637

والجواب: أنّ قياس المقام بما عرفته من مثال الأواني قياس مع الفارق، فإنّ البراءة عن الزائد على الواحد ـ أي: عن التسعة الاُخرى في مثال الأواني ـ لم تكن معارضة بالبراءة عن أيّ فرد بالخصوص، أو فردين بالخصوص، أو ثلاثة، وهكذا إلى تسعة أفراد بالخصوص؛ لاحتمال كون ذاك الفرد أو تلك الأفراد المعيّنة داخلة في نفس التسعة المردّدة، فإجراء البراءة عنها لا يعارض البراءة عن التسعة، أي: عمّا عدا الواحد المعلوم. وبكلمة اُخرى: إنّ البراءة عن الزائد عن الواحد المعلوم إجمالاً لو ضمّت إلى أيّ واحدة من البراءات في الأفراد لم ينتج هذا الضمّ ترخيصاً في المخالفة القطعيّة. وأمّا فيما نحن فيه فالبراءة عمّا عدا العشرة تعارض البراءة عن التسعين المشتركة بين المئتين؛ لأنّ ضمّ البراءة عمّا عدا العشرة إلى البراءة عن التسعين المشتركة يوجب الترخيص القطعيّ في المخالفة.

وتوضيح ذلك: أنّ الزائد على العشرة وهي المئة التي تجري فيها البراءة إن فرض في علم الله منطبقاً على ما عدا عشرة من مادّة الاجتماع، فالبراءة عنها مع البراءة عن التسعين المشتركة تستوعبان كلّ مساحة العلم الإجماليّ من دائرة الأخبار ودائرة الشهرات، وهذا يعني مخالفة الواقع، وإن كان في علم الله منطبقاً على ما عدا العشرة التي يكون بعضها أو كلّها من مادّة الافتراق لزم أيضاً مخالفة الواقع؛ لأنّ المئة المرخّص فيها تشتمل حتماً على أكثر من تسعين خبراً، أو أكثر من تسعين شهرة، مع أنّنا نعلم ـ بحسب الفرض ـ أنّ الأخبار التي تزيد على التسعين، وكذلك الشهرات التي تزيد على التسعين يكون فيها ما هو صادق حتماً.

 

الدليل العقليّ والحجّيّة الشرعيّة:

وأمّا المقام الثاني ـ وهو: أنّ هذا الوجه لو فرض مختصّاً بباب الأخبار فهل يتّحد في النتائج والثمرات مع فرض الحجّيّة الشرعيّة للأخبار بحيث لا يبقى أثر

638

عمليّ بين فرض الإيمان بالحجّيّة وعدمه، أو لا؟ ـ: فهذا البحث في الحقيقة منعقد لبيان ما هي الوظيفة لدى معارضة الخبر لأصل عمليّ كالبراءة، والاحتياط، أو أصل لفظيّ، كأصالة العموم، وأصالة الحقيقة في الكتاب والسنّة القطعيّة، أو لخبر آخر مثله. فهناك مباحث ثلاثة:

 

مع الأصل العمليّ الفوقانيّ:

المبحث الأوّل: في ملاحظة حال هذا الخبر مع أصل عمليّ فوقانيّ. أفاد السيّد الاُستاذ في المقام: إنّهما إن كانا متوافقين إثباتاً أو نفياً فلا ثمرة بين القول بالحجّيّة وعدمه إلّا من حيث إثبات اللوازم وعدمه؛ إذ على أيّ حال سنعمل وفق ذلك الخبر، إمّا لحجّيّته، أو لحجّيّة الأصل. وإن كانا متخالفين: فإن كان الخبر إلزاميّاً، والأصل ترخيصيّاً، فلا ثمرة أيضاً بين القولين، فإنّه على أيّ حال يقدّم الخبر على الأصل، إمّا لحجّيّته وحكومته على الأصل، أو للعلم الإجماليّ الموجب لتساقط الاُصول المرخّصة في الأطراف. وإن كان الخبر ترخيصيّاً، والأصل إلزاميّاً ظهرت الثمرة بين القولين؛ إذ على القول بالحجّيّة يتقدّم الخبر على الأصل، وعلى القول بعدم الحجّيّة لابدّ من العمل بالأصل الإلزاميّ؛ إذ لا مبرّر لسقوطه.

أقول: إنّنا قبل أن نشرح كلامنا حول هذا الموضوع نقدّم مقدّمة في المقام، وهي: أنّ لنا في الحقيقة علماً إجماليّاً في دائرة الأخبار الترخيصيّة، وهذا لا أثر له لا بالنسبة لتنجيز الواقع؛ لأنّ التنجيز في باب الترخيص لا معنى له، ولا بالنسبة لإيقاع المعارضة بين الاُصول في الأطراف، فإنّ تلك الاُصول لو كانت موافقة للعلم الإجماليّ فلا معنى للتعارض بينهما، ولو كانت مخالفة له فالاُصول المثبتة للإلزام لا تتعارض بالعلم الإجماليّ بالخلاف، ولا منافاة بين العلم بترخيص واقعيّ، ولزوم الاجتناب في تمام الأطراف ظاهراً، ولا فرق في ذلك بين ما جرى

639

على لسان الأصحاب تسميته بالأصل التنزيليّ وغيره.

إذا عرفت ذلك قلنا: تارةً نتكلّم في الخبر الموافق للأصل، واُخرى نتكلّم في الخبر المخالف له:

أمّا الخبر الموافق للأصل فإمّا أن يكون هو وأصله الفوقانيّ ترخيصيّين. وإمّا أن يكونا إلزاميّين:

فإن كانا ترخيصيّين فالعمل بالنسبة للمدلول المطابقيّ يكون موافقاً للخبر سواء قلنا بحجّيّة الخبر أو لا، فلا ثمرة في المقام بين القولين؛ إذ على الحجّيّة نعمل به، وعلى عدم الحجّيّة يكون عملنا على طبقه، فإنّ العلم الإجماليّ الثاني وإن لم يكن مؤثّراً في العمل على طبقه كما عرفت، لكنّنا سنعمل على أيّ حال وفق الأصل الفوقانيّ الموافق له بحسب الفرض. هذا بلحاظ المدلول المطابقيّ.

وأمّا بالنسبة للّوازم: فإن كان اللازم ترخيصيّاً: لاحظنا هذا اللازم مع الأصل الفوقانيّ في مورد هذا اللازم، فإن كان الأصل إلزاميّاً ظهرت الثمرة بين القولين؛ إذ على الحجّيّة نأخذ بالخبر، وعلى عدم الحجّيّة نأخذ بالأصل على تفصيل يأتي، ولا منافاة بين أن يكون الأصل في طرف المدلول المطابقيّ ترخيصيّاً وفي طرف اللازم إلزاميّاً؛ إذ لا محذور في التفكيك بين اللوازم في باب الاُصول.

وإن كان الأصل في طرف اللازم ترخيصيّاً كان العمل على أيّ حال موافقاً لهذا المدلول الإلزاميّ.

وإن كان اللازم إلزاميّاً: فإن كان أصله إلزاميّاً فعلى أيّ حال لابدّ من الأخذ بالإلزام، وإن كان أصله ترخيصيّاً قلنا: إنّ هذا اللازم في الغالب لا يكون منجّزاً من قبل العلم الإجماليّ في دائرة الأخبار، فإنّه وإن كان إلزاميّاً وكان طرفاً مع ملزومه للعلم الإجماليّ الثاني، لكن هذا العلم الإجماليّ أصبح علماً بالجامع بين الإلزام وغير الإلزام ولا أثر له. نعم، قد يفرض هذا اللازم باعتباره إلزاميّاً طرفاً أيضاً للعلم

640

الإجماليّ الأوّل، وهو العلم الإجماليّ بجملة من الإلزامات في الأخبار، لكنّه في الغالب لا يصلح طرفاً لذلك العلم، والملاك لطرفيّته له وعدمه موكول إلى بحث حساب الاحتمالات(1)، والضابط الإنّيّ لذلك هو: أنّنا لو رأينا أنّه لا يختلف الحال بذلك ـ وهو الغالب ـ فليس طرفاً للعلم الإجماليّ.

