724

في المقام بمقدار عدم المخالفة القطعيّة، ولكن الأمر دائر بين الاهتمام بنحو التخيير بأن يرضى المولى بتحفّظ العبد على التكليف المحتمل في أحد طرفي العلم الإجماليّ والاهتمام التعيينيّ، فإذا فرضنا أنّنا احتملنا الاهتمام التعيينيّ في أحد الجانبين بالخصوص، ولم نحتمل اختصاص الاهتمام بالجانب الآخر؛ لعلمنا بأنّ الثاني ليس بأهمّ من الأوّل؛ لأنّ الأوّل من الدماء، والثاني من الأموال مثلاً، فالبراءة في الجانب الأوّل لا تجري للقطع بالاهتمام به تعييناً أو تخييراً بناءً على أنّ البراءة إنّما تنفي الاهتمام دائماً بنحو التعيين، وتجري في الجانب الآخر؛ لعدم القطع بالاهتمام به لا تعييناً ولا تخييراً؛ إذ نحتمل أن يكون التعيين في الأوّل فقط، وتكون البراءة في الجانب الآخر سليمة عن المعارض.

فهاتان كبريان لانحلال العلم الإجماليّ في المقام، وتحقيق انطباقها على الفقه موكول إلى التتبّع والتأمّل في بحث الفقه، والذي يقرب من النفس جدّاً انطباق إحداهما أو كلتيهما في الفقه، فإنّ درجة احتمالنا لاهتمام المولى بالتكليف تختلف باختلاف المسائل جدّاً، فإن لم تنطبق الكبرى الاُولى بأن نعلم بتجميع عدّة مسائل معيّنة بثبوت الاهتمام في ضمنها إجمالاً(1) فلا أقلّ من انطباق الكبرى الثانية من دوران الأمر في بعض الموارد في الاهتمام بين التعيين والتخيير. هذا تمام الكلام في الجهة الاُولى.

 

دور العلم الإجماليّ في دليل الانسداد:

الجهة الثانية: فيما هو دور هذا العلم الإجماليّ في دليل الانسداد وأثره في اقتناص النتيجة منه.

ذهب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) إلى أنّ هذا العلم الإجماليّ يستحيل أن يحقّق ما


(1) أمّا المقدار المعلوم تفصيلاً الاهتمام به فأفاد(رحمه الله): أنّه أقلّ من المعلوم الإجماليّ.

725

أراده الانسداديّ: من المنع عن جريان البراءة في الأطراف في عرض الإجماع والضرورة، فإن لم تكن لدينا ضرورة أو إجماع على نفي جواز الترك بقطع النظر عن العلم الإجماليّ وصلت النوبة إلى جعل العلم الإجماليّ مانعاً عن جريانها، وإلّا فلا.

وذهب أيضاً إلى أنّه لو كان دليلنا على منع البراءة عبارة عن مثل الإجماع والضرورة كان هناك مجال للتوصّل إلى حجّيّة الظنّ بالكشف أو الحكومة، وذلك بضمّ باقي المقدّمات إلى ذلك. أمّا لو كان دليلنا على ذلك هو العلم الإجماليّ فلا سبيل إلى حجّيّة الظنّ بالكشف أو الحكومة، وإنّما النتيجة هي التبعيض في الاحتياط(1). إذن فللمحقّق العراقيّ(رحمه الله) دعاوى ثلاثة:

1 ـ عدم حصول غرض الانسداديّ من المنع عن البراءة بسبب العلم الإجماليّ في عرض الإجماع والضرورة.

2 ـ انتهاء الإجماع والضرورة بالضمّ إلى باقي المقدّمات إلى الكشف أو الحكومة.

3 ـ عدم انتهاء العلم الإجماليّ إلى الكشف أو الحكومة وتعيّن التبعيض في الاحتياط.

ونحن نتكلّم عن هذه الدعاوى تباعاً في مقامات ثلاثة:

المقام الأوّل: في الدعوى الاُولى، وهي: أنّ العلم الإجماليّ إنّما يحقّق هدف الانسداديّ من المنع عن جريان البراءة لو لم يكن بقطع النظر عنه إجماع أو ضرورة، فليس العلم الإجماليّ محقّقاً للمقصود في عرض الإجماع والضرورة.

والوجه في ذلك: أنّ الإجماع والضرورة يكشفان لا محالة عن وجود منجّز في


(1) راجع المقالات، ج 2، ص 41 و42.

726

المقام؛ إذ بدون المنجّز لا يصحّ العقاب وتستحكم قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا يعقل الإجماع أو الضرورة على عدم جواز الترك، والمفروض أنّ هذا المنجّز ليس هو العلم الإجماليّ؛ لأنّنا فرضنا أنّ الإجماع والضرورة قاما على عدم جواز الترك بقطع النظر عن العلم الإجماليّ، عندئذ نقول: إنّ هذا المنجّز الشرعيّ يحلّ العلم الإجماليّ لا محالة ولا يبقى مانع عن جريان البراءة في غير دائرة ذاك المنجّز.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه، فإنّه إن أراد بذلك كون هذا المنجّز موجباً لحلّ العلم الإجماليّ بقطع النظر عن ضمّ باقي المقدّمات إلى هذه المقدّمة واستنتاج حجّيّة الظنّ منها، قلنا: إنّ مجرّد قيام الإجماع والضرورة على عدم جواز الترك التامّ لا يوجب انحلال العلم الإجماليّ؛ لأنّ مصبّ الإجماع أو الضرورة إنّما هو فرض الجمع بين التروك لا ترك طائفة خاصّة، فالمنجّز الذي يكشف عنه هذا الإجماع أو الضرورة ليس هو منجّزاً تعيينيّاً لبعض الأطراف، بل هو مردّد بين المنجّز التعيينيّ والمنجّز التخييريّ، وإذا تردّد الأمر بينهما فالقدر المتيقّن هو التخييريّ، والتعيين مؤونة زائدة باقية تحت قبح العقاب بلا بيان، وإذا كان المنجّز منجّزاً على سبيل التخيير والترديد بين الأطراف لم يكن مجال لتوهّم حلّ العلم الإجماليّ الترديديّ بذلك، فإنّ الترديديّ لا يحلّ بترديديّ آخر مثله.

وإن أراد بذلك أنّه بعد أن يضمّ هذا الإجماع والضرورة إلى سائر المقدّمات وتستنتج منها حجّيّة الظنّ، فحجّيّة الظنّ تحلّ العلم الإجماليّ ولا يبقى مانع من جريان البراءة في باقي الأطراف، قلنا ـ بقطع النظر عن عدم إمكان ضمّ ذلك إلى باقي المقدّمات، واستنتاج حجّيّة النظر منها على ما سيأتي إن شاء الله في المقام الثاني ـ: إنّه لم يتعلّق للانسداديّ غرض بإبطال جريان البراءة بعد إثبات حجّيّة الظنّ، وإنّما تعلّق غرضه بإبطال جريان البراءة بقطع النظر عن حجّيّة الظنّ وفي الرتبة السابقة عليها حتّى يثبت بذلك حجّيّة الظنّ، ومن الواضح أنّه في المرتبة

727

السابقة على حجّيّة الظنّ لا يكون العلم الإجماليّ منحلاًّ، فيصلح للمنع عن جريان البراءة.

المقام الثاني: في الدعوى الثانية، وهي وقوع الإجماع والضرورة في طريق إثبات النتيجة المقصودة من حجّيّة الظنّ على أساس الكشف أو الحكومة، وذلك بضمّه إلى سائر مقدّمات دليل الانسداد.

