341

 

 

 

 

 

 

 

الأمارة الثالثة: خبر الواحد الثقة. ويُقصد بخبر الواحد ما لم يبلغ حدّ التواتر(1).

ولنبحث أوّلاً أدلّة عدم حجّيّته:

 

أدلّة عدم حجّيّة الخبر

قد اُستدلّ على عدم حجّيّة خبر الواحد بالأدلّة الأربعة:

 

1 ـ دعوى التمسّك بالكتاب:

أمّا الكتاب: فاستدلّ بالآيات الناهية عن الظنّ بلسان ﴿لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم﴾(2)، أو بلسان ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾(3) بدعوى شمول إطلاقها للظنّ الخبريّ.


(1) ذكر (رضوان الله عليه) هنا كلاماً عن كون هذا البحث داخلاً في علم الاُصول وعدمه، ودخل بهذه المناسبة في تعريف علم الاُصول، وقد حذفت ذلك اكتفاءً بما ذكره في أوّل علم الاُصول في دورته الأخيرة.

(2) سورة الإسراء، الآية: 36.

(3) ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلّاَ ظَنّاً إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾. سورة يونس، الآية: 36، ﴿وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْم إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾. سورة النجم، الآية: 28.

342

وقد أجاب على ذلك المحقّقون بما يرجع محصّله إلى وجوه ثلاثة:

الأوّل: دعوى حكومة أدلّة حجّيّة خبر الواحد على هذه الآيات؛ لأنّ موضوعها الظنّ وعدم العلم، وأدلّة حجّيّة خبر الواحد تجعل العلم والطريقيّة لخبر الواحد، فيخرج خبر الواحد عن كونه ظنّاً أو عدم كونه علماً.

ويرد عليه ـ بغضّ النظر عن الإشكال على أصل المبنى: من كون مفاد أدلّة حجّيّة خبر الواحد هو جعل الطريقيّة والعلم ـ: أنّنا لو لم نسلّم دلالة هذه الآيات في نفسها على عدم حجّيّة الظنّ حتّى بالنسبة للقياس فضلاً عن خبر الواحد، فلا موضوع للحكومة، فإنّ الحكومة فرع التعارض البدويّ. ولو سلّمنا دلالتها في نفسها على عدم حجّيّة الظنّ فكما أنّ دليل حجّيّة الظنّ يدلّ ـ بحسب مذاقهم ـ على جعله علماً، كذلك دليل عدم حجيّته يدلّ على عدم جعله علماً، فهما دليلان في عرض واحد تعارضا في جعل خبر الواحد علماً وعدمه، ولا مبرّر للحكومة. نعم، لا بأس بحكومة دليل جعل خبر الواحد علماً على أدلّة الأحكام المترتّبة على العلم وعدمه كدليل حرمة الإفتاء بغير علم. أمّا الدليل الذي ينفي حجّيّة الظنّ فهو في عرض الدليل الذي يثبت حجّيّته وينفي كون الظنّ علماً، كما أثبت دليل الحجّيّة كونه علماً. فهما متعارضان(1).

 


(1) هذا بناءً على المذاق الذي يرى أنّ الحجّيّة مطلقاً أو ـ على الأقلّ ـ في الأمارات لا يتصوّر لها مغزىً غير جعل العلم، فيقال عندئذ: كما أنّ دليل الحجّيّة يدلّ على جعل العلم كذلك دليل عدم الحجّيّة يدلّ على نفي جعل العلم. أمّا لو قيل: إنّ حمل دليل حجّيّة خبر الواحد على جعل العلم إنّما هو أمر استظهاريّ من بعض ألسنة الدليل، كقوله: «ليس لأحد التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا»، وليس كلّ دليل يثبت الحجّيّة أو ينفيها فهو يثبت جعل العلم أو ينفيه، أمكن دعوى حكومة خصوص ذاك اللسان على آيات النهي عن

343

الثاني: أنّنا لو غضضنا النظر عن الحكومة وفرضنا أنّ دليل حجّيّة خبر الواحد لا يتكفّل جعل العلم والطريقيّة، بل يتكفّل جعل الحكم المماثل مثلاً، فأدلّة حجّيّة خبر الواحد تتقدّم على تلك الآيات بالأخصّيّة؛ لأنّها واردة في مطلق الظنّ، وتلك الأدلّة تختصّ بخبر الواحد.

وهذا الكلام بهذا النحو من الإهمال غير صحيح، بل لابدّ من استحضار الصور التفصيليّة لأدلّة حجّيّة خبر الواحد كي يرى أنّ هذا الجواب يتمّ بلحاظها أو لا؟ وباستحضار تلك الصور يعرف أنّ الجواب بالأخصّيّة يتمّ بلحاظ بعضها، ولكن بعضها الآخر ـ لو تمّت دلالته ـ لا معنى لتقديمه على الآيات بالأخصّيّة.

فسيرة العقلاء مثلاً ـ إن تمّت دليلاً على حجّيّة خبر الواحد ـ يجب أن يرى أنّها هل هي في الاستحكام بمرتبة لا تعدّ مثل هذه الآيات ردعاً لها، أو لا؟ فعلى الأوّل تقدّم على الآيات وإن فرضت غير أخصّ. وعلى الثاني لا تقدّم عليها وإن فرضت أخصّ.

وآية النبأ إن تمّت دليلاً على حجّيّة خبر الواحد، فنسبتها إلى تلك الآيات عموم من وجه، فإنّ أحسن تقريب لثبوت المفهوم لها ـ وإن كان المختار عدم ثبوت المفهوم لها ـ هو: أنّها تدلّ بمفهوم الشرط على عدم وجوب التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بنبأ، وهذا يشمل بإطلاقه صورتي مجيء العادل بنبأ وعدمه، ففي


العمل بغير العلم، وكذلك لو اُستفيد من ذاك اللسان التنزيل منزلة العلم. نعم، يبقى الإشكال في أصل المبنى بأن يقال: إنّ جعل العلم التعبّديّ لا أثر له؛ لأنّ الأثر كان للعلم الوجدانيّ، وأنّ روح المستفاد من الدليل ليس عدا الاهتمام بالأغراض الواقعيّة، لا جعل العلم ولا التنزيل منزلة العلم، وليست هذه عدا صياغات تعبيريّة تشير إلى ذاك المعنى.

344

الصورة الثانية يكون انتفاء وجوب التبيّن بانتفاء الموضوع، وفي الصورة الاُولى يكون ذلك بحجّيّة خبر العادل، فكما يمكن تخصيص الآيات السابقة بإخراج خبر العادل عنها كذلك يمكن تخصيص مفهوم آية النبأ بإخراج صورة مجيء العادل بنبأ عنه.

بل فرض مجيء العادل بنبأ ينقسم إلى فرضين: فرض حصول العلم به، وعدمه، ففي فرض العلم لا يبقى مورد للتبيّن، وفي فرض عدم العلم لا يجب التبيّن للحجّيّة التعبّديّة، ومن الممكن إخراج هذا الفرض من مفهومها بتلك الآيات.

وبهذا البيان الأخير يتّضح: أنّ آية النفر لو تمّت دلالتها على حجّيّة خبر الواحد لم تكن أخصّ من آيات النهي عن العمل بغير العلم، فإنّها تدلّ على مطلوبيّة الحذر عند الخبر سواء أوجب العلم أو لا، فكما يمكن تخصيص تلك الآيات بها كذلك يمكن العكس بإخراج فرض عدم العلم من آية النفر.