هذا كلّه فيما إذا كان المدلول المطابقيّ مع الأصل الفوقانيّ في مورده ترخيصيّين.

وأمّا إذا كانا إلزاميّين فلا تظهر ثمرة بين القولين بحسب المنطوق، فإنّه على أيّ حال يكون المدلول المطابقيّ منجّزاً إمّا بلحاظ حجّيّة الخبر، أو بلحاظ الأصل الإلزاميّ. وأمّا لازمه: فإن كان إلزاميّاً فلابدّ من الأخذ به حتّى على فرض عدم


(1) إن كان هناك مضعّف كيفيّ لاحتمال تكثّر الكذب يشمل الأخبار الإلزاميّة في مدلولها المطابقيّ، ومثل هذا الخبر الترخيصيّ الذي كان لازمه إلزاميّاً، ولا يشمل الأخبار الترخيصيّة التي ليس لها لازم إلزاميّ، أصبح هذا طرفاً للعلم الإجماليّ الأوّل بشرط أن تكون المضعّفات الكمّيّة الناتجة عن إضافة الأخبار الترخيصيّة التي لها مدلول التزاميّ إلزاميّ مع المضعّف الكيفيّ الشامل لتلك الأخبار كافية لتوسّع عدد المعلوم بالإجمال. أمّا لو لم يكن مضعّف كيفيّ من هذا القبيل، فالمضعّف الكيفيّ الشامل لجميع الأخبار الإلزاميّة والترخيصيّة ليس صالحاً لإيجاد علم أو اطمئنان إجماليّ خاصّ بالأخبار الإلزاميّة، فلا يكون هذا الخبر طرفاً لعلم إجماليّ في دائرة الأخبار الإلزاميّة. ولو كان مضعّف كيفيّ من هذا القبيل ولكن لم يكن بإضافة المضعّفات الكمّيّة الناجمة عن إضافة تلك الأخبار كافياً لتوسيع عدد المعلوم بالإجمال، فهذا أيضاً لا يحقّق طرفيّة هذا الخبر للعلم الإجماليّ الأوّل. وأمّا طرفيّته للاطمئنان الإجماليّ بالإلزام الناشئ من مجرّد المضعّف الكمّيّ فالصحيح أنّ الاطمئنان الإجماليّ الناشئ من مجرّد التجميع العدديّ للمحتملات ليس منجّزاً لدى العقلاء، وإنّما قيمته نفس قيمة الاحتمالات التي تكون بمجموعها مساوية للاطمئنان.

641

الحجّيّة، وإن فرض الأصل الجاري بالنسبة له نافياً فإنّه توأماً مع ملزومه طرف للعلم الإجماليّ الأوّل، فينجّز به لا محالة، فلا ثمرة بلحاظه بين القولين. وإن كان ترخيصيّاً: فإن كان الأصل الجاري بالنسبة لمورده أيضاً ترخيصيّاً فلا ثمرة أيضاً بين القولين، فإنّه على الحجّيّة نأخذ به، وعلى عدم الحجّيّة وإن كنّا لا نأخذ به بالرغم من طرفيّته للعلم الأوّل؛ لأنّ العلم الإجماليّ لا ينجّز الترخيصيّات، لكنّنا نأخذ بما يطابقه من الأصل. وإن كان الأصل إلزاميّاً ظهرت الثمرة؛ لأنّه بناءً على الحجّيّة نأخذ بالترخيص، أمّا بناءً على عدم الحجّيّة فالعلم الإجماليّ لا يؤثّر بالنسبة للطرف الترخيصيّ ولا يسقط أصله عن الحجّيّة. إذن فمادام الخبر غير حجّة لابدّ من الأخذ بالأصل على تفصيل يأتي.

هذا تمام الكلام في الخبر الموافق للأصل.

وأمّا الخبر المخالف للأصل الفوقانيّ فله ثلاث صور، فإنّه إمّا أن يكون إلزاميّاً والأصل الفوقانيّ ترخيصيّ، أو العكس، أو أنّهما إلزاميّان متخالفان:

أمّا الصورة الاُولى ـ وهي فرض كون الخبر إلزاميّاً والأصل ترخيصيّاً ـ: فتحقيق الحال فيها: أنّ هذا الخبر طرف للعلم الإجماليّ الأوّل وهو علم بالإلزام، فإن فرض وجود الأصل النافي في تمام أطراف ذلك العلم الإجماليّ تساقطت الاُصول، وكان مفاد هذا الخبر منجّزاً بالعلم الإجماليّ، وإلّا فعلى ما هو الحقّ: من صحّة جريان الأصل النافي المختصّ ببعض أطراف العلم الإجماليّ، لا يكون العلم الإجماليّ منجّزاً لمفاد هذا الخبر، ويختصّ تنجيزه بالموارد التي لا يوجد فيها أصل ناف. وكأنّ صاحب الدليل العقليّ الماضي ذكره يرى وجود الأصل النافي في تمام الأطراف، ولهذا قال بلزوم العمل بتمام تلك الأخبار؛ لتساقط الاُصول. وتحقيق الكلام في أنّه هل الأصل النافي مختصّ ببعض الأطراف أو لا ؟ يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث دليل الانسداد.

642

وأمّا الصورة الثانية ـ وهي فرض كون الخبر ترخيصيّاً والأصل إلزاميّاً ـ: فتحقيق الكلام فيها: أنّ هذا الأصل إمّا هو الاستصحاب، أو أصالة الاشتغال؛ لانحصار الأصل الإلزاميّ فيهما:

أمّا الاستصحاب: فمثاله: ما لو شككنا في جواز دخول الحائض في المسجد بعد النقاء وقبل الغسل، وفرضنا ورود خبر دلّ على الجواز، وقابله استصحاب الحرمة. أو شككنا في طهارة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره، وفرضنا ورود خبر دالّ على الطهارة، وقابله استصحاب النجاسة.

وتحقيق الكلام فيه: أنّه تارةً يفرض دليل الاستصحاب خبراً واحداً كسائر الأخبار الآحاد، واُخرى يفرض دليلاً قطعيّاً:

فإن فرض الأوّل: فهذا الاستصحاب ليس حجّة تعبّديّة؛ لأنّ المفروض عدم دليل على الحجّيّة الشرعيّة لخبر الواحد، لكن هذا الحكم الاستصحابيّ يكون منجّزاً بوقوعه طرفاً للعلم الإجماليّ الأوّل، فيقع الكلام في أنّه هل يوجد لدينا مؤمّن في قباله يصحّح لنا رفع اليد عن مقتضي هذا التنجّز، أو لا؟

فنقول: أمّا الخبر الدالّ على الترخيص فليس مؤمّناً، فإنّه وإن كان طرفاً للعلم الإجماليّ الثاني لكن العلم الإجماليّ ـ كما مضى ـ لا أثر له في المقام.

وأمّا البراءة العقليّة ـ لو كنّا قائلين بها في نفسها ـ فلا تكون مؤمّنة أيضاً هنا؛ لعدم جريانها مع العلم الإجماليّ بالتكليف، فإنّ البيان المأخوذ غاية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان يشمل البيان الإجماليّ.