والصحيح: أنّ هذا أيضاً لا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لأنّه لا يمكن ضمّ هذا الإجماع والضرورة إلى المقدّمة الأخيرة القائلة بقبح ترجيح المرجوح على الراجح حتّى تثبت بذلك حجّيّة الظنّ، فإنّ الإجماع والضرورة لا يدلاّن على وجود منجّز مردّد أمره بين كونه في المظنون أو في الموهوم حتّى يعيّن في الأوّل بقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح، وإنّما يدلاّن ـ كما مضى ـ على وجود منجّز تخييريّ؛ لكون التعيين مؤونة زائدة باقية تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولم يصلنا شيء أكثر من التنجيز التخييريّ لا بمنجّز عقليّ؛ لأنّ المفروض قطع النظر عن العلم الإجماليّ، ولا بمنجّز شرعيّ؛ لعدم الدليل عليه. وهذا المنجّز التخييريّ نسبته إلى المظنون والموهوم على حدّ سواء، فلا يلزم من ذلك ترجيح المرجوح على الراجح، فنبقى نحن والاحتياط التبعيضيّ التخييريّ ولا تصل النوبة إلى حجّيّة الظنّ أصلاً.

إن قلت: إنّنا لو ضممنا هذا الإجماع والضرورة إلى ما قد يدّعى من الإجماع على عدم كون طريق الامتثال في الشريعة منحصراً بالاحتياط بالنسبة لجلّ الأحكام، أنتج ذلك حجّيّة الظنّ على الكشف.

قلت: هذا الإجماع المدّعى إنّما هو ناظر إلى المقدار الثابت تنجيزه، ويفترض أنّ ذاك المقدار الثابت تنجيزه هناك طريق آخر لامتثاله غير الاحتياط، ولا أقلّ من احتمال ذلك، ولا ينظر إلى تنجيز إضافيّ على ما هو ثابت لولاه، فلو افترض

728

شمول هذا الإجماع للفرض الذي نتكلّم عنه ثبتت الحجّيّة التخييريّة، أي: أنّ المقدار الذي يجب أخذه يكون على سبيل التخيير، وأيّ جانب اختاره المكلّف كان ذلك حجّة له بحيث يمكن قصد الوجه، أمّا فرض ثبوت حجّيّة الظنّ هنا بهذا الإجماع فهذا يعني زيادة في التنجيز، وهي خارجة عن عهدة هذا الإجماع المدّعى. إذن فالإجماع والضرورة لا يقعان في طريق إثبات الكشف أو الحكومة.

نعم، هذا الذي ذكرناه إنّما هو مبنيّ على مسلك القوم في قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا على مسلكنا فيمكن التوصّل إلى حجّيّة الظنّ. توضيح ذلك: أنّنا نعتقد أنّ عنوان عدم البيان ليس هو بنفسه موضوع قبح العقاب، وإنّما يكون موضوعه الحقيقيّ عبارة عن عدم الحقّ، أي: أنّه يقبح على المولى عقابه للعبد على ما ليس له عليه حقّ المولويّة والامتثال، وعندئذ فإذا أردنا الانسياق مع المشهور في البراءة العقليّة قلنا: إنّ الذي تعلّق به حقّ المولويّة إنّما هو التكليف المعلوم والمبيّن دون التكليف المشكوك، وإذا كان الأمر كذلك، أي: لم يكن قبح العقاب من ذاتيّات عدم البيان، ولم تكن الحجّيّة من ذاتيّات العلم، بل دار مدار ثبوت حقّ المولويّة وعدمه، فمن المعقول أن يقال: إنّه إنّما يكون حقّ المولويّة منصبّاً على خصوص دائرة المعلومات دون المظنونات وغيرها بالنسبة للعبد الذي يكون باب العلم إلى أحكام مولاه منفتحاً عليه، فيؤدّي حقّ المولويّة بالنسبة له إلى امتثال العلميّ، أمّا الذي انسدّ عليه باب العلم بأحكام مولاه جلاًّ أو كلاًّ، ولم يتنجّز عليه الامتثال العلميّ، فحقّ المولويّة بالنسبة له ينصبّ على دائرة المظنونات، وبكلمة اُخرى: إنّ مقتضى عبوديّة العبد ثبوت حقّ الطاعة عليه للمولى، فإن لم يتمثّل ذلك في التكاليف المعلومة لعدم العلم يتمثّل في التكاليف المظنونة، وبهذا تثبت حجّيّة الظنّ على نحو الحكومة، فإذا ضمّ ذلك إلى دعوى الإجماع على أنّ ما ثبت

729

تنجيزه لا ينحصر امتثاله في الشريعة بالاحتياط ثبتت حجّيّة الظنّ على نحو الكشف.

نعم، هذا موقوف على عدم جريان البراءة الشرعيّة في الأطراف؛ إذ إنّما يحكم العقل بتنجيز الظنّ مع عدم الترخيص الشرعيّ في المخالفة، وأثر هذا الإجماع والضرورة هو المنع عن إجراء البراءة الشرعيّة في الأطراف بناءً على أنّ التنجيز التخييريّ يوجب التعارض بين البراءات والتساقط.

المقام الثالث: في الدعوى الثالثة من كون العلم الإجماليّ عقيماً في المقام لا ينتج الكشف ولا الحكومة.

وبيان ذلك: إنّنا إن لم نقل بمنجّزيّة العلم الإجماليّ، فحاله حال الشكّ البدويّ ولا أثر له، وإن قلنا بمنجّزيّته فالتكليف بعد أن تنجّز بالعلم الإجماليّ لا يعقل تنجّزه بالظنّ.

أقول: إن كان مراده(قدس سره) أنّ حجّيّة الظنّ مساوقة لانحلال العلم الإجماليّ، وانحلال العلم الإجماليّ مساوق لعدم منجّزيّته، فلا يعقل الجمع بين منجّزيّة العلم الإجماليّ وحجّيّة الظنّ، فقد ظهر بطلان ذلك ممّا سبق؛ لأنّ الانسداديّ إنّما يقصد إسقاط البراءة في المرتبة السابقة على حجّيّة الظنّ كي يتوصّل بذلك إلى حجّيّة الظنّ، فتكفيه منجّزيّة العلم الإجماليّ بقطع النظر عن حجّيّة الظنّ وفي المرتبة السابقة عليها، وهذه ثابتة؛ لأنّ منجّزيّة الظنّ لا تحلّ العلم الإجماليّ في المرتبة السابقة على نفسها.

وإن كان مراده أنّ الحكم الواحد لا يتنجّز بمنجّزين، فالأحكام المنجّزة بالعلم الإجماليّ لا يعقل تنجيزها بالظنّ، وإلّا لزم اجتماع منجّزين على منجّز واحد، أو كان مراده (حتّى مع فرض الالتفات إلى إمكان اجتماع علّتين على معلول واحد وصيرورة كلّ منهما جزء علّة، وأنّ اجتماع منجّزين على منجّز واحد يكون من

730

هذا القبيل): أنّ الأحكام التي تنجّزت بالعلم لا أثر للبحث عن تنجيزها بالظنّ وعدمه مادامت هي منجّزة بالعلم، والفرض إنّما هو بيان حجّيّة الظنّ ومنجّزيّته لما لم يتنجّز بالعلم.

