583


بقى الكلام في أمرين:

الأوّل: كيف تثبت وثاقة الراوي ؟ فهل هذا بحاجة إلى البيّنة؛ لعدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، أو أنّ خبر الواحد حتّى لو لم يكن حجّة في الموضوعات بشكل مطلق يكون حجّة في إثبات وثاقة الراوي ؟

والثاني: هل نقول بحجّيّة خبر الواحد في الموضوعات بشكل مطلق في غير ما ثبت بدليل خاصّ احتياجه إلى البيّنة أو لا ؟

كيف تثبت وثاقة الراوي ؟

أمّا الأمر الأوّل ـ وهو أنّه كيف تثبت وثاقة الراوي ؟ ـ: فلا إشكال في ثبوت وثاقته بالبيّنة بناءً على حجّيّة البيّنة بسيرة متشرّعيّة، أو بسيرة العقلاء غير المردوع عنها، أو بدعوى أنّ الروايات المتفرّقة في الأبواب المتشتّتة أورثت القطع بحجّيّة البيّنة. إنّما الكلام في ثبوت وثاقة الراوي بخبر الثقة الواحد. ويمكن إثبات ذلك بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقال بأنّ كلّ ما دلّ على حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة فقد دلّ على حجّيّة وثاقة الراوي بخبر الثقة؛ وذلك لأنّ الوثاقة وإن كانت موضوعاً وليست حكماً شرعيّاً، ولكن حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة أيضاً تستبطن حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات؛ لأنّ خبر الوسيط موضوع للحجّيّة وهو لم يثبت إلّا بخبر الثقة الواحد. فهب أنّ دليل حجّيّة خبر الثقة لم يدلّ على حجّيّة الخبر في الموضوعات بشكل مطلق بحيث يشمل الموضوعات التي يترتّب عليها حكم جزئيّ، ولكن معنى شمول دليل الحجّيّة للإخبار بخبر الوسيط أنّ دليل الحجّيّة شمل الموضوع الذي يقع في طريق الوصول إلى الحكم الكلّيّ الفقهيّ لصدق عنوان معالم الدين عليه في حديث: (آخذ عنه معالم ديني)

584


مثلاً، أو أيّ عنوان آخر يفرض في روايات أو أدلّة حجّيّة خبر الثقة. ومن الواضح أنّ وثاقة الراوي أيضاً موضوع وقع في طريق الوصول إلى الحكم الكلّيّ الفقهيّ ولا فرق بينها وبين خبر الوسيط، فكلّ منهما جزء الموضوع للحجّيّة، ولو فرض عدم تماميّة الإطلاق الحكميّ في الأدلّة اللفظيّة بالنسبة للإخبار عن الوثاقة، فالعرف لا يحتمل الفرق بين هذين الجزءين.

إلّا أنّ التحقيق أنّ هذا الوجه بهذا النحو من الإجمال لا يتمّ؛ لأنّ حجّيّة الخبر مع الوسائط يمكن أن تكيّف بالتكييف الذي مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من رجوعه إلى الخبر بلا واسطة، ومعه لا تتوقّف حجّيّته على حجّيّة الإخبار بالخبر الذي هو أحد جزءي الموضوع، فلا يمكن التعدّي إلى الإخبار بالوثاقة.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ أدلّة حجّيّة خبر الثقة شاملة للإخبار بالوثاقة، فإنّ الدليل على حجّيّة خبر الثقة إمّا هو السيرة العقلائيّة، أو سيرة الأصحاب، أو السنّة:

أمّا السيرة العقلائيّة فقد مضى أنّها لا تفرّق بين الموضوعات والأحكام.

وأمّا سيرة الأصحاب فالبرهان الذي تمّ على ثبوتها في حجّيّة الإخبار عن رأي المعصوم بنفسه تامّ أيضاً على ما يكثر وقوعه في طريق إثبات رأي المعصوم، وهو إثبات وثاقة الراوي، فإنّ وثاقة الوسيط في الأخبار مع الواسطة المتعارف وجودها في زمان الإمام ليست في كثير من الأحيان معلومة للمرويّ إليه، وإنّما يعتمد على شهادة نفس الراوي، أو غيره بوثاقة الوسيط. وأخبار البيّنة في الأبواب المتفرّقة التي يحتمل بشأنها كونها ردعاً عن حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات إنّما وردت جميعاً في الموضوعات التي يترتّب عليها الحكم الجزئيّ دون ما يكون في طريق الوصول إلى الحكم الكلّيّ الفقهي.

وأمّا السنّة فجملة منها تشمل الإخبار بوثاقة الراوي بما فيها الحديث شبه القطعيّ

585


المشتمل على قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما...» فإنّ قوله: (اسمع وأطع) يشمل على الأقلّ الإطاعة في الأحكام الكلّيّة الفقهيّة التي يخبر بها عن طريق الإخبار بموضوعها، وهو الخبر ووثاقة المخبر.

إلّا أنّنا لو قلنا: إنّ تفريع الأمر بالسماع والإطاعة على قوله: (ما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي) يبطل إطلاقه في غير دائرة المفرّع عليه، سقطت دلالة الحديث على حجّيّة الإخبار بوثاقة الراوي وإن فرضنا شمول قوله: (ما أدّى إليك عنّي) للأداء مع الواسطة بنكتة رجوعه إلى الأداء بلا واسطة.

كما أنّ قوله: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» لا يشمل الإخبار بوثاقة الراوي؛ لأنّ هذا ليس رواية لأحاديثهم وإن فرضنا شموله للخبر مع الواسطة باعتباره رواية لأحاديثهم أيضاً.

هذا إذا قلنا بأنّ الحديث إنّما دلّ على حجّيّة روايات من يروون أحاديثهم، أمّا إذا قلنا بأنّه دلّ على ما هو أوسع من ذلك: من إعطاء مقام الولاية أو الفتوى، فلا يختصّ مدلوله بنقل الحديث عن المعصوم، فقد يقال بشموله لنقل وثاقة الراوي أيضاً.

الوجه الثالث: أن يقال: بعد أن ثبتت حجّيّة أخبار الثقات مع الوسائط فنحن بإمكاننا أن نتمسّك ببعض الأخبار التي تكون وسائطها جميعاً ثقات بالقطع واليقين، أو بشهادة البيّنة وتدلّ على حجّيّة إخبار الثقة عن وثاقة الراوي، من قبيل حديث: «فاسمعلهما وأطعهما» لو لم نحصر دلالته في دائرة ما فرّع عليه من قوله: «ما أدّيا إليكعنّي فعنّي يؤدّيان»، وحديث يونس بن يعقوب: «قال: كنّا عند أبي عبدالله(عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع، أما لكم من مستراح تستريحون إليه، ما يمنعكم من الحارث بن

586


المغيرة النضريّ»(1)، فإنّ هذا الحديث يفهم منه جواز الاستراحة والفزع إلى مثل الحارث بن مغيرة النصريّ في كلّ ما يريح الإنسان في فهم الحكم الكلّيّ الإلهي، ومنها ثبوت وثاقة الراوي، ومنها أيضاً الشهادة بالاجتهاد والأعلميّة والإخبار عن فتوى مرجع التقليد. وكلّ راو واقع في سلسلة سند هذا الحديث مقطوع الوثاقة أو مشهود بوثاقته بالبيّنة.

