268

نعم، إنّما يكون قوله حجّة للعاميّ، أي: لمن لا يتمكّن من استعمال وسائل التوصّل إلى النتيجة بالفعل، كما أنّ قول المجتهد لا يكون حجّة لمجتهد آخر، وإنّما يكون حجّة بالنسبة للعاميّ، فلو فرض أنّ اللغويّ كتب أدلّته، وجمع الموارد التي استند إليها، وبيّن طريقة استنباطه للنتيجة، وكان لأحد ملكة الاستفادة من هذه المطالب، فليس قوله حجّة بالنسبة له؛ إذ بالإمكان أن يرجع إلى نفس تلك الوسائل ويستنبط منها النتيجة، ولو وجدنا أنّ اللغويّ يقول ـ مثلاً ـ بأنّ كلمة (لعلّ) للتمنّي، لكنّنا رأينا أنّ هذا غير صحيح؛ لأنّنا انتزعنا من جميع موارد استعمالها معنىً آخر أدقّ من هذا بحيث يشمل تمام الموارد، فكلام اللغويّ ليس حجّة لنا، فإنّ السيرة العقلائيّة الدالّة على الرجوع إلى استنباط أهل الخبرة إنّما دلّت على رجوع العاميّ إلى الخبير، لا على رجوع الخبير إلى الخبير.

 

3 ـ أصالة عدم النقل:

الطريق الثالث لإثبات الظهور: هو التمسّك بأصالة عدم النقل بحسب مصطلح المشهور، وأصالة ثبات اللغة بحسب مصطلحنا، وهذا الأصل طريق لإثبات الظهور في عصر صدور الكلمة، وقد مرّ فيما سبق بيانه وكيفيّة الاستدلال عليه بالسيرة، واكتشاف نكتة هذه السيرة، وهي الثبات النسبيّ الذي يحسّ به الفرد في اللغة بحدود العمر القصير، وهنا نريد أن ننبّه على اُمور ترجع إلى هذا الأصل بعد


الإجماليّ بصدق بعض شهادات اللغويّين، ولا يمكن الاحتياط في ذلك ـ بحسب الفرض ـ بالأخذ بتمام شهاداتهم، فتصل النوبة إلى الاكتفاء بموارد حصول الظنّ بصحّة شهاداتهم.

269

الفراغ عن تصوّره وتصديقه، ومعرفة الاستدلال عليه بالسيرة العقلائيّة، ونكتة انعقاد السيرة:

الأمر الأوّل: أنّ هذا الأصل إنّما يجري إذا شكّ في أصل التغيّر، أمّا إذا علم بالتغيّر وشكّ في تأريخه فهذا غير جار في المقام كما اُشير إليه في الكفاية. فإذا شكّ أنّ الصلاة ـ مثلاً ـ هل نقلت من المعنى اللغويّ إلى المعنى الشرعيّ في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله)حتّى تكون حقيقة شرعيّة، أو نقلت في عصر الأئمّة(عليهم السلام) أو عصر الغيبة، فلا تجري أصالة عدم النقل أو أصالة الثبات في اللغة، ونكتة ذلك بناءً على توضيحاتنا الماضية لهذا الأصل في غاية الوضوح، فإنّنا بيّنّا أنّ هذا الأصل قام على أساس أن كلّ فرد في تجربته المعاشيّة لم ير تطوّراً وتغيّراً في اللغة، فيرى أنّ تغيّر اللغة كأنّه على خلاف الطبع وحالة استثنائيّة، وهذه أمارة بحساب الاحتمالات على عدم التغيّر. أمّا إذا أحرز تحقّق هذه الحالة الاستثنائيّة وشكّ في تأريخها فأماريّة كون التغيّر على خلاف الطبع لا موضوع لها هنا، ولا توجد نكتة اُخرى مركوزة في ذهن العقلاء تكون ملاكاً للكشف عن تأخّر هذا التغيّر أو تقدّمه، فلو حكم العقلاء هنا بالتقدّم أو التأخّر لكان ذلك حكماً تعبّديّاً صرفاً، بينما الأصل الموضوعيّ المتّفق عليه هو أنّ الاُصول اللفظيّة والأمارات العقلائيّة كلّها بملاك الكشف لا بملاك التعبّد(1).

 


(1) قد يقال في مثل هذا المورد باستصحاب عدم النقل أو عدم التغيّر إلى حين العلم بذلك، وأنّ هذا الاستصحاب أوسع دائرة من تلك الأمارة العقلائيّة، فيجري حتّى في المورد الذي لا تجري أصالة الثبات كأمارة عقلائيّة. ونقل عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فيما لم أحضره في الدورة الأخيرة الجواب على هذا الاستصحاب بأنّ الصحيح عدم جريان الاستصحاب؛ لأنّ لتقريبه صيغتين:

270

الأمر الثاني: إذا تعارضت أصالة الثبات في اللغة مع قول اللغويّ فعلى رأي مشهور المتأخّرين لا مشكلة في المقام؛ لأنّ قول اللغويّ غير حجّة، فنأخذ بأصالة الثبات. أمّا على رأينا: من حجّيّة قول اللغويّ بالنسبة لمن لا يتمكّن من الاجتهاد في تشخيص المسألة اللغويّة، فلو وقع التعارض بين الأمرين مع تحقّق شرط حجّيّة قول اللغويّ ـ وهو عدم التمكّن من الاستنباط في اللغة ـ قلنا: إنّ الدليل على حجّيّة قول اللغويّ وكذلك أصالة الثبات في اللغة هو السيرة، وليس لدينا دليل لفظيّ على أحدهما لنتمسّك بإطلاقه، فلابدّ من الاقتصار في هذا الدليل اللبّيّ على القدر المتيقّن، والقدر المتيقّن من السيرة في كلّ منهما هو صورة عدم معارضته مع الآخر، فعند معارضتهما لابدّ من الرجوع إلى بقيّة الاُصول والقواعد في مقام استنباط الحكم الشرعيّ.

الأمر الثالث: إذا كان الشكّ في تغيّر اللغة ناتجاً من الشكّ في وجود السبب للتغيّر فلا إشكال في جريان أصالة الثبات وعدم التغيّر. أمّا إذا كان الشكّ في ذلك ناتجاً من الشكّ في سببيّة الموجود فلا تجري أصالة الثبات، وهذا نظير انقسام


الصيغة الاُولى: استصحاب علاقة اللفظ بالمعنى. ويرد عليه: أنّ هذه العلاقة ليست حكماً شرعيّاً، ولا موضوعاً للحكم الشرعيّ. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّ اللفظ إذا كان لا يزال ذا علاقة بالمعنى الفلانيّ كان ذلك سبباً للظهور، والظهور هو الحجّة، وليست نفس العلاقة موضوعاً للحكم، إذن فهذا الأصل مثبت.

الصيغة الثانية: أن يقال: إنّ هذا الكلام إذا كان صادراً في زمان كذا كان ظاهراً في المعنى الفلانيّ، والآن كما كان. وهذا الاستصحاب التعليقيّ إن كان حجّة في الأحكام فليس بحجّة في الموضوعات.