ورد عليه: أنّ غرض الانسداديّ القائل بحجّيّة الظنّ بالكشف أو الحكومة ليس هو تنجيز الظنّ بالنسبة للمعلوم بالإجمال، وإنّما غرضه هو تنجيزه بالنسبة للمظنون، ونقطة التنجيز ليست متّحدة، ويظهر أثر ذلك فيما إذا كانت المظنونات أكثر من المقدار المعلوم بالإجمال كما هو كذلك في المقام، فهذه الظنون تكون حجّة بمعنى أنّه لو خالفها استحقّ العقاب عليها جميعاً ولو في خصوص فرض المصادفة للواقع، بينما تنجيز العلم الإجماليّ لا يحقّق العقاب بأكثر من مقدار المعلوم بالإجمال.

هذا إذا قلنا: إنّ العلم الإجماليّ ينجّز واقع المعلوم بالإجمال، أمّا إذا قلنا: إنّه إنّما ينجّز الجامع(1) فالأمر أوضح؛ لأنّ الظنّ بالخصوصيّة ينجّز الخصوصيّة، وهي غير ما تنجّز بالعلم.

نعم، كان بإمكان المحقّق العراقيّ(رحمه الله) أن يثبت عقم العلم الإجماليّ مبنيّاً على مباني اُستاذه صاحب الكفاية(قدس سره)، وذلك بأن يقال: إنّنا إمّا أن نفرض قيام دليل من إجماع أو قاعدة نفي العسر والحرج على عدم وجوب الاحتياط التامّ، أو لا: فإن لم نفرض ذلك لم تصل النوبة إلى حجّيّة الظنّ، وإن فرضنا ذلك كان هذا من باب الترخيص والاضطرار في بعض الأطراف غير المعيّنة، وهذا عند صاحب الكفاية يسقط العلم الإجماليّ عن التأثير، هذا تمام الكلام مع المحقّق العراقيّ(رحمه الله).


(1) وافترضنا أنّ الخصوصيّات لم تتنجّز بالاحتمال غير المؤمّن عنه ولو لأجل لزوم العسر والحرج.

731

وأمّا تنقيح المطلب في نفسه فدور العلم الإجماليّ في المقام يختلف باختلاف المباني في العلم الإجماليّ، فبناءً على عدم منجّزيّته رأساً لا يكون له دور أصلاً لعدم إسقاطه للأصول كي ننتهي إلى حجّيّة الظنّ، وبناءً على منجّزيّته تكون هناك عدّة مباني في ذلك: كونه منجّزاً لحرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة، وكونه منجّزاً لحرمة المخالفة القطعيّة، ومنجّزاً أيضاً لوجوب الموافقة القطعيّة لكن لا بنفسه بل بواسطة تعارض البراءة العقليّة في الأطراف وتساقطها؛ لأنّ العلم الإجماليّ لا ينجّز بنفسه إلّا الجامع، وكونه منجّزاً بنفسه لوجوب الموافقة القطعيّة كما ينجّز حرمة المخالفة القطعيّة. والأمر يختلف باختلاف هذه المباني الثلاثة:

أمّا على المبنى الأوّل ـ وهو كون العلم الإجماليّ منجّزاً لحرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة ـ: فحال هذا العلم الإجماليّ هو حال ما مضى من الإجماع والضرورة، فإنّه منجّز تخييريّ كالإجماع والضرورة.

فإن قلنا بما مضى: من كون قبح العقاب وعدمه دائراً مدار حقّ المولويّة وعدمه لا مدار البيان وعدمه، وأنّ حقّ المولويّة إنّما ينصبّ على خصوص دائرة المعلومات عند ما ينتج الامتثال العلميّ، وفي غير هذه الحالة ينصبّ على دائرة المظنونات، ثبتت بذلك حجّيّة الظنّ على نحو الحكومة، وأثر العلم الإجماليّ في المقام إيقاع التعارض بين البراءات الشرعيّة في الأطراف والتساقط حتّى تصل النوبة إلى حكم العقل بحجّيّة الظنّ؛ إذ مع الترخيص من قِبَل المولى في المخالفة لا يحكم العقل بذلك.

وإذا ضممنا إلى ذلك دعوى الإجماع على عدم بناء الشرع على الاحتياط، أي: عدم انحصار طريق الامتثال في الشريعة بالاحتياط، ثبتت بذلك حجّيّة الظنّ على نحو الكشف.

732

وإذا لم نقبل فرض انبساط حقّ المولويّة على دائرة المظنونات لدى سقوط الامتثال العلميّ فلا سبيل إلى الكشف أو الحكومة، وننتهي إلى التبعيض في الاحتياط، وضمّ ذلك إلى دعوى الإجماع على عدم بناء الشريعة على الاحتياط لا يؤدّي إلى أكثر من الحجّيّة التخييريّة ولا يثبت الكشف، كما اتّضح ذلك ممّا مضى منّا في المقام الثاني: من مناقشتنا للمحقّق العراقيّ(رحمه الله).

وأمّا المبنى الثاني ـ وهو كون العلم الإجماليّ منجّزاً لوجوب الموافقة القطعيّة بواسطة وقوع المعارضة بين البراءات العقليّة في الأطراف وتساقطها ـ: فإن قلنا بالإجماع على عدم كون مبنى الشريعة على الاحتياط، أي: عدم انحصار طريقة الامتثال فيه، ثبت وجود حجّة من قِبَل الشارع، وهي مردّدة بين اُمور يكون المفروض إبطال ما عدا الظنّ منها ـ من الوهم، والقرعة، والتقليد، ونحو ذلك ـ في المقدّمات الآتية، فتثبت حجّيّة الظنّ على الكشف، وأثر العلم الإجماليّ تعارض الاُصول وتساقطها حتّى تصل النوبة إلى الكشف عن حجّيّة الظنّ؛ لأنّ التمسّك بالإجماع على ثبوت طريقة اُخرى في الشريعة للامتثال غير الاحتياط فرع لزوم الامتثال الذي هو فرع تساقط الاُصول.

وإن لم نؤمن بهذا الإجماع وقلنا: إنّ الإجماع إنّما هو قائم على بطلان الاحتياط التامّ، فإن آمنّا بما مضى: من تفسير قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وانبساط حقّ المولويّة عند سقوط الامتثال العلميّ على دائرة المظنونات، ثبتت حجّيّة الظنّ على الحكومة، وأثر العلم الإجماليّ هنا أيضاً هو إيقاع التعارض بين الاُصول وتساقطها حتّى تصل النوبة إلى حكم العقل بالحجّيّة؛ إذ مع الترخيص الشرعيّ في المخالفة لا يحكم العقل بذلك. وهذه الحكومة كافية في الاقتصار على المظنونات ونفي المشكوكات والموهومات حتّى إذا كان الاضطرار غير شامل لجميع المشكوكات والموهومات، أي: أمكن ضمّ قسم منها إلى المظنونات من

733

دون لزوم عسر وحرج، وذلك لا لجريان البراءة الشرعيّة في غير المظنونات (فإنّ حكم العقل بحجّيّة الظنّ إنّما كان في طول تعارض البراءة في المظنونات بالبراءة في غيرها وتساقطها؛ لكون جريانها في البعض دون البعض ترجيحاً بلا مرجّح، وعدم إمكان جريانها في الجميع، وليست حجّيّة الظنّ هي المرجّحة للبراءة في غير المظنونات؛ لأنّها ليست هي المانعة عن البراءة في المظنونات؛ إذ البراءة في المظنونات حاكمة عليها، أي: لو جرت لما وصلت النوبة إلى حكم العقل بحجّيّة الظنّ، وحجّيّة الظنّ معلولة لعدم البراءة في المظنونات، وما في طول عدم الشيء لا يعقل مانعيّته عن الشيء)، بل لجريان البراءة العقليّة في غير المظنونات، فإنّ حكم العقل بحجّيّة الظنّ لم يكن في طول سقوط البراءة العقليّة، وإنّما حجّيّة الظنّ عقلاً تعني أنّ البراءة العقليّة لا وجود لها في المظنونات، فهي من أوّل الأمر مخصوصة بغير المظنونات وتجري فيها بلا معارض.

