218

المتعارف، ولا تشمل كلمات الشارع الذي قام دأبه وديدنه على الاعتماد علىالقرائن المنفصلة، فلابدّ من التمسّك في إثبات حجّيّة الظهور بسيرة المتشرّعة، وليس لها إطلاق، ولها قدر متيقّن نقتصر عليه. فيجعل هذا التقريب في صالح بعض التفصيلات السابقة الملائمة معه. فمثلاً يجعل في صالح التفصيل الثالث ويقال: إنّ تمسّك المتشرّعة بالظهور مع احتمال قرينيّة المنفصل غير معلوم.

والجواب ـ بغضّ النظر عمّا مضى: من كفاية الأخبار الآمرة بالأخذ بالكتاب والسنّة ـ: أنّ العقلاء في أوّل الشريعة لم يكونوا عارفين بدأب الشارع وديدنه الخاصّ، فأخذوا يعاملون مع ظواهر كلامه معاملتهم لظواهر باقي العقلاء، ولم يردع الشارع عن ذلك، فثبت إمضاء ذلك ورضا الشارع بأن ينظر إلى كلامه بنفس المنظار الذي ينظر به إلى كلام باقي الموالي.

 

ظواهر القرآن الكريم:

التفصيل السادس: ما ينسب إلى الأخباريّين من دعوى أنّ ظواهر القرآن بالخصوص غير حجّة، ولعدم الفرصة الآن لنا لمراجعة كلمات الأخباريّين نعتمد هنا على ما نقل عنهم الاُصوليّون.

والذي يظهر من نقل أصحابنا الاُصوليّين عنهم أنّ لهم في مقام سلخ الحجّيّة عن الآيات القرآنيّة مسلكين:

الأوّل: منع ثبوت ظهور للكتاب الكريم كي يكون حجّة أو غير حجّة.

والثاني: دعوى ظهور خروج الكتاب الكريم عن قانون حجّيّة الظهور.

والذي يرتبط بما نحن فيه هو المسلك الثاني، فإنّ المسلك الأوّل ليس تفصيلاً في حجّيّة الظهور كما هو واضح، ولذا نقدّم المسلك الثاني في البحث على المسلك الأوّل فنقول:

إنّه ذكر في كلمات أصحابنا من قبل الأخباريّين أو نقلاً عنهم الاستدلال على

219

عدم حجّيّة ظهور الكتاب الكريم بوجهين: أحدهما من نفس الكتاب، والثاني منالسنّة:

 

إسقاط ظواهر القرآن بالقرآن:

أمّا الوجه الأوّل: فهو قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّاَ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلّاَ أُوْلُوا الألْبَاب﴾، حيث يقال: إنّ النهي عن اتّباع المتشابهات يشمل الظواهر أيضاً، فالمحكم ما يكون نصّاً في معنى واحد، والمتشابه ما يكون له عدّة معاني يشبه بعضها بعضاً في كونه معنى لهذا الكلام سواء كانت تلك المعاني متساوية، أو كان بعضها أرجح من بعض.

والتحقيق بعد فرض تسليم شمول كلمة المتشابه للظاهر: عدم تماميّة الاستدلال بهذه الآية على مطلوب الأخباريّ. ولتوضيح ذلك نعرض أوّلاً ما قاله أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في المقام، ثُمّ نستعرض ما هو الصحيح عندنا.

فقد جاء في كلمات أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في المقام: أنّه بعد فرض تسليم شمول كلمة المتشابه للظاهر لا يتمّ الاستدلال بالآية المباركة لإسقاط ظهور الكتاب عن الحجّيّة؛ لأنّ دلالة الآية المباركة على ذلك لو تمّت فإنّما هي بالظهور لا بالنصوصيّة والتصريح، وعليه فردع الآية الشريفة عن حجّيّة ظهور الكتاب يستلزم المحال، وهو ردعها عن حجّيّة نفسها. أمّا وجه الملازمة فواضح؛ لأنّ الآية بنفسها ـ كما قلنا ـ لها ظهور وليست نصّاً وتصريحاً بالمقصود. وأمّا وجه استحالة اللازم فلأنّها لو ردعت عن حجّيّة نفسها للزم من حجّيّتها عدم حجّيّتها،

220

وما يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.

ويورد على هذا بأنّ المحال الذي ذكر إنّما يكون لازماً لشمول الآية الشريفة لنفسها وردعها عن حجّيّة نفسها، وهذا دليل على عدم شمولها لنفسها، وعدم ردعها عن حجّيّة نفسها، وتبقى الآية شاملة لباقي ظواهر الكتاب، وتكون حجّة في الردع عن حجّيّة باقي ظواهر الكتاب غير ظهور نفس هذه الآية.

ويجاب على هذا الإيراد بدعوى القطع بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة ظهورها وعدم الحجّيّة، فإمّا أنّ تمام ظواهر الآيات حجّة، أو أنّ شيئاً منها ليست بحجّة، وهذه الآية لو ردعت عن حجّيّة ظهور آية فمن المقطوع به أنّها إنّما تردع عنها لأنّه ظهور قرآنيّ، ولا فرق بينه وبين ظهور نفس هذه الآية، فبالتالي تكون حجّيّتها وردعها عن ظواهر الكتاب مستلزمة لعدم حجّيّتها، وما يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل(1).

إلى هنا تنتهي سلسلة البحث في كلمات أصحابنا على فرض شمول كلمة المتشابه للظاهر.

أقول: كأنّ الأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ فرضوا الآية الشريفة من سنخ كلام الأقريطشي الذي قال تهجّماً على منطق اُرسطو: (إنّ جميع أخبار أهل


(1) لا يخفى أنّ إنكار حجّيّة الآية بالنسبة لنفسها أو مطلقاً لا يحلّ مشكلة استلزام وجود الشيء لعدمه، فإنّ نفس كون وجود الشيء مستلزماً لعدمه مستحيل، واستلزام الشيء لنقيضه غير معقول، لا أنّ هذا معقول وممكن غاية ما هناك أنّ ذاك الشيء الذي يلزم من وجوده عدمه يستحيل وجوده. وهذا يعني أنّ الأصحاب في المقام لم يستطيعوا الفرار من المحال بل التزموا بالمحال، وهو استلزام حجّيّة هذه الآية لعدم حجّيّتها وإن أنكروا حجّيّة هذه الآية. وقد عرضت هذا الكلام على سيّدي الاُستاذ الشهيد (رضوان الله عليه) فأمضاه.

221

أقريطش كذب) ـ وأقريطش بلد من بلاد يونان ـ فيعتبر هذا الكلام مستلزماً لاجتماع النقيضين؛ إذ يلزم من صدقه كذبه، ومن كذبه على تقدير كذب باقي أخبار الأقريطشيّين صدقه. فالأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ نسجوا الكلام على هذه الآية نسجاً منطقيّاً، بينما لو أخذنا بمفهومها العرفيّ لا تصل النوبة إلى هذا السنخ من البحث، ويجب تبديل منهج البحث، وبما أنّهم نهجوا هذا المنهج فنحن أوّلاً نقتفي أثرهم لنبيّن ما الذي ينبغي أن يقال لو انتهجنا هذا المنهج، ثُمّ نشرح بعد ذلك المنهج الصحيح للبحث.

