقة على هذا الإجماع،


(1) ولو تمّ هذا البيان دلّ على قيام الظهور أيضاً مقام القطع الموضوعيّ؛ لأنّ المقصودبأخذ معالم الدين ـ مثلاً ـ من الثقة ليس هو الأخذ بصريح كلامه فحسب دون ظهوره.

761

وإلّا ـ كما لو فرض جريان البراءة في تمام الأطراف ـ لم يكن موضوع للتمسّك بهذا الإجماع، فإنّ مفاده إنّما هو تبديل طريق امتثال المنجّز من الاحتياط إلى طريق آخر، لا تبديل عدم التنجيز إلى التنجيز.

الشرط الثالث:أن يتعيّن الظنّ الشخصيّ في قبال الظنّ النوعيّ بأحد الوجهين الماضيين، وإلّا لم يثبت الكشف بالنحو المفيد للمقصود، بل لابدّ من الانتهاء إلى الحكومة أو الاحتياط.

وتكفي في الكشف هذه الشروط الثلاثة، ولا يتوقّف الكشف على عدم انحلال العلم الإجماليّ الكبير بمثل علم صغير في دائرة الأمارات أو الأخبار؛ إذ حتّى مع انحلاله نقول: إنّنا لسنا عالمين بالأحكام على التفصيل، فلولا ثبوت حجّة شرعيّة لزم تعيّن طريق الامتثال في الاحتياط، وبناء الشريعة ليس على ذلك، فتثبت حجّيّة الظنّ بعد فرض إبطال حجّيّة غيره.

إذا عرفت شروط الكشف قلنا: إنّ الشرط الثالث يكون تحقّقه في المقام وعدمه دائراً مدار إيماننا بأحد الوجهين الماضيين لتعيين الظنّ الشخصيّ وعدم إيماننا بذلك، وقد مضى الكلام فيه. والشرط الأوّل ـ وهو الإجماع على عدم بناء الشريعة على أساس انحصار الامتثال في الاحتياط ـ لا ينبغي التشكيك في تحقّقه في المقام، فإنّ هناك قرائن عديدة تدلّ على هذا الإجماع. وأمّا الشرط الثاني ـ وهو ثبوت منجّز للمظنونات بقطع النظر عن الإجماع ـ فحاصل أيضاً بالنظر إلى مبنى تنجيز العلم الإجماليّ للموافقة القطعيّة، وأمّا بالنظر إلى الإجماع، أو الضرورة، أو العلم الإجماليّ بناءً على عدم منجّزيّته إلّا بمقدار المعلوم بالإجمال بنحو التخيير، فإنّما يمكننا تتميم الكشف في طول الحكومة بأن يجعل الظنّ أوّلاً منجّزاً بالحكومة ثُمّ يتمسّك بذلك الإجماع حتّى لا يلزم بهذا تنجيز زائد بواسطة الإجماع، أمّا لو لم نحصل أوّلاً على حجّيّة الظنّ بالحكومة فالتمسّك بالإجماع لإثبات حجّيّة الظنّ شرعاً يعني افتراض تنجيز زائد بواسطة الإجماع، بينما لا أقلّ من احتمال كون

762

الإجماع ناظراً إلى جعل طريق آخر غير الاحتياط بشرط عدم إيجابه لتنجيز زائد، وحينئذ إن قلنا بإمكان جعل الحجّيّة التخييريّة ثبتت بالإجماع الحجّيّة التخييريّة لا حجّيّة الظنّ، والحجّيّة التخييريّة إنّما أبطلناها في مقابل حجّيّة الظنّ بعد تماميّة المنجّز التامّ في الرتبة السابقة من باب عدم جواز تحكيم غير مقطوع الحجّيّة وهو الوهم على منجّز ثابت في نفسه، لا في مقابل الاحتياط التخييريّ الناشئ من عدم وجود المنجّز إلّا بمقدار التخيير.

