673

 

تفاسير اُخرى للحكومة:

بقي في المقام: بيان ما فسّر به السيّد الاُستاذ والمحقّق النائينيّ الحكومة بعد اعتقادهما ببطلان تفسير المحقّق الخراسانيّ لها:

أمّا السيّد الاُستاذ فقد فسّر الحكومة بالتبعيض في الاحتياط، وأنّه بعد أن تنجّز الحكم بالعلم الإجماليّ يحكم العقل ابتداءً بالاحتياط التامّ، وإذا جازت مخالفة الاحتياط في الطرف الموهوم والمشكوك لنكتة مّا اقتصر العقل على الحكم بالاحتياط في الطرف المظنون.

أقول: إن كان مقصود السيّد الاُستاذ جعل اصطلاح جديد للحكومة؛ لعدم معقوليّة المعنى المرتكز لدى الأصحاب، فله الأمر، ولكن المفروض أن يعبّر عندئذ بتعبير من قبيل: (إنّني اُسمّي التبعيض في الاحتياط بالحكومة، وأنّ الحكومة بمعناها المرتكز غير معقولة)، لا بمثل تعبير: (إنّ معنى الحكومة هو التبعيض في الاحتياط). وإن كان مقصوده تفسير الحكومة بالمعنى المصطلح لدى الأصحاب، فهو عجيب، فإنّ الحكومة ليست هي التبعيض في الاحتياط عند أحد، فإنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)على ما في تقرير بحثه المكتوب بقلم نفس السيّد الاُستاذ، وتقريره الآخر الذي كتبه الشيخ الكاظميّ مصرّح بأنّ الحكومة غير التبعيض في الاحتياط، وبعض كلمات الشيخ الأعظم(رحمه الله)لا يخلو من إشعار بذلك، بل بعض كلماته لدى البحث عن تعميم الظنّ وإهماله صريح أو كالصريح في ذلك، وهو الذي فهمه منه تلميذه الميرزا الشيرازيّ الكبير(رحمه الله)وكذلك المحقّق النائينيّ(قدس سره)، ومدرسة الميرزا الشيرازيّ الكبير وكذلك مدرسة المحقّق النائينيّ تعتقدان أنّ من مفاخر الشيخ الأعظم إبطال دليل الانسداد بإبداء التبعيض في الاحتياط في قبال ما يستدلّ عليه بالانسداد من الكشف أو الحكومة. وهناك معركة مفصّلة دائرة بين الشيخ الأعظم

674

والمحقّق النائينيّ كتبها السيّد الاُستاذ بقلمه، وكذلك الشيخ الكاظميّ حول أنّ الشيخ الأعظم يرى أنّ دليل الانسداد لو تمّ فهو منتج للحكومة، والمحقّق النائينيّ يرى أنّه يستحيل إنتاجه للحكومة، فلو لم يكن عقيماً فهو ينتج الكشف، ولو كان عقيماً فالنتيجة هي التبعيض في الاحتياط. هذا حال الشيخ الأعظم والمحقّق النائينيّ(قدس سرهما)، وأمّا المحقّق الخراسانيّ فقد عرفت ما فسّر به الحكومة.

والخلاصة: أنّ شيئاً من الاتّجاهات العامّة في الاُصول لا يفسّر الحكومة بالتبعيض في الاحتياط.

وأمّا المحقّق النائينيّ فكلامه في تفسير الحكومة بنحو يباين التبعيض في الاحتياط مشوّش في كلا تقريريه خصوصاً في تقرير الشيخ الكاظميّ، ولعلّ هذا التشويش هو الذي أدّى بالسيّد الاُستاذ إلى القول بأنّ الحكومة هي التبعيض في الاحتياط.

وما يستخلص من تلك العبائر المشوّشة هو: أنّ التبعيض في الاحتياط يكون في مورد العلم الإجماليّ بأحكام عديدة دار أمرها بين عدّة أطراف، وثبت عندنا عدم وجوب الاحتياط في بعض تلك الأطراف، فنرفع اليد عن قاعدة وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ بمقدار ما ثبت من جواز الترك، ونلتزم بالاحتياط في باقي الأطراف، والحكومة تكون في مورد العلم بحكم واحد وتنجّزه بالعلم مع دوران أمر امتثاله بين الامتثال الظنّيّ والامتثال الوهميّ، كما لو علمنا بوجوب الصلاة إلى القبلة، ودار أمر القبلة بين القبلة المظنونة والقبلة الموهومة، فيتنزّل العقل ـ بعد فرض عدم وجوب ما تقتضيه القاعدة الأوّليّة: من الصلاة إلى كلتا الجهتين لضيق الوقت مثلاً ـ إلى الامتثال الظنّيّ، فهذه هي حجّة عقليّة للظنّ مرتبطة بباب الامتثال وعالم الطاعة بعد تنجّز التكليف، وهذه هي الحكومة لا ما ذكره المحقّق الخراسانيّ: من حكم العقل بحجّيّة الظنّ في عالم التنجيز.

675

وأورد(قدس سره) إشكالين على ما اختاره الشيخ الأعظم(رحمه الله): من أنّ مقدّمات الانسداد لو تمّت أنتجت الحكومة، نذكرهما هنا؛ إذ قد يؤثّران في فهم مقصوده في الفرق بين الحكومة والتبعيض في الاحتياط:

الإشكال الأوّل: أنّ التنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الظنّيّ إنّما يكون بالحكومة حينما تنجّز التكليف وعجزنا عن امتثاله القطعيّ، فحكم العقل بالامتثال الظنّيّ. أمّا في المقام الذي علمنا فيه بأحكام مردّدة بين المظنونات والمشكوكات والموهومات، فالمبرّر للتنزّل إلى العمل بالمظنونات، إمّا هو الإجماع على بطلان الامتثال الاحتماليّ، أو عدم وجوب الاحتياط التامّ. فإن فرضنا الإجماع على بطلان الامتثال الاحتماليّ، فهنا يثبت الكشف؛ لأنّ العمل بالمظنونات إنّما يكون امتثالاً تفصيليّاً لا احتماليّاً إذا كان الظنّ أمارة شرعيّة، وإن فرضنا أنّ الإجماع لم يقم على بطلان الامتثال الاحتماليّ وإنّما قام على عدم وجوب الاحتياط التامّ، فلا محالة تصل النوبة إلى التبعيض في الاحتياط وليس الحكومة، فدليل الانسداد أمره دائر بين أن يكون عقيماً، أو أن ينتج الكشف.

الإشكال الثاني: أنّ العمل بالمظنونات ليس امتثالاً ظنّيّاً للأحكام حتّى يقال: إنّ هذا تنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الظنّيّ من باب الحكومة، وإنّما يحصل الامتثال الظنّيّ للأحكام إذا عمل بالمظنونات والمشكوكات معاً، فإنّ طرح مشكوك الوجوب يساوق الشكّ في الامتثال، والجمع بين الامتثال المظنون في مورد والامتثال المشكوك في مورد آخر ينتج الشكّ في الامتثال بلحاظ المجموع.

وقد ورد في أجود التقريرات الذي كتب في دورة متأخّرة عن الدورة التي كتبها الشيخ الكاظميّ جواب على هذا الإشكال سنبحثه فيما يأتي إن شاء الله.