وأمّا البراءة الشرعيّة فتارةً نفرض أنّ دليلها أيضاً خبر الواحد، واُخرى نفرض أنّ دليلها قطعيّ:

فإن فرض أنّ دليل البراءة الشرعيّة خبر الواحد فلا يمكن التمسّك به في قبال منجّزيّة العلم الإجماليّ، فإنّ هذا الخبر الواحد حاله حال نفس الخبر الواحد الدالّ

643

على الحكم الترخيصيّ من الطهارة أو جواز دخولها في المسجد الذي عرفت أنّه لا أثر له.

وإن فرض دليلها قطعيّاً أصبح خبر الاستصحاب في مقابل هذا الدليل القطعيّ خبراً واحداً في مقابل عامّ فوقانيّ مرخّص، فيكون صغرى من صغريات ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في المبحث الثاني من معارضة خبر الواحد لعموم قطعيّ مرخّص فوقانيّ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ هنا وجهاً للأخذ بالعموم القطعيّ الفوقانيّ مهما عارضه خبر الواحد بناءً على عدم حجّيّته، فعين ذاك الوجه يأتي فيما نحن فيه.

ولا يقال في المقام: إنّ عموم قوله: (رفع ما لا يعلمون) كما يجري في هذا المورد كذلك يجري في سائر الموارد؛ لأنّ كلّ مورد بخصوصه يكون مشكوك الحكم ومجرى لأصالة البراءة، فلماذا أخرجتم هذا المورد بالخصوص عن التعارض ؟!

فإنّه يقال: إنّنا لا نتمسّك هنا بأصالة البراءة حتّى تعارض بأصالة البراءة في سائر الموارد الاُخرى، بل نتمسّك بدليل أصالة البراءة الذي هو دليل اجتهاديّ، فإنّنا لا نريد أن نجري أصالة البراءة عن الاستصحاب، بل نقول: إنّ دليل أصالة البراءة الذي هو دليل اجتهاديّ يدلّ بالمطابقة على أصالة البراءة، وبالالتزام على نفي ضدّها الذي هو الاستصحاب؛ لأنّ الحكمين الظاهريّين إذا كانا في رتبة واحدة ـ أي: لم تكن نسبة أحدهما إلى الآخر نسبة الحكم الظاهريّ إلى الواقعيّ ـ فهما متضادّان، ولذا نقول: إنّ دليل الاستصحاب في الحقيقة تخصيص في دليل البراءة.

وإن فرض الثاني ـ أعني: كون دليل الاستصحاب دليلاً قطعيّاً ـ: فالحكم الاستصحابي منجّز لا بالعلم الإجماليّ، بل بالحجّيّة القطعيّة القائمة عليه، فإنّ

644

الحكم الظاهريّ يتنجّز بالعلم كالحكم الواقعيّ. وعندئذ لا يوجد هنا أيّ مؤمّن في مقابل هذا الاستصحاب، أمّا الخبر النافي فلا معنى لمؤمّنيّته، فإنّه طرف للعلم الإجماليّ الثاني الذي لا أثر له، وأمّا البراءة العقليّة ـ لو قلنا بها ـ فموضوعها عدم البيان، ودليل الاستصحاب بيان، وأمّا البراءة الشرعيّة: فإن كان دليلها خبر الواحد فلا يزيد على أصل الخبر النافي في المقام، وإن كان دليلها قطعيّاً فهو معارض بالدليل القطعيّ للاستصحاب، ويتقدّم دليل الاستصحاب عليه بالأخصّيّة.

وتوجد هنا شبهة في جريان الاستصحاب، وهي: أنّه لا يجوز التمسّك بالاستصحاب حتّى إذا فرض دليله قطعيّاً؛ للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض موارد الاستصحاب، ولا يمكننا تعيين موارد الانتقاض؛ إذ لا معيّن لها إلّا أخبار الآحاد التي لم تثبت حجّيّتها بحسب الفرض.

وإن سلّمنا هذا العلم الإجماليّ قلنا: إنّ جواب هذه الشبهة إذا اقتصر في بيانها على هذا المقدار من التقريب واضح بناءً على ما هو التحقيق: من أنّ الاُصول إذا لم يلزم من جريانها في أطراف العلم الإجماليّ المخالفة العمليّة تجري بلا تعارض بلا فرق بين الاستصحاب وغيره، وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المعلوم بالإجمال ترخيصيّ.

إلّا أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) بيّن هذه الشبهة ببيان أدقّ(1) لا يرد عليه هذا الإشكال، وهو: أن نفترض أنّنا نعلم إجمالاً بصدور بعض الأخبار الترخيصيّة المخالفة لبعض الاستصحابات الإلزاميّة، وعندئذ يمكن أن يقال: إنّ ذاك الخبر الصادر يتمتّع بحجّيّة ظهوره تعبّداً، وهذه الحجّيّة الشرعيّة المعلومة إجمالاً في هذه الدائرة حاكمة على الاستصحاب في موردها؛ إذ يحصل بها العلم الذي جعل غاية


(1) راجع مقالات الاُصول، ج 2، ص 40.

645

للاستصحاب تعبّداً، وبهذا ثبت سقوط بعض هذه الاستصحابات إجمالاً بوجود الحاكم، والتمسّك بالاستصحاب في أيّ مورد من تلك الموارد تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ لا يرد عليه الإشكال المتقدّم؛ إذ لم يفرض سقوط الاستصحابات بالعلم الإجماليّ بانتقاض بعض الحالات السابقة، كي يقال: إنّ العلم الإجماليّ بالانتقاض لا يضرّ بركن الاستصحاب، وهو الشكّ وعدم اليقين بالانتقاض في كلّ مورد بخصوصه، وإنّ العلم الإجماليّ بالترخيص لا يوجب تساقط الاستصحابات الملزمة، وإنّما فرض سقوط الاستصحابات بالعلم الإجماليّ بابتلاء بعضها بالحكم، وهو الحجّيّة التعبّديّة لظهور الخبر الوارد في مورده الذي هو كاليقين بالانتقاض، فالتمسّك في أيّ مورد من موارد تلك الاستصحابات بدليل الاستصحاب تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة(1).

 


(1) قد يقال: إنّ العلم الإجماليّ بوجود الحاكم على بعض تلك الاُصول إنّما يوجب سقوط ذاك البعض المعيّن عند الله ويبقى الباقي منجّزاً، وبالتالي يجب الاحتياط بالعمل بكلّ تلك الاُصول، ولعلّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) كان ينظر إلى الجواب على هذا الإشكال فذكر في مقالاته: أنّ العلم الإجماليّ بصدق بعض هذه الروايات أوجب سقوط بعض الاُصول عن الاعتبار الموجب لسقوط الجميع؛ لعدم المرجّح. فكأنّ مقصوده(رحمه الله)من هذا الكلام: أنّنا نعلم إجمالاً بوجود الحاكم على بعض هذه الاُصول المبتلاة بالمعارضة مع الروايات المرخّصة ونحتمل صدق كلّ هذه الروايات، أي: ابتلاء كلّ تلك الاُصول بالحاكم، ومعه لا يكون لمعلومنا الإجماليّ تعيّن، وهذا يوجب سقوط الكلّ؛ لعدم المرجّح.

أقول: قد يدّعى: أنّ الفهم العرفيّ لا يقبل هذا التدقيق، بل يقول: إنّ العلم الإجماليّ أسقط البعض بالحاكم وبقي ما عداه، وبالتالي يجب الاحتياط بالعمل بجميع تلك الاُصول المثبتة.

646

 

 


ثُمّ إنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) ذكر جوابين عن أصل الشبهة في المقام:

الجواب الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ بصدق بعض الأخبار المرخّصة ليس في دائرة الاستصحابات الملزمة بالذات، وإنّما هو في دائرة مطلق الاُصول الملزمة والمرخّصة، والاُصول المرخّصة ساقطة من أوّل الأمر وبقطع النظر عن حكومة الخبر(1)؛ وذلك للعلم الإجماليّ بالإلزام، فتبقى الاُصول المثبتة سليمة عن العلم الإجماليّ بوجود الحاكم.