وأمّا إن لم نؤمن بما مضى: من تفسير قاعدة قبح العقاب بلا بيان وانبساط حقّ المولويّة عند سقوط الامتثال العلميّ على دائرة المظنونات، فقد ثبت في المقام التبعيض في الاحتياط، وهل نحن مخيّرون بين الظنّ والوهم، أو يترجّح جانب الظنّ ؟ قد مضى الكلام في ذلك.

وأمّا على المبنى الثالث ـ وهو أنّ العلم الإجماليّ بنفسه ينجّز وجوب الموافقة القطعيّة كحرمة المخالفة القطعيّة ـ: فإن قلنا بالإجماع على عدم كون مبنى الشريعة على الاحتياط، وأنّها تجعل حتماً طريقاً آخر للامتثال، ثبت أيضاً حجّيّة الظنّ على الكشف، وإلّا فالعقل يتنزّل من الإطاعة القطعيّة إلى أيّ مرتبة أقرب إلى تحصيل الواقع رفع محذور العسر والحرج، فقد يتّفق ـ مثلاً ـ أنّه لا يكفي مجرّد الإتيان بالمظنونات، بل لابدّ من ضمّ بعض المشكوكات إليها؛ لعدم لزوم العسر والحرج بذلك، وهنا أيضاً ما مضى: من تقريب الحكومة، إلّا أنّها لا تفيدنا الفائدة

734

التي شرحناها: من إمكان الاقتصار على المظنونات حتّى مع إمكان ضمّ شيء من غير المظنونات إليها لكفاية ترك الباقي في نفي العسر والحرج؛ وذلك لأنّ البراءة العقليّة هنا ساقطة في نفسها بسبب العلم الإجماليّ لا بالتعارض، فلا يمكن الاستفادة منها لنفي تنجيز الزائد على المظنونات. إذن فالأثر العمليّ للحكومة هنا عين الأثر العمليّ للتبعيض في الاحتياط.

وبما ذكرناه ظهر ما هو التحقيق في بيان مباني الكشف والحكومة والتبعيض في الاحتياط، وأنّ الكلمات التي أفادها الأكابر في ذلك غير صحيحة.

 

4 ـ نفي الرجوع إلى الاحتياط وغيره:

المقدّمة الرابعة: بطلان وجوب الاحتياط وسائر ما تخطر بالبال مرجعيّته ممّا يفترض قيام دليل عليه في نفسه، أو الرجوع إلى القرعة، أو نحو ذلك، ولنتكلّم هنا في مقامين:

الأوّل: في وجه بطلان وجوب الاحتياط.

والثاني: فيما تخطر بالبال مرجعيّته بعد عدم وجوب الامتثال القطعيّ ممّا يفرض قيام دليل عليه في نفسه.

 

عدم وجوب الاحتياط:

المقام الأوّل: في وجه بطلان وجوب الاحتياط، وقد ذكر لذلك وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: التمسّك بقاعدة نفي العسر والحرج باعتبار أنّ الاحتياط في تمام الأطراف حرج على المكلّف. وقد تمسّك بذلك الشيخ الأعظم(قدس سره)، ولكن اعترض عليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) اعتراضاً مبنائيّاً، حيث ذهب إلى أنّ معنى نفي الضرر أو الحرج هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الضرريّ أو الحرجيّ، لا نفي الحكم

735

الذي ينشأ منه الضرر والحرج، وأنّه على هذا المبنى لا يمكن تطبيق قاعدة نفي العسر والحرج في المقام.

وتوضيح ذلك بنحو تتّضح حقيقة الحال في المقام هو: أنّ هناك مباني ثلاثة في تفسير معنى قاعدة لا ضرر التي اُلحقت بها قاعدة نفي العسر والحرج:

المبنى الأوّل: ما هو ظاهر كلمات الشيخ الأعظم(قدس سره) وصريح كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو: أنّ المنفيّ في قوله: «لا ضرر ولا ضرار» ـ بعد عدم إمكان تفسيره بنفي الضرر التكوينيّ خارجاً ـ هو الحكم الناشئ منه الضرر، وذلك بلسان نفي الحكم، حيث إنّ عنوان النتيجة قد يجعل عنواناً ثانويّاً لذي النتيجة، فالنفي في لسان الدليل انصبّ على الحكم بعد ملاحظة تقمّصه بعنوان الضرر إشارة إلى ما هي النكتة في نفيه، وهي كونه ضرريّاً.

المبنى الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)، وهو: أنّ المنفيّ واقعاً وإن كان هو الحكم لكنّه ليس لسان الدليل هو لسان نفي الحكم، بل هو ينفي الحكم بلسان نفي الموضوع الذي هو عبارة عمّا يشتمل على الضرر.

المبنى الثالث: ما هو مختار لنا في فهم قاعدة لا ضرر، وهو: أنّ المنفيّ هو الضرر بوجوده التكوينيّ، إلّا أنّه ليس المنفيّ هو مطلق الضرر التكوينيّ، بل الضرر التكوينيّ الناشئ من الشريعة، الإسلاميّة.

وهل المنفيّ هو خصوص الضرر الناشئ من الشريعة، أو أنّ النفي شمل كلّ ضرر تكوينيّ يترقّب نفيه من ناحية الشريعة ؟ وما هي الثمرات التي تترتّب على هذين الوجهين ؟ لا مجال للتعرّض لذلك هنا.

وتحقيق هذه المباني وذكر تمام إشكالاتها إثباتاً ونفياً، وأنّ كلّ ما نختاره من هذه المباني في قاعدة لا ضرر هل يسري إلى قاعدة نفي العسر والحرج، أو لا ؟ يأتي إن شاء الله بيانه في بحث قاعدة لا ضرر في آخر بحث أصالة البراءة.

736

والآن نتكلّم على كلّ واحد من تلك المباني في أنّ القاعدة هل ترفع وجوب الاحتياط، أو لا؟

أمّا على المبنى الأوّل ـ وهو كون المنفيّ هو الحكم الضرريّ وبلسان نفي الحكم ـ: فيمكن تطبيق القاعدة على المقام بأحد تقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: تطبيقها على نفس التكليف الواقعيّ؛ لأنّه أدّى إلى العسر والحرج من حيث كونه معلوماً؛ إذ مادام التكليف باقياً يستتبع وجوب الاحتياط عقلاً، ووجوب الاحتياط يستتبع العسر والحرج.

وهذا هو التقريب المنحصر في المقام(1) بناءً على كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وأمّا بناءً على الاقتضاء فعلّة الحرج مركّبة من جزءين: أحدهما التكليف الواقعيّ، والآخر عدم الترخيص في المخالفة الاحتماليّة، فيكفي في رفع العسر والحرج إثبات الترخيص بأحد التقريبين الآخرين.

التقريب الثاني: تطبيقها على نفس عدم الترخيص الشرعيّ لكونه مؤدّياً إلى الحرج، فيثبت الترخيص.