271

احتمال القرينة إلى احتمال وجود القرينة واحتمال قرينيّة الموجود، وكما يفصّل هناك بينهما كذلك نفصّل هنا بينهما، فلو شككنا في أصل وجود سبب للتغيّر، ونقصد بذلك الشكّ في وجود ما من شأنه إثبات التغيّر في اللغة، كما لو رأينا كلمة (دابّة) مثلاً في زماننا تدلّ على حيوان مخصوص، وشككنا أنّها في عصر النصوص هل كانت تدلّ على نفس المعنى، أو كانت بمعنى مطلق ما يدبّ على الأرض؟ ثُمّ وجد سبب لا نعرفه لتغيّر اللغة، جرت أصالة الثبات على أساس أنّ العقلاء يتخيّلون ـ ولو على اُسس خاطئة ـ أنّ التغيّر خلاف طبع اللغة وأنّه حالة نادرة استثنائيّة، فحساب الاحتمالات يكشف كشفاً نوعيّاً عن عدمه. هذا بخلاف ما لو شككنا في سببيّة الموجود للتغيّر، ونقصد بذلك ما لو وجدت في عصر الصدور ظروف وخصوصيّات من شأنها أن يكون ظهور الكلمة في ذلك العصر غير الظهور الذي نفهمه الآن، ولكن مع ذلك احتملنا عدم حصول التغيّر لأسباب وخصوصيّات غير معلومة لدينا، فهنا لا حجّيّة لأصالة عدم التغيّر؛ لعدم وجود ذلك الكشف النوعيّ مادام هناك ما من شأنه إثبات التغيّر. ومن هذا القبيل كلمة (الرأي) الواردة في النهي عن العمل بالرأي أو تفسير القرآن بالرأي، فلو فرضنا: أنّنا لا نفهم من هذه الكلمة الآن إلّا المعنى العقليّ لهذه الكلمة، لكنّنا نحتمل أنّه في عصر الأئمّة(عليهم السلام) كان للكلمة ظهور في الرأي بالمعنى الاصطلاحيّ، أي: الأخذ بالحدسيّات والتخمينات كالقياس والاستحسان ونحو ذلك، وكان هذا الاحتمال ناشئاً من العلم بظرف معيّن هو ظرف هذا الاحتمال، فنحتمل أنّ شيوع هذا الاصطلاح وتداوله بين الألسن بلغ إلى درجة كسب هذه الكلمة ظهوراً عامّاً في هذا المعنى، ففي مثل هذا الفرض لا حجّيّة لأصالة عدم التغيّر.

272

 

4 ـ الصناعة:

الطريق الرابع لإثبات الظهور: هو الصناعة بمعنى التأمّل البرهانيّ الفنّيّ، في مقابل التبادر الذي هو الطريق الأوّل الذي ليس مستبطناً للتأمّل ومحتوياً على الفنّ والبرهان، بل هو حالة وجدانيّة تخلق في النفس، وهي حالة انسباق المعنى من اللفظ بلاحاجة إلى التعمّق.

والتأمّل الفنّيّ البرهانيّ تارةً يعمل في إثبات كبرى حجّيّة الظهور نفياً أو إثباتاً، وتوسعة وتضييقاً، واُخرى يعمل لإحراز الظهور، وهذا هو محلّ الكلام.

أمّا الكلام في الأوّل: فهو مربوط بالمقام الأوّل. وقد اتّضح بما بيّنّاه في المقام الأوّل أنّ للصناعة دخلاً في تحقيق توسعة دائرة الحجّيّة وتضييق دائرتها، وحجّيّة الظواهر عمدة دليلها ـ كما مرّ بنا ـ هي السيرة العقلائيّة.

فنقول في فرض كون دليلنا على حجّيّة الظهور السيرة العقلائيّة: إنّه إن لم نعلم وجه السيرة ونكتتها فمتى ما شككنا في سعة دائرة الحجّيّة وضيقها، وأنّها هل تختصّ بخصوص من قصد إفهامه مثلاً، أو لا؟ وهل تختصّ بموارد الشكّ في القرينة، أو تعمّ موارد الشكّ في قرينيّة الموجود؟ ونحو ذلك، لم يكن لنا طريق لمعرفة الحال إلّا الرجوع إلى السيرة العقلائيّة بحسب الخارج، وقد يقع الخلاف في تشخيصها، فواحد يدّعي الوجدان على ثبوت السيرة على الحجّيّة، وآخر يدّعي الوجدان على الخلاف. أمّا إذا عرفنا أنّ نكتة السيرة العقلائيّة هي الكاشفيّة والأماريّة لا التعبّد الصرف، كما هو الحال في كلّ الاُصول العقلائيّة على ما هو متسالم عليه بين علماء الاُصول، وعرفنا أيضاً أنّ هذه الكاشفيّة تكون على أساس حساب الاحتمالات القائم على أساس الغلبة، بمعنى أنّ الغالب في المتكلّم أن يطبّق ظاهر كلامه على واقع مرامه،

273

فعندئذ قد لا تبتلي السيرة العقلائيّة لدينا بالغموض كي نقتصر على عملهم الخارجيّ، بل نرجع إلى ما عرفناه من النكتة، ونميّز بشكل أتمّ وأتقن موارد الحجّيّة من موارد عدم الحجّيّة، فنرى مثلاً: أنّه ليس الغالب في المتكلّم أن لا يوصل كلامه بقرينة متّصلة، فلا كاشفيّة لأصالة عدم قرينيّة الموجود، فنكتة السيرة غير موجودة، أو نرى مثلاً: أنّ الغلبة والكاشفيّة موجودتان بالنسبة لمن لم يقصد إفهامه، فنكتة السيرة ثابتة، وما إلى ذلك من الأمثلة، فهذا دور الصناعة في كبرى حجّيّة الظهور.

وأمّا الكلام الثاني ـ أعني: دور الصناعة في إحراز الظهور ـ: فهنا نحن بحاجة إلى البحث لأجل تحديد مقدار دور الصناعة في باب الدلالات. فمن ناحية هنا كلام قد يتردّد على الألسن، وهو: أنّه لا معنى لإعمال الصناعة في معرفة الظهور، وإنّما يجب الرجوع فيه إلى العرف وإلقاء الكلام على الفرد المتعارف والناس الاعتياديّين لكي نرى ماذا يفهمون منه، ومن ناحية اُخرى نرى أنّ سيرة المحقّقين لم تكن على ذلك، ففي جملة من الموارد أدخلوا الصناعة في فهم الظهور، فما أكثر ما يتكلّمون صناعة في إثبات المفهوم ـ مثلاً ـ للقضيّة الشرطيّة، أو في أنّ صيغة (افعل) هل تدلّ على الوجوب بمقدّمات الحكمة أو بقرينة عامّة اُخرى، أو لا؟ وما إلى ذلك من الأمثلة.

فمن هنا احتجنا في مقام حلّ هذا التناقض بين هذين الأمرين ـ أي: بين ما قد يقال وما قد يفعل ـ إلى تحديد دور الصناعة ومقدار أثرها في باب دلالة الألفاظ.