وقبل أن نتعمّق أكثر من هذا فيما نحدس أن يكون هو مقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله)رغم تشويش العبائر في التقريرين نشير إلى تعبير ورد في تقرير الشيخ الكاظميّ

676

قد يؤيّد ما نريد توضيحه، وذلك أنّه وإن ورد عن المحقّق النائينيّ التعبير بالتفصيل بين فرض تعدّد الحكم ووحدته، وأنّ الحكومة إنّما تكون في الثاني، والتبعيض في الاحتياط يكون في الأوّل، ولكن هناك تعبير ورد في تقرير الشيخ الكاظميّ(1)مرّة أو مرّتين، وهو التعبير بالشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة، وأنّ حكم العقل بحجّيّة الظنّ على نحو الحكومة إنّما يأتي في الشبهة الموضوعيّة دون الحكميّة.

 

توجيهات فنّيّة لكلام المحقّق النائينيّ:

وبعد: يمكن أن يكون المقصود الذي انعكس في التقريرين بشكل مشوّش هو التفصيل بين كون الشبهة موضوعيّة أو حكميّة من دون نظر إلى كون الحكم واحداً أو متعدّداً(2)، وإذا كان مقصوده ذلك فهناك وجه فنّيّ لهذا التفصيل بحسب مباني


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 90.

(2) وممّا يشهد لذلك أنّ أجود التقريرات ـ وهو الذي عبّر بدلاً عن الشبهة الموضوعيّة بتعبير «الحكم الواحد» ـ عطف على الحكم الواحد قوله: «أو ما يكون في حكمه كما إذا علم المكلّف بفوات صلوات متعدّدة»(1)، وما يعقل أن يفترض هو السرّ في جعل هذا كالحكم الواحد، هو أن يكون المقياس الحقيقيّ عند المحقّق النائينيّ ما شرحه اُستاذنا الشهيد: من تنجّز الواقع بحدّه الواقعيّ بالعلم، كما هو الحال في الحكم الواحد في الشبهات الموضوعيّة، وهذا المقياس موجود على رأي المحقّق النائينيّ في الصلوات الفائتة المردّدة بين الأقلّ والأكثر، حيث يعتقد(رحمه الله)أنّ العدد الواقعيّ الفائت هو الذي تنجّز بالعلم. إذن فالمقياس الحقيقيّ ليس في عنوان الحكم الواحد والمتعدّد، وإلّا فمثال الصلوات الفائتة يكون من المتعدّد لا الواحد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 136.

677

المحقّق النائينيّ(قدس سره). وذلك بأن يقال: إذا كانت الشبهة موضوعيّة كما لو علم بوجوب الصلاة إلى القبلة، وشكّ في القبلة، فأصل الحكم قد تنجّز بالعلم التفصيليّ، والعقل يحكم أوّلاً بتحصيل الامتثال القطعيّ، ومع العجز عنه يحكم بتحصيل الامتثال الظنّيّ. وأمّا في الشبهة الحكميّة كما لو علم بوجوب الظهر أو الجمعة، وحصل الظنّ بوجوب الظهر، ولم يتمكّن من الجمع بينهما، فهنا لا تعقل حجّيّة الظنّ في مرحلة الامتثال، فهو إمّا أن يكون حجّة في مرحلة التنجيز وهي الحكومة بالمعنى الذي ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)ولم يقبله المحقّق النائينيّ(قدس سره)، أو أنّه لا حجّيّة فيه لا في مرحلة التنجيز ولا في مرحلة الامتثال، أي: لا يؤثّر الظنّ بنفسه مباشرة في تعيين الامتثال، وتوضيح ذلك: أنّ في تنجيز العلم الإجماليّ ـ بناءً على كونه مقتضياً لوجوب الموافقة القطعيّة لا علّة تامّة ـ مبنيين:

الأوّل: أنّ هذا العلم إنّما نجّز الجامع لأنّه المقدار المعلوم، وأمّا الطرفان فإنّما يتنجّزان بالاحتمال المقرون بانتفاء المؤمّن، والوجه في انتفاء المؤمّن هو تعارض الاُصول من الجانبين عقليّة وشرعيّة وتساقطها.

والثاني: أنّ هذا العلم بنفسه ينجّز كلا الطرفين تنجيزاً اقتضائيّاً، أي: موقوفاً على عدم ورود الترخيص في المخالفة الاحتماليّة.

والمبنى الأوّل هو صريح كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في تقرير السيّد الاُستاذ والمستشعر من بعض عبارات الشيخ الكاظميّ(قدس سره). والمبنى الثاني هو الظاهر من جلّ عبارات الشيخ الكاظميّ(رحمه الله). وعلى كلّ من المبنيين يمكن توجيه تفصيل المحقّق النائينيّ في المقام بوجه فنّيّ:

أمّا على المبنى الأوّل ـ وهو: أنّ العلم إنّما نجّز الجامع، وأمّا الخصوصيّتان فقد تنجّزتا بالاحتمال بعد تعارض الاُصول وتساقطها ـ فالوجه الفنّيّ لعدم تأثير الظنّ بنفسه في تعيين الامتثال هو: أنّ المقدار المنجّز بالعلم إنّما هو الجامع، وخصوصيّة

678

الفردين لولا الاضطرار إلى ترك أحدهما كانت تتنجّز بالاحتمال، ولكن مع الاضطرارلا يتنجّز شيء من الخصوصيّتين بذلك؛ إذ تنجيز الاحتمال لكلتا الخصوصيّتين غير معقول، ولأحدهما دون الاُخرى ترجيح بلا مرجّح، وتنجيز الظنّ لمتعلّقه خلف مبنى المحقّق النائينيّ، فإنّ هذا هو الحكومة عند الآخوند التي لم يقبل بها المحقّق النائينيّ، والامتثال إنّما هو فرع التنجيز الذي عرفت كونه مفقوداً في المقام، إذن فتعيين الظنّ للامتثال في جانبه الذي هو الحكومة عند المحقّق النائينيّ غير معقول في الشبهات الحكميّة، وإنّما كان معقولاً في الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ الواقع بتمامه كان قد تنجّز بالعلم. إذن فتعيّن جانب الظنّ للامتثال في الشبهة الحكميّة يجب أن يكون بوجه آخر، كأن يدّعى أنّ الرخصة في ترك الاحتياط التامّ بالإجماع إنّما انصبّت ابتداءً على المشكوكات والموهومات دون المظنونات.

فهذا وجه فنّيّ للتفصيل بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة، وافتراض كونه هو المقصود للمحقّق النائينيّ(رحمه الله)يكون بحاجة إلى التجاوز عمّا يوحي إليه عنوان تعدّد الحكم ووحدة الحكم المصرّح به في تقرير السيّد الاُستاذ والمفهوم تصريحاً أو تلويحاً(1) من تقرير الشيخ الكاظميّ، وتوجيهه بمعنى ينطبق على معنى الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، وهذا توجيه معقول في المقام بأن يقال: إنّ المقصود بتعدّد الحكم ليس هو تعدّد الحكم المعلوم بالإجمال، بل تعدّد الشيء المنجّز، فيدخل مثل العلم الإجماليّ بحكم واحد كالظهر أو الجمعة ـ مثلاً ـ في فرض تعدّد الحكم؛ لأنّ الذي ينجّز في المقام حكمان: وجوب الظهر ووجوب الجمعة، وتنحصر وحدة الحكم


(1) استفادة التلويح بذلك من تقرير الشيخ الكاظميّ مشكل فضلاً عن التصريح.

679

في فرض الشبهة الموضوعيّة كالعلم بوجوب الصلاة إلى القبلة والشكّ في جهة القبلة.