ويمكن توهّم الإشكال على هذا التقريب بناءً على ما بنوا عليه: من أنّ قاعدة لا ضرر لا تنفي الأعدام، وإنّما تنفي الوجودات، فيقال: إنّ عدم الترخيص ليس حكماً وجوديّاً حرجيّاً، وإنّما هو عدم حرجيّ، فلا ينفى بالقاعدة.

ولكن التحقيق: أنّ رفع عدم الترخيص مرجعه بحسب الدقّة إلى رفع الحكم لا إلى رفع عدم الحكم؛ وذلك لما ذكرناه في الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة:


(1) ولو بأن يصار إلى التقريب الثالث ـ وهو رفع الاحتياط العقليّ ـ ويقال مرّة اُخرى: إنّ رفع الاحتياط العقليّ يكون برفع منشئه وهو التكليف الواقعيّ.

737

من أنّ الترخيص الظاهريّ من قِبَل المولى مرجعه إلى إبراز المولى عدم شدّة اهتمامه بالتكاليف الواقعيّة بحيث يرضى بمخالفتها في ظرف الشكّ، فالترخيص هو نقيض شدّة الاهتمام، وشدّة الاهتمام أمر وجوديّ ثابت من قِبَل المولى مؤدّ إلى وجوب الاحتياط عقلاً المؤدّي إلى الحرج، فتنتفي بقاعدة نفي الحرج.

وإذا دار الأمر بين هذا التقريب والتقريب الأوّل تعيّن هذا التقريب؛ لأنّ الأمر دائر بين انتفاء اهتمام المولى بتكليفه مع ثبوت أصل التكليف، وانتفاء اهتمام المولى به بنحو السالبة بانتفاء الموضوع بأن يكون أصل التكليف منتفياً، ومقتضى إطلاق دليل التكليف الواقعيّ ثبوته في المقام، فمقتضى الجمع بين إطلاق دليل التكليف الواقعيّ، ودليل نفي العسر والحرج هو صرف الثاني إلى نفي عدم الترخيص لا إلى نفي الواقع(1).

التقريب الثالث: تطبيق القاعدة على وجوب الاحتياط العقليّ.

واُشكل على ذلك بأنّ القاعدة ليست ناظرة إلى الأحكام العقليّة، وليس المراد من الإشكال هنا أنّ الحكم العقليّ غير قابل للرفع شرعاً حتّى يقال بأنّه قابل للرفع بإثبات الترخيص، بل المراد كونه خلاف ظاهر الدليل؛ لأنّ الدليل ظاهر في النظر إلى الأحكام المجعولة شرعاً لا إلى أحكام العقل.

وهذا يدور مدار الاستظهار من القاعدة، ولا تبعد دعوى الإطلاق.

وإذا دار الأمر بين هذا التقريب والتقريب الأوّل تعيّن أيضاً هذا التقريب؛ لما مضى: من إطلاق دليل التكليف الواقعيّ.


(1) ولكن إن لم يترتّب أثر عمليّ على إطلاق دليل التكليف لكون رفعه ورفع عدم الترخيص سيّان في الأثر لم يبق لدينا وجه لحجّيّة هذا الإطلاق، فإنّ حجّيّة الظهور كأيّ حجّيّة تعبّديّة اُخرى إنّما تعقل بلحاظ ما تنتهي إليه من الأثر العمليّ.

738

وأمّا على المبنى الثاني ـ وهو كون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الضرريّ ـ فقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ القاعدة لا تنطبق فيما نحن فيه؛ لأنّ موضوع الحكم الشرعيّ فيما نحن فيه ليس حرجيّاً؛ إذ لا يوجد أيّ حرج في الالتزام بالموضوعات التي تعلّق بها التكليف الإلزاميّ، فإنّها محدودة، ولو كان المكلّف عالماً بها لأتى بها بلا وقوع في الحرج. نعم، نفس عنوان الاحتياط والجمع بين المحتملات حرجيّ لكنّه ليس موضوعاً لحكم شرعيّ، وإنّما هو موضوع لحكم العقل بوجوب الاحتياط.

والتحقيق: أنّ هذا الإشكال في غير محلّه بقطع النظر عن بطلان أصل مبناه في تفسير القاعدة؛ وذلك لأنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّه من الممكن أن يدّعى في المقام شمول القاعدة للاحتياط والجمع بين المحتملات الذي هو موضوع لحكم العقل بالوجوب، فإنّه موضوع حرجيّ، فالشارع يرفع هذا الحكم العقليّ بلسان رفع موضوعه الحرجيّ.

ولا محذور في ذلك إلّا توهّم أنّ القاعدة حيث إنّها تنفي الحرج في الدين فهي ناظرة إلى الدين وأحكام الدين لا إلى أحكام حاكم آخر غير صاحب الدين، والحكم بالاحتياط في المقام حكم للعقل لا للشارع.

وهذا التوهّم غير صحيح؛ وذلك لأنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط ليس حكماً تشريعيّاً من قِبَل حاكم تشريعيّ آخر كسلطان من السلاطين ـ مثلاً ـ له تشريعه وجعله للأحكام، وليس حكم العقل بابه باب التشريع والجعل، بل مرجعه إلى إدراك العقل حقّاً واقعيّاً ثابتاً للمولى على العبد، وهذا الحقّ ليس أمراً مجعولاً للعقل، بل هو أمر واقعيّ ثابت في الخارج ومنتزع عن التكليف المعلوم بالإجمال كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والسببيّة المنتزعة من التكاليف الشرعيّة، فمنشأ انتزاع هذا الحقّ ومنشأ ثبوته بالنحو المناسب له من الثبوت هو التكليف المعلوم

739

بالإجمال، فهذا الحقّ يكون من الدين، كما أنّ من الدين جزئيّة السورة للصلاة، ومانعيّة الضحك عنها، وشرطيّة الطهارة لها، وسببيّة الزوال لوجوب صلاة الظهر، التي سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ أنّها عبارة عن اُمور واقعيّة منتزعة عن الأحكام المجعولة شرعاً، فدعوى شمول القاعدة لمثل هذا الحكم العقليّ في المقام تامّة في نفسها بحسب الاستظهار العرفيّ، ومرجع رفع الاحتياط الحرجيّ إلى رفع حكم العقل وهو وجوب الاحتياط، ومرجع رفع وجوب الاحتياط عقلاً إلى رفع منشأ انتزاعه، ورفع منشأ انتزاعه يكون بجعل الترخيص ظاهراً، من قبيل رفع الجزئيّة، فإنّ الجزئيّة يشملها لسان دليل الرفع ورفعها برفع منشأ انتزاعها.

وثانياً: أنّنا لئن سلّمنا أنّ دليل نفي العسر والحرج لا يشمل الحكم العقليّ فبإمكاننا أن نجريه في المقام لنفي جعل وجوب الاحتياط شرعاً، ونفي جعله بدليل نفي العسر والحرج يدلّ عرفاً على نفي منشأه، وهو اهتمام المولى بتكليفه في ظرف التردّد والإجمال(1)، فهناك فرق بين ما لو فرضنا مجرّد قطع خارجيّ بعدم جعل وجوب الاحتياط، وبين ما لو دلّ دليل نفي العسر والحرج على عدم جعله، فلو كان لدينا مجرّد قطع خارجيّ بعدم جعل وجوب الاحتياط، كما لو كنّا حاضرين لدى المولى فرأيناه لم يجعل وجوب الاحتياط، لم يكف هذا لرفع اليد عن الاحتياط عملاً؛ لأنّ احتمال اهتمام المولى بغرضه الواقعيّ في مقام التزاحم بينه وبين مصلحة التسهيل ـ مثلاً ـ كاف في حكم العقل بوجوب الاحتياط، إمّا لتعارض البراءات العقليّة وتساقطها، أو لأنّ العلم الإجماليّ يوجب بنفسه الامتثال القطعيّ ما لم يحرز عدم الاهتمام من المولى بغرضه بسبب التزاحم مع التسهيل مثلاً. أمّا حينما يدلّ دليل نفي العسر والحرج على عدم جعل الاحتياط، فهو يدلّ


(1) أو قل: فعليّة الحكم على كلّ تقدير وفق تعبير المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).