نعم، هذه الرواية واردة في رجال الكشّي الذي هو كثير الأغلاط، ولكن العلم الإجماليّ بأغلاطه منحلّ بما استخرجه المحقّقون المتأخّرون من الأخطاء الموجودة في رجال الكشّي ـ جزاهم الله خير الجزاء ـ أمّا بلوغ الأخطاء إلى حدّ لا تجري أصالة عدم الخطأ بعد انحلال العلم الإجماليّ فغير معلوم.

حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات:

وأمّا الأمر الثاني ـ وهو أنّه هل نقول بحجّيّة خبر الواحد في الموضوعات بشكل مطلق وفي غير وثاقة الراوي التي انتهينا عن حجّيّته فيها أو لا ؟ ـ: فقد ذهب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في المجلّد الثاني من البحوث إلى حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، ودليله على ذلك أمران:

أحدهما: دعوى السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الثقة في الموضوعات وعدم اختصاصها بباب الأحكام.

وقد مضى منّا التشكيك في أصل دعوى السيرة العقلائيّة على حجّيّة خبر الواحد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 24، ص 105. وفي الوسائل، ج 27 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)، ورد: الحارث بن مغيرة النصريّ. وهو الصحيح، ولم يرد النضريّ في كتب الرجال.

587


ومضى منّا أنّه على تقدير التسليم بها لا يحتمل الفرق بين باب الأحكام وباب الموضوعات.

وثانيهما: مثل قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان»، فهذا التعبير يفهم تعليل حجّيّة أدائه عن الإمام(عليه السلام) بالوثاقة، والتعليل إشارة إلى كبرى كلّيّة قد تتردّد سعةً وضيقاً بين عدّة كبريات، فالمفروض الاقتصار على أضيق كبرى تشمل المورد ما لم تكن هناك كبرى معهودة عرفاً، ومركوزة مناسبتها للصغرى المصرّح بها، وإلّا فهذا الارتكاز بنفسه قرينة على ملء الفراغ بتقدير تلك الكبرى المعهودة ولو كانت أوسع من مقدار الحاجة في اقتناص النتيجة المذكورة في النصّ، ومقامنا من هذا القبيل، فإنّ الحاجة في اقتناص النتيجة بحسب المورد لا تكون إلى أكثر من تقدير حجّيّة خبر الثقة في الأحكام كبرى في القياس، ولكن حيث إنّ كبرى حجّيّة خبر الثقة بنحو أوسع مركوزة ـ بحسب ما يعتقده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ فينصرف ملء الفراغ إليها حفظاً لمناسبات الصغرى والكبرى المركوزة في الذهن العرفيّ، وتلك الكبرى الأوسع هي حجّيّة خبر الثقة مطلقاً.

ولا يتوهّم أنّ هذا رجوع إلى الاستدلال بالسيرة، فإنّ السيرة العقلائيّة بذاتها غير حجّة، وإنّما الحجّيّة لموافقة الشارع، وموافقته تارةً تكشف بعدم الردع، وهذا هو الوجه الأوّل. واُخرى بدلالة لفظيّة، وإن كانت نفس السيرة دخيلة في تكوّنها، وهذا هو الوجه الثاني. ويظهر الأثر العمليّ فيما لو احتملنا الردع من دون أن يثبت بدليل خاصّ، فهذا يضرّ بالدليل الأوّل ولا يضرّ بالدليل الثاني.

وعلى أيّة حال، فبناءً على ما مضى منّا ـ من التشكيك في أصل السيرة العقلائيّة ـ يبطل هذا الوجه أيضاً.

ولو سلّمنا السيرة العقلائيّة فقد يدّعى ورود الردع عنها في الشبهات الموضوعيّة، وذلك إمّا بحديث عامّ، أو بأحاديث خاصّة في موارد متفرّقة يقتنص منها الردع عن كبرى السيرة.

588


أمّا الحديث العامّ: فهو عبارة عن حديث مسعدة بن صدقة(1). وأورد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)على رادعيّته وحده بوجهين:

أحدهما: أنّ رواية واحدة لا تكفي لإثبات الردع؛ لأنّ مستوى الردع يجب أن يتناسب مع درجة قوّة السيرة وترسّخها، ومثل هذه السيرة على العمل بخبر الثقة لو كان الشارع قاصداً للردع عنها لأصدر بيانات كثيرة، ولوصلتنا منها نصوص عديدة كما صار بالنسبة للقياس، ولما اكتفى بإطلاق خبر من هذا القبيل.

والثاني: أنّ الرواية ضعيفة سنداً.

وأورد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على الإشكال بضعف سند الرواية بأنّ احتمال صدقها يوجب على الأقلّ احتمال الردع، وهو كاف لإسقاط السيرة عن الحجّيّة.

وأجاب (رضوان الله عليه) على ذلك بأنّ عدم الردع قبل الإمام الصادق(عليه السلام) في صدر الإسلام محرز؛ لعدم نقل ما يدلّ على الردع، ويكشف ذلك عن الإمضاء حدوثاً، فإذا أوجب خبر مسعدة الشكّ في نسخ ذلك الإمضاء جرى استصحاب الإمضاء.

أقول: إنّ دلالة عدم وصول الردع من زمان ما قبل الإمام الصادق(عليه السلام) على الإمضاء قابلة للنقاش؛ لأنّ النصوص الواصلة في الأحكام قبل الإمام الصادق(عليه السلام)قليلة، ولعلّ هذا من جملة الأحكام التي لم تصلنا عمّا قبل الإمام الصادق(عليه السلام).

إلّا أن يفترض أنّ رسوخ السيرة يكون بنحو لو كانت مردوعة لوصل الردع حتّى عمّا قبل الإمام الصادق(عليه السلام).

أمّا إذا قيل: إنّنا نتمسّك بالإمضاء الثابت في أوّل الشريعة، حيث إنّ الإسلام أقرّ أوّلاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 12، ب 4 ممّا يكتسب به، ح 4، ص 60.

589


كلّ ما بيد العقلاء: من نظم وقواعد، ولم يغيّر شيئاً عدا إيجاب الاعتراف بالتوحيد والرسالة، فإذا شككنا بعد ذلك في النسخ جاء الاستصحاب.

قلنا: إنّ المستفاد من قوله(صلى الله عليه وآله) في صدر الشريعة: «قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا» وسكوته عن سائر الاُمور ليس بأكثر من عدم الإلزام بحكم إلزاميّ غير الإيمان بالتوحيد والرسالة دون إقرار كلّ النظم العقلائيّة الموجودة.

وأمّا الأحاديث الخاصّة في موارد متفرّقة:

فمنها: ما عن عبدالله بن سليمان عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الجبن قال: «كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان أنّ فيه ميتة»(1)، وسند الحديث غير تامّ.