أمّا ما نذكره بناءً على انتهاج منهج الأصحاب في المقام فهو ما يلي:

قد وقع الخلاف بين أصحاب المنطق الارسطيّ والمنطق الرمزيّ في الإيمان بالمعاني الكلّيّة من قبيل الإنسان والحيوان وغير ذلك، وإنكارها. فمنطق اُرسطو يؤمن بالمعاني الكلّيّة إلى صفّ الاُمور الجزئيّة، بينما المنطق الرمزيّ يقول: إنّ الألفاظ المفروض دلالتها على معان كلّيّة ليست إلّا رموزاً للأفراد كنفس الأعلام الشخصيّة، فكلمة (الإنسان) مثلاً لا تدلّ على معنى كلّيّ جامع بين أفراده وإنّما هي رمز لزيد وعمرو وبكر... وبناء على هذا المبنى لا يمكن للّفظ أن يشمل نفسه لاستحالة اتّحاد الدالّ والمدلول، أو الرمز وذي الرمز، وعلى هذا لا مجال لتصوّر اجتماع المتناقضين في مثل كلام الأقريطشي؛ لأنّ هذا الكلام لايشمل نفسه. وكذلك الآية الشريفة لا تشمل نفسها، ولا تردع بالمباشرة إلّا عن ظواهر باقي الآيات، فإن قلنا بما ادّعي: من العلم بتماثل تمام ظهورات الكتاب في الحجّيّة وعدمها، لزم ردعها بالملازمة عن نفسها، وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان استحالة ردعها عن نفسها، فيبطل القول بردعها عن باقي ظهورات الكتاب. أمّا إذا أنكرنا هذا العلم ـ وهو الصحيح ـ فهي حجّة في إثبات عدم حجّيّة باقي ظواهر الكتاب.

222

أمّا بناءً على مبنى المنطق الارسطيّ، وهو الاعتراف بالمعاني الكلّيّة، وأنّها وإن كانت متّحدة خارجاً مع الأفراد لكنّها متغايرة معها مفهوماً وتصوّراً، وحاصلة بإجراء عمليّة التجريد بوجه من الوجوه على الأفراد وأخذ الجامع بينها ـ وهذا هو المبنى الصحيح ـ فعليه لا مانع منطقيّاً من شمول اللفظ لنفسه، فقولنا مثلاً: (الكلمة لفظ) يشمل لفظ الكلمة بلا لزوم اتّحاد الدالّ والمدلول، فإنّ المدلول في الحقيقة هو المعنى الكلّيّ المتغاير مع الأفراد المنطبق على تمام الأفراد بوجه من الانطباق، ومن تلك الأفراد المنطبق عليها ذاك المعنى الكلّيّ هو نفس لفظ الكلمة. وكذلك قولنا: (كلّ كلمة اسم وفعل وحرف)، فلفظ (كلمة) ليس ابتداءً مرآة إلى ذات الأفراد، بل مرآة إلى معنى تجريديّ منطبق على الأفراد بوجه من الوجوه.

وعلى هذا يستأنف البحث في مسألة شمول الآية الشريفة وكلام ذاك الأقريطشي لنفسها وعدمه. والأصحاب أحالوا كلا الأمرين أعني: حجّيّة الآية بلحاظ نفسها، وشمول كلام الأقريطشي لنفسه بنكتة واحدة، وهي: استلزام وجود الشيء لعدمه، فالآية لو شملت نفسها لزم من حجّيّتها عدم حجّيّتها، وكلام الأقريطشي لو شمل نفسه لزم من صدقه عدم صدقه.

ولكن التحقيق: أنّه لو تمّت دعوى الاستحالة في الموردين فهي بملاكين لا بملاك واحد، ففي كلام الأقريطشي تكون الاستحالة بملاك استلزام وجود الشيء لعدمه، وفي الآية الشريفة ليس هذا هو ملاك الاستحالة، فإنّها لو ردعت عن نفسها لم يلزم من حجّيّتها الواقعيّة عدم حجّيّتها الواقعيّة، وإنّما يلزم من حجّيّتها التعبّد بعدم حجّيّتها؛ إذ لو دلّت أمارة شرعيّة على عدم حجّيّة شيء مّا ـ كالشهرة مثلاً ـ لم يثبت بذلك عدم حجّيّة ذاك الشيء واقعاً، وإنّما يثبت بذلك عدم حجّيّته ظاهراً. فالذي يلزم من حجّيّة هذه الآية هو التعبّد بعدم حجّيّة نفسها لا عدمها واقعاً، وهذا ليس محالاً بنكتة استلزام وجود الشيء لعدمه. نعم، هو محال بملاك اللغويّة، فإنّ

223

جعل الحجّيّة لدلالة الآية الشريفة على عدم حجّيّة نفسها لغو؛ إذ لو لم يصل هذا الجعل لم يكن له أثر في إثبات عدم الحجّيّة، ولو وصل لم يمكن التعبّد بعدم الحجّيّة؛ إذ التعبّد بعدم شيء إنّما يكون في ظرف عدم وصول ذلك الشيء وعدم العلم به، وعليه فلا أثر لهذا الجعل إطلاقاً.

وما ذكرناه: من ثبوت الاستحالة في المقامين بملاكين، إنّما هو من باب التسليم بما ذكروه في مسألة خبر الأقريطشي: من لزوم استلزام وجود الشيء لعدمه. والواقع أنّ أساس المغالطة في مثل كلام الأقريطشي شيء آخر، وهو بنفسه منشأ الاشتباه في النظر إلى الآية الشريفة على أحد وجهين. وتوضيح المقصود يتمّ بالكلام تارةً بشأن خبر الأقريطشي، واُخرى بشأن الآية الشريفة:

أمّا خبر الأقريطشي: فهو في الحقيقة ينحلّ إلى عدّة أخبار غير متناهية، فإنّه قد أخبر عن كذب باقي أخبار الأقريطشيّين، وهذا بنفسه خبر لأقريطشي، فقد أخبر عن كذبه، وهذا أيضاً بنفسه خبر لأقريطشي فقد أخبر عن كذبه، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وهذا الانحلال جاء من ناحية كون القضيّة حقيقيّة تنحلّ إلى قضايا متعدّدة بعدد أفراد موضوعها المحقّقة والمقدّرة، فهذا الكلام من الأقريطشي ليس خبراً واحداً يلزم من صدقه كذبه، بل هو أخبار لا متناهية يلزم من صدق كلّ واحد منها كذب طرفيه، ومن كذبه صدق طرفيه، فلم يلزم كون وجود الشيء مستلزماً لعدمه.