740

عرفاً على نفي منشأه وهو الاهتمام بالغرض لدى التزاحم بمصلحة الترخيص، ومع ثبوت نفي الاهتمام لا يبقى مجال لحكم العقل بوجوب الاحتياط.

وثالثاً: أنّ كلّ واحد من التكاليف المحتملة وإن لم يكن الإتيان به بنفسه حرجيّاً لكن الإتيان به في ظرف الإتيان بالآخر حرجيّ. فمثلاً إذا اضطرّ إلى شرب أحد الماءين وهو يعلم بنجاسة أحدهما بالخصوص، وإن لم يكن في نفسه حرجيّاً عليه، ولكن تركه في حال ترك الآخر حرجيّ عليه، وعندئذ إن كان تركه للآخر بمجرّد اشتهاء نفسه من دون وجود حكم عقليّ ناشئ من ناحية الحقّ المولويّ والحكم الشرعيّ لم يفت أحد من الفقهاء بجواز شربه لهذا الماء بمجرّد الحرج، مثاله: ما لو علم بنجاسة أحدهما بالخصوص لا بنحو الإجمال فترك الآخر الذي هو طاهر اشتهاءً، فهنا لا يفتى في الفقه بجواز شربه للماء النجس ولو فرض إراقته للماء الآخر مثلاً. ووجه ذلك واضح بناءً على كون القاعدة نافية للحكم الضرريّ، أو الحرجيّ، أو الضرر والحرج الناشئين من الحكم، فإنّ الضرر عندئذ لا يسند عرفاً إلى حكم الشارع؛ لأنّ الشارع إنّما أوجب عليه الجامع بين حصّتي ترك هذا الماء، أي: الترك المقرون بترك الآخر، والترك المقرون بشرب الآخر، وهو أعدم إحدى الحصّتين باشتهاء نفسه وحصر قدرته في الحصّة الاُخرى الحرجيّة، فصار امتثال الجامع حرجيّاً عليه(1).


(1) لا ينبغي الإشكال في أنّه بعد إراقة الماء الطاهر تكون حرمة شرب النجس عليه حرجيّة ويسند الحرج إلى الحكم عرفاً، ولكن مع هذا لا تجري في ذلك قاعدة نفي العسر والحرج؛ لأنّ جريانها لا يؤمّنه من العقاب؛ لأنّ حرمة شرب النجس كانت فعليّة عليه من قبل إراقة الماء الطاهر، فلو شرب الماء النجس بعد الإراقة فقد خالف حكماً كان آناً مّا فعليّاً وغير حرجيّ عليه، وإن أصبح بعد ذلك حرجيّاً عليه بسوء اختياره.

741

وأمّا بناءً على كون القاعدة نافية للموضوع الضرريّ فصاحب هذا المبنى أيضاً لا يقول بجريان القاعدة في المقام، إمّا لتخيّل عدم صدق ضرريّة الموضوع عند إعدامه بنفسه للحصّة الاُخرى، أو للانصراف مثلاً(1). وعلى أيّة حال، ففي هذا الفرض لا يشكّ فقهيّاً في عدم جريان القاعدة. وأمّا إذا كان تركه للآخر من ناحية الحقّ المولويّ والحكم الشرعيّ الذي صار موجباً لذلك، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحدهما فترك أحدهما احتياطاً، فهنا يكون ترك أحدهما في ظرف ترك الآخر حرجيّاً عليه، ويستند الضرر إلى نفس الحكم الشرعيّ، حيث إنّ امتثاله في ضمن هذه الحصّة للحكم الشرعيّ بالجامع حرجيّ، ورفع يده عن الحصّة الاُخرى كان ناشئاً من قبل الشارع، كما لا مجال للانصراف هنا أيضاً. فعلى تقدير كون الحرمة ثابتة في هذا الجانب تكون مرفوعة بنفي الحرج في فرض ترك الآخر.

وهذا هو الذي ينبغي أن يقال في مقام الإشكال على صاحب الكفاية، لا ما أفاده السيّد الاُستاذ في هذا المقام: من أنّه لمّا كانت الوقائع تدريجيّة فهو يعمل بكلّ تكليف محتمل إلى أن يصير إتيان الباقي حرجيّاً عليه، فتجري القاعدة بالنسبة لباقي التكاليف المحتملة.

إذ يرد على هذا الكلام ـ بقطع النظر عن أنّه قد تكون الوقائع التي ينشأ من مجموعها الحرج عرضيّة، كما في ترك اُمور كثيرة في عرض واحد يحتمل في كلّ واحد منها الحرمة ويكون ترك الجميع عليه حرجيّاً ـ: أنّه ليست العبرة


(1) الوجه الصحيح لعدم جريان القاعدة في المقام ما قلناه في التعليق السابق: من أنّ دليل نفي الحرج لا يؤمّنه من العقاب؛ لفعليّة الحكم عليه ولو آناً مّا من دون حرج وإن أصبح حرجيّاً عليه بعد ذلك بسوء اختياره، وانصراف دليل نفي العسر والحرج عن المقام يكون بملاك هذه النكتة.

742

بالتدريجيّة والعرضيّة، وإنّما العبرة بكون ترك ما تركه أمراً اشتهائيّاً أو منتسباً إلى الشارع. فعلى الأوّل لا تجري القاعدة ولو كانت الوقائع تدريجيّة. وعلى الثاني تجري القاعدة ولو كانت الوقائع عرضيّة. هذا إذا كانت تدريجيّة الوقائع بمعنى عدم فعليّة تمام تلك الأحكام في عرض واحد لعدم وجود موضوعاتها إلّا تدريجيّاً(1).

وأمّا إذا فرضنا موضوعات موجودة في عرض واحد، فكانت أحكامها فعليّة في عرض واحد، ولكن كان ظرف امتثالها أو عصيانها تدريجيّاً، فالأمر هنا أوضح، فإنّه وإن كان امتثال الواقعة الأخيرة حرجيّاً عليه لكنّه لو كان تركه في الوقائع السابقة اشتهائيّاً ومن دون وجود إلزام ينتهي بوجه من الوجوه إلى الشارع يكون ملزماً فعلاً بالامتثال في هذه الواقعة الأخيرة، أي: أنّه لو أراد التخلّص من العقاب فلابدّ له من الامتثال في هذه الواقعة ولو فرض جريان القاعدة في مثل هذا الفرض؛ وذلك لأنّ هذا التكليف قد صار فعليّاً عليه آناً مّا، وإنّما جاء الترخيص من قبل المولى لأنّه هو جعل المولى بسوء اختياره مضطرّاً إلى الترخيص من باب إيجاده للمزاحمة بين ملاك التكليف وملاك نفي الحرج، وهذا ليس رافعاً


(1) الظاهر أنّ التدريجيّة في هذا الفرض تكفي في شمول دليل نفي العسر والحرج للواقعة الأخيرة حتّى ولو فرض أنّ العمل في الواقعة الاُولى كان اشتهائيّاً من دون وجود إلزام منته بمناشئه إلى الشارع، وقد مضى من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحثه المقدّمة الثالثة لدى مناقشته لما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ الاضطرار إلى طرف غير معيّن مسقط للعلم الإجماليّ عن التنجيز: إنّ العبد لو حقّق بسوء اختياره شرطاً لحكم يوجب العسر مقدّماً على زمان امتثاله كان الحكم حرجيّاً رغم كون تحقّق شرطه بسوء الاختيار، ولعلّه لهذا لم ينعكس الإشكال في فرض التدريجيّة بهذا الشكل في المقام في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله.