الثالث: دعوى أنّ هذا النهي ورد في اُصول الدين، وليس له إطلاق يشمل فروع الدين. وقال صاحب الكفاية(رحمه الله): إنّ الظاهر منها أو ـ على الأقلّ ـ القدر المتيقّن منها هو النهي عن موارد اُصول الدين، فلا تشمل محلّ الكلام.

أقول: أمّا آية النهي عن العمل بغير العلم فهي خطاب ابتدائيّ من دون أن تكون في مورد مّا أصلاً، وليس في سياقها سابقاً أو لاحقاً ما يدلّ على كونها واردة في اُصول الدين. وأمّا آية ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾فموردها وإن كان هو اُصول الدين، حيث تصف الآية بعض المعتقدين بالاعتقادات الفاسدة بأنّهم لا يتّبعون إلّا الظنّ، ثمّ تقول: ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾، لكنّك ترى أنّ هذا الكلام بهذا الترتيب يكون له ظهور في العموم، فإنّه ظاهر في النهي عن تلك العقيدة الباطلة وتعليل ذلك بقاعدة عامّة مركوزة في الأذهان بنحو ترتيب الصغرى والكبرى، أي: أنّ اعتقادهم في المقام اعتقاد ظنّيّ، وكلّ ظنّ لا يغني من

345

الحقّ شيئاً، فهذا الاعتقاد لا يغني من الحقّ شيئاً. فظهوره في كونه تعليلاً بقاعدة كبرويّة مركوزة في الأذهان يؤكّد عمومه لا تخصيصه بخصوص المورد أو إجماله.

والتحقيق في مقام الجواب عن هذه الآية وجوه ثلاثة:

الأوّل ـ وهو المهمّ ـ: أنّ هذه الآيات لا دلالة لها في نفسها على نفي الحجّيّة.

أمّا قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ فظاهر النهي فيها أنّه نهي إرشاديّ إلى ما يستقلّ به العقل: من عدم جواز الاستناد في العذر وأداء المسئوليّة إلى غير العلم، بمعنى أنّه يجب أن يكون السند المباشر للإنسان ورأس الخيط لما يعتمد عليه هو العلم. ودليل حجّيّة خبر الواحد لابدّ أن ينتهي إلى العلم حقيقة، بحيث يكون السند المباشر لنا في العمل به هو العلم، وهذا ما لم تنه عنه الآية الكريمة، فيكون دليل حجّيّة خبر الواحد وارداً على الآية. نعم، العمل بخبر الواحد استناداً إلى إفادته للظنّ بالواقع منهيّ بالآية المباركة، أمّا العمل به استناداً إلى العلم بحجّيّته فهو غير منهيّ بها.

والشبهة التي يمكن طرحها في المقام: من أنّ النهي ظاهر في النهي المولويّ فلا مبرّر لحمله على النهي الإرشاديّ أو فرض الإجمال، إنّما يكون لها مجال على مستوى البحث العلميّ(1) لولا ذيل الآية المباركة وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ


(1) كأنّه إشارة إلى أنّ هذه الشبهة ليست عدا نقاش علميّ، ولا واقعيّة لها حتّى بغضّ النظر عن ذيل الآية، فإنّ النهي بحسب معناه الطبيعيّ ليس له ظهور في المولويّة، وإنّما ينشأ هذا الظهور من سياق حال المولى، حيث إنّ ظاهر حاله أنّه إنّما يخاطب العباد بما هو مولى لهم، فإنّ هذا هو الذي يكون من شأن المولى لا كخطاب أيّ إنسان اعتياديّ مع الآخرين. وهذا الظهور ـ كما ترى ـ لا يمنع عن حمل النهي في المقام على الإرشاد؛ إذ من شأن المولى أيضاً إرشاد العبد إلى الالتزام بما تقتضيه مولويّته، كالتنبيه على طاعة الله تعالى وترك معاصيه.

346

وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾، فإنّ مقتضى التعليل بفرض المسؤوليّة في المرتبة السابقة على هذا النهي كون هذا النهي إرشاديّاً، ولذا وقع في طول المسؤوليّة، ولو كان مولويّاً وفي مقام بيان عدم الحجّيّة لكانت المسؤوليّة في طوله وليس العكس.

وأمّا قوله تعالى: ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾، فهو أيضاً لا يدلّ على نفي حجّيّة الظنّ؛ إذ:

أوّلاً: أنّ الآية لم تدلّ إلّا على عتاب اُولئك الذين اتّبعوا الظنّ في الاعتقاديّات معلّلة ذلك بقوله تعالى: ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾، ونحن نعلم أنّ عدم إغناء الظنّ من الحقّ لا يصلح علّة للعتاب على اتّباع الظنّ إلّا حينما يكون المطلوب هو الوصول إلى الحقّ والواقع، كما هو الحال في اُصول الدين، كما هو مركوز في الأذهان وثابت في الأديان، وليست الآية بصدد بيان أنّه متى يكون المطلوب هو الوصول إلى الواقع ومتى لا يكون. وكون المطلوب في الفروع هو الوصول إلى الواقع أوّل الكلام؛ إذ بناءً على حجّيّة خبر الواحد فيها يكفي تفريغ الذمّة تجاه الواقع بالعمل بخبر الواحد بلا حاجة للوصول إلى الواقع.

وثانياً: أنّنا لو غضضنا النظر عن تلك النكتة قلنا أيضاً: ليس من المعلوم كون المقصود بالآية المباركة نفي حجّيّة الظنّ، بل من الممكن حملها على الإرشاد إلى أنّ الظنّ لا يصلح سنداً مباشراً للإنسان في عمله ورأس الخيط له في الاعتماد والاتّكاء، وهذا ممّا لا شكّ فيه. ومن يرى حجّيّة خبر الواحد إنّما يعتمد على علمه بحجّيّته، لا على مجرّد كون خبر الواحد مورثاً للظنّ، ولم تأت في الآية المباركة صيغة النهي كما في الآية الاُولى، كي يقول قائل: إنّ صيغة النهي ظاهرة بطبعها في المولويّة لا الإرشاد.

وثالثاً: أنّ هناك قرينة في الآية المباركة تدلّ على أنّها للإرشاد إلى عدم

347

صلاحيّة الظنّ لكونه سنداً مباشراً للعمل لا للحكم المولويّ بعدم حجّيّة الظنّ، وتلك القرينة هي: أنّ الآية بصدد الاحتجاج مع المشركين المنكرين لأصل الشريعة، والاحتجاج معهم يجب أن يكون بأمر عقليّ يفحمهم، ولا معنى للاحتجاج مع منكر الشريعة بأمر شرعيّ من قبيل نفي الحجّيّة الشرعيّة.

الثاني: أنّ الأدلّة اللفظيّة على حجّيّة خبر الواحد تتقدّم على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ وغير العلم ـ لو سلّمنا دلالتها على عدم الحجّيّة ـ إمّا بالتخصيص أو بالنسخ.

وذلك لأنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد اللفظيّة عبارة عن السنّة القطعيّة وعن آيات قرآنيّة لو تمّت دلالتها على الحجّيّة، والسنّة تدلّ على حجّيّة خبر الثقة لا مطلق الظنّ، فهي أخصّ مطلقاً من الآيات الناهية عن العمل بالظنّ، فتقدّم عليها بالتخصيص.