وتفصيل الكلام في ذلك: أنّ الصناعة تارةً تعمل في تشخيص كبرى الظهور، واُخرى في تشخيص صغراه، وثالثة في تشخيص خصوصيّات الظهور، ورابعة في مقام التنسيق بين الظهورات، أي: تحديد العلاقات الكلّيّة بين بعض الظواهر

274

وبعضها الآخر في كلام واحد:

أمّا دور الصناعة(1) في إثبات كبرى الظهور: فنقصد بذلك كشف دلالة لفظ مّا بشكل عامّ على معنى، أو كشف قانون مّا لغويّ بشكل عامّ في مقام اقتناص المعنى، وهذا من شأن علماء اللغة، وهو أمر ممكن، فنحن بعد أن أثبتنا أنّ المقياس في الظهور الذي يكون كاشفاً عن المراد وعليه مدار العمل ليس هو الظهور الفعليّ، وإنّما هو الظهور اللغويّ، فبالإمكان الكشف عن الظهور اللغويّ بالاستقراء وحساب الاحتمالات، وإعمال صناعة التجريد وإلغاء الخصوصيّات، وإلغاء احتمال الصدف وتأثير المقارنات، وذلك تارةً يكون بالتمسّك بالظهور الفعليّ، أي: بتوسيط التبادر لكشف الظهور الموضوعيّ، واُخرى بإجراء حساب الاحتمالات على نفس الظهورات الموضوعيّة لكشف قانون يسع كلّ تلك الظهورات.

أمّا الأوّل: فمن قبيل أن ترى أنّ كلمة (الأسد) يتبادر منها الحيوان المفترس، ونجرّب ذلك في موارد عديدة وفي حالات مختلفة، ففي كلّ مورد رأينا هذا التبادر يحتمل فيه عدم استناده إلى دلالة اللفظ ووضع اللغة، لكن كلّما كثرت موارد التجربة قوى احتمال استناده إلى الظهور اللغويّ؛ لاستبعاد وجود قرينة خفيّة ـ مثلاً ـ في تمام تلك الموارد إلى أن يحصل الاطمئنان واليقين بالظهور اللغويّ، أو نحصي ظهورات فعليّة لأشخاص متعدّدين ومن بيئات متعدّدة للكشف عن ثبوت نكتة مشتركة بين الجميع، وليست إلّا الظهور اللغويّ.


(1) أخذت بعين الاعتبار أيضاً في مقام بيان دور الصناعة في إثبات كبرى الظهور ما نقل عنه (رضوان الله عليه) فيما لم أحضره في دورته الأخيرة. كما أنّه جاء في المنقول عنه ممّا لم أحضره: أنّه قد يتّفق نفي الظهور بالصناعة كما وقع في باب الصحيح والأعمّ وفي بحث المشتقّ، حيث استدلّوا على عدم الدلالة على خصوص الصحيح بعدم الجامع بين الصلوات الصحيحة، واستدلّوا على عدم دلالة المشتقّ على الأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ بعدم الجامع بينهما.

275

وأمّا الثاني: فمن قبيل ما نقل عن بعض المحقّقين في مقام بيان الفرق بين هيئة (فعيل) وهيئة (فاعل) كخطيب وخاطب، وعليم وعالم: من أنّنا بالاستقراء بين مصاديق الهيئتين رأينا وجود جهة مشتركة بين موارد هيئة (فعيل) تمتاز بها عن هيئة (فاعل)، وهي قيام المبدأ بالذات، أي: كون المبدأ ثابتاً في نفس الذات كما في الخطيب والعليم والقدير والشريف وما إلى ذلك، فهذه المبادئ من العلم والخطابة وغير ذلك قائمة بنفس الذات، وهذه الظاهرة محفوظة في تمام موارد هيئة (فعيل)، هذا بخلاف هيئة (فاعل)، فإنّها كثيراً مّا تأتي منفصلة عن هذه النكتة، من قبيل ضارب وآكل ونحوها.

فما ذكره هذا المحقّق يرجع بروحه إلى إجراء حساب الاحتمالات على الظهورات الموضوعيّة لصيغ (فعيل) للكشف عن أنّ استفادة قيام المبدأ بالذات لم تكن صدفة عند أهل اللغة في كلّ هذه الموارد؛ لاستبعاد الصدف المتكرّرة، بل هو مستفاد من هيئة (فعيل)، وذلك من قبيل تجربة (ألف) عدّة مرّات لمعرفة أنّها تولّد (ب)، وأنّ المقارنة بينهما لم تكن دائماً بحسب الصدفة.

وكان مقصودي بذكر هذا المثال مجرّد توضيح الفكرة لا إمضاء انطباقها بالشكل الصحيح على هذا المثال بالذات. أمّا بلحاظ هذا المثال فلنا نقاش في كلام هذا المحقّق، فإنّ استقراءه ليس كاملاً، وقد جاءت هيئة (فعيل) في اللغة بنحو ينقض هذا الكلام كما في قولنا: (عذاب أليم) بينما الألم ليس قائماً بذات العذاب، وإنّما هو قائم بالمتألّم(1).


(1) بإمكان ذاك المحقّق أن يقول: إنّ الأليم يختلف في معناه عن المؤلم، فالمؤلم يشير إلى جانب الصدور كالضارب والآكل، فالعذاب حينما لم يمسّ أحداً ليس مؤلماً، والنار حينما لم تحرق أحداً ليست مؤلمة، ولكن يصدق عليهما عنوان الأليم قبل مسّ أحد، فهو يدلّ على صفة شأنيّة الإيلام القائمة بالذات.

276

وأمّا دور الصناعة في إثبات صغرى الظهور: فهذا تارةً يكون بلحاظ الدلالة المطابقيّة، واُخرى بلحاظ الدلالة الالتزاميّة:

أمّا بلحاظ الدلالة المطابقيّة: فبعد أن فرضنا الفراغ عن كبرى الظهور فبالإمكان إثبات المصداق بالبرهان والصناعة.

فمثلاً هناك كبرى مفروغ عنها، وهي الظهور الإطلاقيّ ومقدّمات الحكمة التي ترجع بروحها إلى قابليّة الانقسام مع عدم القرينة على التقييد، وكون المولى في مقام البيان. ويقع البحث في صغرى هذه الكبرى بين القائلين باستصحاب العدم الأزليّ ـ مثلاً ـ والمنكرين له. فيقول المنكر: لايوجد لدينا يقين سابق في المرأة المشكوك كونها قرشيّة؛ إذ لم تكن في وقت قد ثبت أنّها ليست قرشيّة حتّى يشملها إطلاق دليل الاستصحاب المأخوذ في موضوعه اليقين السابق والشكّ اللاحق. ويقول المثبت لاستصحاب العدم الأزليّ: إنّ عدم الاعتراف باليقين السابق نشأ من الغفلة عن اليقين بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، فاليقين بعدم القرشيّة تارةً يكون بنحو السالبة بانتفاء المحمول مع فرض وجود الموضوع، وهذا يعني فرض وجود المرأة، ولا يقين لنا من هذا القبيل في المقام، واُخرى يكون بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، أي: انتفاء القرشيّة بانتفاء أصل وجود المرأة، وهذا ثابت في الأزل، فبهذا تثبت بالصناعة صغرى الإطلاق المتّفق عليه بين الطرفين؛ لأنّ هذا برهان على قابليّة المعنى للانقسام. وهكذا يتّفق في كثير من الموارد أن تكون كبرى الظهور مسلّمة بين الطرفين مع وقوع النزاع في الصغرى بينهما وبرهنتهما على النفي والإثبات كما رأيته في هذا المثال.