ومنها: ما عن محمّد بن مسلم بسند تامّ عن أحدهما(عليهما السلام) قال: «سألته عن رجل ترك مملوكاً بين نفر، فشهد أحدهم أنّ الميّت أعتقه. قال: إن كان الشاهد مرضيّاً لم يضمن، وجازت شهادته في نصيبه، ويستسعى العبد فيما كان للورثة»(2).

ومنها: ما ورد بسند غير تامّ عن منصور: «قال سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل هلك وترك غلاماً، فشهد بعض ورثته أنّه حرّ. قال: إن كان الشاهد مرضيّاً جازت شهادته، ويستسعى فيما كان لغيره من الورثة»(3). وورد عنه نفس المضمون بسند تامّ من دون التصريح بفرض كون الشاهد مرضيّاً(4).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 17، ب 61 من الأطعمة المباحة، ح 2، ص 91.

(2) الوسائل، ج 16، ب 52 من العتق، ح 1، ص 56.

(3) المصدر السابق، ح 2.

(4) الوسائل، ج 18، الباب 52 من الشهادات، الحديث الوحيد في الباب، ص 304.

590


ومنها: روايات عدم نفوذ شهادة النساء غير المختصّة بباب المرافعة الواردة تارةًفي موارد خاصّة كالرضاع(1)، والعدّة(2)، والطلاق(3)، والنكاح(4)، واُخرى بشكل مطلق غير ما استثني(5)، وما كان منها غير مقيّد بفرض وثاقة الناقل لا تكون دلالته علىعدم حجّيّة خبر الثقة بمجرّد الإطلاق، بل بما هو أقوى من الإطلاق؛ لأنّ الظاهر أنّلها نظراً إلى خصوص خبر الثقة؛ إذ الحيرة والسؤال والجواب إنّما ينصبّ عادة علىخبر الثقة.

ويوجد في روايات شهادة النساء في باب النكاح ما يقول بأنّه لا تنفذ شهادة النساء إلّا مع رجل، وهذا يدلّ إضافة إلى عدم نفوذ شهادة النساء وحدهنّ على عدم نفوذ شهادة الرجل الواحد، وإلّا لما احتجنا إلى ضمّ امرأتين إليه.

ومنها: ما دلّ على أنّ الهلال لابدّ في ثبوته بالشهادة من شهادة رجلين عدلين(6).

ومنها: ما دلّ على عدم ثبوت الشهادة بخبر الواحد(7).

أضف إلى ذلك كلّه ما هو من ضروريّات الفقه: من عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات في باب القضاء، ولا أقصد بذلك اختصاص الحجّيّة القضائيّة بالبيّنة، أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الوسائل، ج 14، ب 12 ممّا يحرم بالرضاع.

(2) راجع الوسائل، ج 15، ب 28 من العدد.

(3) (4) (5) جمع صاحب الوسائل أكثر هذه الروايات في الجزء 18، الباب 24 من الشهادات.

(6) توجد جملة من رواياته في الوسائل، ج 7، ب 11 من أحكام شهر رمضان.

(7) راجع الوسائل، ج 18، ب 44 من الشهادات، ح 2 و4، ص 298.

591


العدل الواحد مع اليمين، وإنّما أقصد بذلك أنّ المدّعي لو امتلك خبر واحد ثقة لم يتحوّل بذلك إلى المنكر لتطابق قوله مع الحجّة وهي خبر الثقة، وهذا يعني أنّ خبر الثقة إذن غير حجّة في الموضوعات في مورد القضاء.

وأضف إلى ذلك أيضاً ما هو واضح في باب الحدود نصّاً وفتوىً: من عدم كفاية خبر الواحد فيها، بل لابدّ من شاهدين في بعضها، وشهود أربعة في بعضها الآخر.

أمّا كيفيّة اقتناص النتيجة من هذه الروايات الواردة في الموارد المتفرّقة فتكون بأحد وجوه أربعة:

الوجه الأوّل: دعوى أنّ كثرة هذه الروايات وانقسامها إلى أبواب كثيرة من الفقه تشرف الفقيه على القطع بأنّها كانت ناظرة إلى قاعدة عامّة لا تختصّ بباب دون باب، وهي عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، وهذا يعني الردع عن السيرة لو تمّت في نفسها.

وقد يقال: إنّ هذا القطع لو تمّ فإنّما يتمّ في القاسم المشترك الذي تشترك فيه أكثر هذه الروايات، وهي موارد ترقّب تدخّل الحاكم فيها من قبيل: الهلال، والحدود، والنكاح والطلاق، إمّا من باب أنّ من حقّ الحاكم ابتداءً التدخّل كما في الهلال والحدود، أو من باب أنّ المسألة ذات طرفين فيترقّب الانتهاء إلى النزاع، ووصول الأمر إلى الحاكم كما في النكاح والطلاق. أمّا ما يغلب عليه جانب الفرديّة البحتة كما في الطهارة، والنجاسة، وعدّة الطلاق، فالروايات الواردة فيه المانعة عن العمل بخبر الواحد قليلة، واحتمال الفرق وارد.

ولكن يمكن أن يقال في مقابل ذلك: إنّ احتمال الفرق بين ما يغلب عليه جانب الوظيفة الفرديّة وما يترقّب انتهاؤه إلى تدخّل الحاكم ولكنّه لم ينته إلى تدخّله صدفة لعدم النزاع وتوافقهما على العمل بخبر الواحد لو كان حجّة بعيد، خاصّة وإنّ ما يغلب عليه

592


الجانب الفرديّ قد يؤدّي أيضاً بالنتيجة إلى قضايا ذات طرفين وإلى النزاع، كما في عدّة الطلاق لو اختلفا في أنّ العقد أو رجوع الزوج كان في داخل العدّة أو خارجها، وكما في الطهارة والنجاسة لو اختلف البائع والمشتري في طهارة الجبن المشترى ونجاسته، وخاصّة إذا لاحظنا ما أشرنا إليه: من أنّ خبر الواحد في القضيّة التي هي في أصلها فرديّة لو كان حجّة فمن الغريب أنّه بعد تصادف وقوع النزاع لا يجعل من طابق قوله هذا الخبر منكراً، بينما ترى أنّ أيّ أصل من الاُصول العمليّة يجعل من طابقه قوله منكراً.

الوجه الثاني: الاكتفاء باحتمال كون هذه الروايات الكثيرة تشير إلى كبرى كلّيّة، وهي عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، فإنّ هذا يعني احتمال الردع.

إلّا أنّ هذا الوجه لا يتمّ لو قلنا بما قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): من تماميّة إمضاء السيرة في صدر الشريعة، والحاجة إلى القطع بالردع كي لا يجري الاستصحاب.

وكذلك لا يتمّ لتخصيص الإطلاق المستفاد من مثل: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» بناءً على تعيين الكبرى المحذوفة ببركة السيرة في حجّيّة خبر الثقة مطلقاً على ما ادّعاه الاُستاذ الشهيد(رحمه الله)، وكذلك لا يتمّ لتخصيص إطلاق آية النبأ لو قلنا بتماميّة دلالتها على حجّيّة خبر العدل.