وأمّا الآيات التي تدعّى دلالتها على حجّيّة خبر الثقة فعمدتها آية النبأ وآية النفر. وقد مضى أنّ النسبة بينهما وبين الآيات الناهية عن العمل بغير العلم عموم من وجه، فلا تصحّ دعوى التخصيص، لكن آيتي النبأ والنفر لو تمّت دلالتهما على حجّيّة خبر الواحد فبالإمكان دعوى كونهما ناسختين للآيات المفروض دلالتها على عدم الحجّيّة. وذلك بناءً على الإيمان بصغرى وكبرى:

أمّا الصغرى: فهي دعوى تأخّر زمان نزول الآيتين عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، وأنّ الآيتين مدنيّتان، والآيات الناهية عن العمل بغير العلم مكّيّة.

أمّا آية النبأ: فهي واردة في سورة مدنيّة(1)، ومورد نزولها ـ كما نقلوا بالاستفاضة ـ قصّة إخبار الوليد عن ارتداد بني المصطلق الواقعة بعد الهجرة، فيستكشف من مجموع ذلك كونها واردة في المدينة.


(1) سورة الحجرات، الآية: 6.

348

وأمّا آية النفر: فهي أيضاً واردة في سورة مدنيّة(1)، مضافاً إلى أنّ مضمون آية النفر لا يناسب وجود النبيّ(صلى الله عليه وآله)في مكّة؛ إذ في ذلك الزمان كان المسلمون قليلين ومضطهدين ومبتلين بالأذايا والمحن من قِبَل الأعداء ملتفّين حول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولا معنى لأن يخاطب مثل هؤلاء بمثل قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾، وإنّما يناسب ذلك مع انتشار الإسلام وكثرة المسلمين، ووجودهم في الأقطار، والقدرة على التخطيط للدعوة والتبشير في المناطق، فبمجموع ذلك نطمئنّ أنّ هذه الآية نزلت أيضاً في المدينة.

وأمّا الآيتان الدالّتان على عدم حجّيّة الظنّ ـ بحسب الفرض ـ فهما بحسب السياق مكّيّتان؛ إذ اُدرجت كلّ منهما في سورة مكّيّة، مضافاً إلى أنّ آية النهي عن العمل بغير العلم أثبتت في وسط آيات كثيرة كلّها تبيّن الاُمور التي تكون قريبة المأخذ من العقل العمليّ والفطرة، وبتتبّع الآيات المدنيّة والمكّيّة بالدقّة يعرف أنّ الآيات المكّيّة عادةً قريبة المأخذ من الفطرة والعقل العمليّ، وأنّ الآيات المدنيّة نزلت بعد أن كانت مطالب العقل العمليّ مفروغاً عنها، فهي تبيّن مطالب اُخرى. وآية الردع عن الظنّ وردت في مقام التعريض بعقائد المشركين، والآيات التي تكون هكذا هي غالباً مكّيّة باعتبار أنّ الإسلام في مكّة كان ابتلاؤه مع المشركين، وفي المدينة كان أغلب مناقشاته وألوان احتجاجه مع المسيحيّين واليهود. فإن حصل الاطمئنان من مجموع هذه القرائن بكون الآيتين مكّيّتين، أو قلنا بأنّ إدراجهما في سورة مكّيّة أمارة تعبّديّة على ذلك، فقد تمّت الصغرى.

وأمّا الكبرى: فهي عبارة عن القول بأنّه إذا دار الأمر في الأدلّة الواردة في


(1) سورة التوبة، الآية: 122.

349

عصر التشريع بين تخصيص الدليل المتأخّر تخصيصاً أفراديّاً ـ وأعني به: ما فيمقابل التخصيص الأزمانيّ أو النسخ ـ وتخصيص الدليل المتقدّم تخصيصاً أزمانيّاً ـ وأعني به: النسخ ـ فالمتعيّن هو النسخ. وسيأتي البحث عن مدى صحّة هذه الكبرى في بحث التعادل والتراجيح إن شاء الله.

فإن تمّت هاتان المقدّمتان، أعني: الصغرى والكبرى، فالنتيجة هي ناسخيّة آيات الحجّيّة لآيات نفي الحجّيّة.

وإن لم تتمّ هاتان المقدّمتان فقد يفرض إنكار الصغرى مع تسليم الكبرى بأن نقول: إنّ آيتي النبأ والنفر وإن كانتا ناسختين لآيات نفي الحجّيّة بناءً على تأخّرهما عنها في النزول، ولكن لم يثبت كون الآيات النافية للحجّيّة مكّيّة. وقد ورد: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)كان إذا نزل الوحي قد يأمر بإدراج الآية في سورة سابقة ويختار لها موضعاً مناسباً، فلعلّ الآيتين مدنيّتان، وإنّما اُدرجتا في سورة مكّيّة بالتعبّد من رسول الله(صلى الله عليه وآله). إذن فالصغرى غير تامّة. وعندئذ نقول: لو كانت آيات الحجّيّة في علم الله هي المتأخّرة زمناً، فهي ناسخة لآيات نفي الحجّيّة؛ لأنّ المفروض تسليم الكبرى. ولو كانت آيات نفي الحجّيّة هي المتأخّرة زمناً في علم الله، لم نحتمل كونها ناسخة لآيات الحجّيّة؛ إذ كيف يقع مثل هذا النسخ ولا يقول به ولا يبدي احتماله أحد من المسلمين أصلاً، وإنّما هم بين قائل بعدم حجّيّة خبر الواحد وقائل بجعل الحجّيّة وعدم نسخها، ولم ترد بهذا النسخ رواية صحيحة ولا ضعيفة لا من طرق الشيعة ولا من طرق السنّة مع أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يفسّر الآيات ويبيّن المقصود منها. وهذا كلّه ممّا يوجب الاطمئنان والعلم بعدم نسخ الحجّيّة. وهذا بخلاف العكس، فإنّ ناسخيّة دليل الحجّيّة لدليل عدم الحجّيّة أمر محتمل، بل معنى القول بالحجّيّة هو النسخ دائماً، وكلّ مَن يقول بحجّيّة خبر الواحد يقول ـ لا محالة ـ بأنّ حجّيّته نسخت عدم حجّيّته؛ لأنّه من المعلوم أنّ حجّيّته لم تنزل مع نبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)في ساعة واحدة.

فظهر: أنّ آيات الحجّيّة إن كانت متأخّرة عن آيات نفي الحجّيّة، فهي ناسخة

350

لها، وإن كانت سابقة عليها، فهما متعارضتان.

ونتيجة ذلك: أنّ الآيات الدالّة على عدم حجّيّة خبر الواحد ساقطة عن الحجّيّة؛ لأنّنا قطعنا بأنّها إمّا مبتلاة بالنسخ، أو بالمعارض؛ إذ لو كانت آيات الحجّيّة متأخّرة عنها فهي ناسخة لها، ولو كانت سابقة عليها فهما متعارضتان بالعموم من وجه. بينما الآيات الدالّة على الحجّيّة نعلم بعدم ابتلائها بالنسخ، ولا نجزم بابتلائها بالمعارض؛ لاحتمال تأخّرها عن آيات نفي الحجّيّة، وعلى تقدير تأخّرها لا تعارضها آيات عدم الحجّيّة. إذن فآيات الحجّيّة حجّة لنا؛ لعدم العلم بما يعارضها.