وأمّا الآية الشريفة: فتارةً يفرض أنّ موضوع الردع فيها هو ظهورات الكتاب، واُخرى يفرض أنّ موضوع الردع فيها هو الآيات الظاهرة:

فإن فرض الأوّل: كانت هذه الآية منحلّة أيضاً إلى قضايا لا متناهية بحسب الظهورات؛ إذ هي تدلّ على عدم حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهذا بنفسه ظهور فتدلّ على عدم حجّيّته، وهذا في صالح حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهو ظهور

224

ثان لها فتدلّ على عدم حجّيّته، وهذا في صالح عدم حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهذا ظهور ثالث فتدلّ أيضاً على عدم حجّيّته، وهذا ظهور رابع لها في صالح حجّيّة باقي ظهورات الكتاب، وهكذا إلى ما لا نهاية له. فللآية ظهورات لا متناهية، والأفراد منها في صالح عدم حجّيّة ظواهر الكتاب، والأزواج منها في صالح حجّيّتها، ولا يلزم من حجّيّة أيّ واحد من تلك الظهورات عدم حجّيّته، وإنّما يلزم منه عدم حجّيّة الظهور السابق عليه المردوع عنه بهذا الظهور اللاحق، وبالنتيجة تسقط هذه الآية عن الحجّيّة وتبقى باقي ظهورات الكتاب ثابتة على حجّيّتها. وذلك لأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: إنّ العرف لا يرى محصّلاً لكلام ينحلّ إلى ظهورات لا متناهية يردع كلّ واحد منها عمّا قبله، فيصبح هذا الكلام مجملاً ليس له ظهور في الردع عن باقي ظهورات الكتاب.

الثاني: إنّنا لو غضضنا النظر عمّا ذكرناه من إجمال الآية قلنا: إنّ لدينا سلسلة من الظهورات اللامتناهية، أوّلها ظهورات سائر الآيات غير هذه الآية الكريمة، وهي مردوعة بظهور هذه الآية المردوع بظهور آخر لها، وهكذا إلى ما لا نهاية له. والسيرة العقلائيّة قائمة على حجّيّة أيّ ظهور من الظهورات في حدّ ذاته، أي: أنّ المرتكز عند العقلاء هو العمل بكلّ ظهور لم يردعهم رادع عن مرتكزاتهم. ولا يمكن إثبات حجّيّة كلّ هذه الظهورات بالفعل بالسيرة؛ إذ حجّيّة الظهور الرادع يستحيل أن تجتمع مع حجّيّة الظهور المردوع عنه، ولو كانت الظهورات متناهية لكانت الحجّيّة تنصبّ على آخر السلسلة بوصفه ظهوراً لا رادع عنه؛ إذ هو في ذاته ولو خُلّي وطبعه حجّة، والمفروض عدم رادع عنه، والذي قبله وإن كان أيضاً حجّة لو خلّي وطبعه لكنّه مردوع عنه بالظهور الأخير، ولكن المفروض في المقام أنّ الظهورات ليست متناهية، عندئذ تنصبّ الحجّيّة على أوّل السلسلة، بنكتة أنّ

225

فرض الحجّيّة الفعليّة لأوّل السلسلة ـ وهو باقي ظهورات الآيات غير هذه الآية ـلا يعني تعبّداً لنا بما هو خلاف طبع العقلاء، وإنّما يعني سقوط الظهور الثاني عن الحجّيّة بالقطع بكذبه، بينما فرض الحجّيّة الفعليّة للظهور الثاني يعني التعبّد بعدم حجّيّة الظهور الأوّل، أي: التعبّد بما هو خلاف طبع العقلاء. فدوران الأمر بين هذين الفرضين أوجب فعليّة تأثير الارتكاز العقلائيّ على حجّيّة أوّل السلسلة بعد ما لم يكن بالإمكان استقرار الارتكاز على حجّيّة كلّ ما في السلسلة.

الثالث: إنّ ظهورات هذه الآية متكاذبة فيما بينها، فإنّ تنافيها في الحجّيّة الفعليّة يؤدّي إلى تكاذبها، فمثلاً الظهور الأوّل لها يدلّ على عدم حجّيّة ظهور باقي الآيات. وهذا السلب مع فرض سلب حجّيّة نفس ما يظهر من هذه الآية من السلب لغو(1)، فنقطع بكذب أحد السلبين، وهذا بخلاف باقي ظهورات الآيات، فلا تكاذب بينها وبين ظهور هذه الآية الرادع عنها؛ إذ من الممكن أن تكون تلك الظهورات مطابقة للواقع، ومع ذلك سلبت الحجّيّة عنها. إذن فظهورات هذه الآية تتساقط بالتعارض والتكاذب، ويبقى باقي ظهورات الكتاب حجّة.

وإن فرض الثاني ـ أي: أنّ هذه الآية ردعت عن الآيات الظاهرة لا عن ظهورات الآيات (ولعلّ هذا هو الظاهر من الآية بعد فرض تسليم كونها بصدد الردع عن الحجّيّة) ـ: فعندئذ لا تنحلّ هذه الآية إلى قضايا لا متناهية؛ لأنّ عدد الآيات الظاهرة متناه لا محالة، فهذه الآية تدلّ على عدم حجّيّة باقي الآيات


(1) لا يخفى أن كلّ سلب بالنسبة لما بعده من السلب حكم واقعيّ بالنسبة للحكم الظاهريّ، فيجمع بينهما بما يجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ من دون تكاذب. ودعوى اللغويّة تكون كدعوى لغويّة الحكم الواقعيّ الذي نفاه الحكم الظاهريّ، ولو تمّت لسرت إلى باقي ظهورات آيات الأحكام فيقال: إنّها تلغو بسلب الحجّيّة عن الظهورات الدالّة عليها.

226

الظاهرة، ولكن لا تردع عن حجّيّة نفسها؛ لما عرفت: من استحالة ذلك، وحينئذ إن ادّعينا العلم بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة الظهور بطل ردع الآية عن حجّيّة باقي الآيات الظاهرة أيضاً؛ لاستلزام ذلك المحال الذي عرفناه، وإن لم ندّع ذلك ـ وهو الذي ينبغي ـ تمّ مقصود الأخباريّ من الاستدلال بعدم حجّيّة ظهورات الكتاب بهذه الآية.

وهذا تمام الكلام فيما لو نهجنا المنهج الذي سلكه الأصحاب في المقام.

والتحقيق: أنّ هذا المنهج أساساً غير صحيح، فإنّنا لسنا بإزاء بحث منطقي نتكلّم فيه عن شمول اللفظ لنفسه وعدمه، وإنّما نحن بإزاء كلام عرفيّ لا يشمل نفسه بحسب الظهور العرفيّ. ولا أقصد بذلك أنّ كلّ لفظ يشمل نفسه بحسب البحث المنطقي لا يشمل نفسه بحسب الظهور العرفيّ، فلا بأس بالقول بشموله لنفسه عرفاً ما لم تكن قرينة على الخلاف، فقولنا مثلاً: (الكلمة لفظ) شامل للفظ (الكلمة) بلا إشكال، وإنّما نقول فيما نحن فيه بعدم شمول الآية لنفسها للقرينة؛ لأنّ الآية ـ بحسب الفرض ـ ظاهرة في أنّها بصدد الردع عن اتّباع المتشابهات، وتركيز هذا القانون بين المتشرّعة، وهو ترك العمل بالآيات المتشابهة، وهذا بنفسه قرينة على عدم شمولها لنفسها؛ إذ على فرض شمولها لنفسها لا يتحقّق ما هو الغرض منها: من الردع عن اتّباع المتشابهات.