والجواب الثاني: أنّه لو أمكن دعوى تقييد دليل الأصل في طرف العلم الإجماليّ بصورة عدم العلم بالأصل في الطرف الآخر فلازمه التخيير بالعمل في الاُصول المثبتة من دون علم إجماليّ بوجود الحاكم على ما يجري من الأصل.

أقول: إنّ الجواب الأوّل لا يبقى له موضوع لو فرض انحلال العلم الإجماليّ في دائرة الاُصول المرخّصة بالعلم الإجماليّ فيما دخل منها في دائرة الأخبار الإلزاميّة، ولو لم يفرض ذلك لزم الاحتياط في أكثر من دائرة الأخبار.

وعلى أيّ حال، فقد يورد على هذين الجوابين: أنّ احتمال الحاكم على الاستصحاب حاله حال العلم الإجماليّ بالحكم في كفاية ذلك لمنع التمسّك بالاستصحاب؛ لأنّ التمسّك به مع احتمال الحاكم تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إلّا أن نرجع إلى استصحاب عدم الحاكم، وهذا رجوع إلى الجواب الحلّيّ لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فإنّ استصحاب عدم الحاكم يجري حتّى مع العلم الإجماليّ به مادام لا توجد مخالفة عمليّة للتكليف.

وقد يقال ـ بعد فرض غضّ النظر عن استصحاب عدم الحاكم ـ: إنّ هناك فرقاً بين فرض العلم الإجماليّ بالحاكم وبين مجرّد احتمال الحاكم، وذلك بناءً على دعوى أنّ حكومة الحاكم مشروطة بوصوله ولو إجمالاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذه الحكومة مبنيّة على مبنى المشهور: من حكومة الدليل على الأصل وإن كان موافقاً له.

647

ونحن نجيب على ذلك:

أوّلاً: بالنقض بأنّ لازم هذا الكلام هو أنّ الخبر الترخيصيّ المخالف للاستصحاب إن كان صريحاً في الترخيص لم يمنع عن الاستصحاب لعدم ثبوت حجّيّة تعبّديّة؛ إذ لا يتطرّق فيه احتمال الخلاف حتّى يدخل في كبرى حجّيّة الظهور، وإن كان ظاهراً في الترخيص منع عن الاستصحاب، ولا أظنّ فقيهاً يلتزم بمثل هذه النتيجة.

وثانياً: بالحلّ، وهو: أنّ ثبوت غاية الاستصحاب ـ وهي العلم تعبّداً ـ في أيّ مورد من هذه الموارد مشكوك، فيستصحب عدمه، ولا تتعارض استصحابات هذا العدم في أطراف العلم الإجماليّ؛ لأنّنا مع المحقّق العراقيّ متسالمون على عدم مانعيّة العلم بالانتقاض حينما لا تلزم من جريان الاُصول مخالفة عمليّة، وليس لدينا احتمال وجود حاكم على هذا الاستصحاب الموضوعيّ؛ إذ لم نحتمل أنّ الشارع جعلنا عالمين بأنّنا عالمون، ولو كان لنا مثل هذا الشكّ والاحتمال لنقلنا الكلام إلى غاية هذا الاستصحاب الثاني، وهكذا إلى أن تنتهي السلسلة بانقطاع الشك.

ثُمّ إنّ دعوى حكومة ظاهر كلام المعصوم الصادر واقعاً على الاستصحاب رغم أنّه لم يصلنا لعدم حجّيّة الخبر الواصل، متوقّفة على ما يترتّب على مباني المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في الحكومة: من عدم اختصاص الحكومة بفرض الوصول(1).

وأمّا أصالة الاشتغال: فمثالها: ما لو فرضت دلالة الخبر على عدم وجوب


(1) عرفت في تعليقنا السابق: أنّ كلام المحقّق العراقيّ أنسب بالقول باشتراط الحكومة بوصول الحاكم ولو إجمالاً.

648

صلاة الجمعة في يوم الجمعة، وعلمنا إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة، أو دلالة الخبر على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وعلمنا إجمالاً بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو رؤية الشمس، ومقتضى القاعدة في ذلك هو تحكيم أصالة الاشتغال، ولا أثر لهذا الخبر بعد أن لم يفرض ثبوت حجّيّته، فإنّه إنّما يكون طرفاً للعلم الإجماليّ الثاني، ولا أثر له في عالم التنجيز.

ويمكن أن نُسري إلى المقام تقريب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) الذي ذكره في مقام بيان اختلال الاستصحاب بحكومة ظاهر كلام الإمام مع إجراء بعض التعديل عليه بالشكل المناسب لإسرائه في المقام، وإن كان هو(رحمه الله)لم يذكر ذاك التقريب هنا، وذلك بأحد بيانين:

الأوّل: أن يقال: إنّ ظاهر ما صدر من الإمام: من الكلام الدالّ على الترخيص، حاكم على الأصل العمليّ في مورده ولو كان ترخيصيّاً؛ لأنّ حكومة الأمارات على الاُصول ثابتة حتّى في فرض المطابقة. ففيما نحن فيه نحتمل وجود الحاكم على أصالة البراءة في مورد الخبر وهو صلاة الجمعة أو الدعاء عند رؤية الهلال؛ لاحتمال كون هذا الخبر من تلك الأخبار الصادرة واقعاً، وعلى هذا لا مجال لإجراء البراءة عن صلاة الجمعة أو الدعاء عند رؤية الهلال، فتبقى البراءة عن صلاة الظهر أو الدعاء عند رؤية الشمس بلا معارض، فلا مانع من إجرائها، فتختلّ قاعدة الاشتغال بالنسبة لهذا الطرف.

وهذا التقريب يؤدّي بنا إلى هذه النتيجة الغريبة، وهي: أنّه مع ورود الخبر الظاهر في الترخيص في أحد طرفي العلم الإجماليّ يجب الاحتياط في الطرف الوارد فيه الخبر المرخّص، وتجري البراءة في الطرف الذي لم يرد فيه الخبر المرخّص.

ويرد على هذا التقريب: أنّ الخبر الحاكم على أصالة البراءة في جانب صلاة

649

الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال حاكم أيضاً على أصالة البراءة في جانب صلاة الظهر والدعاء عند رؤية الشمس؛ لأنّ ما يدلّ على عدم وجوب الأوّل يدلّ بعد ضمّه إلى العلم الإجماليّ على وجوب الثاني بالدلالة الالتزاميّة، فيحكم على أصالة البراءة المخالفة له، وإذا كان احتمال الحاكم موجوداً في كلا الطرفين ولم تجر البراءة في شيء منهما، فأصالة الاشتغال تكون محكّمة في كلا الطرفين.

الثاني: أن يقال: إنّ هذا الخبر على تقدير صدوره عن الإمام(عليه السلام)ليس حاكماً بدلالته المطابقيّة على الأصل في طرفه، وإنّما هو حاكم بدلالته الالتزاميّة على الأصل في الطرف الآخر، وذلك إمّا بدعوى أنّه يشترط في حكومة الخبر وصوله ولو بلحاظ العلم الإجماليّ المنجّز، وهذا بمدلوله المطابقيّ ليس واصلاً ولو بهذا اللحاظ؛ إذ هو طرف للعلم الإجماليّ الثاني الذي لا أثر له، فهو إنّما يكون حاكماً بلحاظ مدلوله الالتزاميّ لو فرضناه بهذا اللحاظ طرفاً للعلم الإجماليّ الأوّل، وإمّا لأنّ حكومة الخبر تثبت على خصوص الأصل المخالف دون الأصل الموافق.