الوجه الثالث: أن يقال: إنّ العرف بعد تعدّد المورد وتكثّره يُلغي خصوصيّة المورد ويفهم القاعدة العامّة، وهي: أنّ خبر الثقة في الموضوعات بما هو كذلك ليس حجّة إلّا في مورد يفترض خروجه عن القاعدة بنصّ خاصّ.

وهذا الوجه مبتن على مبنى الاعتماد على ظهور يتكوّن من فرض الأدلّة المتفرّقة كخطاب واحد، وهذا ليس صحيحاً عندنا؛ لأنّه اعتماد على ظهور تقديري لا على ظهور فعليّ.

593


الوجه الرابع: أن يقال في كلّ رواية من الروايات الماضية: إنّ العرف يلغي فيها خصوصيّة المورد، ويستفيد منها قاعدة عامّة، وهي: عدم حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، أو ـ على الأقلّ ـ في غير الموضوعات الفرديّة البحتة.

إلّا أنّ هذا لو تمّ فقد يقال: إنّه إنّما يفيد بمقدار إيجاد احتمال الردع، ولا يفيد لإسقاط السيرة لو فرض تماميّة إمضائها في صدر الشريعة، ولا لتقييد إطلاقات الحجّيّة لو شملت الخبر في الموضوعات، وذلك بدعوى أنّه كما وردت أخبار خاصّة في موارد خاصّة من الموضوعات تدلّ على عدم حجّيّة خبر الواحد فيها، كذلك وردت أخبار اُخرى في موارد اُخرى من الموضوعات تدلّ على حجّيّة الواحد فيها، فلو انتزع العرف من الأوّل قاعدة عامّة تقتضي عدم الحجّيّة في مطلق الموضوعات كذلك ينتزع من الثاني قاعدة عامّة تقتضي الحجّيّة فيها، وهما يتعارضان.

وقد جمع اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المجلّد الثاني من البحوث روايات كثيرة قد يستدلّ بها على حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، وناقش هو(رحمه الله) في دلالة أكثرها ولم يقبل عدا دلالة حديثين منها، ونحن هنا نقتصر على ذكر هذين الحديثين، أمّا باقي الأحاديث التي ذكرها فمن الواضح بالمراجعة عدم تماميّة دلالتها:

الأوّل: ما ورد بسند تامّ عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الاُمور، وأشهد له من ذلك شاهدين، فقام الوكيل، وخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً من الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل أن يعزل فإنّ الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل كره الموكّل أم رضي. قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم (أن يعزل خ ل) العزل، أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة، فالأمر على ما أمضاه ؟ قال: نعم. قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضى الأمر ثُمّ

594


ذهب حتّى أمضاه لم يكن ذلك بشيء ؟ قال: نعم، إنّ الوكيل إذا وكّل ثُمّ قام عن المجلس فأمره ماض أبداً، والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه، أو يشافه (يشافهه خ ل) بالعزل عن الوكالة(1).

ويمكن الإيراد على الاستدلال بهذا الحديث بأنّ غاية ما يدلّ عليه هذا الحديث هي: أنّ خبر الثقة قام مقام العلم الموضوعيّ بالعزل في إبطال عمل الوكيل واقعاً عند مصادفة العزل، وفي قطع استصحاب بقاء الوكالة، وهذا غير قيامه مقام القطع الطريقيّ الذي هو معنى حجّيّته.

وأجاب على ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في البحوث(2) بأنّه يفهم عرفاً من إقامته مقام القطع الموضوعيّ المأخوذ على وجه الطريقيّة في الموضوع أنّه حجّة وكاشف شرعاً.

أقول: إنّ هذا الاستظهار غير واضح عندي.

الثاني: ما ورد بسند تامّ عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن رجل كانت له عندي دنانير، وكان مريضاً فقال لي: إن حدث بي حدث فاعط فلاناً عشرين ديناراً، واعط أخي بقيّة الدنانير. فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك: انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي، فتصدّق منها بعشرة دنانير أقسمها في المسلمين. ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئاً. فقال: أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير(3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 13، ب 2 من الوكالة، ح 1، ص 286.

(2) ج 2، ص 98.

(3) الوسائل، ج 13، ب 97 من الوصايا، ح 1، ص 482.

595

 

منع الحاجة إلى قرينة إضافيّة:

الجهة الثانية: هل أنّ وثاقة الراوي، أو موثوقيّة الرواية بمعنى الظنّ بصدقها الناشئ من وثاقة الراوي كافية في حجّيّة الخبر ؟ أو لابدّ من أمر زائد وهو وجود قرينة خارجيّة وشاهد صدق لذلك الخبر ؟

التحقيق: كفاية تلك الوثاقة أو الموثوقيّة، وعدم الحاجة إلى قرينة اُخرى خارجيّة، ودليلنا على ذلك هو السنّة والسيرة:

أمّا السنّة: فلأنّ مثل قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان» ظاهر في فرض الموضوع للحجّيّة نفس الوثاقة أو الموثوقيّة بالمعنى الذي عرفت دون دخل شيء آخر فيه، فإنّه فرّع الحجّيّة على الوثاقة وعلّلها بها منفردة. ونحو ذلك بعض الروايات المؤيّدة لهذه الرواية كقوله: «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده مرضيّاً» بناءً على دلالته على


ولعلّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) حمل جهة السؤال في هذا الحديث على السؤال عن حجّيّة إخبار الثقة، ولكن من المحتمل: أنّ هذا السائل كان جازماً بصدق المخبر ولو بقرينة أنّه أخبره بأمر وقع بينه وبين المرحوم في غياب هذا المخبر الثقة، بل ولعلّ المقصود من قوله: «رجل مسلم صادق» الجزم بصدقه، وكان سؤاله منصبّاً على أنّه هل يجب إطلاع الوارث على الأمر كي يقبل بذلك، أو يرفع الأمر إلى الحاكم، أو بإمكانه أن ينفّذ الوصيّة ويعطي الباقي إلى الوارث من دون إعلامه بالأمر حذراً من عدم اقتناع الوارث بذلك، وتحقّق النزاع والمحاكمة ؟ فكان الجواب بالعمل بالوصيّة. ولو فرض إجمال السؤال فالصحيح أنّ إجمال السؤال يؤدّي إلى إجمال الجواب لا إلى الإطلاق بملاك ترك الاستفصال.

596

حجّيّة خبر الثقة. فإنّ ظاهره كون المقياس هو كون الراوي مرضيّاً من دون إضافة قيد آخر.