نعم، إثبات صغرى الظهور بالصناعة محدود بحدّ لابدّ من الالتفات إليه، وهو

277

أنّه يجب أن تكون هذه الصناعة بحيث من يلتفت إليها يستظهر بعد فرض الإيمان بها الإطلاق من الدليل كما هو الحال في مثال استصحاب العدم الأزليّ، فإنّه يستظهر على فرض صحّة الصناعة الماضية في المقام دخول استصحاب العدم الأزليّ في إطلاق الدليل. أمّا لو فرض أنّه حتّى بعد الالتفات إلى الصناعة وفرض صحّتها لم نستظهر من الدليل الإطلاق فعندئذ نحتمل تخصيص أصل كبرى مقدّمات الحكمة، وهذا الاحتمال لا دافع له إلّا الظهور الفعليّ(1)، والمفروض أنّه غير موجود في المقام. مثال ذلك: الصناعة المعمولة في إثبات الوجوب بصيغة (افعل) من ناحية مقدّمات الحكمة بأن يقال بناءً على كونها موضوعة لجامع


(1) أفاد (رضوان الله عليه): إنّ نظرنا فيما ذكرناه هنا إلى ما لو كان عدم تحقّق الظهور الفعليّ لدينا ناتجاً عن خفاء الظهور اللغويّ في هذا المورد، وعدم كونه في الجلاء كسائر الموارد لأجل توقّف الإطلاق ـ مثلاً ـ على بعض صناعات غير محتاج إليها في الموارد المتعارفة أو لأيّ نكتة اُخرى، فعندئذ نقول: إن لم نشعر بالظهور حتّى بعد الالتفات إلى تلك الصناعة فلا محالة نحتمل أنّ هذا القسم من الإطلاق ـ مثلاً ـ غير معتبر عند العرف. وأمّا إذا كان وجه عدم الإحساس شيئاً آخر من اُمور نفسيّة خاصّة وظروف خارجيّة أثّرت في النفس فعندئذ قد يمكن إثبات الظهور بالصناعة حتّى مع فرض عدم الإحساس به بعد الالتفات إلى تلك الصناعة، وذلك بأن يقاس المورد الذي لا نحسّ فيه بالظهور بمورد آخر نقطع فيه بالظهور، وتستعرض الجهات التي يحتمل بالمناسبات دخلها في ثبوت هذا الظهور وعدمه، ويُوضّح عدم الفارق بين الموردين في تلك الجهات إلى أن يظهر أنّه لا توجد أيّ جهة توجب اختلاف هذا المورد الذي قطعنا فيه بالظهور عن المورد الذي لم نحسّ فيه بذاك الظهور، فيثبت أنّ عدم إحساسنا بالظهور في ذلك المورد مستند إلى أمر شخصيّ لا إلى قوانين اللغة العامّة، وأنّ هذا الظهور بحسب قوانين اللغة العامّة ثابت.

278

الطلب: إنّ هذا جامع بين الفرد الشديد وهو الوجوب، والفرد الضعيف وهو الاستحباب، فإن أراد المولى الفرد الشديد فقد بيّن بالأمر الدالّ على الطلب تمام مراده؛ لأنّ شدّة الطلب من سنخ الطلب، وإن أراد الفرد الضعيف لم يبيّن تمام مراده؛ لأنّ ضعف الطلب ليس طلباً ولم يبيّنه، وبما أنّ الأصل هو كون المتكلّم في مقام البيان إذن يحمل طلبه على الوجوب. وهذه صناعة لو تمّت فبعد فرض تماميّتها لا نحسّ ظهوراً في صيغة افعل من ناحية هذه الصناعة في الوجوب، فنعرف أنّ كبرى مقدّمات الحكمة فيها تخصيص، بمعنى أنّ كون ظهور حال المتكلّم في كونه في مقام بيان تمام المراد إنّما هو بمعنى كونه في مقام بيان ما هو تمام المراد بحسب المتفاهم العرفيّ، لا ما هو تمام المراد بحسب الدقّة الفلسفيّة.

وأمّا بلحاظ الدلالة الالتزاميّة: فبعد فرض التوافق على الدلالة المطابقيّة يمكن إقامة البرهان على الملازمة لإثبات الدلالة الالتزاميّة، فهذا إثبات لدلالة التزاميّة بالصناعة والفنّ. ومثاله ما ذكر في الكفاية لإثبات مفهوم الشرط، وقد أبطله صاحب الكفاية، ونحن لا شغل لنا هنا بصحّته وبطلانه، وإنّما المقصود توضيح الفكرة من خلال هذا المثال، وهو ما قد يقال: من أنّ القضيّة الشرطيّة تدلّ على العلّيّة الانحصاريّة، فيثبت بذلك المفهوم، ويستدلّ على ذلك بأنّ مقتضى إطلاق القضيّة كون الشرط علّة سواء سبقه شيء أو قارنه، أو لم يسبقه ولم يقارنه، فإذا كان هذا الظهور الإطلاقيّ مسلّماً قلنا: إنّ هذا يستلزم انحصار العلّيّة، والبرهان على هذا الاستلزام هو: أنّه لو كان للعلّة المذكورة في القضيّة الشرطيّة بديل لما كانت العلّة عند سبقه على الشرط أو اقترانه معه هي الشرط، بل ذاك البديل أو مجموعهما، بينما فرضنا أنّ مقتضى الإطلاق كون الشرط علّة للجزء سواء سبقه

279

شيء أو قارنه، أو لا(1).

أمّا دور الصناعة في إثبات خصوصيّات الظهور: فبعد الاعتراف بالظهور كبرويّاً وصغرويّاً قد تؤثّر الصناعة لإثبات خصوصيّة الدلالة تارةً، كما لو اعترفنا بمفهوم الشرط ووقع الكلام في كونه بالوضع أو الإطلاق، ولإثبات خصوصيّة المدلول تارةً اُخرى، كما لو اعترفنا باختلاف الجملة التامّة عن الناقصة من حيث المعنى ووقع الكلام في حاقّ هذا المعنى والفرق بحدوده الواقعيّة.