وقد يفرض إنكار الكبرى، وهي تعيّن ناسخيّة الآيات المتأخّرة، وعندئذ فيقع التعارض بين الآيات والتساقط، وتبقى السيرة الثابتة على الحجّيّة سليمة عن الرادع، فإنّ إطلاقاً قرآنيّاً معارضاً لإطلاق قرآنيّ آخر ليس ممّا يمكن للشارع الاكتفاء به في مقام الردع عن السيرة. فالنتيجة أيضاً هي حجّيّة خبر الواحد.

الثالث: أنّنا لو سلّمنا دلالة الآيتين على عدم الحجّيّة وعدم ابتلائهما بدليل لفظيّ مخصّص ولا ناسخ ولا معارض، قلنا: إنّ إطلاق خطاب أو خطابين بهذا النحو من الدلالة الظنّيّة لا يكفي للردع عن مثل السيرة القائمة على حجّيّة خبر الثقة.

 

2 ـ دعوى التمسّك بالسنّة:

وأمّا السنّة التي يستدلّ بها على عدم حجّيّة خبر الواحد: فيمكن تقسيمها إلى طائفتين:

الاُولى: ما دلّت على عدم جواز العمل بالأخبار التي لم يعلم صدورها عنهم(عليهم السلام).

والثانية: ما دلّت على تحكيم الكتاب الكريم في قبول الأخبار ورفضها.

أمّا الطائفة الاُولى: فقد وجدنا روايتين بهذا المضمون:

الاُولى: ما عن محمّد بن عليّ بن عيسى: كتب إليه(1) يسأله عن العلم المنقول


(1) يعني أبا محمّد العسكريّ(عليه السلام).

351

إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلف علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه، أوالردّ إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب(عليه السلام): «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(1).

والثانية: ما عن محمّد بن عيسى قال: أقرأني داود بن فرقد الفارسيّ كتابه إلى أبي الحسن الثالث(عليه السلام)وجوابه بخطّه فقال: نسألك عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك قد اختلفوا علينا فيه، كيف العمل به على اختلافه؟ إذا نرد إليك فقد اختلف فيه. فكتب وقرأته: «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا»(2).

وهما روايتان وليستا رواية واحدة؛ لتغاير الراوي والإمام المرويّ عنه.

ويردّ الاستدلال بهاتين الروايتين بوجوه:

الأوّل: منع تماميّة الدلالة؛ لأنّ السؤال إنّما هو عن فرض تعارض الروايات، فالجواب بالأخذ بما علم صدوره عنهم ورفض ما لم يعلم بذلك مقياس راجع إلى باب التعارض، وهو مقياس صحيح، وليس ضابطاً للأخذ بالرواية وعدمها على الإطلاق.

لا يقال: إنّ المورد لا يخصّص الوارد.

فإنّه يقال: إنّ هذا إنّما يتمّ حينما يكون الوارد تامّ الإطلاق، فالمورد عندئذ لا


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 36، ص 86.

(2) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 10، ص 186 نقلاً عن بصائر الدرجات، وكذلك البحار، ج 2، ب 29 من كتاب العلم، ح 33، ص 241 نقلاً عن بصائر الدرجات أيضاً. وفي هامش البحار: (وفي نسخة: إذا أفرد إليك).

352

يخصّصه، كما لو سئل عن إكرام الشيخ المفيد فأجاب: (أكرم العالم). ولكن الوارد في المقام لا إطلاق له؛ لأنّ (ما) الموصولة بمرونتها وإهمالها اللغويّ يكون حالها حال المشترك اللفظيّ، ويكون استعمالها في المقيّد بأن يقصد المقيّد من حاقّ لفظها حقيقة وليس مجازاً، غاية الأمر أنّه يحتاج إلى القرينة كما يحتاج المشترك إلى القرينة، ويكفي المورد قرينة على المراد من الوارد الذي هو بمنزلة المشترك اللفظيّ.

إلّا أنّ هذا الكلام(1) يمكن النظر فيه بمنع مرونة الموصول بالنسبة للمورد بدعوى أنّ مرونته إنّما هي من ناحية الصلة لا غيرها.

ولكن مع ذلك لا يتمّ الإطلاق في مثل هذا الحديث الذي يكون الجواب فيه ظاهراً في مطابقته للسؤال وعدم كونه جواباً عمّا هو أعمّ من المورد، وحتّى لو أبدل الموصول في هذا الحديث بغير الموصول كما لو قال: (خبر علمتم أنّه قولنا الزموه، وخبر لم تعلموا أنّه قولنا ردّوه) لم نحسّ فيه بالإطلاق، فلابدّ أن تكون هنا نكتة اُخرى(2) لعدم تماميّة الإطلاق غير كون (ما) من أدوات


(1) من هنا إلى آخر هذا الردّ الأوّل ممّا أفاده(رحمه الله) في خارج البحث. أمّا ما ذكره في داخل البحث فهو ما مضى: من دعوى عدم الإطلاق في الموصول لمرونته.

(2) لا يبعد القول بعدم تماميّة الإطلاق حتّى بغضّ النظر عن الموصول. وتوضيحه: أنّ الوارد إن كان عامّاً فلا إشكال في أنّ المورد لا يخصّصه، أمّا إن لم يكن فيه ما يدلّ على الشمول عدا الإطلاق، فإن كانت هناك نكتة عرفيّة توجب صرف الوارد عن اختصاصه بالمورد، تمّ فيه الإطلاق بلا إشكال، وعندئذ يأتي القول بأنّ المورد لا يخصّص الوارد. مثاله: ما لو قال: (هل اُكرم الشيخ المفيد؟) فقال: (أكرم العالم). فإنّ مقتضى طبيعة الكلام

353

الموصول التي تتمتّع بالإهمال والمرونة.

الثاني: أنّه لو سلّمنا دلالة هذا الكلام على عدم حجّيّة خبر الواحد، قلنا: إنّ هذا الخبر بنفسه أيضاً خبر الواحد، وعندئذ بالإمكان أن نقول: إنّنا لا نحتمل الفرق بين هذا الخبر وغيره من الأخبار بأن يكون هو حجّه وغيره غير حجّة، وعليه فحجّيّة هذا الخبر غير معقولة؛ إذ مفاده عدم حجّيّة الخبر المساوق لعدم حجّيّة نفسه، فنحن نعلم أنّه على تقدير حجّيّته خبر كاذب، وجعل الحجّيّة لخبر من هذا القبيل مقطوع العدم؛ إذ لا يترتّب عليه تنجيز أو تعذير، وإن شئت فقل: إنّ صدوره من الحكيم صدور اللغو منه، وهو غير محتمل. وإن شئت فقل: إنّ الحجّيّة بلا تنجيز وتعذير لا معنى لها، فلا تتصوّر الحجّيّة حتّى بغضّ النظر عن عدم معقوليّة صدور اللغو من الحكيم.