أمّا السيرة: فللتمسّك بها هنا تقريبان:

التقريب الأوّل: أنّنا لو فرضنا عدم قطعيّة السنّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، وكان دليلنا القطعيّ عبارة عن السيرة، فلا إشكال في أنّ حديث عبدالله بن جعفر الحميريّ الذي ورد فيه قوله: «العمريّ وابنه ثقتان ...» داخل في القدر المتيقّن من السيرة، ولو مع فرض الشكّ في موضوع الحجّيّة الثابتة بالسيرة، وأنّه هل هو وثاقة الراوي وحدها، أو لا ؟ فإنّ هذا الحديث شامل لكلّ ما يحتمل دخله في حجّيّة الخبر، من وثاقة الراوي، وعمل الأصحاب، وذكره في الكتب المعتبرة، واعتمادهم عليه، ونحو ذلك، فإنّ القرائن التي تذكر في الفقه لصحّة الخبر عبارة عن هذه الاُمور، وهذه مجتمعة في هذا الحديث، ولو فرض لزوم التعويل على قرينة اُخرى لزم عدم حجّيّة خبر في الفقه، وإذا ثبتت حجّيّة هذا الحديث بالسيرة تمسّكنا بظهوره. وقد عرفت ظهوره في موضوعيّة وثاقة الراوي وحدها للحجّيّة بما هي وثاقة للراوي، أو بما هي مورثة لموثوقيّة الرواية.

التقريب الثاني: أنّ الأخبار الواردة عن الثقة من دون الاحتفاف بقرينة معاضدة كانت موجودة في ضمن أخبار أصحابنا لا محالة، وكانت ممّا يعمّ بها الابتلاء، فلا يخلو الأمر من أربعة فروض:

إمّا أنّهم كانوا يعملون بها من دون سؤال.

أو أنّهم سألوا الإمام عن حجّيّتها، فاُجيبوا بالإثبات فعملوا بها.

أو أنّهم سألوا فاُجيبوا بالنفي فتركوا العمل بها.

أو أنّهم تركوا العمل بها من دون سؤال.

والأوّلان لا يفيدان المطلوب، والأخيران باطلان، فإنّنا لا نحتمل تركهم للعمل

597

من دون سؤال أصلاً؛ إذ لئن لم يكن الارتكاز العقلائيّ لهم على الحجّيّة فلا أقلّ من الميل، وإلّا فلا أقلّ من تحيّرهم واحتمالهم للحجّيّة، فإنّ حجّيّتها ليست ممّا يخالفه الارتكاز والطبع العقلائيّ. ولا نحتمل أيضاً أنّهم سألوا فاُجيبوا بالنفي، ولم يصلنا النفي بالرغم من توفّر الدواعي في مثل ذلك إلى السؤال والجواب والنقل. ويؤيّد المقصود أنّه بدلاً عن أن يصلنا النفي وصلنا الإثبات في بعض الروايات، وتؤيّده أيضاً القرائن الكثيرة الدالّة على ارتكاز موضوعيّة عنوان وثاقة الراوي للحجّيّة في أذهان أصحاب الأئمّة وفقهائنا المتقدّمين ـ رضوان الله عليهم ـ إلى زمان الشيخ الطوسيّ(قدس سره)، وتلك القرائن كثيرة جدّاً، منها ما يلي:

1 ـ قوله: «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني ؟» فإنّه يدلّ على مركوزيّة حجّيّة خبر الثقة بما هو خبر الثقة في ذهنه.

2 ـ كلام الشيخ(قدس سره) في العدّة: أنّي وجدت الطائفة مجمعة على العمل بهذه الأخبار (يعني غير المحفوفة بقرينة تفيد العلم) حتّى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوا من أين قلت ؟ فإذا أحالهم إلى كتاب معروف، وأصل مشهور، وكان راويه ثقة لا ينكرون حديثه سلّموا الأمر في ذلك، وهذه عادتهم من عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومن بعده من الأئمّة إلى زمان الصادق الذي انتشر عنه العلم، وكثرت الرواية من جهته.

3 ـ قال النجاشيّ(رحمه الله) في محمّد بن أحمد بن يحيى: وكان محمّد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمّد بن أحمد بن يحيى ما رواه عن محمّد بن موسى الهمدانيّ، وعدّ نيّفاً وعشرين رجلاً ثُمّ قال: قال أبو العبّاس ابن نوح: وقد أصاب شيخنا أبو جعفر في ذلك كلّه، وتبعه أبو جعفر ابن بابويه على ذلك إلّا في محمّد بن عيسى بن عبيد، فلا أدري ما رأيه فيه؛ لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة.

598

4 ـ ما في الفقيه: وأمّا خبر صلاة يوم الغدير (يشير بذلك إلى خبر ورد في استحباب صلاة العيد في يوم الغدير)، فإنّ شيخنا محمّد بن الحسن كان لا يصحّحه، ويقول: إنّه كان من طريق محمّد بن موسى الهمدانيّ، وكان غير ثقة، وكلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ـ قدّس الله روحه ـ ولم يحكم بصحّته من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح. فإنّ الظاهر من مثل هذا الكلام كون الوثاقة هي المدار وجوداً وعدماً.

5 ـ ما يوجد في كلمات الرجاليّين كالنجاشيّ وغيره في شهاداتهم بشأن الرواة: من أنّ فلاناً صحيح الحديث، وثقة في حديثه، ونحو ذلك، فإنّ مثل هذا الكلام منهم يشعر بأنّ الوثاقة بنفسها موضوع للاعتماد على الحديث.

6 ـ ما يذكر من عمل الأصحاب بمراسيل ابن أبي عمير والبزنطيّ وغيرهما؛ لأنّهم لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

7 ـ كلام جعفر بن قولويه في كامل الزيارات: إنّه لا يروي في الكتاب إلّا ما انتهى إليه من جهة الثقات من أصحابنا، فإنّ هذا يشعر بأنّ خبر الثقة يكون معتمداً عليه ومقبولاً.

8 ـ ما ذكره عليّ بن إبراهيم بن هاشم في مقدّمة تفسيره ـ بناءً على صحّة إسناد ما يسند إليه: من التفسير ـ من قوله: ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم. فإنّ هذا كسابقه يشعر أيضاً بالمقصود.

وعلى أيّ حال، فقد تحصّل إلى هنا أنّه لا تشترط في حجّيّة خبر الثقة قرينة إضافيّة على صدقه، بل تكفي في حجّيّته الوثاقة، فيكون خبر الثقة حجّة مطلقاً في قبال دعوى اشتراط القرينة سواء فرضنا أنّ موضوعيّة الوثاقة تكون بما هي حالة نفسيّة قائمة بالراوي، أو بما هي تعطي الكشف للخبر.

599

 

وثاقة الراوي وموثوقيّة الرواية:

الجهة الثالثة: في أنّ وثاقة الراوي متى تؤدّي إلى موثوقيّة الرواية، ومتى لا تؤدّي إليها ؟ وأيّ حالة من هذه الحالات تدخل في نطاق الحجّيّة ؟ فنقول:

تارةً: يفترض أنّ الوثاقة التي هي حالة نفسيّة موجبة للتحرّج والتحرّز من الكذب بالغة إلى مستوى يغلب جميع دواعي الكذب على الإطلاق بما فيها أقوى المغريات والدواعي للكذب التي يمكن افتراضها في نفس المخبر، وهذا يؤدّي إلى القطع بالصدق، وهو خارج عن محلّ البحث، فإنّ كلامنا في الخبر الظنّيّ.

واُخرى: يفترض أنّ الوثاقة لم تبلغ هذه الدرجة، وهذا هو محلّ البحث عن أنّه متى يحصل الظنّ بصدق الخبر على أساس وثاقة المخبر، ومتى لا يحصل. وهذا البحث وإن كان لم يطرق حتّى الآن، ولكنّه بحث مثمر كما سوف يظهر، ومن السهل لنا طرقه بعد أن عرفنا قيام ذلك على أساس حساب الاحتمالات.