أمّا الأوّل: فكما لو اعترفنا بدلالة الشرطيّة على العلّيّة الانحصاريّة، وأثبتنا بالبرهان أو الاستقراء انحصار الظهور في الوضع والإطلاق، ثُمّ أبطلنا الوضع في المقام بأنّه لو كانت دلالة الشرطيّة على العلّيّة الانحصاريّة بالوضع لما شعر العرف بانحلال الدلالة بحيث لو علمنا بانتفاء المفهوم في مورد بقينا متمسّكين بمفهوم القضيّة في مورد آخر، بينما لو ورد ـ مثلاً ـ قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) ثُمّ ثبت بدليل آخر وجوب إكرامه أيضاً عند قراءته للقرآن، فالعرف ينفي احتمال كفاية أمر ثالث في وجوب الإكرام بالمفهوم، بينما لو كانت الدلالة وضعيّة، وقد عرفنا خلافها بالاستثناء الأوّل لا يبقى ناف لاحتمال الاستثناء الثاني، فبهذا يثبت أنّ ظهور الشرط في المفهوم بالإطلاق القابل للانحلال والتقييد، فيترتّب عليه آثار


(1) ونحوه ما نقل عنه(رحمه الله) فيما لم أحضره في دورته الأخيرة هنا: من أنّ افتراض دلالة الشرطيّة على أنّ الشرط بعنوانه هو العلّة يبرهن على الملازمة بين ذلك وبين الانحصار بأنّه لو كانت هناك علّة اُخرى لكانت العلّة هي الجامع بناءً على استحالة صدور الواحد من اثنين. أمّا مدى صحّة هذا البرهان، وكذا الذي قبله على مفهوم الشرط فقد بحثه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحث المفاهيم.

280

الظهور الإطلاقيّ، من قبيل تقدّم الظهور الوضعيّ عليه لو قلنا به عند التعارض، وغير ذلك من الآثار(1).

وأمّا الثاني ـ وهو إعمال الصناعة في إثبات الخصوصيّات الراجعة إلى جانب المدلول ـ: فمن أحسن مصاديقه أبحاث المعاني الحرفيّة بتمامها، فكلّ الناس يعرفون معنى (زيد في الدار) وغير ذلك من الحروف، ولكن لايعلمون بالضبط ما هو تحديد هذه المعاني، ومثل ذلك إعمال الصناعة في تحديد النسبة التامّة والنسبة الناقصة.

وأمّا دور الصناعة في تنسيق الظواهر بمعنى تحديد الروابط والعلاقات الكلّيّة بين تلك الظواهر: فمن موارد ذلك أنّه ثبت في القضيّة الشرطيّة ـ مثلاً ـ ظهور في التعليق، وثبت أنّ قوله مثلاً في الجزاء (فأكرمه) ظاهر بمقدّمات الحكمة في طبيعيّ وجوب الإكرام، فبعد الفراغ عن هذين الظهورين بالإمكان أن يقع الكلام باُسلوب الفنّ والصناعة في كشف العلاقة بين الظهورين والتنسيق بينهما، وأنّه ما هو المعلّق على مجيء زيد مثلاً؟ فهل يجري الإطلاق في المرتبة السابقة على التعليق، ومعناه أنّه قد علّق المطلق، فعند عدم المجيء


(1) أفاد (رضوان الله عليه) على ما نقل عنه فيما لم أحضره في دورته الأخيرة: أنّه على مبانينا من أنّ إدراك الظهور الوضعيّ ليس فرع العلم بالوضع، كما أنّ إدراك الظهور القرينيّ ليس فرع العلم بالقرينة، بل فرع واقع الوضع والقرينة، يصبح من الواضح إمكان إعمال الصناعة والبرهان لمعرفة ذلك، فقد يشهد الوجدان بأنّ صيغة (افعل) مثلاً تدلّ على الوجوب، ولا نعلم أنّ هذه الدلالة هل هي مستندة إلى الوضع أو الإطلاق، فيأتي دور الوصول إلى معرفة خصوصيّة الظهور الذي أدركناه بالوجدان عن طريق الصناعة والفنّ، وهذا بحث صناعيّ تامّ لفرض ترتّب آثار الوضع أو الإطلاق.

281

ينتفي مطلق وجوب الإكرام، فتتمّ الدلالة المفهوميّة، أو يجري الإطلاق في المرتبة المتأخّرة على التعليق، ومعناه أنّه قد أطلق المعلّق، فانتفاء الشرط لا يستلزم عدا انتفاء شخص الحكم دون سنخه، فلا يتمّ المفهوم؟ وقد مرّ كلّ ذلك في بحث مفهوم الشرط(1).

 


(1) وهناك قسم آخر لإعمال الفنّ والصناعة في باب الظهور نقل عمّا لم أحضره في الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وبالإمكان دخول هذا القسم في كلّ الموارد السابقة: من تحديد كبرى الظهور، أو صغراه، أو خصوصيّاته، أو التنسيق بين الظهورات. وإليك ما هو المنقول عن اُستاذنا الشهيد(قدس سره):

قد نفرض أنّ الدلالة تكون لدى الإنسان وجدانيّة لولا تحيّره في كيفيّة تفسير وجدانه، وذلك تارةً يكون بلحاظ وجدان واحد، واُخرى يكون بلحاظ ما قد يتراءى من التضارب بين وجدانات عديدة، فيعمل الفنّ والصناعة لتذليل مشكلة هذا الوجدان أو هذه الوجدانات بوضع تفسير معقول في المقام.

فمثال الأوّل: أن يدرك الإنسان بوجدانه العرفيّ أنّ الجملة الشرطيّة لها مفهوم يدلّ على انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الشرط، لكنّه لا يعرف كيف يخرّج ويفسّر هذا المطلب، مع العلم بأنّ المتكلّم إنّما أنشأ حكماً واحداً في القضيّة الشرطيّة، فينبغي أن يكون المنتفي بانتفاء الشرط هو ذاك الحكم الواحد لا سنخ الحكم.

ويحلّ هذا الإشكال ببيان: أنّنا نجري مقدّمات الحكمة لإثبات أنّ المعلّق على الشرط هو سنخ الحكم لا شخصه.

ويستشكل في ذلك بأنّ مقدّمات الحكمة إنّما تجري في طرف الموضوع لا في طرف الحكم، أي: أنّ الإطلاق دائماً يكثّر الموضوع ولا يكثّر الحكم، فلو قلنا مثلاً: (إكرام العالم واجب) تجري مقدّمات الحكمة في الإكرام لا في (واجب).

ويجاب على ذلك بأنّ نفس الحكم في القضيّة الشرطيّة يقع موضوعاً للحكم بالتعليق،

282

وبهذا تمّ مبحث الظواهر.

 


وبلحاظ ذلك يجري الإطلاق بشأنه.

ويستشكل في ذلك بأنّ التعليق المستفاد من القضيّة الشرطيّة عبارة عن مجرّد التقييد والنسبة الناقصة، وليس حكماً كي يجري في موضوعه الإطلاق.

فيجاب على ذلك بإقامة البرهان على أنّ مرجع التعليق في الجملة الشرطيّة إلى النسبة التامّة لا الناقصة. وبهذا يتمّ التفسير لوجداننا السابق في دلالة الشرط على المفهوم، فيتيقّن الوجدان ويتأكّد.