وحينئذ إن ادّعينا القطع بعدم الفرق بين آية وآية في حجّيّة الظهور وعدمها بطل دليل الأخباريّ؛ لما مضى: من استحالة ردعها عن نفسها، وإلّا تمّ دليل الأخباريّ بناءً على شمول المتشابهات للظواهر.

هذا كلّه بناءً على تسليم أصل دلالة الآية الشريفة على الردع عن العمل بالمتشابهات.

ولكن الصحيح: أنّ هذه الآية ليست بصدد الردع عن العمل بالمتشابهات أصلاً. قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ

227

وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّاَ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلّاَ أُوْلُوا الألْبَاب﴾(1).

وهذه الآية ـ كما ترى ـ لا تدلّ على أكثر من عدم جواز الاقتصار على العمل بالمتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقطع صلتها بالمحكمات رغم أنّها اُمّ الكتاب، كما كان ذلك عمل المشاغبين في صدر الإسلام، ولازال عملهم إلى يومنا هذا. وليس الشيء المذموم في هذه الآية هو اتّباع المتشابهات في ضوء المحكمات، والاعتراف بأنّها اُمّ الكتاب، ومن دون قطع الصلة بين المتشابهات والمحكمات. وبتعبير آخر: إنّ الآية الشريفة لم تنه عن اتّباع المتشابهات بلسان (لا تتّبع المتشابهات) مثلاً، وإنّما جاءت بلسان التخصيص بعد القسمة كأن يقول أحد: (إنّ كتابي هذا ينقسم إلى قسمين منطق وحكمة، فالجالسون في الغرفة الفلانيّة درسوا المنطق). وهذا ظاهر في أنّ الجالسين في تلك الغرفة درسوا المنطق فقط؛ لأنّ التخصيص بعد القسمة يعطي عرفاً معنى أنّ مَن خصّص به أحد القسمين مقتصر على ذاك القسم. والآية المباركة من هذا القبيل، حيث قسّم الكتاب إلى قسمين: آيات محكمات واُخر متشابهات، ثُمّ ذكر أنّ الذين في قلوبهم زيغ يتّبعون أحد القسمين وهو المتشابهات، وهذا يعني أنّهم يقتصرون على العمل بالمتشابهات. ومن الواضح عدم جواز العمل بالمتشابهات حتّى مع فرض شمولها للظواهر لا على ضوء المحكمات والنصوص، فالعمل بالظواهر يجب أن يكون بعد مدارسة النصوص والمحكمات التي يحتمل قرينيّتها لفهم المقصود من تلك الظواهر، أو أنّ أصل التبعيض في الدين والعمل بقسم دون قسم أيضاً غير جائز.

فذمّ مثل هذه الطريقة التبعيضيّة لا يدلّ بوجه من الوجوه على ذمّ اتّباع المتشابه


(1) سورة 3 آل عمران، الآية: 7.

228

المقرون باتّباع المحكم وعلى ضوئه.

وهنا بحث آخر في مقام النقاش في الاستدلال بالآية الكريمة لعدم حجّيّة ظواهر الكتاب، وهو أنّه ما معنى المتشابه؟ فهم بعد أن تسالموا على أنّ المتشابه هو الكلام الذي له عدّة معان بعضها يشبه بعضاً اختلفوا في أنّ هذا الشبه الموجود بين المعاني هل هو الشبه في أصل علاقة تلك المعاني باللفظ حتّى تشمل كلمة المتشابه الظواهر، أو هو الشبه في درجة العلاقة باللفظ فلا تشمل الظواهر؛ لأنّ درجة علاقة المعنى الظاهر باللفظ أشدّ من المعاني الاُخرى، وليست المعاني متشابهة في درجة العلاقة باللفظ.

أقول: إنّنا حتّى إذا قلنا: إنّ درجة الشبه هو أصل علاقة المعنى باللفظ، فكلمة ﴿ابْتِغَاء تَأْوِيلِه﴾ (بناء على ما فسّروا به التأويل من حمل اللفظ على معنى غير قواعد اللغة وقواعد اللسان) قرينة على أنّه لا يقصد باتّباع المتشابه ما يشمل اتّباع الظاهر، فحتّى لو كان لكلمة المتشابه إطلاق يشمل الظاهر فهذا الإطلاق مقيّد بكلمة ﴿ابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾ .

هذا كلّه بحسب ما تسالموا عليه: من أنّ المتشابه في الآية عبارة عن اللفظ المتشابه المعاني، والتأويل عبارة عن حمل اللفظ على غير ما تقتضيه قواعد اللغة.

إلّا أنّ هذا ممّا لا نسلّم به. وأوّل مَن ذكر أنّ المراد من التأويل هنا غير التأويل بالمعنى المصطلح هو ابن تيميّة، حيث ذكر: أنّ المراد بالتأويل في الآية المباركة ليس هو التأويل بالمعنى المصطلح، بل هو التأويل بمعنى الأوْل وما يرجع إليه الشيء ويؤوْل إليه. واستدلّ(1) على ذلك باستقراء آيات اُخرى جاءت فيها كلمة


(1) الذي يبدو ممّا هو منقول في تفسير المنار أنّ هذا الاستدلال ليس لابن تيميّة، وإنّما هو لمؤلّف تفسير المنار (محمّد رشيد رضا). أمّا ما ذكره ابن تيميّة فهو إبطال إرادة

229

التأويل، وأثبت أنّ التأويل فيها جاء بمعنى ما يؤوْل إليه.

 


معنيين آخرين من كلمة التأويل في المقام، لينحصر المقصود في إرادة معنى الأوْل والرجوع. أمّا المعنيان الآخران فأحدهما التأويل بمعنى التفسير، والثاني التأويل بمعنى صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. ويقول بالنسبة للمعنى الأوّل بأنّه ليس مقصوداً في المقام، وليس فهم المتشابه من القرآن محصوراً بالله تعالى مثلاً؛ لأنّ القرآن نزل نوراً وهدىً وشفاءً للبشريّة، واُمرنا بتدبّره وتعقّله، ويذكر لذلك بعض الشواهد. ويقول بالنسبة للمعنى الثاني: إنّه لا يمكن صرف اللفظ في الآية الكريمة إليه؛ لأنّ هذا المعنى لم يكن بعد قد عرف في عهد الصحابة، بل ولا التابعين، بل ولا الأئمّة الأربعة، ولا كان التكلّم بهذا الاصطلاح معروفاً في القرون الثلاثة، بل ولا علمت أحداً منهم خصّ لفظ التأويل بهذا. راجع تفسير المنار، ج 3، ص 172 ـ 196.

فائدة: من الطريف جواب جدليّ على استدلال الأخباريّين بالآية المباركة نقل عن الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وهو: أنّه بناءً على ما التزموا به من قطعيّة الكتب الأربعة، ومن فتح باب التمسّك بالروايات في تأويل القرآن مهما كانت غريبة ومهما كان السند ضعيفاً يقال لهم: قد روي في الكافي عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله(عليه السلام): «في قول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب﴾ قال: أمير المؤمنين والأئمّة(عليهم السلام) ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ قال: فلان وفلان وفلان، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ أصحابهم وأهل ولايتهم، ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّاَ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم﴾ أمير المؤمنين والأئمّة(عليهم السلام)»(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير البرهان، ج 1، ص 270. والكافي، ج 1، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح 14، ص 414 و415 بحسب الطبعة الجديدة، إلّا أنّه جاء في الطبعة الجديدة: (فلان وفلان)، ولعلّ كلمة (فلان) الثالثة ساقطة عن الطبعة.