وتعدّد الحكم بهذا المعنى الذي ذكرناه قد يوجد في الشبهة الموضوعيّة أيضاً، فتلحق في المقام بالشبهة الحكميّة لاشتراكها مع الشبهة الحكميّة في النكتة، وهي: أنّ المنجّز بالعلم إنّما هو الجامع لا الواقع بحدوده، مثاله: ما لو علمنا إجمالاً بنجاسة هذا الماء أو غصبيّة ذاك الماء، وكذلك ما لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين بناءً على مبنى من يقول بأنّ وجوب الاجتناب عن النجس ينحلّ إلى عدّة أحكام بعدد ما تتواجد من أفراد الموضوع خارجاً(1).

نعم، هذا التفسير الذي فرضناه لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لا يناسب المثال الموجود في كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله)، حيث مثّل بالشبهة الحكميّة وهو دوران الأمر بين الظهر والجمعة، فبناءً على حمل كلام المحقّق النائينيّ على التفسير الذي ذكرناه، كان ينبغي أن لا يقتصر المحقّق النائينيّ في إشكاله على الشيخ برفض تطبيقه للحكومة على ما نحن فيه، بل يناقش أيضاً في أصل تصوير الشيخ للحكومة في المثال الذي ذكره.

وإذا تجاوزنا هذا أيضاً لم نجد في أجود التقريرات ما ينافي التوجيه الذي شرحناه لكلام المحقّق النائينيّ(قدس سره). نعم، نجد في تقرير الشيخ الكاظميّ(رحمه الله) أمرين ينافيان هذا التوجيه:

الأوّل: ما جاء في تقريره من تعليل بطلان الحكومة في المقام بأنّ الإجماع


(1) ولعلّ هذا هو السرّ في التعبير في أجود التقريرات بالحكم الواحد والمتعدّد بدلاً عن الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، فإنّه في مثال العلم الإجماليّ بنجاسة هذا الماء أو غصبيّة ذاك، وكذلك العلم الإجماليّ بالنجاسة بناءً على الانحلال بعدد الأفراد الخارجيّة لا يصدق عنوان الشبهة الحكميّة، ولكن يصدق عنوان تعدّد الشيء المنجّز.

680

منعقد على بطلان الامتثال الاحتماليّ(1)، بينما نتيجة التوجيه الذي ذكرناه هي القول بعدم معقوليّة الحكومة في نفسها في الشبهات الحكميّة بغضّ النظر عمّا هو مفاد الإجماع.

والثاني: ما جاء في تقريره أيضاً من أنّه بناءً على تنزّل العقل من الاحتياط التامّ إلى التبعيض في الاحتياط يعيّن العقل الأخذ بجانب الظنّ(2)، وهذا ينافي ما ذكرناه في الوجه الماضي: من عدم حجّيّة الظنّ في تعيينه لمورد الامتثال، وأنّ تعيّن العمل بالمظنون يجب أن يكون بنكتة اُخرى.

وأمّا على المبنى الثاني ـ وهو: أنّ العلم الإجماليّ يقتضي بنفسه تنجيز كلتا الخصوصيّتين ـ فهناك وجهان فنّيّان لتوجيه التفصيل بين الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة:

الوجه الأوّل: أن يقال ـ بعد البناء على أنّ الاضطرار إلى ترك أحد الفردين يؤدّي إلى استحالة تنجيز العلم الإجماليّ لكلتا الخصوصيّتين المفروض الترخيص في إحداهما ـ: إنّ العلم الإجماليّ يسقط بطروّ الاضطرار إلى أحد الفردين عن تنجيزه لأيّ واحدة من الخصوصيّتين إذا كانت نسبة العلم الإجماليّ إليهما على حدّ سواء؛ وذلك لأنّ تنجيزه لهما معاً محال بحسب الفرض، وتنجيزه لإحداهما دون الاُخرى ترجيح بلا مرجّح. أمّا إذا كان العلم الإجماليّ أقرب إلى إحدى الخصوصيّتين بأن كان أحد الفردين مظنوناً والآخر موهوماً، فهنا العلم الإجماليّ ينجّز خصوص الجانب الذي يكون أقرب إليه دون الجانب الآخر، ولا يلزم الترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ الظنّ هنا هو المرجّح، وهذا يعني أنّ تعيّن الأخذ بالجانب


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 90.

(2) المصدر السابق، ص 92.

681

المظنون كان بحكم العقل بلا حاجة إلى نكتة خارجيّة، ولكنّ فرقه عن العمل بالظنّ في الشبهة الموضوعيّة هو: أنّ الظنّ ليس هو الذي عيّن بنفسه مورد امتثال تكليف منجّز كما في الشبهة الموضوعيّة، وإنّما دوره دور ترجيح أحد التنجيزين لنفس العلم على التنجيز الآخر له عند تعارضهما بالاضطرار إلى ترك أحد الفردين، فقد تعيّن الامتثال الظنّيّ لا لحجّيّة الظنّ في عالم الامتثال، بل لتنجيز العلم الإجماليّ خصوص الجانب المظنون، وحجّيّة الظنّ في عالم الامتثال هي التي نسمّيها بالحكومة، أمّا العمل بالظنّ في الشبهات الحكميّة لأجل الترجيح الذي عرفت، فهو تبعيض في الاحتياط وإن كان العقل هو الذي حكم بضرورة العمل بالظنّ.

وبهذا البيان ترتفع المنافاة بين توجيهنا لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، والأمر الثاني من الأمرين اللذين نقلناهما عن تقرير الشيخ الكاظميّ(قدس سره).

الوجه الثاني: مبنيّ على القول بأنّ العلم الإجماليّ لا يسقط بطروّ الاضطرار إلى أحد الفردين عن تنجيزه للخصوصيّتين، بل تبقى الخصوصيّتان منجّزتين حتّى بعد الاضطرار، ويقع التزاحم بين تكليفين احتماليّين منجّزين، وهو يشبه التزاحم بين التكليفين المنجّزين بالقطع، كما في مثال الإزالة والصلاة في الوقت مع العجز عن الجمع بينهما، إلّا أنّ التزاحم هنا ليس بين تكليفين قطعيّين، بل بين تكليفين محتملين، ويرجع عندئذ إلى مرجّحات باب التزاحم، فكما أنّ الأهمّـيّة مرجّحة في باب تزاحم التكليفين القطعيّين، كذلك هي مرجّحة في تزاحم التكليفين المحتملين المنجّزين. والأهمّـيّة تارةً تكون باعتبار المحتمل بمعنى أقوائيّة الغرض، واُخرى باعتبار الاحتمال بمعنى أقوائيّة الاحتمال لكون هذا مظنوناً وعدله الآخر موهوماً، فيقدّم المظنون بحكم العقل، ولكن لا لأجل كون الظنّ ابتداءً معيّناً لمورد الامتثال بعد التنزّل عن الامتثال القطعيّ كما في الشبهات

682

الموضوعيّة وهو الحكومة، بل لأجل كون الظنّ مرجّحاً لأحد التكليفين المحتملين المنجّزين على الآخر. وعلى هذا أيضاً لا تنافي بين توجيهنا لمراد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) وما مضى: من الأمر الثاني من الأمرين اللذين نقلناهما عن تقرير الشيخ الكاظميّ(قدس سره).