743

لاستحقاق العقاب(1).

وأمّا على المبنى الثالث ـ وهو نفي الضرر التكوينيّ الناشئ من قبل الشريعة ـ: فتطبيق القاعدة على ما نحن فيه واضح، فإنّ الاحتياط ضرر تكوينيّ ناشئ من الشريعة، ويكون نفيه بنفي أحد مبادئه، أي: إمّا بنفي الواقع، أو بنفي وجوب الاحتياط، ومقتضى الجمع بين دليل نفي الحرج ودليل الحكم الواقعيّ هو أن يكون الحكم الواقعيّ محفوظاً، ويكون المنفيّ هو وجوب الاحتياط.

فظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ التمسّك بالقاعدة في المقام لنفي وجوب الاحتياط تامّ على جميع المباني الثلاثة. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من الوجوه التي استدلّ بها على عدم وجوب الاحتياط.

الوجه الثاني: دعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط التامّ في تمام الأطراف، وهذا الإجماع وإن كان لا ينبغي الشكّ فيه فإنّه يحصل القطع به بمراجعة كلماتهم وكشف ذوقهم العامّ في الفقه وكيفيّة استنباطهم في مسائل مختلفة


(1) لا يخفى أنّه لو فرض العسر والحرج مزاحماً لملاك المتعلّق ورافعاً له لم يبق مجال للامتثال بعد صيرورة الفعل حرجيّاً بسوء اختياره، واختصّ الوجوب بالحصّة غير الحرجيّة، وبإفنائها تمّ العصيان، ولو فرض أنّ العسر والحرج إنّما يرفع الحكم بنكتة أنّ المولى يحبّ أن لا يكون العبد ملزماً بما فيه الحرج ومحرجاً عقلاً بسبب وجوبه من دون أن يكون انتخاب العبد بمحض اختياره للفرد الحرجيّ منافياً لأغراض المولى كان مجال الامتثال باقياً، ولابدّ من الامتثال؛ لما أفاده اُستاذنا(رحمه الله): من أنّ التكليف صار فعليّاً عليه آناً مّا، ولكن فرض شمول نفي العسر والحرج لهذا المورد لا معنى له؛ لأنّ نفي العسر والحرج إنّما هو بملاك رفع الملزميّة عن العبد والإحراج العقليّ، والمفروض أنّ هذا الإلزام أو الإحراج واقع لا محالة بسوء اختياره، فما معنى نفي العسر والحرج عنه ؟!

والقدر المتيقّن من ظاهر دليل نفي العسر والحرج عرفاً إنّما هو الثاني.

744

والتصريح أو التلويح لبعضهم بذلك لكن هذا الإجماع ليس وجهاً قائماً برأسه، فإنّ من المحتمل استناده في المقام إلى قاعدة نفي العسر والحرج ونحو ذلك من القواعد النافية للعناوين الثانوية التي تنطبق على الاحتياط التامّ في أطراف هذا العلم الإجماليّ، كما أنّ من المحتمل أن يكون هذا الإجماع بنكتة الإجماع بتقريبه الآخر الذي سيأتي في الوجه الثالث وهو الإجماع على جعل طريق تفصيليّ في الشريعة للامتثال. والخلاصة أنّ هذا الإجماع نحتمل أن يكون مدركه أحد الوجهين الآخرين فلا يكون وجهاً مستقلاًّ.

الوجه الثالث: دعوى الإجماع على أنّ الشريعة لم تبن على الاحتياط، لا بمعنى نفي جواز الاحتياط ولا بمعنى نفي وجوب الاحتياط فقط، بل بمعنى أنّ الاحتياط ليس هو الطريق المنحصر للامتثال فيها، بل جعلت الشريعة لنا طريقاً آخر غير الاحتياط.

ودعوى الاطمئنان بثبوت هذا الإجماع كدعوى الاطمئنان بالإجماع السابق غير مجازفة وإن لم يمكن إثباتهما بالبرهان؛ لأنّ هذه المسألة لم يتعرّض لها صريحاً في كلمات أكثر العلماء قدّس الله أسرارهم، فكيف يمكن إثبات ذلك بالصريح من كلماتهم أو الاستظهار منها ؟!

بل دعوى الاطمئنان بصحّة مصبّ هذا الإجماع في نفسه بقطع النظر عن نفس الإجماع غير مجازفة.

بل في بعض الموارد لا معنى للاحتياط ولابدّ من تعيين الوظيفة، وذلك في موارد الأحكام المرتبطة بإدارة العباد والبلاد وتنظيم شؤونهم، كمقام القضاء، وإقامة الحدود، وإقامة العدل فيما بين الناس ونحو ذلك، فإنّه في مثل ذلك لابدّ من جعل قانون متعيّن والمشي على طبقه، والاحتياط إنّما يعقل في الامتثال في موارد الأعمال الشخصيّة، كالطهارة والصلاة لا في الاُمور الراجعة إلى تنظيم البلاد والعباد.

745

 

إبطال المراجع الاُخرى المحتملة:

المقام الثاني: في إبطال سائر ما تحتمل مرجعيّته عند الانسداد في مقام الامتثال ممّا يفرض قيام دليل عليه في نفسه، فنقول:

أمّا الاستصحاب: فهو إمّا يكون مثبتاً للتكليف، أو نافياً له:

أمّا الاستصحاب النافي: فحاله بعد فرض قيام الدليل عليه في نفسه حال البراءة التي فرغ الانسداديّ عن عدم جواز إجرائها لمحذور منجّزيّة العلم الإجماليّ وغيرها، حيث أوجبت تلك المحاذير تساقط الاُصول المؤمّنة.

وأمّا الاستصحاب المثبت: فيقع الكلام فيه من ناحيتين:

الاُولى: في أنّه هل هناك مقتض للتمسّك بالاستصحاب بحسب مقام الإثبات، أو لا ؟ والظاهر أنّه ليس هناك مقتض للاستصحاب أصلاً، فإنّ دليله إنّما هو ظاهر أخبار آحاد، والمفروض عدم حجّيّة ذلك، وإلّا لم يكن انسداد فكيف يمكن فرض الاستصحاب مرجعاً لدى الانسداد ؟!

الثانية: أنّه بعد فرض وجود المقتضي للاستصحاب ـ كما لو كان دليل الاستصحاب دليلاً قطعيّاً ـ هل هناك مانع عن التمسّك بالاستصحاب في المقام، أو لا ؟ والمانع المتصوّر في المقام إمّا ثبوتيّ أو إثباتيّ:

أمّا المانع الثبوتيّ: فهو مخالفته للعلم الإجماليّ بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف، حيث إنّ الانسداديّ لمّا لم تتمّ عنده أمارة معتبرة يثبت بها في كثير من الموارد انتقاض الحالة السابقة كثرت عليه موارد الاستصحاب، فلو لوحظت مجموع تلك الموارد حصل العلم الإجماليّ بالانتقاض في بعضها، فإجراؤه في تمام تلك الموارد خلاف العلم الإجماليّ، وفي بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

746

وهذا المحذور غير صحيح كبرويّاً؛ لما سنحقّقه ـ إن شاء الله ـ في محلّه: من أنّ الاُصول ـ سواء الاستصحاب وغيره ـ إنّما لا يمكن إجراؤها في أطراف العلم الإجماليّ إذا لزم من ذلك المخالفة العمليّة القطعيّة لا مطلقاً، ولا يلزم من الاُصول المثبتة للتكليف ذلك، فإنّها دائماً في صالح المولى لا العبد.