230

والتحقيق: أنّ هذا الرجل وإن أصاب في المدّعى ولكنّه أخطأ في الدليل، فإنّ ورود التأويل في آيات اُخرى بهذا المعنى يكون منشأً لإمكان إرادة المعنى بهذا اللفظ لا تعيّن إرادته به، فيحتمل ذلك، ويحتمل وروده بالمعنى المصطلح الذي استعملت فيه كلمة (التأويل) في عدّة من النصوص والأخبار المقاربة لعهد القرآن الكريم، فغاية ما ينتج من هذا الاستقراء هي صيرورة التأويل في هذه الآية مجملاً لنا بغضّ النظر عن قرينة متّصلة، أو منفصلة تعيّن لنا المراد منها.

أمّا ما نثبت به نحن نفس المدّعى فهو وجود قرينة في نفس الآية المباركة على المعنى الذي ذكره، وهي فرض الاتّباع في قوله: ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾، فإنّ فرض اتّباع كلام هو فرض الأخذ بمدلوله المتعيّن، فإنّ الاتّباع بقول مطلق في نظر العرف يعني الأخذ بالمعنى المفهوم من الكلام لا الأخذ بأحد معنيين متساويين للكلام بلاقرينة. فمثلاً ماذا يفهم من الأوامر التي وردت في التمسّك بالكتاب والسنّة واتّباعها؟ هل يتوهّم أحد شمولها لحمل اللفظ على أحد معانيها المشتركة؟! إذن فمعنى اتّباع المتشابه هو اتّباع ما يظهر من المتشابه، واتّباع الظهور ليس تأويلاً بالمعنى المصطلح، فيتعيّن أن يكون المراد بالتأويل هنا الأوْل والرجوع.

يبقى الكلام في أنّ هذا الأوْل والرجوع ماذا يراد منه؟ والتحقيق: أنّ الآية الكريمة قسّمت الآيات إلى محكمات ومتشابهات، وليس المقصود بالمتشابه كون اللفظ متشابه المعنى بأن تكون للّفظ معان متعدّدة متشابهة في علاقتها باللفظ، أو في مقدار علاقتها به، بل المقصود به كون المعنى متشابهاً، أي: مجمل الحقيقة غير معلوم الحدود بحسب عالم التطبيق، وتصوّر ذاك المعنى بتصوّر مصداقه. فمثلاً: (استواء الرحمن على العرش) ليس لفظاً متشابه المعنى، لكن معناه بحسب التقريب إلى الذهن لا يخلو من غموض وإبهام، ولا يمكن تصوّر المصداق المناسب منه له تعالى، وما يؤوْل إليه المعنى من حقيقة الواقع والمصداق المتحقّق

231

بحسب الخارج، وهذا بخلاف الآيات المحكمة، فإنّها محدّدة المعنى سهلة التصوّر بحسب عالم التطبيق. والخلاصة: أنّ المقصود بالتأويل هو الأوْل والرجوع وما يؤوْل إليه المعنى في عالم التطبيق والمصداق. والمقصود بالمتشابه هو المتشابه من حيث المعنى ولا يمكن اتّباعه. والمراد بالمحكم ـ بقرينة تقابله للمتشابه ـ هو المحكم بلحاظ ما يؤوْل إليه المعنى في عالم المصداق وتجسيد المعنى لا بلحاظ المعنى.

وبما ذكرناه أيضاً يبطل تفسير التأويل بمعنى غامض وخفيّ بالنسبة لكلا قسمي الكتاب المحكمات والمتشابهات، وهو دعوى أنّ التأويل يكون بمعنى الوجود الجمعيّ للقرآن الذي اُشير إليه في قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾، حيث فرض إحكاماً ثُمّ تفصيلاً، فاستظهر من تلك الآية أنّ هناك وجودين للقرآن: وجوداً جمعيّاً ووجوداً تفصيليّاً، فالوجود التفصيليّ هو هذا القرآن الموجود بأيدينا، والوجود الجمعيّ هو تأويل هذا القرآن.

أقول: هذا المطلب لا يحتمل في هذه الآية؛ إذ إنّنا نتسائل ما هي الجهة التي بلحاظها فرضت الآية المتشابهة متشابهة؟ هل هي جهة المعنى، أو جهة التأويل؟ إن قلتم: إنّها جهة المعنى لزم أن تكون الآية المتشابهة متشابهة المعنى، وقد فرغنا عن أنّ المقصود هو التشابه بالأوْل لا بالمعنى. وإن قلتم: إنّها جهة التأويل لزم أن تكون الآيات المحكمة محكمة التأويل، بينما هي غير محكمة التأويل بناءً على تفسير التأويل بذاك الوجود الجمعيّ، فإنّ الوجود الجمعيّ للقرآن بتمامه متشابه، وممّا لا يمسّه إلّا المطهّرون مثلاً(1).


(1) كأنّ هذا المقطع الأخير من الكلام الذي يبحث تفسير التأويل بمعنى الرجوع إلى الوجود الجمعيّ للقرآن إشارة إلى ردّ ما ذكره المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ(رحمه الله)في تفسير الميزان، ج 3، ص 54 و55.

232

وعلى أيّ حال، فهذا بحث تفسيريّ بحت لا علاقة له بوظيفة الاُصوليّ؛ لأنّنا بيّنّا أنّ الاستدلال بالآية غير تامّ على كلّ حال.

 

إسقاط ظواهر القرآن بالسنّة:

وأمّا الوجه الثاني: فهو الأخبار المتوهّم دلالتها على النهي عن اتّباع ظواهر القرآن الكريم. وتمام الروايات التي رأيناها في المقام ترجع إلى طوائف ثلاث:

1 ـ ما تصدّى لبيان أنّ المراد من القرآن لا يفهمه إلّا الأئمّة(عليهم السلام)، وغيرهم يجب أن يأخذوا تفسير القرآن منهم(عليهم السلام).

2 ـ ما تصدّى لبيان عدم جواز الاستقلال عن المعصومين في فهم القرآن، فهو وحده ليس حجّة وإنّما هو أحد الثقلين.

3 ـ ما تصدّى للنهي عن تفسير القرآن بالرأي.

أمّا الطائفة الاُولى: فقد وردت بمضمونها عدّة روايات(1) مع اختلاف في أساليب التعبير. وهي تامّة من حيث الدلالة، فإنّ حصر الفهم بالأئمّة المعصومين(عليهم السلام)يعني إلغاء الحجّيّة، وسدّ باب الاستنباط العرفيّ وإعمال القواعد العرفيّة لاستخراج المعاني من القرآن من قِبَل غيرهم(عليهم السلام)، إلّا أنّ هذه الأخبار غير تامّة من حيث السند(2).


(1) راجع الوسائل، ج 18، ب 13 من أبواب صفات القاضي، ح 25 و38 و41 و64 و69 و73 و74.