وعلى أيّ حال، فأصل الجوابين النقضيّ والحلّيّ اللذين عرفتهما في دعوى اختلال الاستصحاب يأتيان هنا.

وأمّا الصورة الثالثة ـ وهي فرض كون الخبر والأصل أحدهما إيجابيّاً والآخر تحريميّاً ـ: فهذا الأصل فيها إمّا هو الاستصحاب، أو أصالة الاشتغال:

أمّا الاستصحاب: فيتساقط مع سائر الاُصول الترخيصيّة في أطراف العلم الإجماليّ، فإنّه وإن كان أصلاً إلزاميّاً في نفسه لكنّه بلحاظ المعلوم بالإجمال أصل ترخيصيّ، فإنّ المعلوم بالإجمال ـ أو قل طرف العلم الإجماليّ ـ هو الوجوب، واستصحاب التحريم يرخّص في الترك بل يلزم به، أو بالعكس، فيقع التعارض بينه وبين الأصل الترخيصيّ في باقي الأطراف ويتساقطان على تفصيل يأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث دليل الانسداد.

650

وأمّا أصالة الاشتغال: فمثالها: ما لو علمنا إجمالاً بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو عند رؤية الشمس، ودلّ الخبر على حرمة الدعاء عند رؤية الهلال، وهنا يختلّ أثر أصالة الاشتغال، وأثر الخبر في مادّة الاجتماع. توضيح ذلك: أنّ هنا في الحقيقة علمين متعاكسين: أحدهما: العلم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو عند رؤية الشمس. والآخر: العلم بحرمة الدعاء عند رؤية الهلال، أو صدق خبر إلزاميّ آخر من الأخبار الإلزاميّة، ومادّة الاجتماع في هذين العلمين هي الدعاء عند رؤية الهلال، ولا يتنجّز علينا شيء من الحكمين بالنسبة لمادّة الاجتماع؛ لأنّ نسبة منجّزيّة كلّ من العلمين إليها على حدّ سواء، فتأثير أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، وتأثير كليهما معاً بأن يتنجّز علينا الوجوب والحرمة في وقت واحد غير ممكن، فمادّة الاجتماع حالها حال موارد دوران الأمر بين المحذورين وإن لم تكن منها؛ لعدم الدوران بين الوجوب والحرمة؛ لاحتمال كون مادّة الاجتماع لا واجبة ولا محرّمة؛ إذ من المحتمل وجود المعلومين في مادّتي الافتراق. والحاصل: أنّ كلّ ما كان من قبيل دوران الأمر بين المحذورين، أو يشبهه في كون نسبة تنجيز الوجوب والحرمة إليه على حدّ سواء لا يتنجّز الحكم فيه علينا؛ لأنّه لا معنى لإطاعة المولى فيه، وبالتالي لا معنى لثبوت حقّ الطاعة فيه للمولى.

وإذا سقطت مادّة الاجتماع عن التنجّز فهل تبقى مادّتا الافتراق على تنجّزهما، أو لا ؟

تارةً: نفترض انتزاع علم إجماليّ ثالث قائم بمادّتي الافتراق، وعندئذ لا إشكال في تنجّزهما؛ إذ يكفي في تنجّزهما العلم الثالث.

واُخرى: نفترض عدم انتزاع ذلك، فعندئذ يقع الكلام في كفاية العلمين الأوّلين في تنجيزهما وعدمها، فالكلام يقع في المقامين:

المقام الأوّل: في أنّه هل ينتزع من ما نحن فيه علم إجماليّ ثالث قائم بمادّتي

651

الافتراق أو لا ؟ وتتّضح فكرة انتزاع علم إجماليّ ثالث قائم بمادّتي الافتراق بذكر مثال، وهو: ما لو علمنا إجمالاً بوجوب شرب أحد الإناءين الشرقيّين بسبب أمر الوالد مثلاً، وبحرمة شرب أحد الإناءين الأحمرين بسبب نهي الوالد مثلاً، وأحد هذين الإناءين الأحمرين هو نفس أحد الإناءين الشرقيّين، فالإناء الأحمر الشرقيّ لا يتنجّز علينا شربه، ولا ترك شربه. وأمّا مادّتا الافتراق فيكفي في تنجّزهما أنّ لنا علماً إجماليّاً ثالثاً قائماً بهما، وهو العلم بوجوب شرب الإناء الشرقيّ غير الأحمر، أو حرمة الإناء الأحمر غير الشرقيّ؛ لأنّ العلم الإجماليّ ـ على ما قاله علماء الاُصول ـ يستلزم دائماً العلم بقضايا شرطيّة مقدّمها عدم بعض الأطراف، وتاليها ثبوت المعلوم بالإجمال في الباقي.

إذن علمنا بوجوب شرب أحد الإناءين الشرقيّين يستلزم بذاته العلم بأنّ الإناء الشرقيّ الأحمر لو لم يجب شربه لكان شرب الإناء الشرقيّ غير الأحمر واجباً، وعلمنا بحرمة شرب أحد الإناءين الأحمرين يستلزم العلم بأنّ الإناء الشرقيّ الأحمر لو لم يحرم شربه لكان شرب الإناء الأحمر غير الشرقيّ حراماً، وبما أنّنا نعلم بصدق أحد الشرطين فنحن نعلم ـ لا محالة ـ بأنّه إمّا الإناء الشرقيّ غير الأحمر واجب الشرب، أو الإناء الأحمر غير الشرقيّ محرّم الشرب، وهذا هو العلم الإجماليّ الثالث.

ولكن التحقيق: أنّ هناك فرقاً بين العلوم الإجماليّة القائمة على أساس البرهان، والعلوم الإجماليّة القائمة على أساس حساب الاحتمالات، وهذه نكتة يجب الاهتمام بها جدّاً لدخلها في كثير من المباحث الآتية، وتوضيحها:

أنّ العلم الإجماليّ قد يكون قائماً على أساس البرهان كما لو علمنا بنجاسة أحد الإناءين بإخبار معصوم، فهذا العلم قائم على أساس برهان العصمة ولو فرض أنّ أصل عصمته ثبتت بحساب الاحتمالات لا بالبرهان، وقد يكون قائماً

652

على أساس حساب الاحتمالات كما لو علمنا بنجاسة إحدى الأواني التي رأيناها معرّضة لاستعمال الكفّار ـ مثلاً ـ على أساس استبعادنا بحساب الاحتمالات لعدم استعمالهم لشيء منها صدفة إلى حدّ ذاب احتمال عدم ذلك؛ لضعفه في نفوسنا.

فإن كان العلم الإجماليّ قائماً على أساس البرهان ـ كما في إخبار المعصوم بنجاسة أحد الإناءين ـ فلا محالة يستلزم العلم بقضايا شرطيّة مقدّمها نفي بعض الأطراف، وتاليها إثبات بعض الأطراف الاُخرى؛ لوضوح أنّنا لو علمنا من الخارج بطهارة أحد الإناءين المفترض إخبار المعصوم بنجاسة أحدهما حصل لنا العلم بنجاسة الآخر بنفس البرهان الذي ولّد العلم الأوّل، وهو برهان العصمة؛ لأنّ فرض انتفاء المعلوم بالإجمال في طرف معيّن لا يُفني ذاك البرهان.