ولو نوقش في مرجّحيّة الظنّ في باب التزاحم بأنّ الظنّ والوهم ظنّ ووهم للعبد لا للمولى، فلا يحكم العقل باهتمام المولى بجانب المظنون أكثر من اهتمامه بجانب الموهوم، فهذا النقاش في خصوص ما نحن فيه لا يجري، فإنّ كلامنا إنّما هو في معظم أحكام الفقه لا في مثل حكم واحد، وعادة لا يحتمل كون مجموع وهميّات الشخص في معظم الأحكام أقرب من مجموع ظنّيّاته، فالعقل يحكم جزماً بكون اهتمام المولى في جانب المظنونات أشدّ من اهتمامه في جانب الموهومات.

ويستخلص من تمام ما ذكرناه: أنّ حجّيّة الظنّ عقلاً لها معان أربعة:

1 ـ حجّيّته في مقام التنجيز كالقطع، وهذه هي الحكومة عند المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).

2 ـ حجّيّته في مقام الامتثال بعد التنزّل عن الامتثال القطعيّ.

3 ـ حجّيّته بمعنى مرجّحيّته لتأثير العلم الإجماليّ ما يقتضيه من التنجيز في أحد الطرفين عليه في الطرف الآخر.

4 ـ حجّيّته بمعنى مرجّحيّته لأحد التكليفين المحتملين المنجّزين على الآخر.

والمعنى الثاني هو الحكومة عند المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وموردها الشبهة الموضوعيّة دون الحكميّة. هذا ما أستشفّه من وراء العبائر المشوّشة الموجودة في تقريري بحثه، وأكاد أجزم أنّ هذا هو مراد المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

أمّا إذا بنينا على أنّ مقصود المحقّق النائينيّ هو التفصيل بين حكم واحد والأحكام المتعدّدة لا التفصيل بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، فالتوجيه الفنّيّ

683

لذلك منحصر في البناء على تصوير الإجماع على عدم الاحتياط التامّ بالنحو الذي يوجد في تقرير السيّد الاُستاذ، وهو الإجماع على ترك الاحتياط في خصوص المشكوكات والموهومات، لا بالنحو الذي يوجد في تقرير الشيخ الكاظميّ: من الإجماع على عدم وجوب الاحتياط التامّ.

وحاصل التوجيه الفنّيّ عندئذ للتفصيل بين الحكم الواحد والأحكام المتعدّدة هو: أنّ العمل بالظنّ تعيّن فيما نحن فيه لا من باب وجوب الطاعة الظنّيّة بعد التنزّل من الطاعة القطعيّة، بل من باب أنّ مقتضى العلم الإجماليّ هو الأخذ بالمظنونات والمشكوكات والموهومات معاً، والترخيص في المخالفة بحكم الإجماع إنّما جاء في خصوص المشكوك والموهوم، وبقي المظنون على حاله، فنأخذ به بسبب نفس ذلك العلم الإجماليّ في المقام، وهذا بخلاف الحكم الواحد، فإنّ الإجماع لم ينعقد فيه على جواز ترك خصوص الموهوم، فالأخذ فيه بالظنّ بعد تعذّر الامتثال القطعيّ إنّما يكون في باب الحكومة.

وأمّا بناءً على فرض الإجماع على عدم وجوب الاحتياط التامّ في كلّ الأطراف لا على جواز ترك الاحتياط في المشكوكات والموهومات بالخصوص، فلا يبقى توجيه فنّيّ للفرق بين الحكم الواحد والأحكام المتعدّدة، نعم نذكر هنا وجهين للفرق ولكنّهما ليسا فنّيّين:

الوجه الأوّل: ما يظهر من بعض عبائر الشيخ الكاظميّ(رحمه الله) في تقريره، وهو: أنّ الوجه في عدم كون الأخذ بالمظنونات فيما نحن فيه حكومة أنّ هذا ليس إطاعة ظنّيّة بالنسبة لكلّ حكم حكم، بل بالنسبة للأحكام المظنونة حصلت الإطاعة القطعيّة، وبالنسبة للأحكام المشكوكة والموهومة لم تحصل الإطاعة أصلاً(1). فإن


(1) هذا الكلام لم أجده في تقرير الشيخ الكاظميّ(رحمه الله) في مروري السريع على عبائره.

684

بنينا على هذا الكلام المستفاد من بعض عبائر الشيخ الكاظميّ أمكن الفرق بين الحكم الواحد وما نحن فيه؛ إذ لو كان هناك حكم واحد واُخذ فيه لدى الامتثال بجانب الظنّ دون الوهم فلا محالة قد حصلت الإطاعة الظنّيّة لذلك.

ولكنّك ترى أنّ هذا الوجه وإن اشتمل على فرق جوهريّ بين الحكومة والتبعيض في الاحتياط إن لاحظنا كلّ حكم حكم، وهو: أنّ في الحكم الواحد حصلت الإطاعة الظنّيّة، وهنا في كلّ واحد من الأحكام لم تحصل الإطاعة الظنّيّة، وإنّما علمنا بالإطاعة في البعض وبعدمها في البعض، ولكن لماذا لا نلحظ مجموع الأحكام المعلومة بالإجمال، فإذا كانت الإطاعة باعتبار المجموع ظنّيّة نسمّي ذلك بالحكومة ؟ فبالأخرة عاد الفرق بين الحكومة والتبعيض في الاحتياط إلى مجرّد اصطلاح من غير محتوى فنّيّ.

الوجه الثاني: أن يكون المقصود بعدم حصول الإطاعة الظنّيّة فيما نحن فيه هو: أنّ العمل بالمظنونات مع ترك المشكوكات لا يؤدّي إلى الظنّ بالامتثال في مجموع الأحكام؛ لحصول الشكّ في الإطاعة بالنسبة للمشكوكات، والنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات. والظاهر أنّ الذي فهمه الشيخ الكاظميّ من مراد المحقّق النائينيّ هو هذا لا الأوّل كما يظهر ذلك من بعض عبائره الاُخرى(1). وبناءً على هذا الوجه أيضاً يظهر الفرق بين الحكم الواحد وما نحن فيه؛ إذ في الحكم الواحد حينما يؤخذ بجانب الظنّ تحصل لا محالة الإطاعة المظنونة بالنسبة له.

ولكن عدم فنّيّة هذا الوجه في مقام التفرقة في غاية الوضوح؛ لوضوح عدم اشتمال ذلك على فارق جوهريّ بين الحكومة والتبعيض في الاحتياط، وليس هذا عدا مجرّد اصطلاح محتواه غير الفنّيّ عبارة عن أنّه إن كان التنزّل من الإطاعة


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 101.

685

التفصيليّة إلى الإطاعة الظنّيّة سمّي ذلك بالحكومة، وإن كان التنزّل إلى درجة أقلّ من الإطاعة الظنّيّة لم يسمّ بالحكومة وسمّي بالتبعيض في الاحتياط.

وعلى أيّ حال، فهذا الكلام ـ أعني: دعوى عدم حصول الإطاعة الظنّيّة بالأخذ بالمظنونات ما لم تضمّ إليها المشكوكات ـ يرد عليه:

أوّلاً: أنّ الجمع بين المظنونات والمشكوكات أيضاً لا يكفي لتحصيل الظنّ بالامتثال، فترك الموهومات أيضاً يضرّ بتحصيل الظنّ؛ لأنّ وجود الحكم في كلّ مورد من تلك الموارد وإن كان موهوماً لكن يتقوّى لا محالة احتمال وجود بعض التكاليف في تمام دائرة الموهومات بحساب الاحتمالات وضمّ احتمال إلى احتمال.