أمّا لو تنزّلنا وفرضنا احتمال ميزة لهذا الخبر عن غيره بأن يكون هذا الخبر


في ذلك لولا إرادة التعدّي عن المورد كان هو الجواب بمثل قوله: (نعم أكرمه)، فالعدول عن ذكر خصوصيّة الشيخ المفيد إلى ذكر عنوان أوسع ـ وهو العالم ـ قرينة على عدم الاختصاص بالمورد، فيتمّ الإطلاق في الوارد وتجري مقدّمات الحكمة لإثبات ما قد لا تثبته تلك القرينة العرفيّة، كشموله للعادل والفاسق مثلاً. أمّا إذا لم توجد نكتة عرفيّة من هذا القبيل ولم يكن في المقام شيء عدا مقدّمات الحكمة، فمن الواضح أنّ مجرّد وجود ما يصلح للقرينيّة كاف للإجمال وعدم تماميّة الإطلاق، والمورد صالح للقرينيّة، وإنّما لا يصلح المورد لتخصيص الوارد فيما لو تمّ عموم أو إطلاق للمورد بأن لم يخلّ المورد بمقتضى الإطلاق، فعندئذ نقول: إنّ المورد لا يصلح مانعاً عن الإطلاق بعد تماميّة مقتضيه.

354

حجّة دون غيره، قلنا: إنّه لا سبيل إثباتاً إلى هذا التفكيك بأن يصبح هذا الخبر حجّة في نفي حجّيّة غيره من الأخبار، فإنّ هذا التفكيك تارةً يكون بحسب الدلالة، واُخرى بحسب السند:

أمّا التفكيك بحسب الدلالة، فبأن يقال: إنّ هذا الحديث لا يشمل نفسه، إمّا بمعنى أنّ شمول الكلام لنفسه خلاف الظاهر عرفاً، أو بمعنى عدم معقوليّة حجّيّته في إثبات عدم حجّيّة نفسه؛ وذلك لما أشرنا إليه: من عدم ترتّب التنجيز والتعذير، أو لاستحالة استلزام الشيء لعدمه على ما مضى نقله عن الأصحاب في بحث الردع عن ظاهر الكتاب.

وهذا التفكيك بكلّ وجوهه التي أشرنا إليها لا مورد له في المقام؛ لأنّ نفي حجّيّة خبر الواحد الذي هو كلام صادر ـ بحسب الفرض ـ من الإمام لو شمل نقل الراوي لنفس هذا الكلام لم يكن ذلك شمولاً لكلام نفسه، فإنّ نقل الراوي له غير نفس هذا الكلام.

وأمّا التفكيك بحسب السند، فبأن يفترض ـ بعد تسليم كون مفاد هذا الكلام هو عدم حجّيّة خبر الواحد بما فيه خبر الواحد الناقل لنفس هذا الكلام ـ أنّ سند هذا الحديث حجّة لإثبات مفاده بلحاظ باقي الأخبار، وإن لم يكن حجّة في إسقاط حجّيّة نفسه.

وهذا التفكيك أيضاً غير صحيح؛ إذ لا دليل يدلّ على حجّيّة من هذا القبيل في المقام، فإنّ ما دلّ على حجّيّة سنده من السيرة ـ مثلاً ـ يكون مفاده ثبوت مضمون ما ينقله هذا السند، ومضمونه عبارة عن عدم حجّيّة مطلق خبر الواحد لا عدم حجّيّة خصوص غيره من الأحاديث، وليس نفس السند منحلاًّ إلى

355

أسانيد عديدة(1). نعم، لو كانت هذه الرواية متواترة لما أوردنا هذا الإشكال.

الثالث: أنّ هذين الحديثين لا دليل على حجّيّتهما؛ لضعفهما سنداً، وليس مضمونهما متواتراً كي يحصل العلم به(2).

 


(1) ومن الواضح أنّ دليل حجّيّة هذا الخبر لا يمكن أن يكون هو الكتاب أو السنّة الدالّين على حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّ تقييد الكتاب بخصوص هذه الرواية الدالّة على عدم حجّيّة خبر الواحد تخصيص بالفرد النادر. فلابدّ أن يفترض أنّ دليلنا على حجّيّة هذا الخبر عبارة عن مثل السيرة، فيفترض أنّ هذه الرواية أصبحت حجّة بالسيرة، وهي منعت عن حجّيّة باقي الأخبار، وعندئذ نقول: إنّ السيرة لا تتحمّل تفكيكاً من هذا القبيل، فلا سيرة تدلّ على حجّيّة سند هذه الرواية في جزء من مفادها. وإذا اتّضح أنّه لا دليل على حجّيّة هذا الخبر الرادع عن حجّيّة خبر الواحد، رجعنا إلى الكتاب والسنّة الدالّين على حجّيّة خبر الواحد، لا إلى السيرة كي يقال: إنّ احتمال صدق هذا الخبر احتمال للردع عنها، ومع احتمال الردع لا يثبت الإمضاء.

(2) أمّا الحديث الأوّل: فقد نقله ابن إدريس(رحمه الله) في السرائر عن كتاب مسائل الرجال، عن محمّد بن أحمد بن محمّد بن زياد، وموسى بن محمّد بن عليّ بن عيسى، عن محمّد بن عليّ بن عيسى. والوسائط بين ابن إدريس وصاحب كتاب مسائل الرجال غير معلومة لنا، وصاحب كتاب مسائل الرجال أيضاً لا نعرفه، ولم نرَ توثيقاً لمحمّد بن أحمد بن محمّد بن زياد، ولا لموسى بن محمّد بن عليّ بن عيسى. وأمّا محمّد بن عليّ بن عيسى، فكلّ ما ورد بشأنه هو قول النجاشيّ: «كان وجهاً بقم وأميراً عليها من قبل السلطان».

وأمّا الحديث الثاني: فهو موجود في بصائر الدرجات، وقد جاء ذكره في جامع أحاديث الشيعة ـ ج 1، ح 459 ـ نقلاً عن بصائر الدرجات، وفي مستدرك الوسائلـ ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 10 ـ نقلاً عن بصائر الدرجات. ولا إشكال في عدم

356


الحجّيّة لنسخة بصائر الدرجات التي تتواجد في زماننا أو زمان المحدّث النوريّ(رحمه الله)؛ لوضوح عدم ثبوت النسخة بسند معتبر.

نعم، جاء ذكر هذا الحديث أيضاً في البحار ـ ج 2 من المجلّدات الحديثة، ب 29 من كتاب العلم، ح 33، ص 241 ـ نقلاً عن بصائر الدرجات. وقد روى مؤلّف بصائر الدرجات ـ وهو الصفّار(رحمه الله) ـ هذا الحديث عن محمّد بن عيسى.

إلّا أنّ الشأن في ثبوت كتاب بصائر الدرجات حتّى في ذلك الزمان، فقد روى هذا الكتاب النجاشيّ والشيخ:

أمّا النجاشيّ: فله إلى كتب الصفّار سندان مذكوران في كتاب النجاشي حيث قال: «أخبرنا بكتبه كلّها ما خلا بصائر الدرجات أبو الحسين عليّ بن أحمد بن محمّد بن طاهر الأشعريّ القمّيّ، قال: حدّثنا محمّد بن الحسن بن الوليد عنه بها، وأخبرنا أبو عبدالله ابن شاذان، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عنه بجميع كتبه وبصائر الدرجات».