ولا يخفى أنّ هذه الوثاقة ليست هي العامل الوحيد الذي يجب حسابه في حصول الظنّ، بل لابدّ من ضمّها إلى حساب حال مزاحمها: من داعي الكذب، كي تخرج النتيجة النهائيّة، فلو فرض القطع بغالبيّة داعي الكذب في نفس هذا المخبر على مستوى الوثاقة الموجودة لديه حصل القطع بالكذب، ولو فرض القطع بعدم داعي الكذب في نفسه، أو مغلوبيّته لما يمتلكه من الوثاقة حصل القطع بالصدق، وكلّ هذا خارج عن محلّ الكلام، ولابدّ من نشوء شكّ في المقام كي يكون خبره محطّاً للبحث عن الحجّيّة، ويتصوّر للشكّ في صدق خبر الثقة أحد مناشئ ثلاثة:

المنشأ الأوّل: الضيق في جانب الوثاقة أو احتماله، وذلك في نفس الوثاقة، أو في اقتضائها لعدم الكذب:

أمّا الضيق في نفس الوثاقة، فكما لو لم تكن وثاقته قائمة على أساس الدين،

600

بل كانت قائمة على أساس علم الأخلاق، وكان يبني علم الأخلاق على أساس المصلحة والمفسدة لا على أساس الحسن والقبح، ففي المورد الذي يعتقد هذا الشخص عدم المفسدة في الكذب لا يكون في نفسه تحرّج عن الكذب. أو كانت وثاقته قائمة على أساس الدين وحرمة الكذب، لكنّه كان يرى أنّ الكذب في جعل المعجز للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، أو الأئمّة(عليهم السلام)، ونقل فضائلهم ومصائبهم ـ مثلاً ـ ليس حراماً؛ لأنّه ترويج للدين، والكذب في ترويج الدين غير حرام، من قبيل ما عن بعض العامّة: من أنّه إنّما يحرم الكذب على النبيّ(صلى الله عليه وآله) لا الكذب له، ونحن ننقل المعاجز له كذباً، وهو كذب له لا عليه، فلا يشمله قوله: «من كذب عليّ فليتبوّء مقعده من النار».

ومهما احتملنا في مورد مّا خروجه عن دائرة وثاقة الراوي للضيق فيها، لم يكن خبره فيه حجّة حتّى لو قيل بأنّ الوثاقة بما هي حالة نفسيّة موضوع للحجّيّة لا بما هي مورثة للوثوق بالرواية والكشف الفعليّ. (ومقصودنا بالكشف الفعليّ هنا عدم انتفاء كشف الوثاقة من ناحية المزاحم الداخليّ، أعني: داعي الكذب. وأمّا انتفاؤه من ناحية تأثير المزاحم الخارجيّ ووجود أمارة معارضة، فهذا ما سوف نبحثه مستقلاًّ عن هذه الجهة إن شاء الله ).

والوجه فيما قلناه: من عدم الحجّيّة في المقام حتّى على مبنى الاكتفاء بالوثاقة بمعنى الحالة النفسيّة واضح؛ لأنّ أصل الوثاقة في هذا المورد غير محرزة بحسب الفرض.

وأمّا الضيق في اقتضاء الوثاقة، فمقصودنا منه: أن يفرض أنّ الحالة النفسيّة الثابتة لهذا الشخص ليست عبارة عمّا يوجب التحرّز عن أصل الكذب، وإنّما له حالة التحرّج عن تكرّر الكذب وتكثّره على اختلاف درجات ذلك. ولا يبعد أن يقال: إنّ مَن لا يتحرّج عن أصل الكذب لا يصدق عليه عرفاً ثقة، أو ـ على

601

الأقلّ ـ يشكّ في ذلك، ولايشمله دليل الحجّيّة.

المنشأ الثاني: الشكّ في جانب المزاحم الداخليّ وهو داعي الكذب، بأن يشكّ في أصل وجوده، أو في نسبته إلى درجة الوثاقة في نفس هذا الشخص، للجهل بمرتبة الداعي أو الوثاقة. وعندئذ تارةً يفرض أنّه لا يحصل الظنّ بصدق خبره (والكلام كلّه بقطع النظر عن المزاحم الخارجيّ المانع عن حصول الظنّ)، واُخرى يفرض أنّه يحصل الظنّ بصدق خبره، أي: في نفسه لا بالاعتضاد بقرينة خارجيّة:

أمّا الفرض الأوّل: فكما لو عرفنا ـ مثلاً ـ أنّه لو وجد في هذا المورد لدى هذا الشخص داعي الجاه والعظمة الموجب للكذب لكان غالباً على وثاقته، لكن شككنا شكّاً متساوي الطرفين في وجود هذا الداعي وعدمه، أو عرفنا وجود هذا الداعي لكن شككنا في درجة الوثاقة شكّاً متساوي الطرفين، فدار أمرها بين درجة غالبة على هذا الداعي، أو درجة مغلوبة له، أو علمنا بكون درجة الوثاقة في نفسها غالبة أو مغلوبة لكن احتملنا احتمالاً متساوي الطرفين طروّ حالة نفسيّة على الراوي في زمان نقله لهذا الحديث تجعل وثاقته مغلوبة أو غالبة، وحجّيّة خبر مثل هذا الشخص في هذا الفرض وعدمها تترتّب على أنّ الموضوع للحجّيّة هل هو وثاقة الراوي بما هي حالة نفسيّة له، أو وثاقته بما هي تعطي الكشف للخبر. فعلى الأوّل يكون حجّة، وعلى الثاني لا يكون حجّة؛ لانتفاء الكشف حتّى في نفسه وبقطع النظر عمّا يعارض كشفه؟ والصحيح هو الثاني، فإنّ حديث: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان»، ظاهر في الثاني:

أمّا أوّلاً: فلأنّ كلمة الثقة بنفسها يفهم منها عرفاً أخذها بعنوان الطريقيّة والكاشفيّة لا بعنوان الموضوعيّة بما هي تعبّداً.

وأمّا ثانياً: فلأنّ ظاهر التعليل بالوثاقة في ذيله هو التعليل المتفاهم في نظر

602

العرف المقرّب للحكم المعلّل في نظرهم، لا التعليل التعبّديّ الصرف، فإنّ الظاهر من التعليلات والغالب فيها كونها للتقريب إلى الذهن وتوجيه الحكم بما يستحسنه العقلاء، وإن كان قد يتّفق أنّ التعليل ليس لذلك، وإنّما هو لأجل إعطاء ضابط كلّيّ.