وإن فرضنا عدم إمكان جعل الحجّيّة التخييريّة لم يبق موضوع لهذا الإجماع؛ لأنّه إنّما يكون ثابتاً في مورد لا يستلزم تنجيزاً زائداً، وهنا يستلزم التنجيز الزائد. نعم، لو ادّعينا بقطع النظر عن الإجماع القطع أو الاطمئنان بأنّ الشارع يجعل حتماً طريقاً آخر غير الاحتياط تكميلاً للشريعة (و هذه الدعوى صحيحة) قلنا في هذا الفرض بناءً على عدم معقوليّة الحجّيّة التخييريّة بحجّيّة الظنّ وإن لزم من ذلك تنجيز زائد، فإنّ هذا غير مربوط بالإجماع حتّى يقال: إنّ مورده أو القدر المتيقّن من مورده غير هذا، وإنّما هو مبتن على كون عدم جعل طريق آخر غير الاحتياط نقصاً، وعدم احتمال النقص في الشريعة، وهذا لا يفرّق فيه بين لزوم زيادة التنجيز وعدمه. ولكن الصحيح أنّ فرض الحجّيّة التخييريّة ليس عليه إشكال.

 

شرائط الحكومة

وأمّا الحكومة فتبتني أيضاً على شروط ثلاثة:

الشرط الأوّل: أن نسلّم أنّ البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان يختلف عند الانسداد منه عند الانفتاح، فهو عند الانفتاح وإن كان عبارة عن العلم لكنّه عند الانسداد عبارة عن الظنّ، وذلك بأحد تقريبين:

التقريب الأوّل: أن يقال: إنّ مقتضى العبوديّة والمولويّة بحسب العقل العمليّ أن يثبت بالفعل حقّ الطاعة على العبد، فإذا كان باب العلم مفتوحاً تمثّل ذلك في

763

التكاليف المعلومة، وإذا لم يكن باب العلم مفتوحاً فلابدّ من تمثّله في المظنونات.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّه إذا قامت أمارة تفيد الظنّ بحكم إلزاميّ من قِبَل المولى فاحتمال الخلاف إنّما يكون معذّراً في حال يترقّب زوال احتمال الخلاف، وأمّا في حال لا يترقّب زواله في جلّ الموارد فلا يراه العقل العمليّ معذّراً.

ولا يخفى أنّه إنّما تظهر ثمرة للحكومة إن قلنا بعدم كون العلم الإجماليّ منجّزاً أكثر من التنجيز التخييريّ، وإلّا فلا ثمرة فيها لتنجيز المظنونات بالعلم الإجماليّ، بل بناءً على تنجيزها به لا يبقى موضوع للتقريب الأوّل؛ لأنّه في التقريب الأوّل إنّما نستنتج منجّزيّة الظنّ من أنّه بدونها لا يتمثّل حقّ المولويّة بالنحو الذي ينبغي في عمل الإنسان، والاقتصار على الموهومات ليس أداء لحقّ المولويّة، لكن بناءً على تنجيز المظنونات بالعلم قد تمثّل هذا الحقّ في المظنونات بقطع النظر عن منجّزيّة الظنّ، فانتفى موضوع هذا التقريب لمنجّزيّته.

الشرط الثاني: أن تتساقط الاُصول المؤمّنة الشرعيّة في الأطراف حتّى تصل النوبة إلى حكم العقل بمنجّزيّة الظنّ، فإنّه معلّق على عدم ترخيص الشارع في الخلاف.

الشرط الثالث: أن لا نقول بأنّ العلم الإجماليّ بنفسه يقتضي الموافقة القطعيّة، بل نقول ـ لو قلنا باقتضائه لها ـ بأنّه إنّما يقتضي الموافقة القطعيّة بسببتعارض البراءات العقليّة في الأطراف وتساقطها، حتّى يتمّ بذلك حلّ الحكومة للعلم الإجماليّ باعتبار نجاة البراءة العقليّة في غير مظنونات التكليفعن التعارض.

وهذا شرط لثبوت الحكومة بالنحو الذي يريده الانسداديّ من الاقتصار على المظنونات الثابت حجّيّتها بحكم العقل والرجوع في الباقي إلى البراءة، فلو قلنا

764

بأنّ العلم الإجماليّ يقتضي بنفسه وجوب الموافقة القطعيّة لا بتعارض البراءاتالعقليّة في الأطراف وتساقطها لم تكن حجّيّة الظنّ بالحكومة مجدية في رفع اليد عن الاحتياط في غير المظنونات، وبالتالي يكون لزاماً علينا ضمّ بعض من غير المظنونات إلى المظنونات في الامتثال بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج؛ إذ لا يمكننا نفي غير المظنونات لا بالبراءة الشرعيّة ولا بالبراءة العقليّة:

أمّا الاُولى: فلأنّ الحكومة إنّما تحقّقت في طول تساقط البراءات الشرعيّة بالتعارض؛ إذ لو جرت في المظنونات لقدّمت على حجّيّة الظنّ بالحكومة. إذن فحجّيّة الظنّ بالحكومة لا تمنع البراءة في المظنونات عن معارضتها للبراءة في غيرها؛ لأنّها كانت في طول هذه المعارضة والتساقط.