(2) ومعه نشكّك في الردع، ونستصحب عدم الردع الثابت في أوّل الشريعة كما نقل عن الدورة الأخيرة لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

233

أضف إلى ذلك نكتتين قد يحصل بإضافتهما الاطمئنان بمجعوليّة هذه الروايات، أو كون المقصود غير ما يظهر منها:

الاُولى: إنّه توجد في رواة هذه الروايات ظاهرة مشتركة تناسب لسان هذه الروايات الصادرة منهم، وتلك الظاهرة هي ظاهرة تبعيد الناس عن ظاهر الشرع، وادّعاء اُمور باطنيّة وبعيدة عن ظواهر الشرع.

فهذا سعد بن طريف أحد هؤلاء الرواة يروي أنّ الفحشاء رجل، والمنكر رجل، وأنّ الصلاة تتكلّم(1)، ويقول عنه النجاشي: «حديثه يعرف وينكر»، ويضعّف من قِبَل أشخاص آخرين.

وجابر بن يزيد أحد هؤلاء الرواة يقول: (دخلت على الإمام الباقر(عليه السلام)وأنا شاب، فأعطاني كتاباً للحفظ عندي، وكتاباً آخر لحديث الناس به). ويقول أيضاً: (إنّ الإمام حدّثني بسبعين ألف حديث ولم يأذن لي بأن اُحدّث به، فأذهب إلى حفيرة واُحدّثها به)(2). ونحو ذلك من الاُمور التي لو ضممناها إلى شهادة الأكابر من سلفنا الصالح يحصل لنا الظنّ القويّ بأنّ مثل مذاق هذا الشخص يريد غلق


(1) راجع اُصول الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ح 1، ص 598.

(2) راجع معجم الرجال للسيّد الخوئيّ، ج 4، ص 21 و22. وجابر بن يزيد هو راوي الرواية 41 من صفات القاضي من الوسائل. و سعد بن طريف هو راوي الرواية 64 من ذاك الباب. وأمّا الرواية 38 فراويها معلّى بن خنيس صاحب الرواية الغريبة بشأن النيروز. وأمّا باقي روايات هذه الطائفة التي فيها ما رواه زرارة، وفيها ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج فهي من مراسيل العيّاشي ولا قيمة لها. نعم، رواية زيد الشحّام ـ وهي الرواية 25 من ذاك الباب ـ ليست مرسلة، ولم نعرف من زيد الشحّام ما يكون من قبيل هذه الغرائب، ولكن من المحتمل كون مقصوده بقوله: «إنّما يعرف القرآن مَن خوطب به» معرفة تمام القرآن وحكمه ودقائقه، على أنّ سند الحديث ضعيف بمحمّد بن سنان.

234

أبواب المعرفة وحكرها لنفسه، وجعل الإسلام أمراً عجيباً لا يصل إليه إلّا مَن كان مثله من الناس، فبحساب الاحتمالات يحصل الظنّ القويّ بكذب هذه الروايات، وكونها من إيحاءات هذا الذوق الذي كان اتّجاهاً عامّاً في جماعة من غير سلفنا الصالح من أمثال زرارة، ومحمّد بن مسلم من فقهاء ظاهر الشريعة الذين أخذنا عنهم أحكامنا، وذاك الاتّجاه هو مسلك تعقيد المطالب، وتأويل القضايا الدينيّة بما لا يناسب ذوق اُولئك السلف الصالح.

ومن هنا نحن ننبّه على مطلب عامّ، وهو: أنّه في جملة من الموارد تنفعنا في مقام تقدير رواية الراوي وتقييمها مراجعة حال الراوي، وتأريخه، ومجموع ما نقله من الروايات، فقد ترى ـ مثلاً ـ عدداً كبيراً من أحاديث متّفقة على مضمون مّا بحيث كان المفروض حصول العلم به بعنوان التواتر، لكن تكشف بالفحص ظاهرة مشتركة عن حال رواتها تناسب الإيحاء المشترك بمضمون تلك الأحاديث ممّا يسقطها عن درجة التواتر المفيد للعلم، فالاطّلاع على خصوصيّات الراوي وحاله ومزاجه، وما ينقل من سائر الروايات قد يدخل في عمليّة الاستنباط كعنصر من عناصر تقييم الرواية.

الثانية: إنّ جواز العمل بظواهر القرآن وعدمه من أهمّ المسائل، ومن المسائل الرئيسيّة بالنسبة للفقه ومعرفة الأحكام، ولا يوجد هناك موضوع دار حوله النزاع والبحث والجدل بين علماء الباطل من غير الشيعة أكثر من هذا البحث، فجميع الدواعي التأريخيّة والشرعيّة والواقعيّة كانت تقتضي أن تكون هذه المسألة أهمّ مسألة في مقام السؤال والجواب، وفي مقام الاستفادة والتحقيق. أضف إلى ذلك أنّ العمل بظواهر القرآن يوافق مقتضى الطبع العقلائيّ، وإيقاف هذا الطبع بحاجة إلى بيانات كثيرة وإعلامات متتالية، فلو كان أمر من هذا القبيل لكثر نقله وشاع وذاع، وليس حاله حال وجوب السورة ـ مثلاً ـ الذي لو لم يصل إلينا إلّا ضمن

235

ثلاث روايات أو أربع لم يكن غريباً. أفهل نفترض ـ مثلاً ـ أنّ هذا الأمر المهمّ والذي هو على خلاف الطبع لم يبيّن إلّا مرّات عديدة، وصدفة لم يكن يوجد شخص عند الإمام(عليه السلام)في تمام تلك المرّات يسمع الحديث إلّا شخص ضعيف، أو ذو اتّجاه معيّن، ومن غير أمثال زرارة ومحمّد بن مسلم، أو كان هناك سامعون من أمثالهم ولكنّهم صدفة لم ينقلوا الرواية، أو نقلوها وصدفة لم تصلنا من أمثالهم؟!!

فمجموعة هذه الاُمور لو ضمّ بعضها إلى بعض حصل بمقتضى حساب الاحتمالات الاطمئنان بأنّ مثل هذه الروايات مجعولة على الأئمّة(عليهم السلام)، ولو فرض صدورها عنهم فلابدّ أن يكون لها محمل آخر غير ما هو الظاهر منها.

وأمّا الطائفة الثانية ـ وهي الأخبار الدالّة على عدم الاستغناء في مقام فهم القرآن واستنباط الحلال والحرام من آيات الأحكام عن الأئمّة(عليهم السلام) ـ: فهي تامّة سنداً، وقد ورد بعضها بلسان تأنيب من يدّعي الاستغناء ولو عملاً عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) من فقهاء العامّة والمعاصرين لهم، وبعضها بلسان بيان أنّ حقائق القرآن وتمام معارفه موجودة عند الأئمّة(عليهم السلام)، وهم المطّلعون على تمام مزايا القرآن ونكاتها وخصوصيّات التخصيص، والنسخ، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد. وكلّ هذا صحيح وأجنبيّ عمّا نحن بصدده، ومرجع اللسانين إلى بيان أنّ الناس لا يستغنون عن الأئمّة(عليهم السلام) في مقام استنباط الأحكام، وهذا ممّا لا شكّ فيه، فلا يجوز لأحد الاستغناء عن الثقل الأصغر في مقام استنباط الأحكام، وهذان الثقلان متقارنان في عمليّة الاستنباط وفهم الشريعة، بمعنى أنّه لابدّ في مقام الأخذ من أحدهما ملاحظة الآخر أيضاً بحيث يلحظ مجموع الكتاب والسنّة كأنّهما كلام شخص واحد. فكما لا يجوز العمل ببعض القرآن بقطع النظر عن البعض الآخر وبدون التفات إلى مخصّصاته ومقيّداته في البعض الآخر، ولا يجوز العمل بالسنّة بقطع النظر عن القرآن، كذلك لا يجوز العمل بالقرآن بقطع

236

النظر عن السنّة. ومثل هذا لا يدلّ على عدم جواز العمل بظواهر القرآن الكريم، وإنّما يدلّ على وجوب الفحص قبل العمل بالظاهر، وهذا أمر مفروغ عنه ومتسالم عليه بين الاُصوليّ والأخباريّ.