وثانياً: أنّه لا ينبغي حساب مجموع الأحكام الواقعيّة في المقام، وإنّما ينبغي حساب خصوص المقدار المنجّز بالعلم الإجماليّ، فإذا علمنا إجمالاً بمئة تكليف مردّدة بين مئة مظنونة، ومئة مشكوكة، ومئة موهومة، فعلمنا بالمئة المظنونة، حصل لنا الظنّ لا محالة بامتثال مئة تكليف.

والتحقيق: أنّ ميزان المطلب هو أن يُرى أنّنا هل نظنّ بوجود مئة تكليف ـ وهو المقدار المعلوم بالإجمال ـ في الموارد المظنونة التي هي مئة مثلاً، أو لا بأن احتملنا احتمالاً متساوي الطرفين خطأ بعض تلك المظنونات بحيث تكون الظنون المصيبة للواقع أقلّ من مئة، أو ظننّا بذلك، أو قطعنا به، فإنّ وجود ظنون باُمور لا ينافي احتمال خطأ بعض تلك الظنون احتمالاً متساوياً أو راجحاً أو القطع بذلك. فعلى الأوّل يحصل الظنّ بالامتثال بالمقدار المنجّز، وعلى الثاني لا يحصل الظنّ بذلك.

بقي الكلام فيما وعدناه: من بحث الجواب الوارد في أجود التقريرات(1) عن


(1) ج 2، ص 139.

686

الإشكال على الشيخ الأعظم(رحمه الله)بأنّ العمل بالمظنونات لا يستلزم الظنّ بالامتثال؛لأنّنا مادمنا تركنا المشكوكات إذن نحتمل احتمالاً متساوي الطرفين عدم امتثال قسم من الأحكام، والنتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.

والجواب الذي جاء في أجود التقريرات هو: أنّ الشيخ الأعظم(رحمه الله)قد فرض الإجماع على جواز ترك الاحتياط في خصوص المشكوكات والموهومات، فلم يبق إلّا المظنونات، فتصحّ دعوى حصول الامتثال الظنّيّ بالعمل بالمظنونات.

أقول: إنّ هذا الجواب ليس له محصّل سواء اُريد بحصول الامتثال الظنّيّ الامتثال الظنّيّ لما يوجد في الواقع من أحكام، أو الامتثال الظنّيّ للمقدار المعلوم بالإجمال، أو الامتثال الظنّيّ للمقدار الباقي تحت التنجّز بعد الإجماع على الترخيص في مخالفة المظنونات والموهومات:

فإن قصد الأوّل ـ وهو الظنّ بامتثال ما يوجد في الواقع من أحكام ـ فمن الواضح أنّه لا أثر للإجماع على الترخيص الظاهريّ في المشكوكات والموهومات في حصول الظنّ بالواقع وعدمه، فسواء فرضنا الإجماع على الترخيص الظاهريّ في خصوص المشكوكات والموهومات، أو فرضنا الإجماع على مجرّد عدم وجوب الاحتياط التامّ، أو أنكرنا الإجماع رأساً صحّ القول بأنّ ترك المشكوكات يؤدّي إلى عدم الظنّ بامتثال مجموع الأحكام الواقعيّة؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدمات.

وإن قصد الثاني ـ وهو الظنّ بامتثال المقدار المنجّز ـ فأيضاً لا أثر لفرض الإجماع على جواز ترك الاحتياط في المشكوكات والموهومات في ذلك، بل سواء فرض الإجماع على ذلك، أو فرض الإجماع على مجرّد عدم وجوب الاحتياط التامّ، أو أنكرنا الإجماع رأساً يكون المقياس هو ما مضى منّا: من أنّنا إن ظننّا بوجود مقدار المعلوم بالإجمال في المظنونات حصل بالعمل بها الظنّ بامتثال ذاك المقدار، وإلّا فلا.

687

وإن قصد الثالث ـ وهو الظنّ بامتثال المقدار الباقي تحت التنجيز ـ فمن الواضح أنّه بعد خروج المشكوكات والموهومات عن التنجيز يكون العمل بالمظنونات مؤدّياً للقطع بامتثال الباقي تحت التنجيز لا الظنّ به.

ثُمّ إنّك قد عرفت وجوه تفسير مراد المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في معنى الحكومة بنحو يفترق عن معنى التبعيض في الاحتياط. ونقول ـ بالرغم من فنّيّة جملة منها إلى حدٍّ مّا ـ: إنّ الصحيح في معنى الحكومة هو ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)، وهو المعنى الأوّل من المعاني الأربعة التي مضت لحجّيّة الظنّ، أعني: تنجيز الظنّ للتكليف، وباقي المعاني حتّى المعنى الثاني، وهو حجّيّة الظنّ في مرحلة الامتثال، لا يخرج بحسب الحقيقة عن كونه لوناً من ألوان التبعيض في الاحتياط. وإن وجد فارق جوهريّ بين وجوه الرجوع إلى الظنّ، فقد يكون الوجه فيه حجّيّته في مقام الامتثال، وقد يكون الوجه فيه مرجّحيّته بأحد المعنيين السابقين، وقد يكون الوجه فيه اختصاص الترخيص الثابت بالإجماع في المخالفة بخصوص غير المظنونات، فكلّ واحد من الوجوه رغم الفوارق الموجودة فيما بينها يكون راجعاً إلى التبعيض في الاحتياط، وإنّما الشيء الذي يقابل التبعيض في الاحتياط عند الامتثال هو ملاحظة الظنّ في غير عالم الامتثال وهو عالم التنجيز.

 

688

 

تنقيح الكلام في مقدّمات الانسداد

وبعد هذا نأتي إلى تنقيح الكلام في مقدّمات دليل الانسداد، ونتكلّم بحسب ترتيب الكفاية للمقدّمات فنقول:

 

1 ـ العلم الإجماليّ بالأحكام:

المقدّمة الاُولى: وجود العلم الإجماليّ بأحكام في الشريعة، وقد مضى أنّ هذا ليس مقدّمة بنفسه في عرض سائر المقدّمات، وإنّما هو دليل من الأدلّة التي قد يستدلّ بها على بعض المقدّمات الاُخرى كإبطال البراءة. وسنبحث ذلك ـ إن شاء الله ـ في ضمن المقدّمة الثالثة التي سنذكر فيها وجه بطلان الرجوع إلى البراءة.

 

2 ـ انسداد باب العلم والعلميّ:

المقدّمة الثانية: انسداد باب العلم والعلميّ، أي: الأمارة الثابتة حجّيّتها بدليل خاصّ.