وعلى هذا فلابدّ أن تكون العبرة بالوثاقة بما لها من الكشف، حتّى يكون تعليلاً بأمر يناسب الحكم في نظر العقلاء ومقبولاً بالنظر إلى ارتكازاتهم، فيكون تقريباً للحكم إلى نظرهم. أمّا لو فرض أخذها بما هي حالة نفسيّة، إذن لم يكن هذا إلّا تعبّداً صرفاً، لا تعليلاً متفاهماً عند العرف.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ كلمة المأمون في قوله: «فإنّهما الثقتان المأمونان» قرينة على المطلب؛ إذ لو كان احتمال كذبه في هذا الحديث مساوياً لاحتمال صدقه كيف يصدق أنّه مأمون في هذا الحديث عن الكذب ؟!

وإن شئت مصداقاً لهذا الفرض فيما بأيدينا من الأخبار، قلنا: إنّ أحد الرواة المشهود بوثاقتهم هو رفاعة، وهو ينقل حديثاً في جواز استعباد أطفال الكفّار بالسبي وبيعهم(1). وبالمراجعة إلى أحواله يظهر أنّه كان تاجراً نخّاساً، فقد يحرز بذلك داعي الكذب في شأنه بدرجة تغلب على بعض درجات الوثاقة باعتبار أنّ عيشه وعمله مبنيّان على النخاسة، فيحتاج إلى مثل هذه الرواية في مقام التحفّظ على أساس عيشه، وتجارته، والتحفّظ على ماء وجهه بين الناس، والتخلّص من ذمّ الناس إيّاه. فمع فرض الشكّ في كون وثاقته بدرجة تغلب على هذا الداعي شكّاً متساوي الطرفين يسقط خبره عن الحجّيّة.

وأمّا الفرض الثاني ـ وهو فرض حصول الظنّ من الخبر ـ: فهذا لا إشكال في حجّيّته إن كان الظنّ مستنداً إلى الوثاقة بخلاف ما لو لم يكن مستنداً إليها؛ وذلك


(1) راجع الوسائل، ج 11، ب 50 من جهاد العدوّ، ح 6، ص 100.

603

لما مضى: من أنّ الوثاقة إنّما اُخذت باعتبار ما لها من الكاشفيّة لا بما هي حالة نفسيّة، فإذا كان الظنّ مستنداً إليها كانت لها الكاشفيّة، وإلّا فلو قلنا بالحجّيّة وجعلت الوثاقة شرطاً كانت شرطيّته تعبّداً محضاً، وبما هي حالة نفسيّة. أمّا فرض كون مقياس الحجّيّة مجرّد موثوقيّة الحديث مع إسقاط الوثاقة عن الحساب، فهذا ما سنوضّح بطلانه في بحث مستقلّ عن هذه الجهة إن شاء الله.

يبقى الكلام في تشخيص الضابط بين القسمين، أعني: الظنّ المستند إلى الوثاقة، والظنّ الغير مستند إليها، والضابط لذلك يمكن بيانه بنحوين:

النحو الأوّل: أن يقال ـ بعد فرض حصول الظنّ من الخبر ـ: إنّ كلّ داع من دواعي الكذب يكون الاحتمال منصبّاً عليه ابتداءً لابدّ أن يفترض أنّ الوثاقة لها دخل في الظنّ بعدم تأثير هذا الداعي عن طريق غلبتها على بعض حصص الداعي المحتمل، وإلّا فالظنّ الناشئ من الخبر ليس مستنداً إلى الوثاقة.

إذن فلو استبعدنا داعياً من دواعي الكذب عن غير طريق الجزم بغلبة وثاقة الراوي عليه يجب أن نرى أنّ الاحتمال هل انصبّ على هذا الداعي ابتداءً، أو انصبّ ابتداءً على الجامع بينه وبين داع آخر أو دواعي عديدة، لعدم احتمال اجتماع تلك الدواعي، إمّا للتضادّ فيما بينها، أو لاستبعاد اجتماعها على حدّ استبعاد اجتماع الصدف المتماثلة استبعاداً قطعيّاً أو اطمئنانيّاً ؟ فإن كان الاحتمال منصبّاً على الجامع، وفرضنا غلبة الوثاقة على بعض حصص الجامع كفى ذلك في استناد الظنّ إلى الوثاقة، ولو كان استبعاد الحصص الاُخرى عن غير طريق الجزم بغلبة الوثاقة عليها.

وإن كان الاحتمال منصبّاً على نفس ذاك الداعي ولم نجزم بغلبة الوثاقة عليه، أو كان الاحتمال منصبّاً على الجامع ولم نجزم بغلبة الوثاقة على بعض حصصه، ولكن مع ذلك ظننّا بصدق الخبر؛ للظنّ بعدم داعي الكذب، أو للظنّ بغلبة الوثاقة

604

عليه، فالظنّ هنا غير مستند إلى الوثاقة.

ولكن الصحيح عدم تماميّة هذا الضابط، فإنّه يكفي في استناد الظنّ إلى الوثاقة عرفاً أن يكون سهيماً في استبعاد بعض دواعي الكذب.

النحو الثاني: أن يقال ـ بعد فرض حصول الظنّ في الخبر ـ: إنّه يجب أن نرى أنّ الوثاقة هل كانت مؤثّرة في استبعاد بعض دواعي الكذب، أو لا ؟ فإن كانت مؤثّرة في ذلك ولو ضمناً صحّ إسناد الظنّ إلى الوثاقة حتّى مع فرض علّة اُخرى للاستبعاد كافية ـ لو بقيت وحدها ـ للقطع بعدم ذاك الداعي، وحتّى لو فرض أنّ بعض الدواعي الاُخرى المنصبّ عليها الاحتمال ابتداءً لم يستند استبعادها إلى الوثاقة، وإنّما استبعدت بعامل آخر تماماً.

وإن لم تكن كذلك لم يسند الظنّ إلى الوثاقة.

ومثال القسم الثاني هو: ما لو علمنا بوثاقة شخص لكن علمنا أنّه ابتلى صدفة في زمان إخباره بحالة نفسيّة من انبساط وميل إلى الكذب ـ مثلاً ـ تجعل وثاقته مغلوبة لأيّ داع من دواعي الكذب، وهذا لا ينافي أصل ملكة الوثاقة كما أنّ غلبة بعض الدواعي المهمّة للكذب على الوثاقة لا ينافي أصل ملكة الوثاقة، ولا توجب أيضاً تلك الحالة النادرة وكذا ذاك الداعي المهمّ النادر حصوله قصور الوثاقة ذاتاً عن الرادعيّة عن مثل هذا الكذب، ولذا ترى أنّه يشعر في حين ارتكابه لهذا الكذب بالاشمئزاز الروحي، والتأثّر على ما يصدر منه من الكذب، وهذا هو نتيجة عدم قصور وثاقته ذاتاً عن الردع عن هذا الكذب، وإنّما لم تؤثّر فعلاً في الردع لابتلائها بالمزاحم: من تلك الحالة، أو الداعي المهمّ.

فإذا علمنا أنّ هذا الراوي الثقة ابتلى في حين روايته بتلك الحالة النفسيّة التي تجعل وثاقته مغلوبة لأيّ داع من دواعي الكذب لكنّنا ظننّا مع ذلك بصدق خبره من باب الظنّ بعدم تحقّق داعي الكذب في هذا الخبر في نفسه بقطع النظر عن

605

الوثاقة، ففي مثل هذا المورد لا يكون الظنّ مستنداً إلى الوثاقة، ولا يكون خبره حجّة.