ومثال الثاني: أن نفترض أنّ الإنسان بوجدانه يدرك أنّ الجملة الشرطيّة لها مفهوم، ويدرك أيضاً أنّ المتكلّم إذا استعمل الجملة الشرطيّة في مورد يكون هناك عدل للشرط لم يكن ذلك مستبطناً لعناية المجاز، وهذان الوجدانان قد يبدو أنّهما متعارضان حيث يقال: إنّ أداة الشرط لو وضعت للعلّيّة الانحصاريّة يجب بطلان الوجدان الثاني، وإلّا يجب بطلان الوجدان الأوّل، وهذا قد يسبّب تزلزل الإنسان وتردّده في صدق وجدانه لولا إمكان وضع فرضيّة معقولة للجمع بين الوجدانين كأن يقال مثلاً:

إنّ أداة الشرط وإن وضعت للعلّيّة الانحصاريّة لكن هذا غير كاف في ثبوت المفهوم، ووجود العدل لا ينافي العلّيّة الانحصاريّة، وذلك لإمكان كون المعلّق شخص الحكم، ومعه لا يثبت المفهوم ويمكن فرض وجود العدل. والمفهوم متوقّف على ظهورين: ظهور التعليق في اللزوم العلّيّ الانحصاريّ، وهذا ظهور وضعيّ، وظهوره في أنّ المعلّق سنخ الحكم، وهذا ظهور إطلاقيّ به يثبت المفهوم وبمخالفته لا يتحقّق عناية المجاز، وبهذا يجمع بين الوجدانين مثلاً. وكثير ممّن أنكر مفهومالشرط لا يبعد أن يكون إنكاره هذا مستنداً إلى عدم توفيقه للجمع بين أمثال هذه الوجدانات.

283

الأمارات الظنّيّة

3

 

 

الإجماع

 

○كشف الإجماع عن الحكم الشرعيّ.

○كشف الإجماع عن الدليل التعبّديّ.

○التواتر.

○الشهرة.

 

 

 

285

 

 

 

 

 

 

 

الأمارة الثانية: الإجماع. وهو إنّما يكون أمارة شرعيّة على الحكم على بعض وجوه حجّيّته، وأمّا على باقي الوجوه فهو دليل قطعيّ على الحكم الشرعيّ، أو على حجّة ظاهريّة.

وللاستدلال بالإجماع مسلكان:

الأوّل: الاستدلال به ابتداءً على الحكم الشرعيّ.

والثاني: الاستدلال به على أنّ معقده إن لم يكن حكماً واقعيّاً فلا أقلّ من ثبوت حجّة تعبّديّة معتبرة عليه، ونتيجة التردّد بين هذين الأمرين هي ثبوت الحكم تعبّداً؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، إذن فيقع البحث في مقامين:

 

كشف الإجماع عن الحكم الشرعيّ

المقام الأوّل: في الكشف عن الحكم الشرعيّ ابتداءً بالإجماع، وهذا الكشف يكون على أحد مباني ثلاثة:

1 ـ مبنى الكشف على أساس العقل العمليّ.

2 ـ مبنى الكشف على أساس العقل النظريّ.

3 ـ مبنى الكشف على أساس الدليل الشرعيّ.

286

 

1 ـ الكشف على أساس العقل العمليّ:

أمّا المبنى الأوّل ـ وهو مبنى كشف الإجماع على أساس العقل العمليّ ـ: فهو الذي ينسب إلى بعض أكابر السابقين كالشيخ الطوسيّ(قدس سره): من إثبات حجّيّة الإجماع على أساس قاعدة اللطف. والمدّعى في قاعدة اللطف هو حكم العقل العمليّ بثبوت حقّ للعبد على المولى، كما يحكم بثبوت حقّ للمولى على العبد، ويعبّر عن ذلك تأدّباً بقاعدة اللطف، وقد طبّقت هذه الفكرة على موارد كثيرة كإثبات لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب على المولى ـ تعالى شأنه ـ لهداية الناس وغير ذلك، ومنها ما نحن فيه: من حجّيّة الإجماع، بدعوى أنّه يقبح على الله تعالى إبقاء الناس في اشتباه وضلال وجعلهم يجمعون على خلاف الحقّ وتفويت مصلحة الواقع عليهم.

وقد طوّرت هذه الفكرة في الإجماع فيما تأخّر عن الشيخ الطوسيّ(قدس سره)، فذكر نظير ذلك بالنسبة للإمام(عليه السلام)، وذلك بدعوى أنّ وظيفة إمام العصر ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ كآبائه الطاهرين(عليهم السلام) هي إبلاغ الأحكام إلى الناس وسدّ باب العدم من قِبلهم، فإن كان الحكم واصلاً إليهم من قِبَل إمام سابق ويعرفه بعضهم فليس على إمام العصر(عليه السلام)شيء، فإنّ الإيصال واجب كفائيّ عليهم، وإن انقطع الحكم عن الجميع ووقع الإجماع على خلاف الحقّ وجب عليه إيصاله إلى الناس ولو بإلقاء الخلاف فيما بينهم باُسلوب لا ينافي التستّر والغيبة المطلقة.

والواقع: أنّه لا دليل على وجوب مثل هذا الإيصال على الإمام(عليه السلام)، فالأدلّة الخاصّة الواردة بشكل فرديّ في وجوب ذلك بالنسبة للأئمّة السابقين(عليهم السلام) لا تشمل صاحب الزمان عجّل الله فرجه، فكلّ واحد منهم كان يتكلّم عن نفسه. وأمّا الأدلّة العامّة فهي إنّما تدلّ على وجوب بيان الحكم على الإمام بعنوان كونه إماماً

287

لا بعنوان كونه شخصاً مجهولاً مثلاً، أي: أنّه يجب على الإمام إبلاغ الحكم بعنوان كونه إماماً على الناس، ويؤخذ منه الحلال والحرام، ويستدلّ على إمامته بالمعجز، ويبثّ الأحكام بين الناس عن هذا الطريق، والمفروض عدم وجوب ذلك على الإمام صاحب الزمان؛ لمنافاته للتستّر والغيبة، كما لا يجب عليه الانكشاف أمام شخص خاصّ بعنوان الإمام وبيان الحكم له؛ لأنّه ينافي التستّر المطلق، والقائل بحجّيّة الإجماع معترف بعدم وجوب الإيصال عليه بالشكل المنافي للتستّر، وإنّما يقول بوجوب الإيصال عليه بمثل إيقاع الخلاف بالبروز كإنسان مجهول، أو إيقاع ورق مكتوب في الطريق كي يأخذه البعض وينتهي ذلك إلى الخلاف مثلاً، بينما لا دليل على وجوب مثل ذلك، فما هو واجب بالأدلّة العامّة ساقط عن إمام العصر في زمان الغيبة؛ لمنافاته للتستّر، وما ينافي التستّر لم يدلّ دليل على وجوبه.