لا إشكال في أنّ باب العلم والعلميّ ليس منفتحاً في جميع الأحكام الشرعيّة حتّى عند أوسع الناس مذاقاً في باب الحجّيّة، كأن يقول بحجّيّة الخبر والشهرة والإجماع المنقول، ونحو ذلك من الأمارات، كما لا إشكال في أنّ باب العلم والعلميّ ليس منسدّاً في جميع الأحكام الشرعيّة حتّى عند أضيق الناس مذاقاً في باب الحجّيّة، أمّا العلم فموجود بالنسبة لجملة من الأحكام القطعيّة الثابتة جزماً في الشريعة الإسلاميّة. وأمّا العلميّ فأيضاً كذلك؛ إذ لا أقلّ من حجّيّة الظنّ القويّ الواصل إلى مرتبة الاطمئنان، وهذا موجود في بعض الأحكام التي تظافرت عليها

689

الأخبار بدرجة أوجبت الاطمئنان. إذن فليس الانسداد المطلق صحيحاً ولا الانفتاح المطلق صحيحاً، وإنّما عقدت هذه المقدّمة لبيان أنّه هل يكون باب العلم والعلميّ منفتحاً بدرجة تضرّ بغرض من يتمسّك بدليل الانسداد، أو لا ؟ فلنذكر هنا كلامين:

أحدهما: أنّه متى يضرّ الانفتاح بغرض المستدلّ بدليل الانسداد، ومتى لا يضرّ ؟

والثاني: أنّه هل ثبت الانفتاح بالنحو المضرّ بغرضه، أو لا ؟

أمّا الكلام الأوّل: فالانفتاح إنّما يضرّ بغرض الانسداديّ في حالتين:

الحالة الاُولى: حصول الانفتاح في دائرة الأحكام الإلزاميّة في نطاق واسع بحيث لا يبقى في المقدار الباقي تحت الانسداد مانع عن الرجوع فيها إلى البراءة: من علم إجماليّ، أو إجماع، أو لزوم الخروج من الدين.

الحالة الثانية: حصول الانفتاح في دائرة الأحكام الترخيصيّة بدرجة تنفي المانع من الاحتياط في الباقي: من لزوم العسر والحرج.

وفي هاتين الحالتين نرجع إلى الاُصول المؤمّنة، أو الاحتياط، ولا تصل النوبة إلى الظنّ المطلق.

وأمّا الكلام الثاني: فإن لاحظنا باب العلم الوجدانيّ فلا إشكال في أنّ المقدار المعلوم بالعلم التفصيليّ من الأحكام ليس بمقدار يضرّ وحده بغرض الانسداديّ، فإنّ ذلك لا يعدو ضروريّات الدين وما كان ثابتاً بدليل قطعيّ سنداً ومتناً ودلالة، ومثل هذا قليل جدّاً، ولو ضمّ إلى المعلومات التفصيليّة ما سيأتي إن شاء الله: من المعلومات بالعلوم الإجماليّة الصغيرة جاء احتمال وفاء ذلك بالمقدار المضرّ بغرض الانسداديّ، ولكن لا يبعد عدم الوفاء بذلك أيضاً في مثل زماننا ولو فرض

690

وفاؤه بذلك في أعصر سابقة كعصر السيّد المرتضى(رحمه الله)(1)، فإنّ طول الزمان له أثرفي دائرة انفتاح العلم وحدوده.

وإن لاحظنا باب العلميّ: فإن فرضنا أنّه ثبتت عندنا حجّيّة خبر الواحد والظواهر ـ كما هو الصحيح ـ فباب العلميّ مفتوح بالدرجة التي تضرّ بغرض الانسداديّ من دون فرق بين أن نقول بأنّ ملاك حجّيّة خبر الواحد هو وثاقة


(1) المقصود طبعاً هو افتراض انفتاح باب العلم في أعصر سابقة كعصر السيّد المرتضى بالمقدار المضرّ بغرض الانسداديّ لا الانفتاح المطلق. وأمّا ما يوجد في كلام السيّد المرتضى(رحمه الله): من دعوى انفتاح باب العلم بالأحكام إطلاقاً، فقد أفاد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ الظاهر أنّ مقصوده ليس هو انفتاح العلم بالأحكام الواقعيّة، فإنّ دعوى انفتاح باب العلم إلى جلّ الأحكام مشكلة حتّى بالنسبة لزمان حضور الإمام(عليه السلام)، إلّا لقليل من الناس الذين يخالطون الأئمّة(عليهم السلام)ويعاشرونهم من قرب، فضلاً عن مثل زمان السيّد المرتضى، ولا شكّ في أنّ نفس السيّد المرتضى كان يشكّ أحياناً في الحكم فيرجع إلى الاُصول، وإنّما مراده الواقعيّ ـ ولو ارتكازاً ـ هو انفتاح باب العلم في تمام المسائل إلى الجامع بين الحكم الواقعيّ والوظيفة العمليّة، وإن لم يوضّح ذلك تماماً نتيجة عدم وضوح فكرة التمييز بين الاُصول العمليّة والأدلّة الاجتهاديّة في تلك الأعصر.

وبكلمة اُخرى: إنّ كلام السيّد المرتضى(رحمه الله) في المقام إنّما هو من سنخ ما كانوا يقولون: إنّ الأحكام كلّها عندنا قطعيّة بخلاف العامّة الذين يتمسّكون بالدليل الظنّيّ كالقياس والاستحسان، ونحن دائماً نعتمد على الدليل المورث للقطع بالحكم، وأدلّة الأحكام عندنا أربعة، وهي جميعاً قطعيّة، وهي الكتاب، والسنّة القطعيّة، والإجماع، والعقل، وأوّل مثال كانوا يذكرونه لدليل العقل هو البراءة، وذكر ابن إدريس في بيان منهجه في الكتاب: إنّ منهجي في الاستدلال موافق لمنهج قدماء مشايخنا، واستشهد بكلمات السيّد المرتضى، وذكر أنّنا لا نجيز في مسلكنا الإفتاء على أساس دليل ظنّيّ، بل دائماً نفتي على أساس دليل قطعيّ: من كتاب، أو سنّة، أو إجماع، أو عقل.

691

الراوي أو موثوقيّة المضمون، فعلى كلا التقديرين يوجد العدد الكافي الموجب لرفع المانع عن جريان الاُصول المؤمّنة في غير موارد تلك الأخبار.

وإن فرضنا أنّه لم تثبت لدينا حجّيّة خبر الواحد ولا الظهور، فمن الواضح أنّ باب العلميّ يكون منغلقاً في المقام؛ إذ لا يبقى لدينا علميّ عدا الاطمئنان الشخصيّ، وهو قليل لا يضرّ بغرض الانسداديّ.

وأمّا إن قلنا بحجّيّة أحدهما دون الآخر، فعندئذ إن كان المانع عن جريان البراءة هو العلم الإجماليّ، فالظاهر أنّ هذا لا يوجب رفع المانع، فالظواهر القطعيّة الصدور وحدها لا تكفي؛ لأنّنا نعلم إجمالاً بوجود أحكام إلزاميّة كثيرة اُخرى في ضمن أخبار الوسائل غير المتواترة. وأخبار الآحاد المعتبرة الصريحة وحدها أيضاً لا تكفي؛ لأنّنا نعلم أنّ كثيراً من الظواهر الإلزاميّة مقصودة واقعاً، فلابدّ من حجّيّة خبر الواحد والظهور معاً كي يؤدّي ذلك إلى إبطال غرض الانسداديّ.

نعم، ما يذكر من المانعين الآخرين عن جريان البراءة غير العلم الإجماليّ، وهما: الإجماع، ومحذور الخروج عن الدين، لا يبعد ارتفاعهما بحجّيّة أحد الأمرين، أعني: الظهور وخبر الواحد، بأن يقال: إنّ الإنسان لو عمل بتمام ما دلّت عليه ظواهر الآيات والسنّة المتواترة، أو بتمام الأخبار المعتبرة الصريحة، وأضافها إلى القطعيّات، لم يبق قطع ضروريّ له بعدم رضا الشارع بإجراء الاُصول المؤمّنة في الأطراف الاُخرى، ولا قطع له بالإجماع أيضاً.