أمّا لو كان العلم الإجماليّ نتيجة لحساب الاحتمالات كالعلم بنجاسة إحدى الأواني المئة نتيجة تجمّع مئة قوى احتماليّة واستبعاد احتمال عدم استعمال شيء منها من قبل الكفّار الذين كانت هذه الأواني في معرض استعمالهم، فتمركز هذه القوى الاحتماليّة في مقابل احتمال واحد، وضعف ذاك الاحتمال وهو طهارة الجميع، أوجب زوال ذاك الاحتمال من النفس، فهذا العلم الإجماليّ لا ينحلّ إلى علوم بقضايا شرطيّة مقدّمها نفي بعض الأطراف، وتاليها إثبات المعلوم بالإجمال في الباقي، فلا نستطيع أن نقول ـ مشيرين إلى تسعة وتسعين من هذه الأواني ـ: لو كانت هذه طاهرة إذن فالإناء الآخر هو النجس؛ لأنّ فرض طهارتها كشرط في القضيّة الشرطيّة يعني فرض غضّ النظر عن تسعة وتسعين قوى احتماليّة، فالقوى المئة غير مجتمعة على إثبات نجاسة هذا الإناء على تقدير طهارة الباقي، ولذا لو علمنا بطهارة التسعة والتسعين لم يحصل لنا العلم بنجاسة الفرد الأخير من المئة، وكذلك لا نعلم بأنّه على تقدير طهارة واحد معيّن منها يكون النجس في الباقي؛ لأنّ هذا التقدير يعني تقدير فقد قوّة واحدة من القوى المئة، والمفروض أنّ منشأ

653

العلم إنّما هو القوى المئة، وإلّا لحصل العلم الإجماليّ في تسعة وتسعين منها، فظهر أنّ العلم بالقضايا الشرطيّة الذي جعله علماء الاُصول حتّى اليوم لازماً ذاتيّاً للعلم الإجماليّ ليس لازماً ذاتيّاً له على الإطلاق، بل يدور العلم بالقضايا الشرطيّة في عرض نفس العلم الإجماليّ مدار منشأ ذلك العلم الإجماليّ، فإن كان المنشأ مختلاًّ على تقدير عدم بعض الأطراف ـ كما في العلم الإجماليّ القائم على أساس حساب الاحتمالات ـ لم يحصل العلم بالقضايا الشرطيّة، وإلّا ـ كما في العلم الإجماليّ القائم على أساس البرهان ـ حصل العلم بالقضايا الشرطيّة.

إذا عرفت ذلك قلنا في المقام: إنّه لا يتولّد لنا علم إجماليّ ثالث، ولأجل التوضيح نفترض الآن: أنّ المعلوم بالإجمال صدقه من الأخبار الإلزاميّة واحد، فنقول: إنّنا وإن كنّا نعلم إجمالاً بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو عند رؤية الشمس، وكذلك نعلم إجمالاً بحرمة الدعاء عند رؤية الهلال، أو حكم إلزاميّ آخر، ولكن العلم الإجماليّ الثاني لا ينحلّ إلى العلم بقضايا شرطيّة بأن نفترض العلم بأنّه لو لم يكن الدعاء عند رؤية الهلال حراماً، إذن فهناك حكم إلزاميّ آخر؛ لأنّ العلم الإجماليّ الثاني إنّما كان وليداً لتجمّع الاحتمالات، وقد عرفت أنّ مثل هذا العلم لا ينحلّ إلى العلم بقضايا شرطيّة كي يكون علمنا بصدق الشرط في بعض القضايا الشرطيّة مساوقاً للعلم الإجماليّ الثالث، وهو العلم بفعليّة بعض الجزاءات.

هذا إذا افترضنا أنّ المعلوم بالإجمال في دائرة الأخبار الإلزاميّة واحد، أمّا إذا افترضناه عشرة ـ مثلاً ـ فيأتي فيه أيضاً عين البيان، إلّا أنّه يجعل مصبّ الكلام هو العاشر.

المقام الثاني: في كفاية العلمين الأوّلين وعدمها في تنجيز مادّتي الافتراق بعد فرض الفراغ عن عدم وجود علم إجماليّ ثالث.

654

ولا يتوهّم أنّ هذا البحث بالنسبة لجانب هذا الخبر الإلزاميّ غير مثمر؛ لأنّ المعلوم بالإجمال في دائرة الأخبار الإلزاميّة مقداره أكثر من مقدار مادّة الاجتماع بين العلمين، فيوجد ـ لا محالة ـ علم إجماليّ في دائرة الأخبار الإلزاميّة حتّى بقطع النظر عن مادّة الاجتماع، وهو كاف في تنجيز هذا الخبر الإلزاميّ.

فإنّ هذا التوهّم مدفوع بأنّه وإن كان المعلوم بالإجمال أكثر من مقدار مادّة الاجتماع بين العلمين، فمادّة الاجتماع فرد واحد والمعلوم بالإجمال عشرة مثلاً، لكن المقصود هو بيان تنجّز العاشر بحيث لو ارتكب الجميع عوقب بعقابات عشرة لا تسعة.

والتحقيق: أنّ هذين العلمين ينجّزان مادّتي الافتراق، ويكون الاحتياط فيهما واجباً؛ لأنّ كلّ واحدة منهما طرف لعلم إجماليّ، والعلمان وإن عجزا عن تنجيز مادّة الاجتماع لتعاكسهما في التأثير لكن هذا لا يمنع عن تأثيرهما في مادّتي الافتراق.

ويمكن أن يتخيّل بأحد الوجوه سقوط العلمين عن التأثير حتّى في مادّتي الافتراق:

منها: قياس ما نحن فيه بباب الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجماليّ بعينه بأن يقال: إنّ مادّة الاجتماع حالها حال ذلك الفرد المضطرّ إليه، فكما يسقط العلم الإجماليّ في ذاك الباب عن التأثير حتّى بالنسبة للفرد غير المضطرّ إليه كذلك الأمر فيما نحن فيه.

ويرد عليه: أنّ القياس مع الفارق؛ إذ في باب الاضطرار يكون التكليف على فرض وجوده في جانب المضطرّ إليه مرفوعاً بالاضطرار، فليس لنا علم بالتكليف على كلّ تقدير، ويصبح احتمال التكليف في الجانب الآخر شكّاً بدويّاً. وأمّا فيما نحن فيه، فنحن غير مضطرّين إلى مادّة الاجتماع ولا إلى تركه، وإنّما نحن مضطرّون إلى جامع المخالفتين الاحتماليّتين، أي: إلى الجامع بين الفعل والترك؛ لاستحالة خلوّ الإنسان عنهما، والاضطرار إلى جامع الفعل والترك لا يرفع

655

التكليف بالفعل أو التكليف بالترك، فكلّ واحد من العلمين الإجماليين ثابت على حاله ولم ينقلب إلى الشكّ البدويّ كما في باب الاضطرار.

ومنها: قياس ما نحن فيه بالتكليف المردّد بين شخصين كما في واجدي المنيّ في الثوب المشترك، بتقريب أنّ كلّ واحد من واجدي المنيّ في الثوب المشترك عالم بثبوت التكليف من قبل المولى، ومع ذلك لا يتنجّز عليه. والسرّ في ذلك أنّ هذا التكليف على تقدير توجّهه إلى غيره لا يكون للمولى حقّ الطاعة على هذا الشخص، ولا يكون هذا التكليف مؤثّراً بالنسبة إليه في عالم الإطاعة وحقّ المولويّة، فعلمه بالتكليف ليس علماً بتكليف ذي أثر في عالم الطاعة وحقّ المولويّة على كلّ تقدير. وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فإنّ التكليف على تقدير ثبوته في مادّة الاجتماع ليس داخلاً في دائرة حقّ الطاعة، فعلمنا بالتكليف ليس علماً بتكليف ذي أثر في عالم الطاعة وحقّ المولويّة على كلّ تقدير.