على أنّه لو سلّمنا هذا المحذور كبرويّاً ففي المقام في غير باب المعاملات ننكر العلم الإجماليّ بالخلاف؛ لأنّ الشبهات الحكميّة التي يكون الشكّ فيها في البقاء في غير المعاملات، كالشكّ في بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر، وحرمة دخول الحائض في المسجد بعد النقاء وقبل الغسل، ووجوب الصوم بعد غروب القرص وقبل ذهاب الحمرة، ونحو ذلك من الشبهات لو جمعناها لم يكن لنا علم إجماليّ بالانتقاض في بعضها، ولا موجب لعلم إجماليّ من هذا القبيل.

نعم، في الشبهات في موارد المعاملات يوجد علم إجماليّ بالخلاف؛ إذ بعد فرض انسداد باب العلم والعلميّ وعدم التمسّك بالأخبار وظواهر الآيات وبإطلاق أو عموم، سنشكّ في ترتّب الأثر على أيّ معاملة تقع بحسب الخارج، ومن الواضح أنّنا نعلم إجمالاً بأنّه يوجد في الشريعة نكاح وبيع وإجارة، ونحو ذلك، والقدر المتيقّن منها لا يفي بحلّ مثل هذا العلم الإجماليّ.

وأمّا المانع الإثباتيّ: فهو أيضاً بلحاظ العلم الإجماليّ بانتقاض الحالة السابقة بناءً على ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره): من أنّ هذا يوجب التناقض بين صدر رواية الاستصحاب الدالّ على السلب الكلّيّ وهو نفي نقض اليقين بالشكّ، وذيله الدالّ على الإيجاب الجزئيّ وهو النقض بيقين آخر؛ إذ لو لاحظنا مجموع الأطراف كان لدينا يقين إجماليّ بانتقاض بعضها، وهذا اليقين الإجماليّ مشمول لذيل الحديث، وبعد تساقط الصدر والذيل لا يبقى لنا دليل على الاستصحاب.

747

أقول: إنّ تحقيق أصل هذا المبنى صحّة وبطلاناً يأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه، ولو تمّ هذا المبنى كبرويّاً في موارد العلم الإجماليّ فلا مجال له في المقام في غير باب المعاملات؛ لما عرفت: من منع الصغرى، وهو العلم الإجماليّ بالانتقاض.

والمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) تصدّى للجواب عن هذا المانع على تقدير مبنى الشيخ الأعظم(رحمه الله): من تناقض الصدر والذيل، فذكر: أنّ المجتهد الذي يجري هذه الاستصحابات لا يتحقّق في حقّه تمام الاستصحابات في عرض واحد؛ لأنّ كلّ استصحاب يتوقّف على يقين وشكّ، وهو لا يحصل له في زمان واحد الشكّ الفعليّ في تمام المسائل، وإن كانا بحيث لو التفت لشكّ، فإنّه في آن واحد لا يلتفت إلى جميع المسائل حتّى يحصل له الشكّ في البقاء في جميعها، وإنّما يلتفت إلى بعض المسائل ويشكّ ويستصحب غافلاً عن باقي المسائل، ثُمّ يلتفت إلى بعض آخر ويغفل عن المسألة السابقة، ويجري الاستصحاب في البعض الجديد وهكذا، ولا يمرّ عليه وقت يكون مشمولاً لصدر دليل الاستصحاب بلحاظ تمام هذه الشبهات حتّى يقع التعارض بين شمول الصدر للاستصحاب في جميعها وذيل الحديث الدالّ على الموجبة الجزئيّة، بل هو دائماً لا يكون مشمولاً للصدر إلّا بلحاظ شخص الواقعة التي يحاول أن يستنبط حكمها.

أقول: ظاهر عبارته(رحمه الله) أنّ هذه الاستصحابات ثابتة في حقّ نفس المجتهد، ونحن لا نريد الآن أن نتكلّم عن ذلك وأنّه هل يجري الاستصحاب بالأصالة أو بالنيابة ونحو ذلك.

وإنّما نتكلّم عمّا افترضه: من حلّ إشكال التناقض بين الصدر والذيل بعدم الالتفات دفعة واحدة إلى تمام المسائل وعدم فعليّة الشكّ فيها في وقت واحد، وهذا جوابه واضح، لا ندري كيف خفى على المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)، بيان ذلك: أنّ هذا المجتهد في أوّل أوقات اجتهاده في تلك المسائل يكون على يقين بأنّ الحالة

748

السابقة في بعض المسائل التي سوف يلتفت إليها منقوضة، فهو مشمول لذيل الحديث بالفعل، وأمّا صدره فلئن سلّمنا ما ذكره(رحمه الله): من عدم ثبوت الشكّ في زمان واحد بالنسبة لتمام تلك المسائل وأنّه مهما يشتغل بمسألة يغفل عن الاُخرى، فهو لا يكون مشمولاً للصدر بلحاظ تمام تلك الشبهات في آن واحد، فلا شكّ في أنّه مشمول له بلحاظ تمامها في عمود الزمان تدريجاً، وهو من هذا الآن يعلم أنّ بعض الاستصحابات التي سوف يصير فعليّاً في حقّه يكون منقوضاً باليقين، فيعلم لا محالة بمناقضة الصدر الذي يكون مشمولاً له في تمامها تدريجاً والذيل الذي يأمر بالنقض باليقين الثابت له فعلاً، ولا يفرّق في حصول المعارضة بين عرضيّة الشمول بالنسبة لجميع الاستصحابات وطوليّته.

وعلى أيّة حال، فبناءً على جريان الاستصحابات المثبتة في حقّ الانسداديّ لا يؤثّر ذلك في سير دليل الانسداد ولا يضرّ بغرض الانسداديّ، فإن ضمّها إلى ما هو معلوم تفصيلاً لا ينتج انحلال العلم الإجماليّ؛ لقلّة مواردها.

وأمّا أصالة البراءة: فقد حملنا المقدّمة الثالثة على إبطالها وتكلّمنا فيها في ذلك مفصّلاً.

وأمّا أصالة التخيير: فإن اُريد بها أن يفتي الانسداديّ بالاحتياط في بعض الشبهات لا بعينها، وإعطاء الخيار بيد المكلّف في تطبيق الاحتياط على أيّ طرف شاء، فمثل هذا التخيير ليس له أصل ثابت بدليل من الأدلّة بقطع النظر عن الانسداد حتّى يرى أنّه هل نرجع إلى ذاك الدليل بعد الانسداد، أو لا؟ فالبحث عنه إنّما يناسب المقدّمة الخامسة دون هذه المقدّمة المعدّة لإبطال مرجعيّة شيء يفترض قيام دليل على مرجعيّته في نفسه.

وإن اُريد بها أصالة التخيير بمعناها المصطلح، أعني: التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين الذي يرجع إليه الانفتاحيّ، فهذا أصل صحيح قام عليه