 

3 ـ عدم جواز إهمال الأحكام:

المقدّمة الثالثة: عدم جواز إهمال التكاليف الواقعيّة، وقد قلنا: إنّ هذه المقدّمة وضعها الفنّيّ غير تامّ؛ إذ لو اُريد بها عدم جواز إجراء البراءة فهي جزء من المقدّمة الرابعة. ولو اُريد بها وجوب التعرّض لتكاليف المولى وتعيين الموقف العمليّ

692

تجاهها سواء كان هذا الموقف هو البراءة أو الاحتياط أو أيّ شيء آخر، فهذا مرجعه إلى مولويّة المولى التي ينبغي أن يكون مفروغاً عنها من قبل. ولو اُريد بها عدم ارتفاع الأحكام بالانسداد وعدم نسخها، فحالها حال المقدّمة الاُولى.

إلّا أنّنا نفترض هنا أنّ المراد بهذه المقدّمة إبطال جريان البراءة وأنّه خصّصت البراءة بمقدّمة خاصّة في المقام، وعندئذ يقع الكلام في جريان البراءة وعدمه. والكلام في ذلك يقع في مقامين: أحدهما: في وجود المقتضي للبراءة وعدمه. والآخر: في وجود المانع عنها وعدمه بعد فرض ثبوت المقتضي لها.

 

المقتضي للبراءة:

أمّا المقام الأوّل ـ وهو في البحث عن وجود المقتضي للبراءة وعدمه ـ: فالبراءة العقليّة قد أنكرناها من أساسها بالتفصيل الماضي فيما سبق، وأمّا البراءة الشرعيّة: فإن فرض انحصار مدركها بمثل حديث الرفع الذي هو من أخبار الآحاد التي فرض عدم حجّيّتها وإلّا لانهدم أساس الانسداد، فلا يبقى دليل على أصالة البراءة، فلا مقتضي للبراءة أصلاً. وإن فرض استفادة البراءة من بعض الآيات القرآنيّة فإن قلنا بأنّ دلالة تلك الآيات عليها بالصراحة أو قلنا بحجّيّة الظهور فالمقتضي للبراءة تامّ، وإلّا فلا.

 

المانع عن البراءة:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو في البحث عن المانع بعد فرض تسليم المقتضي للبراءة ـ: فما يذكر مانعاً عن جريان البراءة في المقام اُمور ثلاثة:

الأوّل: الإجماع. وهو ثابت حتّى مع قطع النظر عن العلم الإجماليّ، أي: أنّنا جازمون بأنّه لا يرضى فقيه بجريان البراءة في تمام الشبهات لدى فرض

693

الانسداد حتّى على القول بعدم منجّزيّة العلم الإجماليّ، فهذا الوجه لا يكون راجعاً إلى الوجه الأخير وهو العلم الإجماليّ. وقد نوقش في هذا الإجماع بأنّه لا سبيل إلى الجزم به بعد أن كانت المسألة من المسائل المستحدثة، ولا علم لنا بذلك إلّا عن طريق تصريحاتهم، ولا تصريحات لهم في المقام.

والشيخ الأعظم(قدس سره) حاول إثبات الإجماع بالاستشهاد بكلمات جملة من الفقهاء واستظهار عدم رضاهم بجريان البراءة منها.

والواقع: أنّه لا مجال للتشكيك في هذا الإجماع، فإنّنا جازمون وجداناً بعدم رضا فقيه بإجراء البراءة في كلّ الشبهات لدى فرض الانسداد، إلّا أنّ هذا لا يفيدنا كدليل على المقصود في مقابل الوجه الثاني؛ لأنّ جزمنا بهذا الإجماع يكون في طول جزمنا بأصل ما انعقد عليه الإجماع، فإنّنا نرى أنّ عدم جريان البراءة في تمام هذه الشبهات يكاد يكون من ضروريّات الدين كعدم وجوب صلاة سادسة، وهذه الضرورة مقتنصة من ملاحظة مجموع ما جاء في الشريعة: من آيات وروايات وأفعال للأئمّة(عليهم السلام) ومقدار اهتمامهم بالأحكام وجهدهم في تثبيتها ونشرها، وحيث إنّنا نرى هكذا فلا نحتمل في فقيه مارس هذه الأفعال والأقوال وهذه الآيات والروايات أن لا يقتنص هذه القضيّة من هذا المجموع المركّب، ولولا جزمنا في الرتبة السابقة بصحّة أصل المطلب ـ كما عرفت ـ لم يكن لنا أيّ طريق إلى إثبات هذا الإجماع، فهذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى الوجه الثاني.

الثاني: لزوم الخروج عن الدين من إجراء البراءة في تمام الشبهات. وليس المراد بالخروج عن الدين في المقام الخروج عنه بنحو يساوق الكفر كي يقال: إنّ ترك الواجبات اليقينيّة لا يوجب الكفر فضلاً عن ترك الاحتياط في هذه الشبهات، كما أنّه ليس المراد بالخروج عن الدين في المقام وقوع المخالفة الكثيرة للدين كي يقال: إنّ المخالفة الكثيرة للدين إن كان المحذور الذي يتصوّر فيها عبارة عن

694

منافاتها لقانون منجّزيّة العلم الإجماليّ فهذا يرجع إلى الوجه الثالث، وإن فرض فيها محذور نفسيّ، أي: أنّ المخالفات الكثيرة في الشريعة لها حرمة وراء حرمة كلّ مخالفة مخالفة، فهذا ممّا لا دليل عليه، بل المراد من ذلك هو دعوى قيام الضرورة على أنّ الشارع لم يجعل أصالة البراءة في تمام هذه الشبهات، وهذا يصحّ ادّعاؤه واستفادته من مجموع ما جاء في الشريعة: من أقوال وأفعال وما عرف من مقدار اهتمام الشارع بالأحكام. وهذا الوجه تامّ في المقام.

الثالث: العلم الإجماليّ. ويقع الكلام فيه تارةً: في انحلاله حقيقة أو حكماً وعدمه، واُخرى: في أنّه على تقدير عدم الانحلال ما هو دوره في دليل الانسداد وأثره على اقتناص النتيجة من المقدّمات ؟ فالكلام يقع في جهتين:

 

انحلال العلم الإجماليّ بالتكاليف:

الجهة الاُولى: في انحلال هذا العلم حقيقة أو حكماً وعدمه، وما قيل أو يمكن أن يقال في تقريب انحلاله وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ بتكاليف في دائرة مطلق الشبهات منحلّ بالعلم الإجماليّ بتكاليف في دائرة مطلق الأمارات: من الأخبار والشهرات والإجماعات ونحو ذلك، ببرهان: أنّ المعلوم بالعلم الكبير ليس أزيد من المعلوم بالعلم الصغير، والذي يدلّنا على ذلك أنّ السبب في حصول العلم الكبير إنّما هو أحد أمرين:

الأوّل: العلم بأنّ الشريعة لا معنى لها بدون أحكام، وأنت ترى أنّه يكفي في تحقّق هويّة الشريعة وجود المقدار المعلوم بالعلم الإجماليّ في دائرة الأمارات، فهذا السبب لا يقتضي زيادة المعلوم بالعلم الكبير على المعلوم بالعلم الصغير.

والثاني: حساب الاحتمالات وتجمّعها بلحاظ الأمارات الظنّيّة القائمة في

695

الشبهات، وهذا هو بنفسه ملاك العلم الصغير فكيف يعقل أن يوجب ذلك زيادة المعلوم بالعلم الكبير على المعلوم بالعلم الصغير ؟!