والسند الأوّل ضعيف بأبي الحسين عليّ بن أحمد بن محمّد المعروف بابن أبي جيد؛ إذ لا دليل على وثاقته إلّا على مبنى السيّد الخوئيّ القائل بوثاقة مشايخ النجاشيّ. وعلى أيّ حال، فهذا السند قد استثني منه بصائر الدرجات. والسند الثاني الذي لم يستثن منه بصائر الدرجات ضعيف بأبي عبدالله ابن شاذان، وأحمد بن محمّد بن يحيى. والأوّل منمها ثقة على رأي السيّد الخوئيّ القائل بوثاقة مشايخ النجاشيّ، ولكن الثاني لم تثبت وثاقته حتّى على رأي السيّد الخوئيّ. ثمّ لو فرضت تماميّة سند النجاشيّ إلى بصائر الدرجات، فالظاهر أنّه لا يفيدنا شيئاً في المقام؛ إذ لا أظنّ ثبوت سند لصاحب البحار إلى النجاشيّ.

وأمّا الشيخ(رحمه الله): فله ثلاثة أسانيد إلى كتب الصفّار حيث قال في فهرسته:

357

الرابع: أنّنا لو سلّمنا تماميّة دلالة حديث من هذا القبيل، وتنزّلنا عن الإشكال


«أخبرنا بجميع كتبه ورواياته ابن أبي جيد، عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصفّار، وأخبرنا جماعة عن محمّد بن عليّ بن الحسين، عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن رجاله إلّا كتاب بصائر الدرجات، فإنّه لم يروه عنه محمّد بن الوليد. وأخبرنا الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه، عن محمّد بن الصفّار».

والسند الثالث يشمل كتاب بصائر الدرجات إلّا أنّه ضعيف بالحسين بن عبيد الله، وأحمد بن محمّد بن يحيى، والأوّل منهما ثقة على رأي السيّد الخوئيّ القائل بوثاقة مشايخ النجاشيّ بخلاف الثاني. وأمّا السند الثاني فهو تامّ، فإنّ من جملة الواقعين بين الشيخ والصدوق هو المفيد، على أنّ إخبار جماعة من مشايخ الشيخ يورث الاطمئنان، ولكن هذا السند لا يشمل بصائر الدرجات. وأمّا السند الأوّل فهو ضعيف بابن أبي جيد، إلّا على مبنى السيّد الخوئيّ القائل بوثاقة مشايخ النجاشيّ، وهو على هذا المبنى أيضاً لا يفيدنا؛ لأنّه لا يشمل بصائر الدرجات. ومن الغريب ما ذهب إليه السيّد الخوئيّ من شموله لبصائر الدرجات بتخيّل أنّ استثناء بصائر الدرجات خاصّ بالسند الثاني مع أنّ الاستثناء معلّل بأنّ ابن الوليد لم يرو بصائر الدرجات، وابن الوليد نفسه موجود في السند الأوّل. وقد يفسّر ذلك بأنّ ابن الوليد لم يروه للصدوق الوارد في السند الثاني، وهذا لا ينافي فرض روايته لابن أبي جيد الوارد في السند الأوّل. إلّا أن ذلك غير عرفيّ، على أنّ النجاشيّ(رحمه الله) قد شهد باستثناء بصائر الدرجات من سنده الأوّل الذي هو عين السند الأوّل للشيخ الطوسيّ.

وقد يؤيّد ضعف كتاب بصائر الدرجات: أنّ الشيخ الحرّ(رحمه الله) ذكر في آخر الوسائل: أنّ لبصائر الدرجات نسختين صغرى وكبرى، بينما الشيخ والنجاشيّ لم يشيرا إلى وجود نسختين، ولا نعلم أنّ أسانيدهما هل تنتهي إلى إحدى النسختين أو كلتيهما.

358

الثاني والثالث أيضاً بفرضه متواتراً أو بنحو آخر، قلنا: إنّ هذا الحديث لا يقاوم أدلّة الحجّيّة. وتوضيح ذلك: إنّ أدلّة الحجّيّة ثلاثة:

الأوّل: الآيات. وهي على فرض تماميّة دلالتها تعارض هذا الحديث بالعموم من وجه، بيانه: أنّ آية النبأ تشمل بمفهومها فرض عدم النبأ، وتشمل هي أيضاً مع آية النفر الخبر الذي أورث العلم، فالآيتان من هذه الناحية أعمّ من هذا الحديث. وهذا الحديث من ناحية اُخرى أعمّ من الآيتين؛ لأنّه يشمل فرض التعارض، بل هو مورده، بينما آيات الحجّيّة لا تشمل فرض التعارض؛ لابتلائها في هذا الفرض بالتعارض الداخليّ المسقط للظهور. وأيضاً آية النفر تختصّ بباب الأحكام، بينما هذا الحديث مطلق بلحاظ باب الأحكام وغيره(1).

فإذا وقع التعارض بالعموم من وجه بين هذا الحديث والآيات، فإن لم نفرض هذا الحديث متواتراً وكان التنازل عن الإشكالات السابقة بوجه آخر، سقط هذا الحديث عن الحجّيّة؛ لأنّ الخبر الظنّيّ المعارض للكتاب بالعموم من وجه ليس حجّة؛ لورود الردع عنه في بعض الأخبار، كما سيأتي في محلّه إن شاء الله.

فإن قلت: كما أنّ بعض الأخبار يردع عن الأخذ بالخبر المخالف للكتاب ومنه هذا الحديث كذلك هذا الحديث يردع عن الأخذ بخبر الواحد، ومنه ذاك الخبر الرادع عمّا يخالف الكتاب، فالترادع من الطرفين.


(1) لا يقال: إنّ مورد الحديث هو روايات الأحكام؛ بدليل ما جاء في السؤال من قوله: «كيف العمل به»، فهذا الحديث لا يشمل غير موارد الأحكام.

فإنّه يقال: لو فرضنا أن مورد السؤال أخلّ بإطلاق الجواب، فقد رجع الإشكال الأوّل، وهو الإشكال الدلاليّ، والمفروض الآن هو التنزّل عن الإشكالات السابقة، فلنفرض أنّ مورد السؤال لا يخلّ بإطلاق الجواب، وعليه فإطلاق الجواب يشمل غير باب الأحكام.

359

قلنا: لو تمّ الترادع والتساقط، رجعنا إلى الآيات الدالّة على حجّيّة خبر الواحد.

وإن فرضنا هذا الحديث متواتراً، فقد وقع التعارض بينه وبين الآيات وتساقطا، وعندئذ نقول: إنّ مثل هذا الإطلاق لو صلح في نفسه للردع عن السيرة فمع فرض معارضته للآيات لا يصلح للردع عنها.

الثاني: السنّة المتواترة أو ما بحكم التواتر. وهذا الحديث إن لم نفرض تواتره، كفى في سقوطه عن الحجّيّة فرض معارضته للسنّة القطعيّة، فإنّها كالمعارضة للكتاب. وإن فرضنا تواتره فالسنّة الدالّة على الحجّيّة متقدّمة عليه بالأخصّيّة؛ لأنّها دلّت على حجّيّة خبر الثقة، بينما هذا الحديث دلّ على عدم حجّيّة مطلق الخبر غير المفيد للعلم.

ولا يتوهّم كون النسبة عموماً من وجه لشمول دليل الحجّيّة خبر الثقة المفيد للعلم؛ وذلك لوضوح أنّه مع حصول العلم لا مجال للحجّيّة التعبّديّة، فتخصيص دليل الحجّيّة بفرض العلم يعني إلغاءه.

ولو فرض التعارض والتساقط، رجعنا إلى السيرة؛ لأنّ إطلاقاً من هذا القبيل لو صلح في ذاته للردع عن السيرة، فهو لا يصلح عند التعارض مع السنّة القطعيّة للردع عنها.