وأمّا إثبات حجّيّة الإجماع بقاعدة وجوب اللطف على الله تعالى، فالبحث حول أصل قاعدة اللطف لا نتعرّض له هنا ونحيله إلى مورده في علم الكلام، ولكنّنا نناقش تطبيقها على المقام بعد فرض تسليم صحّة القاعدة، ونناقش ذلك من ناحيتين:

أوّلاً: أنّه ما هو المقصود من المصلحة التي يفترض وجوب إيصالها إلى العباد لكي لا ينحرموا جميعاً عنها بسبب الإجماع الخاطئ؟ هل المقصود هي المصلحة التي تكون في طول الحكم، وهي مصلحة العبوديّة والطاعة، أو المقصود هي المصلحة التي تكون قبل الحكم، وهي المصلحة الكامنة في ذات الأفعال الداعية إلى الحكم على طبقها؟

فإن كان المقصود المصلحة التي هي في طول الحكم فهي لا تفوت بخفاء الحكم، فإنّ الحكم الظاهريّ الموجود دائماً عند خفاء الحكم الواقعيّ حاله حال الحكم الواقعيّ من ناحية مصلحة الامتثال والعبوديّة والانقياد لله تعالى.

288

وإن كان المقصود المصلحة التي هي ثابتة قبل الحكم في متعلّقات الأحكام قلنا: لا جزم لنا بلزوم اللطف على الله تعالى بإيصال تمام المصالح التشريعيّة إلى العباد بأكثر ممّا تقتضيه العوامل الطبيعيّة وجهود الإنسان نفسه، فلعلّ هناك مصلحة في عدم إيصال بعضها بالشكل المطلوب هنا، وإيكال الأمر إلى ما تقتضيه العوامل الطبيعيّة وسعي الناس أنفسهم، وما إلى ذلك ممّا يوجب وصول الحكم الواقعيّ إليهم ولو بعد مئات السنين، وقد رأينا نظيره في المصالح الطبيعيّة، فكم مضى من آلاف السنين على عمر الإنسان وهو لا يعرف دواء السلّ، كما أنّه لم يتوصّل حتّى الآن إلى معرفة دواء السرطان، وقد اقتضت المصلحة الإلهيّة إيكال انكشاف أسرار الطبيعة ومصالحها ودفع مفاسدها إلى العوامل الطبيعيّة وسعي الإنسان، فلم لا تكون المصالح التشريعيّة أيضاً من هذا القبيل؟ ولا يقاس المقام بمسألة إرسال الرسل وإنزال الكتب، فإنّ ذلك مشتمل على القسم الأوّل من المصلحة، أي: التي هي في طول الحكم والتي كانت تفوت لولا إرسال الرسل وإنزال الكتب(1).

وثانياً: أنّ المقصود من إيصال الحكم إلى الناس الواجب باللطف على الله تعالى هل هو جعل نكتة في معرض وصول الكلّ تمكّن كلّ واحد منهم ـ ولو بجهد


(1) كأنّ خلاصة هذا النقاش: أنّه لو آمنّا بوجوب اللطف بالإيصال فإنّما نؤمن بذلك بمعنى فتح الطرق الطبيعيّة للوصول وإن تأخّرت فعليّة الوصول آلاف السنين؛ إذ من المحتمل وجود مصلحة في الاكتفاء بهذا المقدار، وتحقيق هذا المقدار بالنسبة للمصلحة التي تكون في طول الحكم يكون بالتشريع وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وبالنسبة للمصالح الطبيعيّة يكون بتزويد البشر بقابليّة تحصيل الخبرات والتجربة، وبالنسبة للمصالح التشريعيّة التي هي قبل الحكم يكون أيضاً بتبليغ الحكم على لسان المبلّغ الأعظم عليه وعلى آله آلاف التحيّة والسلام، وإن كان قد يمنع ظلم الظالمين ـ مثلاً ـ عن الوصول.

289

جهيد ـ من الوصول إلى الحقّ، أو تدّعى كفاية إيصال الحقّ إلى بعض الناس وإن لم يكن بالشكل الذي يتمكّن كلّ واحد منهم من الوصول إليه ولو بالجهد الكثير؟

فإن قصد الثاني ورد عليه: أنّ نكتة وجوب اللطف إنّما هي العبوديّة والحاجة، وهما ثابتتان في تمام الأفراد على حدّ سواء، فلا معنى لوجوب اللطف بالنسبة إلى فرد دون فرد، ولا بالنسبة إلى فرد واحد على البدل، فإنّ عنوان اجتماع الناس على الخطأ ليس فيه محذور آخر غير محذور خطأ نفس الأفراد.

وإن قصد الأوّل فهذا لطف ثابت بشأن الجميع على حدّ سواء ولكن يلزم من ذلك: أن يحصل للفقيه القطع كثيراً بأنّ ما أثبته بمثل الأصل العمليّ أو الأمارة التعبّديّة مطابق للحكم الواقعيّ، فمتى ما تيقّن الفقيه بأنّه لو كان هناك دليل حاكم ـ مثلاً ـ على ما توصّل إليه من الأصل أو الأمارة، فهو عاجز عجزاً تامّاً عن الوصول إليه، أو تيقّن أنّه لا يوجد دليل حاكم عليه كي يمكن لأحد الوصول إليه، وأنّ من أفتى بخلاف ذاك الأصل أو الأمارة فقد أخطأ فيما تخيّله: من عدم كون المورد مورداً لذاك الأصل أو تلك الأمارة، لزم أن يحصل له القطع بأنّ مفاد هذا الأصل أو تلك الأمارة مطابق للحكم الواقعيّ. وهذا ممّا لا يلتزم به أحد.

وأيضاً لو عرف المجتهد أنّ القول في المسألة الفلانيّة للعلماء منحصر في رأيين، فنظر في أحدهما فحصل له العلم بأنّه ليست هناك نكتة صحيحة تعيّنه، لزم من ذلك أن يحصل له القطع بصحّة القول الآخر وموافقته للواقع بلاحاجة إلى مراجعة مدركه والتأمّل فيه؛ إذ المفروض أنّه لابدّ أن يوجد في الأقوال قول صحيح ذو نكتة ترشد كلّ مَن طلبها وبذل جهده الكامل في سبيلها إلى الواقع. وهذا ـ كما ترى ـ ممّا لا يلتزم به.

ويمكن تقريب الاستدلال باللطف في باب الإجماع بوجهين آخرين:

الأوّل: أن يقال: إنّه كما يجب على الله إرسال الرسل وتشريع الأحكام كذلك

290

يجب عليه تعالى أن لا يُبقي في الدين ثغرة تستوجب الشبهة للناس في الدين،أي: يجب أن يجعل في قبال كلّ شبهة الجواب الكافي بحدّ ذاته ولو لم يقتنع به صاحب الشبهة لنقص فيه لا في الجواب.