والانحلال بهذا الوجه الذي عرفت يضرّ بغرض الانسداديّ؛ إذ معه لا يبقى مانع عن الاحتياط في أطراف هذا العلم الصغير وإجراء البراءة فيما عداها، ولا يلزم من هذا الاحتياط عسر ولا حرج.

ويقرب من هذا الاحتياط ما ذهب إليه جملة من الفقهاء، حيث بنوا على قاعدة حجّيّة الظنّ، وعملوا بتمام هذه الظنون في المقام ولم يلقوا عسراً ولا حرجاً.

الوجه الثاني: ما أفاده السيّد الاُستاذ من أنّ هذين العلمين ـ أعني: العلم بالتكاليف الإلزاميّة في دائرة الشبهات، والعلم بها في دائرة الأمارات ـ منحلاّن بعلم ثالث، وهو العلم بالتكاليف الإلزاميّة في خصوص دائرة الأخبار المعتبرة.

وقد مضى عين هذا الكلام فيما تكلّمنا عنه: من الدليل العقليّ على حجّيّة خبر الواحد، ومضى النقاش فيه بأنّ العلم المتوسّط في الحقيقة مأخوذ من علمين صغيرين في عرض واحد، وانحلاله بأحدهما ترجيح بلا مرجّح، وبكليهما خلف، ونقول بمثل ذلك فيما نحن فيه.

الوجه الثالث: أنّ هناك علوماً إجماليّة صغيرة في دائرة العلم الإجماليّ الكبير متشكّلة بنكات خاصّة، ولم يلحظها المحقّقون في المقام، من قبيل: العلم الإجماليّ بوجوب الظهر أو الجمعة، أو وجوب القصر أو التمام في بعض مسائل السفر الناشئ عن ملاك القطع الضروريّ بأصل وجوب الصلاة. وكذلك العلم الإجماليّ في دائرة المركّبات الارتباطيّة كالصلاة والصوم والحجّ، فإنّه لو اقتصر فيها على خصوص الأجزاء والشرائط المعلومة بالخصوص علمنا بالضرورة الفقهيّة والارتكاز القطعيّ بأنّ هذا ليس هو كلّ الواجب، بل أنّ هناك أجزاء اُخرى زائدة على المقدار المتيقّن، ولهذا ذكر في الوافية ـ على ما ينقل عنه في باب أدلّة حجّيّة

696

الخبر ـ: (أنّه لو اقتصرنا في ماهيّة العبادات على خصوص القطعيّ لقطعنا بالضرورة الفقهيّة بانسلاخها عن عناوينها الشرعيّة)، وهذا المطلب واضح في المقام. وملاك هذا العلم الإجماليّ هو قيام الضرورة الفقهيّة والإجماع القطعيّ على أنّ ماهيّة الصلاة والصوم ليست هي خصوص الأجزاء المعلومة، وهذه العلوم الإجماليّة تنجّز تمام أطرافها. وأضف إلى هذه العلوم الإجماليّة الناشئة عن ملاك ثبوت الجامع بمثل الضرورة الفقهيّة أو الدينيّة: العلوم الإجماليّة الناشئة عن ملاك دوران الأمر بين النفي والإثبات، من قبيل: ما لو باع شيئاً وشكّ في صحّة البيع وبطلانه، ولم يكن له دليل على أحد الأمرين، فيعلم إجمالاً إمّا بحرمة تصرّفه في الثمن، أو حرمة تصرّفه في المثمن؛ لأنّ البيع إمّا صحيح، أو لا، فإن كان صحيحاً حرم عليه التصرّف في الثمن، وإلّا حرم عليه التصرّف في المثمن. فإذا أضفنا إلى هذه العلوم الإجماليّة المقدار المعلوم بالعلم التفصيليّ، وخصوصاً مع إضافة الاطمئنانات الشخصيّة، فقد يقال: إنّ مثل هذا المقدار يبطل منجّزيّة المنجّز في المقام!

أمّا إذا كان المنجّز في المقام هو الإجماع أو لزوم الخروج عن الدين، فهذا يوجب بطلان المنجّز حتماً؛ إذ لا قطع لنا بإجماع أو بضرورة على عدم جواز جريان البراءة فيما بقي بعد الأخذ بالمعلومات التفصيليّة والإجماليّة بقطع النظر عن إشكال العلم الإجماليّ الكبير.

وأمّا إذا كان المنجّز هو العلم الإجماليّ فقد يقال أيضاً بكون ذلك موجباً لإبطال المنجّز، بدعوى: أنّ مجموع ما عرفته من المقدار لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال في العلم الكبير. وهل هذا هو مراد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)حيث أبدى احتمال انحلال العلم الإجماليّ الكبير في المقام بالموارد المعلومة تفصيلاً مع ضمّ موارد الاُصول المثبتة؟ وإن استغرب من ذلك المحقّق النائينيّ(قدس سره) ومَن تأخّر عن صاحب الكفاية فيما نعلم.

697

ولا يخفى أنّنا لو لاحظنا خصوص مقدار المعلوم بالإجمال في هذه العلوم الإجماليّة الصغيرة منضمّـاً إلى المعلومات التفصيليّة فقد مضى منّا أنّه لا يبعد عدم انحلال العلم الكبير بها، وإنّما المدّعى هنا أنّه لا يبعد كون أطراف المعلوم بالعلوم الإجماليّة الصغيرة بمجموعها شاملاً لمساحة المعلوم بالعلم الكبير أو أوسع منها، وهذا يوجب الانحلال الحكميّ لا الحقيقيّ، وتوضيح ذلك: أنّه إذا كان المعلوم بالعلم الصغير أقلّ من المعلوم بالعلم الكبير فمجرّد كون أطراف المعلوم بالعلم الإجماليّ الصغير مساوياً أو أزيد من المعلوم بالعلم الكبير وإن كان لا يوجب الانحلال؛ لأنّ البراءة في خارج دائرة العلم الصغير تعارضه البراءة عن الزائد على المقدار المعلوم بالإجمال في دائرة العلم الصغير، ولكن في خصوص ما نحن فيه قد يقال: إنّ البراءة في خارج دائرة العلم الصغير لا تعارض بالبراءة عن الزائد على المقدار المعلوم بالإجمال في داخل دائرة العلم الصغير؛ إذ لا مجال لهذه البراءة في المركّبات الارتباطيّة، فإذا كان المعلوم بالتفصيل من الصلاة ثمانية أجزاء مثلاً، وعلمنا إجمالاً بأحد جزءين آخرين فلا معنى لإجراء البراءة عن ثاني الجزءين؛ إذ لا ثمرة لها، فإنّ ثمرة البراءة عن الزائد على الواحد هي عدم استحقاق المرتكب لأكثر من واحد عدا عقاب واحد ولو كان الحرام في الواقع أزيد من واحد، بينما في المركّبات الارتباطيّة لا يتعدّد العقاب بتعدّد الأجزاء المتروكة.

ولكن يرد على هذا التقريب: أنّه تظهر ثمرة البراءة في كفاية تكرار الصلاة والإتيان بها مرّتين يأتي في إحداهما بالأجزاء الثمانية المعلومة تفصيلاً مع الجزء التاسع، وفي الاُخرى بتلك الأجزاء الثمانية مع الجزء العاشر، فإنّه بناءً على إجراء البراءة عن الزائد على الواحد يجوز له الاكتفاء بهاتين الصلاتين ولا يلزمه الإتيان بصلاة واجدة لتمام الأجزاء العشرة، بخلاف ما لو لم تجر البراءة عن الزائد. هذا فيما يمكن فيه التكرار لسعة الوقت.