وأمّا مثال القسم الأوّل الذي يكون الظنّ فيه مستنداً إلى الوثاقة، فنذكر لذلك أمثلة ثلاثة:

المثال الأوّل: أن يفرض القطع بغالبيّة درجة وثاقته على أيّ داع للكذب يحتمل وجوده في المقام، ولكن نحتمل طروّ حالة في نفسه في زمان نقله لهذا الخبر صدفة تجعلها مغلوبة لأيّ داع من دواعي الكذب، وكان هذا الاحتمال ضعيفاً لكون طروّ مثل هذه الحالة صدفة نادرة، والغالب في الوثاقة دفعها لمثل هذه الحالات وغلبتها عليها، وفي مثل ذلك لا إشكال في أنّه يسند الظنّ بالصدق إلى الوثاقة.

والمثال الثاني: أن يفرض أنّ أصل وجود الداعي للكذب مشكوك، وأنّه على فرض وجوده يكون مردّداً بين الغالب على الوثاقة والمغلوب لها، إمّا للشكّ في درجة الداعي، أو في درجة الوثاقة، أو في الحالة النفسيّة للراوي في وقت الرواية، فيحصل الظنّ بالصدق؛ لأنّه على تقدير عدم الداعي للكذب، وعلى أحد تقديري وجوده يكون صادقاً، وعلى تقدير واحد من تقديري وجوده يكون كاذباً، فالظنّ هنا نشأ من عاملين، أحدهما: احتمال عدم داعي الكذب في نفسه، والثاني: احتمال غلبة الوثاقة.

المثال الثالث: أن يفرض كون الداعي الكذبي على فرض وجوده مردّداً بين دواع عديدة يكون ما ثبت للراوي من الوثاقة غالباً على أكثرها، فلا نحتاج في حصول الظنّ بالصدق إلى عامل احتمال عدم داعي الكذب، بل هو حاصل حتّى بقطع النظر عنه.

المنشأ الثالث: في فرض تساوي درجة الوثاقة وداعي الكذب الذي وجد

606

صدفة. وعندئذ لو بنينا على مبنى الفلاسفة: من استحالة الترجيح بلا مرجّح حتّى في الاختياريّات، فالنتيجة: أنّ هذا الشخص لا يخبر أصلاً، فلا يبقى موضوع للشكّ في صدقه وكذبه، إلّا إذا وجد مرجّح تكوينيّ في أحد المبادئ العالية بحسب ما يقولون، واحتمال وجود مرجّح للصدق مساو لاحتمال وجود مرجّح للكذب، فيتساوى احتمال صدقه وكذبه، ولا يبقى كشف للخبر.

ولو بنينا على ما هو الصحيح: من عدم استحالة ذلك في الاختياريّات، وأنّ المختار يرجّح أحد الطرفين على الآخر من دون مرجّح، فقد يخبر هذا الشخص بلا حاجة إلى فرض المرجّح في المبادئ العالية، ويتساوى احتمال صدقه وكذبه، ولا يبقى للخبر كشف.

وعلى أيّة حال، فلو قلنا بموضوعيّة الوثاقة بما هي حالة نفسانيّة للحجّيّة كان خبره حجّة، ولو قلنا بما هو الصحيح: من أنّ الوثاقة اُخذت في موضوع الحجّيّة من باب الكشف، فمبدأ حجّيّة خبر الثقة لا ينطبق في المقام.

 

الوثاقة والعدالة:

الجهة الرابعة: في أنّه هل يشترط في حجّيّة خبر الثقة كونه ثقة في جميع أعماله وهو العدل، فلو كان فاسقاً لنقص في عمله، أو نقص في اعتقاده عن تقصير لم يكن خبره حجّة، أو تكفي في الحجّيّة وثاقته في إخباره ؟

الصحيح: أنّ دليلي الحجّيّة ـ وهما السنّة والسيرة ـ شاملان للفاسق الثقة في إخباره:

أمّا السنّة: فلأنّ حديث «العمريّ وابنه ثقتان» ظاهره كما مضى الانحلال، أي: أنّ كلّ من كان ثقة في شيء يعتمد على كلامه في ذلك الشيء، فالثقة في الفتوى ـ مثلاً ـ يؤخذ بفتواه، والثقة في الحديث يؤخذ بحديثه. وهذا مطلق يشمل فرضي

607

العدالة والفسق، فإن قلنا: إنّ هذا الحديث بنفسه يفيد القطع أو الاطمئنان، أخذنا بإطلاقه، وإن قلنا بالاحتياج إلى مجموع أحاديث الباب لحصول القطع أو الاطمئنان، وفيها ما لا يدلّ على أزيد من حجّيّة خبر العادل(1)، قلنا: ثبتت بمجموع تلك الأخبار حجّيّة حديث «العمريّ وابنه ثقتان»؛ لأنّ رواته جميعاً عدول، فهو قدر متيقّن ممّا استفدناه بالقطع من مجموع الأخبار: من الحجّيّة في الجملة، وعندئذ نتمسّك أيضاً بإطلاقه لإثبات حجّيّة خبر مطلق الثقة.

وأمّا السيرة: فتثبت بالنسبة لخبر الثقة غير العادل بنفس بيان ثبوتها في خبر العادل، وما مضى: من المؤيّدات جلاًّ أو كلاًّ يأتي هنا، وقد نقل الشيخ الطوسيّ(قدس سره)عن الفقهاء والأصحاب أنّهم يعملون جيلاً بعد جيل بأخبار الثقات المنحرفين، والفاسدي المذهب.

فقد تلخّص: أنّ دليل الحجّيّة شامل لخبر الثقة الفاسق.

نعم، يبقى الكلام فيما يعارض هذا الدليل، وهو آية النبأ، حيث أوجبت بمنطوقها


(1) وهو أكثر الروايات الماضية، فإنّنا إذا استثنينا الحديث الأوّل، والسادس، والسابع، والحادي عشر من الأحاديث التي ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) تماميّة دلالتها مع مرسلتي الاحتجاج اللتين ذكرناهما تحت الخطّ، فباقي الروايات التامّة دلالتها على حجّيّة خبر الواحد لا تدلّ على أكثر من حجّيّة خبر العدل، ولا يتخيّل أنّ التوقيع الشريف: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ...» دلّ على حجّيّة كلّ الروايات، فإنّ هذا الحديث لم يدلّ على حجّيّة خبر الرواة فحسب، بل أعطى مقاماً عامّاً للرواة تدخل فيه حجّيّة رواياتهم، ومنصب ولاية الفقيه مطلقاً أو في الجملة، ومنصب الفتوى والقضاء؛ إذ مقتضى الإطلاق الرجوع إليهم في كلّ هذه المقامات، ولا شكّ بحسب الارتكاز المتشرّعيّ في أنّ مقاماً من هذا القبيل تدخل تحته هذه المناصب لا يمكن أن يثبت للفاسق. إذن فالحديث منصرف إلى الإنسان العادل، وبالتالي حجّيّة الخبر المستفادة من هذا الحديث لا تكون لأكثر من خبر العادل.