وأمّا الثانية: فلأنّ المفروض عدم جريان البراءة العقليّة في أطراف العلم الإجماليّ بقطع النظر عن المعارضة.

وهذا بخلاف ما لو قلنا: إنّ البراءات العقليّة إنّما تساقطت بالتعارض، فعندئذ تكون حجّيّة الظنّ على الحكومة مساوقة لعدم ابتلاء البراءة العقليّة في غير المظنونات بالمعارض.

إن قلت: إنّ هذا الشرط الثالث لا يختصّ بالحكومة، بل يكون ثابتاً في الكشف أيضاً، فإنّ الكشف عن حجّيّة الظنّ شرعاً كان أيضاً في طول تساقط البراءة الشرعيّة، فلا ترجع البراءة الشرعيّة مرّة اُخرى، ولابدّ لنا في إثبات الترخيص في المخالفة في غير المظنونات من التمسّك بالبراءة العقليّة، وإلّا لم يبق مجال للترخيص في المخالفة إلّا بمقدار نفي العسر والحرج، والبراءة العقليّة إنّما تجري في غير المظنونات بعد الكشف عن حجّيّة الظنّ بناءً على كون سقوطها في المظنونات وغير المظنونات بالتعارض، فإذا أصبح الظنّ حجّة أصبحت البراءة العقليّة في غير المظنونات خالية عن المعارض. أمّا لو قلنا بأنّ العلم الإجماليّ

765

بنفسه يمنع عن جريان البراءة العقليّة لا بواسطة التعارض إذن لا مجال لنفي غير المظنونات بها، وبالتالي يكون لزاماً علينا ضمّ بعض من غير المظنونات بالمظنونات في الامتثال بقدر لا ينتهي إلى العسر والحرج.

قلت: إن للكشف مجالاً رغم فرض القول بأنّ العلم الإجماليّ يقتضي بنفسه الموافقة القطعيّة، وذلك بناءً على أحد مبنيين في علم الاُصول:

الأوّل: ما بنى عليه المحقّق العراقيّ والمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): من أنّ الأصل المثبت للتكليف إذا جرى في أحد طرفي العلم الإجماليّ أوجب انحلال العلم الإجماليّ، رغم إيمانهما بأنّ العلم الإجماليّ يقتضي بنفسه الموافقة القطعيّة. وتحقيق صحّة هذا المبنى وعدمه موكول إلى محلّه، وإنّما المقصود هنا أنّه بناءً على هذا المبنى يكون العلم الإجماليّ منحلاًّ بالظنّ بالتكليف الذي فرضت حجّيّته على الكشف، فإنّه أصل مثبت للتكليف في بعض أطراف العلم الإجماليّ، فتجري البراءة العقليّة في باقي الأطراف بلا معارض.

الثاني: لو بنينا على أنّ القول بحجّيّة الظنّ على الكشف يؤدّي إلى حجّيّة مثبتاته لدخول ذلك في كبرى حجّيّة مثبتات الأمارة (وهذا ما ناقشناه فيما سبق)، فهذا ينتج لنا في المقام انحلال العلم الإجماليّ بسبب الظنّ الذي يكون حجّة على الكشف، وتوضيح ذلك: إنّ المعلوم بالإجمال تارةً يحتمل تعيّن انطباقه على غير المظنون حتّى مع فرض مطابقة الظنّ للواقع، واُخرى ليس كذلك، مثال الأوّل: ما لو علمنا بنجاسة إناء زيد مثلاً، وكان إناء زيد مردّداً بين إناءين، وظننّا بنجاسة أحدهما بالخصوص، فهنا يحتمل تعيّن انطباق المعلوم بالإجمال على الفرد الآخر غير ما ظننّا بنجاسته حتّى مع فرض مطابقة الظنّ للواقع؛ إذ من المحتمل كون إناء زيد هو الإناء الآخر غير ما ظننّا بنجاسته. ومثال الثاني: هو ما نحن فيه، فإنّه على تقدير مطابقة الظنّ للواقع في المقام لا يحتمل تعيّن انطباق المعلوم بالإجمال على