الثالث: السيرة. وقد عرفت أنّ إطلاق الآية لم يصلح للردع عنها، فكيف بإطلاق مثل هذا الحديث.

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي ما دلّت على تحكيم الكتاب الكريم في خبر الواحد ـ: فيمكن تقسيم العناوين الواردة فيها بشكل رئيس إلى عنوانين: عنوان موافقة الكتاب، وعنوان مخالفة الكتاب:

أمّا العنوان الأوّل ـ وهو عنوان موافقة الكتاب ـ: فقد يقال: إنّ جعل المعيار

360

موافقة الكتاب وعدمها يسقط كلّ خبر واحد لم يرد بمضمونه نصّ في القرآنالكريم عن الحجّيّة(1).

وقد اُورد على هذا الاستدلال في كلمات المحقّقين بما يرجع محصّله إلى وجهين:

الوجه الأوّل: أنّ روايات الباب وإن كانت متواترة إجمالاً إلّا أنّ الذي يثبت بالتواتر الإجماليّ إنّما هو أخصّ العناوين، وهو عنوان مخالفة الكتاب، فالنتيجة إنّما هي سقوط ما خالف الكتاب عن الحجّيّة. أمّا ما تفرض فيه تماميّة الإطلاق لكلّ خبر لم يوافق الكتاب فليس إلّا من أخبار الآحاد، فلا يمكن الاستدلال به على عدم حجّيّة خبر الواحد.

وهذا الوجه ـ بقطع النظر عن تكميله بضمّ ضميمة ـ لا يتمّ ؛ إذ بالإمكان أن يقال


(1) وأمّا الخبر الموافق لمضمون الكتاب فبشأنه احتمالان أبداهما اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في بحث التعادل والتراجيح:

أحدهما: أن لا يكون مشمولاً لما يستفاد من روايات عدم حجّيّة ما لم يوافق الكتاب؛ لأنّه خارج عن مفاد رواية نفي الحجّيّة موضوعاً؛ لأنّ موضوع نفي الحجّيّة من هذه الروايات إنّما هو ما لم يوافق الكتاب، وتظهر أثر حجّيّة ما وافق الكتاب في مثل ما إذا كان الحديث الموافق للكتاب أخصّ من الكتاب مثلاً، فتستفاد منه بعض الفوائد التي تستفاد من الخاصّ ولا تستفاد من العامّ كالتخصيص.

وثانيهما: أن يقال: إنّ الردع عمّا لا يوافق الكتاب من الأخبار الآحاد ردع عرفاً عن حجّيّة خبر الواحد إطلاقاً حتّى ما وافق الكتاب؛ وذلك لأنّ الثمرة التي أشرنا إليها لحجّيّة ما وافق الكتاب أمر نادر، فيكون المفهوم عرفاً من الردع عمّا لا يوافق الكتاب هو بيان أنّ خبر الواحد غير حجّة، وأنّه إن كان موافقاً للكتاب، فالأخذ بمضمونه أخذ في الحقيقة بالكتاب، وإن لم يكن موافقاً للكتاب لم يجز الأخذ بمضمونه، فخبر الواحد بشكل عامّ ساقط عن الحجّيّة. وقد استظهر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في بحث التعادل والتراجيح ـ بعد فرض دلالة الروايات على الردع عمّا لا يوافق الكتاب ـ الاحتمال الثاني، أي: الردع عن مطلق خبر الواحد.

361

في مقابل ذلك: إنّه إن لم يمكن الاستدلال بخبر الواحد على نفي حجّيّة نفس ذلك الخبر، فالاستدلال به على نفي حجّيّة باقي الأخبار لا عيب فيه، فنحن نثبت حجّيّة هذا الخبر بالسيرة العقلائيّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، وهذا الخبر هو رادع عن الأخذ بتلك السيرة في باقي الأخبار.

الوجه الثاني: أنّنا نعلم إجمالاً بصدور أخبار كثيرة عنهم(عليهم السلام) لا يوجد مضمونها في القرآن الكريم، وهذا العلم الإجماليّ ليس موجوداً عندنا فقط، بل موجود عند كلّ أحد حتّى مَن سمع الإمام(عليه السلام) يقول: «إنّ ما لم يوافق الكتاب فهو زخرف». ومن الواضح أنّ إطلاق هذه الأخبار مناقض لهذا العلم الإجماليّ، فلابدّ إذن من التأويل. وإذا سقط ظهورها عن الحجّيّة وتعيّن التأويل انفتحت أبواب عديدة للتأويل، كالحمل على مورد التعارض وبيان مرجّحيّة الكتاب لأحد الخبرين المتعارضين، أو الحمل على مورد اُصول الدين ونحو ذلك من الوجوه.

وهذا الوجه أيضاً غير تامّ بحسب الصناعة ما لم تضمّ إليه الضمائم التي سنشير إليها إن شاء الله؛ وذلك لأنّ لسان جعل الموافقة معياراً يكون على نحوين. فتارةً يفرض كونه ناظراً إلى الإخبار عن عدم صدور ما لا يوافق الكتاب عنهم(عليهم السلام)، كما يظهر من كلمة زخرف(1). واُخرى يفرض كونه ناظراً إلى نفي الحجّيّة لا نفي الصدور، كما يظهر من قوله: «إذا ورد عليكم حديث، فوجدتم له شاهداً من كتاب الله، أو من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به»(2).

 


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 12 و 14، ص 78 و 79.

(2) المصدر السابق، ح 11، ص 78. وقد أبدى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح في قوله: «أولى به» احتمالين:

أحدهما: أن يكون المقصود أولى به منكم؛ لأنّه أدرى بصدقه وكذبه. وهذا يعني نفي

362

فبالنسبة للأوّل ينفعنا العلم الإجماليّ بصدور ما لا يوافق الكتاب في المقام للقطع عندئذ بكذب ظاهر تلك الأخبار، فيحمل على بعض المحامل بعد عدم إمكان التخصيص فيها بأن يقال مثلاً: ما لم يوافق القرآن فهو زخرف إلّا الرواية الفلانيّة؛ لأنّ هذا لا ينسجم مع فرض جعل المقياس والمعيار(1).

وأمّا بالنسبة للثاني ـ وهو ما كان لسانه لسان نفي الحجّيّة ـ فالعلم الإجماليّ بالصدور لا ينفعنا في الردّ على ذلك؛ إذ لا منافاة بين عدم حجّيّة كلّ خبر من مجموعة من الأخبار وبين العلم الإجماليّ بصدور بعضها.

والتحقيق: أنّ هناك احتمالاً يتبادر إلى الذهن في تفسير معنى الموافقة الموجودة في هذه الروايات، فإن تمّ هذا الاحتمال وبلغت مؤيّداته إلى درجة توجب حصول الاطمئنان به أو انعقاد ظهور الكلام عليه، كانت هذه الأخبار أجنبيّة عن محلّ الكلام إطلاقاً، وإن لم يبلغ الأمر إلى درجة الاطمئنان أو الظهور بالنسبة لجميع روايات الباب، فلابدّ من استئناف البحث.

 


الحجّيّة. وقال(رحمه الله): «إنّ هذا الاحتمال هو الظاهر من الحديث».

والثاني: أن يكون المقصود أولى به منّي، أي: من الإمام. وهذا يعني نفي الصدور.