ويرد عليه: أنّ هذا أيضاً قياس مع الفارق، توضيح ذلك: أنّ هنا خلافاً بين الاُصوليّين في أنّ العلم الإجماليّ هل ينجّز واقع المعلوم بحدوده؛ لكونه معلوماً ولو بالإجمال، أو ينجّز الجامع فحسب؛ لكونه المقدار الواصل؟ ولدينا تفصيل في المقام بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، ولا نريد هنا الدخول في هذا البحث، ونوكله إلى محلّه. وإنّما نقول هنا: إنّ تنجّز الجامع على أيّ حال مسلّم لوصوله بلا إشكال، وهذا الجامع فيما نحن فيه واصل ومتعلّق لحقّ المولويّة، فإنّ الجامع بين مادّة الاجتماع وإحدى مادّتي الافتراق واصل إلى المكلّف ومتوجّه إليه وقابل للتنجيز، وللمولى حقّ الطاعة بهذا المقدار، وليس الجامع كواقع المعلوم في كونه مردّداً بين ما لا يجب امتثاله عقلاً وما يجب امتثاله عقلاً. وأمّا في مثل واجدي المنيّ في الثوب المشترك فليس الأمر كذلك؛ لأنّ الجامع بين تكليف نفسه وتكليف غيره لا يعقل أن يكون متعلّقاً لحقّ المولى عليه، وإنّما هو جامع بين

656

ما يتعلّق به حقّ المولى عليه وما لا يتعلّق به حقّ المولى عليه(1).


(1) ومنها: قياس ما نحن فيه بموارد الانحلال الحكميّ، كما إذا كان أحد طرفي العلم الإجماليّ بالنجاسة مستصحب النجاسة، فأصالة الطهارة في الطرف الآخر تجري؛ لعدم وجود معارض لها. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ مادّة الاجتماع غير قابلة للتنجيز، فالأصل المرخّص إنّما يكون له مورد في مادّتي الافتراق، فيجري فيهما؛ لعدم الابتلاء بالمعارضة مع الأصل في مادّة الاجتماع.

ويرد عليه: أنّ قياس المقام بمثل ما إذا كان أحد طرفي العلم الإجماليّ بالنجاسة مورداً لاستصحاب النجاسة قياس مع الفارق؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ الصحيح في باب الانحلال الحكميّ أنّ الانحلال الحكميّ لا يكون بمجرّد اختصاص الأصل المرخّص بأحد الطرفين، بل يكون بثبوت أصل إلزاميّ عقليّ أو شرعيّ في الطرف الآخر، كي لا يساوق الترخيص في هذا الطرف للترخيص في المخالفة القطعيّة أو الترخيص القطعيّ في المخالفة، ففي باب استصحاب نجاسة أحد الطرفين يكون الانحلال الحكميّ تامّاً؛ لأنّ أصالة الطهارة في الإناء غير مستصحب النجاسة لا تساوق الترخيص في المخالفة القطعيّة أو الترخيص القطعيّ في المخالفة. وهذا بخلاف المقام؛ لأنّ مادّة الاجتماع لا يوجد فيها أصل إلزاميّ، فالترخيص في مادّة الافتراق يساوق الترخيص في المخالفة القطعيّة، أو الترخيص القطعيّ في المخالفة.

والثاني: أنّ الانحلال الحكميّ إنّما يوجب جريان البراءة الشرعيّة لا العقليّة، والبراءة الشرعيّة في المقام ليست مخصوصة بمادّة الافتراق، فإنّ مادّة الاجتماع أيضاً مجرى للبراءة عن الوجوب أو الحرمة في حدّ ذاتها؛ لأنّ مادّة الاجتماع وإن لم تكن قابلة للتنجيز العقليّ لكنّها قابلة لجعل الاحتياط الشرعيّ في أحد الطرفين فقط من الوجوب أو الحرمة، فتجري البراءة الشرعيّة لا محالة في حدّ ذاتها التي تقابل الاحتياط الشرعيّ، ويقع التعارض بينها وبين البراءة الشرعيّة في مادّة الافتراق. وهذا بخلاف مثال جريان استصحاب النجاسة في أحد طرفي العلم الإجماليّ، فإنّ أصالة الطهارة في هذا المثال تصبح بلا معارض.

657

واستيعاب الكلام لتمام الجهات في هذا المقام موكول إلى بحث كبراه الذي يأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه حتّى يسهل التكلّم فيه بعد الاطّلاع على مباني البحث: من اقتضاء العلم الإجماليّ أو علّيّته، ونحو ذلك، وثمراتها.

 

مع الأصل اللفظيّ الفوقانيّ:

المبحث الثاني: في ملاحظة هذا الخبر مع أصل لفظيّ فوقانيّ كأصالة العموم والإطلاق في الكتاب والسنّة القطعيّة، فإن فرض توافقهما فلا ثمرة في المقام، وإن فرض تخالفهما: فإمّا أن يكون الخبر إلزاميّاً والعامّ ترخيصيّاً، أو بالعكس، أو أن يكون كلاهما إلزاميّين بأن يدلّ أحدهما على الوجوب والآخر على التحريم، فهنا ثلاث صور:

الصورة الاُولى: أن يكون الخبر إلزاميّاً والعامّ ترخيصيّاً. وقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) وغيره من المحقّقين أيضاً ـ على ما أتذكّر ـ: أنّه لا يعمل بخبر الواحد؛ لأنّ العمل به إنّما هو من باب منجّزيّة العلم الإجماليّ، وأصالة الاشتغال، ومن المعلوم أنّ هذا الأصل لا يقاوم في مقابل العموم الترخيصيّ المقطوع بحجّيّته.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّنا نعلم إجمالاً بتخصيص بعض تلك العمومات الفوقانيّة، فيقع التعارض بين تلك الاُصول اللفظيّة والتساقط، فلا يمكن التمسّك بأيّ عامّ، أو مطلق ترخيصيّ.

أقول: دعوى مثل هذا العلم الإجماليّ تحتاج إلى حساب دقيق في الفقه لتصفية مقدار ما عندنا من العمومات والمطلقات الثابتة بالدليل القطعيّ، وما في قبالها: من أخبار آحاد مخصّصة ومقيّدة، ومدى كثرتها، لكي نرى هل يتقوّى عندنا احتمال التخصيص حتّى يصل إلى درجة العلم أو لا ؟ وفي أكبر الظنّ: أنّ مثل هذا العلم الإجماليّ غير موجود، فإنّنا لو أفرزنا العمومات والمطلقات

658

الترخيصيّة الثابتة بالدليل القطعيّ لم يكن لنا علم بتخصيصها بأكثر من المخصّصات المعلومة تفصيلاً بالإجماع ونحوه من الأدلّة القطعيّة، أو بأخبار الآحاد المتراكمة التي يحصل منها الظنّ الاطمئنانيّ، فإنّنا وإن كنّا نعلم إجمالاً بورود مخصّصات أو مقيّدات من الأئمّة(عليهم السلام)أزيد من المقدار المعلوم بالتفصيل، لكن لا نعلم كون بعض تلك المخصّصات والمقيّدات غير المعلومة بالتفصيل مخصّصاً ومقيّداً للعمومات والإطلاقات القطعيّة، فلعلّها جميعاً مخصّصة ومقيّدة لما لم يصلنا بنحو القطع، فأصالة العموم والإطلاق في القطعيّات سليمة عن المعارض؛ إذ لا تجري أصالة العموم والإطلاق في غير القطعيّات المفروض عدم ثبوت حجّيّتها كي يقع التعارض بينهما.

ولو سلّمنا القطع بوجود تخصيص زائد للعمومات والإطلاقات القطعيّة فهذه التخصيصات الاُخرى غالباً لها علوم إجماليّة صغيرة، وينحصر تأثيرها في دائرة تلك العلوم الإجماليّة الصغيرة، فمثلاً في قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾ نعلم ببعض المخصّصات القطعيّة، وهو ما دلّ على أن لا يكون البائع مكرهاً، وتوجد بعض المخصّصات الظنّيّة كشرط البلوغ، أو ماليّة العين مثلاً، فلو ظننّا بشرط البلوغ وبطلان بيع الصبيّظنّاً معتدّاً به إمّا باعتبار ورود رواية على ذلك، أو باعتبار فرض الشهرة، أو الإجماع، أو نحو ذلك، وظننّا أيضاً بشرط الماليّة وبطلان بيع ما لا توجد له ماليّة، وهكذا، جمعنا ثلاثة أو أربعة من مثل هذه الموارد، فعندئذ يحصل الاطمئنان بوجود تخصيص في بعض هذه الموارد(1)، ويقتصر أثر هذا العلم أو الاطمئنان الإجماليّ على مورده.