وأمّا الطائفة الثالثة ـ وهي الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ـ: فقد أجاب عنها علماؤنا الاُصوليّون بما في الكفاية وغيرها من الكتب المتأخّرة عنها: من أنّ التفسير ـ كما جاء في كتب اللغة ـ عبارة عن كشف القناع، ولا قناع في باب الظواهر حتّى يكشف، فلا تفسير في المقام. ولو سلّم أنّه تفسير فليس تفسيراً بالرأي، بل هو تفسير بالطريقة العرفيّة العامّة المتّفق عليها.

ولكن الصحيح: أنّ هذا المقدار من الجواب لا يكفي في المقام، فنحن إن لاحظنا الظهورات التصوّريّة واللغويّة فهي وإن كان في كثير من الموارد لا يصدق عليها كشف القناع، وذلك فيما لو فرض أنّ الوضع اللغويّ كان ثابتاً ثبوتاً عرفيّاً عامّاً، ولكن في بعض الموارد لا يكون الأمر كذلك، بل يكون الظهور مقنّعاً يقع البحث والخلاف في المعنى الموضوع له، ويكون المعنى مقنّعاً بمقنّعيّة نفس الظهور والوضع، ويكشف القناع بإعمال الصناعة لإثبات أنّ هذا اللفظ موضوع للمعنى الفلانيّ. وسوف يأتي في بحث صغرى حجّيّة الظهور ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان أنّه كيف نثبت في بعض الأحيان أصل الوضع بالصناعة في مورد الشكّ.

وإن لاحظنا الظهورات السياقيّة التصديقيّة فالأمر فيها أوضح بكثير، فبعض الظهورات السياقيّة ليس عليها قناع، وبعضها الآخر عليها قناع وبحاجة إلى كشف القناع بالبحث والفحص والاستنباط وإعمال الصناعة، سنخ ما فعلناه قبل صفحات في تفسير قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، حيث استخرجنا المراد بضمّ بعض ظواهرها إلى بعض لمعرفة ما يستفاد من المجموع من المعنى المناسب لتمام ظواهر الآية.

237

فهذا الجواب بحسب الحقيقة ليس جواباً فنّيّاً في المقام؛ لأنّه لم يلحظ فيه إلّا الظواهر التي ليس عليها قناع، ولا يختلف في فهمها أحد، ولعلّ الأخباريّين أيضاً لا يقولون بعدم جواز العمل بمثل هذه الظواهر من القرآن.

ونحن نجيب على الاستدلال بروايات النهي عن التفسير بالرأي بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: مأخوذ ممّا بيّنّاه في بحث حجّيّة الدليل العقليّ وعدمها، حيث استدلّ الأخباريّون هناك على عدم الحجّيّة بالروايات التي تنهى عن العمل بالرأي بقول مطلق في الأحكام الشرعيّة، وهنا استدلّوا على عدم حجّيّة ظهور القرآن بالروايات الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، وقد قلنا هناك: إنّ كلمة (الرأي) وإن كان معناها اللغويّ الأصليّ هو النظر مثلاً، أو ما يقرب من ذلك في المعنى، إلّا أنّ الذي يطالع مجموع الروايات الواردة في باب الرأي، ويطالع عصر هذه الروايات يعرف أنّ هذه الروايات كانت ملقاة من قِبَل الأئمّة(عليهم السلام)على اُناس كانوا يعيشون ويفكّرون في جوٍّ علميّ خاصّ له مصطلحاته الخاصّة، وتعبيراته الخاصّة، وله مسائله المطروحة للبحث إثباتاً ونفياً. ومن أهمّ تلك المسائل التي راج بحثها وذكرها واختلف الناس بسببها هو مسألة الرأي. ففي عصر الصادقين(عليهما السلام)وجدت مدرسة علميّة في صفوف علماء السنّة بعنوان مدرسة الرأي في مقام الاستنباط والتفسير وإخراج الأحكام من النصوص، وكانت هذه الكلمة مصطلحاً لمذاهب استحدثت وراجت وعمّت وانتشر الحديث عنها وتشعّبت فروعها. وأصحاب الأئمّة كانوا يسمعون أبحاث السنّة وكانوا يعرفون آراءهم، وكان جملة منهم يفتي بآراء السنّة، ولعلّ بعضهم كانوا أعلم بآراء علماء السنّة منهم، فمحمّد بن مسلم كان يجلس في المسجد وكان يفتي أهل كلّ مذهب بمذهبهم، ويفتي أهل الحقّ بمذهب جعفر بن محمّد(عليه السلام)، فأصحاب الأئمّة(عليهم السلام)كانوا يعيشون هذا الجوّ وهذه المصطلحات. فمن يدّعي الاطمئنان بأنّ كلمة (الرأي) التي تردّد في كلام

238

الأئمّة(عليهم السلام)الملقاة على مثل هؤلاء الذين يعيشون في مثل هذا الجوّ لم يكن يفهم منها إلّا نفس ذلك المصطلح الذي كان عنواناً لاتّجاهات معيّنة ومشخّصة في الفقه والاستنباط والتفسير، ليس بمجازف.

ولو فرض أنّ شخصاً لم يحصل له الاطمئنان من ملاحظة مجموع هذه الظروف والملابسات التأريخيّة بأنّ المراد بالرأي هو المعنى المصطلح، واحتمل أنّ المراد به هو معناه اللغويّ، فأراد أن يجري أصالة بقاء ظهور اللفظ على معناه السابق، فسوف يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في بحث أوجه الوصول إلى صغرى الظهور: إنّ مثل هذا الأصل في مثل هذا المورد لا يأتي؛ لنكتة عامّة نبيّنها هناك إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني: مأخوذ من بحثنا في السيرة، وهو: أنّه لو سلّم شمول إطلاق مثل هذه الروايات لحمل اللفظ على المعنى الظاهر فهذا الإطلاق لا يصلح للردع عن حجّيّة الظهور، فإنّ إطلاق دليل وإن كان يصلح أن يكون بياناً لحكم شرعيّ نفياً أو إثباتاً فيما إذا كان ذلك الحكم الشرعيّ تعبّديّاً في نفسه كوجوب السورة وعدمها، ولكن حجّيّة ظهور القرآن الكريم ليست حكماً شرعيّاً ابتدائيّاً تعبّديّاً، وإنّما هي مطلب عقلائيّ على طبق القريحة العقلائيّة المركوزة المستحكمة في أذهانهم بارتكازهم الجبلّي والمناسبات التي فطروا عليها في تعايشهم، وقد قلنا في بحث السيرة: إنّ الردع عن السيرة يكون بملاك التحفّظ على الغرض، فلابدّ أن يكون مناسباً لمقدار استحكامها حتّى يحصل التحفّظ على الغرض. ومن هنا أشرنا سابقاً إلى أنّ إطلاق الآيات الناهية عن العمل بالظنّ مثلاً، لا يمكن أن يكون رادعاً عن حجّيّة خبر الواحد بعد فرض أنّها مورد للسيرة العقلائيّة. وعلى هذا فكيف يعقل الاكتفاء في الردع عن مثل السيرة العقلائيّة في باب حجّيّة الظهور المستحكمة الجذور في أذهانهم بإطلاق مثل هذه الروايات التي نحتاج إلى البحث في مقام بيان أنّه هل لها إطلاق، أو لا؟