وعليه نقول: لو اختلف العلماء على رأيين مثلاً، فكان أحدهما يقول بالفرق بين السيّد القرشيّ والأسود الحبشيّ في مقام اجتماعيّ مثلاً، والرأي الآخر ينكر الفرق، وكان الرأي الثاني هو الصحيح، واكتشف مَن يطعن على الدين العيب الموجود في الرأي الأوّل، فأراد أن يجعل ذلك شبهة على الدين، أمكن الجواب عليه بأنّ شبهتك هذه إشكال على رأي بعض العلماء وليس إشكالاً على الدين؛ إذ لعلّ الرأي الدينيّ الحقيقيّ متجسّد في رأي الآخرين وليس متجسّداً في رأي مَن أفتى بهذه الفتوى. أمّا لو افترضنا أنّ علماء الدين كلّهم أجمعوا على الرأي الباطل، واكتشف الطاعن على الدين الثغرة الموجودة في هذا الرأي، فسيستحكم عنده أنّ هذه الثغرة ثغرة في الدين، وأنّ هذا إشكال على الدين وليس إشكالاً على فتاوى بعض علماء الدين، فيجب على الله تعالى أن يحول بشكل من الأشكال دون تحقّق الإجماع على الباطل، كي يتمّ الجواب على شبهة مَن يكتشف الثغرة الموجودة في الرأي الباطل ببيان أنّ هذا إشكال على بعض الفتاوى ولعلّ رأي الدين متجسّد في الفتوى الاُخرى. إذن فلو رأينا إجماعاً على حكم عرفنا أنّه الحقّ.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا لو تمّ فلا يتمّ في الأحكام التعبّديّة الصرفة التي لا تحصل بفرض أيّ طرف من طرفي السلب والإيجاب ثغرة في الإسلام، مثلاً لوفرضنا نجاسة عرق الجنب من الحرام، أو فرضنا عدم نجاسته سوف لن يؤدّي ذلك إلى شبهة وثغرة في الإسلام.

وثانياً: أنّنا لو افترضنا في المرتبة السابقة على اللطف حصول العلم والاطمئنان بواسطة العقل النظريّ بصحّة ما اُجمع عليه، إذن لم نحتج إلى قاعدة اللطف؛ لثبوت

291

المطلوب قبلها، ولو لم يثبت ذلك في الرتبة السابقة على اللطف إذن أمكن الجواب على شبهة الطاعن على الدين بأنّ هذا إشكال على فتاوى العلماء، ولم يعلم كون رأي الدين متمثّلاً في هذه الفتاوى، فلعلّ رأي الدين يخالف رأي هؤلاء العلماء جميعاً.

الثاني: أنّنا عرفنا بالتجربة أنّ الله تعالى جرت عادته على التلطّف بعباده بعدم حجب المصالح التشريعيّة عنهم، ولذا نرى أنّه أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وجعل أوصياء للرسل، وأمر العلماء بتبليغ الأحكام، والجهلاء بتعلّم الأحكام وما إلى ذلك، ومن هنا نعلم أنّ الحكم المجمع عليه لو كان باطلاً، لتلطّف على عباده بإظهار خلافه.

ويرد عليه: أنّ التجربة في حدود ما رأيناه من سدّ أبواب العدم من ناحية عدم إرسال الرسل والكتب، وجعل الأوصياء، وإيجاب التبليغ على العلماء والتعلّم على الجهّال لا تدلّ على بنائه تعالى على سدّ الباب الناتج من قصور الناس أو تقصيرهم في تلقّي الأحكام وإيصالها للآخرين. هذا مضافاً إلى إشكالات اُخرى تظهر ممّا سبق(1).

 

2 ـ الكشف على أساس العقل النظريّ:

وأمّا المبنى الثاني ـ وهو مبنى كشف الإجماع عن واقع الحكم على أساس العقل النظريّ ـ: فهو يتمّ عند تماميّة فرضين:

الأوّل: أن يعلم ـ ولو بتصريح المجمعين ـ أنّ مصبّ الإجماع هو واقع الحكم لا جامع الوظيفة الملائم لواقع الحكم ولثبوت الحجّة التعبّديّة عليه.

والثاني: أن يكون الحكم المجمع عليه بنحو لو كان الواقع خلافه، لشاع ذلك الواقع وذاع؛ لتوفّر الدواعي إلى ذلك، وقد مرّ توضيح قوانين هذه الفكرة في بحث السيرة.


(1) يظهر ممّا سبق أنّ سدّ أكثر أبواب العدم التي سدّت كان مؤثّراً في المصلحة التي هي في طول الحكم، وهي مصلحة التعبّد والانصياع للمولى، واحتمال الفرق بين هذه المصلحة والمصلحة التي تكون قبل الحكم موجود.

292

مثال ذلك مسألة خمس أرباح المكاسب، فهي مسألة عامّة الابتلاء للشيعة، ووجوب الخمس فيها مؤونة زائدة عليهم وعلى خلاف الطبع، وتتوفّر الدواعي على التفتيش والسؤال عن ذلك، وعلى فرض كون الجواب الصحيح هو النفي فداعي الإجابة على ذلك بشكل واضح وعلنيّ موجود لدى الإمام(عليه السلام)؛ لأنّ الحكم ليس خلاف التقيّة، بل هو على وفق مذاق العامّة وعلى طبق الظروف الخارجيّة التي كان الإمام(عليه السلام) مبتلى بها، إضافة إلى أنّ ارتباط الشيعة في دفع الخمس كان بالإمام(عليه السلام) أو وكلائه على ما يقتضيه طبع هذا الحكم، فإنّ وجوب الخمس ليس حاله حال وجوب قراءة السورة في الصلاة ـ مثلاً ـ الذي هو عمل فرديّ للمصلّي ولا يتطلّب احتكاكاً بالإمام أو وكلائه، وإنّما معنى وجوب الخمس وجوب إعطائه للإمام أو وكلائه، وقد ثبت بالتواتر الإجماليّ أنّه كان للإمام(عليه السلام)وكلاء في البلاد التي كانت تسكن فيها الشيعة، فمع كلّ هذا يكون اختفاء حكم ذلك على الشيعة مستبعداً جدّاً. فهذه كلّها أمارات تدلّ على أنّه لو كان الحكم الواقعيّ هو عدم وجوب الخمس في أرباح المكاسب، لشاع ذلك ولم يعقل وقوع الإجماع من الشيعة على الوجوب، فهذا الإجماع في مثل هذا المورد ـ بالرغم من عدم الاعتماد في موارد اُخرى على الإجماع المحتمل المدركيّة أو المظنون المدركيّة ـ يكون دليلاً قطعيّاً على الحكم، بل لا حاجة في مثل هذا المورد إلى الإجماع وتكفينا الشهرة، فلا يضرّنا نقل الخلاف من ابن أبي عقيل أو شخص آخر في خمس أرباح المكاسب إن صحّ ذلك.

وهناك وجه آخر لدلالة الإجماع بالعقل النظريّ على صحّة متعلّقه لا يختصّ بما إذا كان متعلّقه واقع الحكم، بل يشمل ما إذا كان متعلّقه جامع الوظيفة الملائم أيضاً لفرض وجود حجّة تعبّديّة عليه. فهذا الوجه كما يناسب المقام كذلك يناسب ما سيأتي: من المقام الثاني، ونحن نؤجّل بحثه بكلا شقّيه إلى المقام الثاني؛ إذ لا فرق في الحقيقة في البحث عن ذلك بين الشقّين إلّا في اُمور جزئيّة ننبّه عليها ـ إن شاء الله ـ في ذلك المقام.