 


(1) وهذا الاطمئنان إنّما يكون منجّزاً لو كان ناتجاً عن المضعّف الكيفيّ الموجب لكون الاستبعاد منصبّاً ابتداءً على مجموع الأطراف منقسماً منه إلى كلّ فرد منالأطراف.

659

وبكلمة اُخرى: لو سلّمنا وجود تخصيص زائد معلوم فلا نسلّم به بأكثر من هذا المقدار، وهو العلوم الإجماليّة الصغيرة المخصوصة بموارد معيّنة، ولا يوجد لنا علم إجماليّ يقع كلّ ما احتملت مخصّصيّته طرفاً له.

الصورة الثانية: أن يكون الخبر ترخيصيّاً والعامّ إلزاميّاً، وعندئذ يؤخذ أيضاً بالعامّ، فإنّ الخبر الترخيصيّ لم يؤخذ به في مقابل أصالة الاشتغال، فما ظنّك بمعارضته لأصالة العموم أو الإطلاق في الدليل القطعيّ الصدور ؟!

وهنا أيضاً استشكل السيّد الاُستاذ بأنّنا نعلم إجمالاً بورود بعض المخصّصات الترخيصيّة على تلك العمومات الإلزاميّة، فتتساقط الاُصول اللفظيّة في تلك القطعيّات بالتعارض.

ولكن رغم ذلك قال السيّد الاُستاذ بوجوب العمل بالعامّ، لا من باب الحجّيّة، بل من باب العلم الإجماليّ بإرادة العامّ ولو في بعض هذه العمومات، وأنّنا لا نحتمل أنّ العامّ ليس مراداً في شيء منها.

أقول: لا يمكن المساعدة على شيء من الدعويين:

أمّا الدعوى الاُولى ـ وهي دعوى العلم الإجماليّ بالتخصيص ـ فالإشكال فيها هو الإشكال في الفرض السابق.

وأمّا الدعوى الثانية ـ وهي دعوى العلم الإجماليّ بإرادة العموم في بعض


أمّا لو كان ناتجاً عن المضعّف الكمّيّ فحسب، ومنصبّاً ابتداءً على كلّ فرد من الأطراف، وبالتركيب بين هذه الاستبعادات الظنّيّة تولّد الاطمئنان بعدم المجموع، فهذا الاطمئنان لا يزيد عقلائيّاً على أصل الظنون التي تركّب منها، ولا يمنع عن التمسّك في كلّ مورد من موارد تلك الظنون بالأصل اللفظيّ أو العمليّ النافي للتكليف في مورده.

660

الموارد ـ فيرد عليها: أنّه هل المقصود بكون العامّ مراداً في بعض هذه العمومات هو العلم الإجماليّ بإرادة العامّ في قبال هذه الأخبار المخصّصة، أو العلم الإجماليّ بإرادة العامّ في قبال كلّ ما يتصوّر كونه تخصيصاً له ؟

فإن كان المقصود هو الأوّل فمرجع هذا إلى دعوى العلم الإجماليّ بكذب بعض المخصّصات الترخيصيّة، وهذا خلاف الوجدان، فإنّنا نحتمل أنّ تمام ما ورد في الكتب الأربعة: من الأخبار الترخيصيّة غير المبتلاة بالمعارض والتي يحتمل صدورها من المعصوم، صادراً كلاًّ من المعصوم، فلا علم لنا بأنّ العامّ صادق في بعض هذه الموارد، وأنّ بعض هذه الأخبار كاذبة.

وإن كان المقصود هو الثاني ـ أعني: العلم بإرادة العموم في قبال التخصيص من كلّ جهة ـ فلا إشكال في ثبوت هذا العلم؛ إذ فرض التخصيص من كلّ جهة يستلزم إلغاء أصل الدليل العامّ رأساً إلّا أنّ هذا لا أثر له في المقام، فإنّ العلم الإجماليّ بالتخصيص الموجب لتعارض العمومات وتساقطها ـ كما فرض ـ كان في العمومات المقابلة للتخصيصات الواردة في أخبار الآحاد، فهي متساقطة بحسب الفرض، وباقي العمومات باقية على حجّيّتها، والعلم الإجماليّ بصدق بعض العمومات المتردّدة بين ما هو حجّة وما هو غير حجّة لا يوجب ضرورة الاحتياط في دائرة غير الحجّة؛ إذ من المحتمل أن تكون العمومات الصادقة كلّها في دائرة العمومات التي هي حجّة بالفعل(1). فتحصّل: أنّه بعد سقوط أصالة العموم بالعلم الإجماليّ بالتخصيص


(1) نعم، كان بإمكان السيّد الخوئيّ أن يقول بضرورة الاحتياط في دائرة العمومات المقابلة للتخصيصات الواردة، ببيان: أنّنا وإن علمنا إجمالاً بصدق خمسة من التخصيصات مثلاً، ولكنّنا نجري على الإجمال أصالة العموم فيما عدا العموماتالخمسة

661

ـ بحسب فرضه ـ لا يوجد علم إجماليّ منجّز، فيكون العمل على طبق الأخبار النافية.

الصورة الثالثة: أن يكون الخبر والعامّ أحدهما إيجابيّاً والآخر تحريميّاً، وهنا أيضاً يرجع إلى العامّ ولا أثر للخبر، فإنّ الأخذ به إنّما يكون لأصالة الاشتغال الساقطة في قبال الدليل الاجتهاديّ.

هذا. ولو سلّمنا ما مضى عن السيّد الاُستاذ: من العلم الإجماليّ بتخصيص بعض العمومات، والعلم الإجماليّ ببقاء بعضها على عمومه، تأتّى فيما نحن فيه القول بأنّ العلم والخبر كلّ منهما غير حجّة في نفسه، وكلّ منهما طرف لعلم إجماليّ بالإلزام، والعلمان الإجماليّان متعاكسان في مادّة الاجتماع، ويكون ذلك من معارضة خبر إلزاميّ لأصالة الاشتغال، ولا يؤثّر العلمان في مادّة الاجتماع، ويؤثّران في مادّتي الافتراق.

 

مع التعارض بين خبرين:

المبحث الثالث: في التعارض بين خبرين، فإن كان أحدهما إيجابيّاً والآخر تحريميّاً تساقطا، فإنّ كلاًّ منهما وإن كان مقتضى طرفيّته لعلم إجماليّ بالإلزام التنجيز، لكن تنجيزهما معاً غير ممكن، وتنجيز أحدهما ترجيح بلا مرجّح ولا معنى لحقّ المولويّة في هذا المورد.

 


التي قابلت تلك التخصيصات الخمسة، وبهذا يثبت تعبّداً بقاء قسم من العمومات المقابلة للتخصيصات على عمومها، وهذا يوجب علينا الاحتياط في دائرة جميع تلك العمومات؛ لعدم تعيّن المخصّص منها من غير المخصّص. وهذا البيان وإن أمكن النقاش فيه فلسفيّاً لعدم العلم بتعيّن تلك الخمسة ولا ما عداها في الواقع، ولكنّه بيان مقبول عرفاً، وبالتالي يوجب البناء تعبّداً على حجّيّة بعض هذه العمومات وعلى ما يلزمه من وجوب الاحتياط.