766

غير المظنون، بل إمّا أنّه لا ينطبق إلّا على المظنون، كما لو كان التكليف في علم الله ثابتاً في المظنون دون غيره، أو تكون نسبته إلى المظنون وغير المظنون على حدّ سواء، كما لو كان التكليف في علم الله ثابتاً في المظنون وغير المظنون، فلئن قلنا بعدم انحلال العلم الإجماليّ بحجّيّة الظنّ في القسم الأوّل، فلا ينبغي الإشكال في انحلاله في القسم الثاني؛ وذلك لأنّ الظنّ الذي فرض أمارة شرعيّة في المقام يدلّ بالملازمة على عدم تعيّن انطباق المعلوم بالإجمال على غير المظنون؛ لما عرفت: من أنّه لو كان مفاد الظنّ مطابقاً للواقع لا يحتمل تعيّن انطباق المعلوم بالإجمال على غيره، وهذا يكفي في جريان البراءة العقليّة في غير المظنون وعدم العقاب على مخالفة غير المظنون؛ لأنّ الأمارة قد دلّت على أنّ المعلوم بالإجمال إمّا لا يصلح للانطباق على غير المظنون، أو تكون نسبته إلى المظنون وغير المظنون على حدّ سواء، فعلى الأوّل لا موضوع لوجوب الامتثال في غير المظنون، وعلى الثاني أيضاً لا يجب الامتثال فيه؛ لأنّ العلم الإجماليّ غاية ما يقتضيه هي الموافقة القطعيّة للجامع بوصف مصادفته للتكليف الواقعيّ، وقد حصل ذلك بحكم الأمارة في ضمن العمل المظنون.

ثُمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا: أنّ الكشف والحكومة إنّما يتّمان بناءً على جريان البراءة العقليّة في غير المظنونات، ومن هنا يمكن أن يتخيّل أنّه لا مجال لهما بناءً على مختارنا: من إنكار البراءة العقليّة رأساً.

ولكن الواقع: أنّنا وإن أنكرنا البراءة العقليّة، ولكنّنا نؤمن ـ كما سيتّضح إن شاء الله في بحث البراءة ـ ببراءة شرعيّة في رتبة البراءة العقليّة، وفرضت غايتها البيان بنحو يشمل العلم الإجماليّ، ففي مورد العلم الإجماليّ تسقط هذه البراءة بنفس العلم الإجماليّ لا بالتعارض ـ بخلاف البراءة المفهومة من مثل قوله: (رفع ما لا يعلمون) ـ فبعد فرض حجّيّة الظنّ شرعاً بالكشف، وانحلال العلم الإجماليّ بأحد

767

التقريبين الماضيين تجري هذه البراءة في غير المظنونات وإن كانت لا تجري البراءة المستفادة من مثل (رفع ما لا يعلمون)، والفرق بينهما هو: أنّ البراءة الثانية سقطت في المظنونات بالتعارض مع البراءة في غير المظنونات، وبسقوطها بالتعارض ثبتت حجّيّة الظنّ بالكشف، فحجّيّة الظنّ بالكشف لا تمنع عن معارضة البراءة في المظنونات للبراءة في غيرها، فإنّها إنّما ثبتت في طول المعارضة والتساقط، وأمّا البراءة الاُولى فلم تسقط في المظنونات بالتعارض مع البراءة في غيرها، بل سقطت بنفس العلم الإجماليّ المانع بذاته عنها وعن البراءة في غير المظنونات، فإذا انحلّ العلم الإجماليّ بلحاظ غير المظنونات ببركة حجّيّة الظنّ ارتفع المانع عن جريان البراءة في غير المظنونات، فتجري وتنحصر وظيفتنا في امتثال المظنونات.

هذا تمام كلامنا في بحث مقدّمات الانسداد حاذفين هنا التنبيهات(1).

 


(1) قد فرغ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عن مبحث الانسداد في هذه الدورة في اليوم الثامن من شهر جمادي الآخرة من سنة 1385 الهجريّة. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.