أقول: وعلى الثاني فالظاهر أنّه لا يبقى ما يدلّ على نفي حجّيّة ما لا يوافق الكتاب إلّا ما هو غير تامّ سنداً، من قبيل مرسلة ابن بكير عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث قال: «إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله، فخذوا به، وإلّا فقفوا عنده، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم». الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 18، ص 80 .

(1) جاء في كتاب تعارض الأدلّة ـ الطبعة الرابعة، ص 317 ـ تعليل إباء تلك الأحاديث عن التخصيص بأنّ لسانها لسان الاستنكار، وهو لا يناسب قبول التخصيص.

363

وذاك الاحتمال هو: أن يكون المقصود بموافقة الكتاب الكريم الملائمة للمزاج والإطار العامّ للقرآن، بأن لا يكون مخالفاً لمسلّمات الشريعة(1) التي يكون مثالها الكامل هو القرآن، باعتبار أنّ القرآن هو كتاب الشريعة ودستورها. وبناءً على هذا الاحتمال يكون محصّل هذه الأخبار هو: أنّه كلّما ورد حديث غير موافق في المضمون للإطار والذوق العامّ للكتاب الكريم كان هذا الحديث ساقطاً سواء كان في الأحكام أو في العقائد. وهذا الحديث في الحقيقة ممّا يقطع بعدم مطابقة مضمونه للواقع؛ لعدم ملائمته مع مسلّمات الشريعة(2). وعلى هذا لا ترتبط هذه الأخبار بما نحن فيه أصلاً، ويوجد لهذا الاحتمال بعض اُمور تكون مؤيّدة له أو موجبة لاستشعاره أو قرينة عليه على اختلاف مراتب التأييد:

فمنها: أنّه يوجد في جملة من الأخبار عنوانان، فقيل: «ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(3)، ولم يفرض شقّ ثالث. فلو فرض أنّ المراد بالموافقة هي الموافقة لنصّ خاصّ للكتاب، وبالمخالفة هي المخالفة لنصّ خاصّ له، لكان الشقّ الثالث المسكوت عنه في المقام أكثر من كلا هذين القسمين


(1) يقصد اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) حمل الروايات الواردة في تحكيم الكتاب بالموافقة وعدمها في الأخبار بشكل عامّ على الموافقة والمخالفة للمزاج والإطار العامّ للقرآن. أمّا روايات الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة، فخارجة عن مصبّ بحثه هنا. ومن الواضح عدم صحّة حملها على هذا المعنى.

(2) ومثّل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث التعادل والتراجيح لذلك بما إذا ورد ما يحلّل الكذب والإيذاء في اليوم التاسع من ربيع، فإنّ هذا مخالف للروح العامّة للكتاب، أو ما يذمّ طائفة من البشر ويبيّن خسّتهم ودناءتهم وأنّهم قسم من الجنّ، فإنّ هذا أيضاً مخالف للروح العامّة للكتاب المبنيّة على أساس المساواة بين الأقوام والشعوب.

(3) راجع الوسائل، ج 18، ب 9 من صفاة القاضي، ح 10 و15 و35.

364

إلّا أن يلتزم بتأويل أحد العنوانين، بأن تحمل الموافقة على عدم المخالفة أوالمخالفة على عدم الموافقة.

ومنها: أنّ ظاهر قوله: «ما وافق كتاب الله فخذوه» أنّ الأمر بالأخذ هنا أمر مولويّ في مقام جعل الحجّيّة. ولو كان المراد بالموافق الموافق لشخص آية معيّنة، لم يظهر لجعل الحجّيّة له أثر إلّا في فروض نادرة؛ إذ تكفينا تلك الآية. وهذا بخلاف ما إذا كان المقصود الموافقة للمزاج العامّ للكتاب، فزكاة التجارة ـ مثلاً ـ موافقة للمزاج العامّ للكتاب، لكنّها مع ذلك بحاجة إلى حجّيّة الخبر الدالّ عليها؛ لعدم دلالة آية عليها.

ومنها: ما ورد في بعض روايات الباب(1) من أنّه إن وجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، فإنّ ظاهر ذلك: أنّ وجود شاهد ثان يوجب التأكيد في ملاك الأخذ مع أنّه لو كان المقصود الموافقة بمعنى دلالة آية على مفاده، لم تكن دلالة آية ثانية عليه موجباً لتأكيد ملاك الأخذ، كما هو واضح، وهذا بخلاف ما لو كان المراد الموافقة للمزاج العامّ، فإنّه كلّما كانت المناسبة مع عدد أكبر من المسلّمات وعدد أكثر من الأذواق المستكشفة للشريعة الإسلاميّة يكون ملاك الأخذ عندئذ أقوى لا محالة.

ومنها: أنّ قسماً من تلك الأخبار يدلّ على نفي صدور ما لا يوافق الكتاب منهم(عليهم السلام) واستنكار ذلك، لا مجرّد نفي الحجّيّة(2)، بينما من الواضح أنّ ورود ما لا يوافق نصّاً خاصّاً من الكتاب ليس بعيداً عن شأنهم، بل هو من شأنهم. ومن المعلوم لدى المسلمين جميعاً أنّ القرآن الكريم لا يحتوي على تمام أحكام الشريعة بلا خلاف في ذلك بين الشيعة والعامّة، فنحن نأخذ بقيّة الأحكام عن


(1) راجع المصدر السابق، ح 18.

(2) راجع المصدر السابق، ح 12 و 14 و 40.

365

رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأئمّتنا(عليهم السلام)، وهم يأخذونها عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وأئمّتهم، وإنّما الذي لا يناسبهم(عليهم السلام) هو صدور ما لا يوافق الذوق العامّ للكتاب الكريم ولا يلائم المسلّمات.

ومنها: ما في بعض تلك الروايات من عنوان وجود ما يشبهه في الكتاب(1)، ولعلّه لا يخفى ظهور ذلك فيما ذكرناه.

وهذه الشواهد التي ذكرناها ليست متساوية، وليس كلّها قويّاً إلى حدّ يوجب صرف ظهور الرواية إلى الاحتمال المطلوب.

على أنّ هذه الشواهد لا تستوعب تمام روايات الباب، فيبقى ما لا يشتمل على شيء من هذه الشواهد(2).

 


(1) راجع المصدر السابق، ح 40.

(2) وهو الحديث الحادي عشر من ذاك الباب عن عبدالله ابن أبي يعفور بسند تامّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وإلّا فالذي جاءكم به أولى به». والحديث السابع والثلاثون عن جابر بسند غير تامّ عن أبي جعفر(عليه السلام): «انظروا أمرنا وما جاءكم عنّا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا».

ويمكن أن يقال بالنسبة للحديث الأخير: إنّ التفصيل بين ما لم يوافق الكتاب وما اشتبه فيه الأمر بالتعبير بالردّ في الأوّل، وبالتوقّف في الثاني شاهد على كون المقصود بالموافقة الموافقة للمزاج العامّ للكتاب لا الموافقة لنصّ الكتاب؛ إذ لو كان المقصود هو الموافقة لنصّ الكتاب، فلا فرق في الحكم بين ما لو علمنا بعدم الموافقة وما لو اشتبه علينا الأمر، ولا نكتة في التفصيل في التعبير بالردّ في الأوّل والتوقّف في الثاني، فإنّ عدم الموافقة بمعنى عدم وجود مضمون الحديث في القرآن ليس دليلاً على كذب الحديث،