239

الوجه الثالث: مأخوذ أيضاً من القوانين والاُصول التي نقّحناها في بحث السيرة، وهو: أنّنا نستدلّ في المقام بسيرة المتشرّعة، فسيرة المتشرّعة وأصحاب الأئمّة كانت قائمة على العمل بظهور القرآن جيلاً بعد جيل، ولو لم يكن هذا من المسلّمات في أيّام الأئمّة بل كان مشكوكاً لكثر السؤال عنه؛ لأنّها من المسائل ذات الأهمّيّة القصوى، ولو كثر السؤال كثر الجواب، وهو الجواب بالنفي بحسب فرض الأخباريّ، ولو كثر الجواب كذلك أصبح بالتالي عدم حجّيّته من المسلّمات، ولو كان عدم حجّيّته من المسلّمات لنقل من المتقدّمين مع أنّه لم ينقل من أحد عدم حجّيّة ظواهر القرآن الكريم إلّا من قبل الأخباريّين في العصور الأخيرة. وهذا أحد التطبيقات للقوانين الكلّيّة التي ذكرناها في بحث السيرة. وبعد ثبوت سيرة أصحاب الأئمّة على العمل بظواهر القرآن لا تكون الإطلاقات المفروضة في المقام من روايات المنع عن التفسير بالرأي رادعة عن السيرة، بل السيرة مقيّدة للإطلاق؛ لما ذكرنا في محلّه: من أنّ الحاجة إلى إحراز عدم الردع إنّما هي بالنسبة للسيرة العقلائيّة، وأمّا سيرة المتشرّعة فهي حجّة بالذات لا باعتبار عدم الردع عنها، فلو وجد في قبالها إطلاق أو عموم أو ظهور لكانت نفس السيرة دليلاً على تقييد ذلك الإطلاق، أو تخصيص ذلك العموم، أو تأويل ذلك الظهور.

وقد ظهر حتّى الآن: أنّه لا يصحّ الاستدلال بهذه الروايات على عدم حجّيّة ظواهر الكتاب الكريم.

 

الأخبار الدالّة على حجّيّة ظواهر الكتاب:

وتوجد هناك روايات اُخرى ـ في قبال ما يستدلّ به الأخباريّ ـ يستدلّ بها لحجّيّة ظهور الكتاب الكريم. وما استدلّ بها أو يمكن أن يستدلّ بها من الأخبار على حجّيّة ظهور الكتاب يمكن تقسيمها إلى أربع طوائف:

الطائفة الاُولى: الأخبار الآمرة بالتمسّك بالكتاب الكريم والأخذ به والعمل

240

بموجبه، فإنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ دلالة قرآنيّة نصّاً أو ظهوراً. وقد ذكرنا هذه الطائفة أيضاً فيما سبق في قبال بعض التفصيلات الاُخرى في حجّيّة الظهور كدليل على إبطال التفصيل.

ثُمّ لو لوحظت النسبة بين هذه الطائفة وروايات المنع عن تفسير القرآن بالرأي بعد تسليم دلالتها على نفي حجّيّة ظهور الكتاب وصلاحيّتها للردع عن ذلك، فالنسبة بينهما عموم من وجه، فمادّة الافتراق لتلك الأخبار هي تفسير المجمل بأحد معنييه، ومادّة الافتراق لهذه الأخبار هي الأخذ بالنصّ، ومادّة الاجتماع هي حمل الكلام على ظاهره، فتتعارضان في ذلك وتتساقطان، وبعده لا يمكن الرجوع إلى سيرة العقلاء بحجّة سقوط الرادع؛ لما مضى منّا في بحث السيرة: من أنّ سيرة العقلاء إنّما تصبح حجّة بالإمضاء، والإمضاء يستكشف من عدم الردع، فلابدّ من إحراز عدم الردع والجزم به، ومجرّد احتمال الردع يسقطها عن الحجّيّة؛ لأنّه يعني احتمال عدم الإمضاء، ولذا قلنا: (لو جاء دليل غير تام الحجّيّة صالح ـ على تقدير صدوره من المعصوم ـ للردع فمجرّد احتمال صدوره والردع به يكفي لسقوط السيرة عن الحجّيّة)، وما نحن فيه كذلك بعد فرض صلاحيّة تلك الأخبار على تقدير صدورها للردع، وإن كانت هي بالفعل غير حجّة لابتلائها بالمعارض.

أمّا استصحاب عدم الردع الثابت في أوّل الشريعة فهو عبارة عن استصحاب عدم النسخ، ويتوقّف على قبول استصحاب عدم النسخ في محلّه(1).


(1) عدم الردع بالمعنى الملازم للإمضاء يكون استصحابه من الأصل المثبت، فلابدّ من أن يكون المقصود استصحاب عدم نقض الإمضاء، وهذا رجوع إلى استصحاب عدم النسخ.

241

الطائفة الثانية: الأخبار الآمرة بعرض الشروط على كتاب الله التي تقول بسقوط الشرط المخالف للكتاب. وتقريب الاستدلال بها: أنّه لو لم تكن ظواهر الكتاب حجّة فكيف نستطيع أن نعرف أنّ هذا الشرط موافق للكتاب أو مخالف له؟! ولا يبقى لدينا إلّا خصوص النصوص، والنصوص القطعيّة قليلة جدّاً(1).

وتحقيق هذا التقريب ومدى صلاحيّته للمقابلة مع روايات النهي عن التفسير بالرأي لو تمّت دلالتها على مدّعى الأخباريّ، هو: أنّ هذه الطائفة الآمرة بعرض الشروط على الكتاب إن اُريد بالكتاب فيها لفظ الكتاب فهي دالّة عرفاً على أنّ ألفاظ الكتاب لها دلالة، ويجوز فهمها بحيث يجعل القرآن مقياساً ومعياراً لتمييز الشرط الصحيح عن الفاسد. أمّا إن اُريد بالكتاب فيها مدلول الكتاب والمراد منه فهذه الأخبار بنفسها لا تدلّ على كيفيّة تحصيل هذا المدلول، غاية الأمر لعلّ


(1) إن صحّ هذا البيان أمكن إسراؤه إلى الطائفة الاُولى بأن يقال: إنّ حملها على نصوص القرآن حمل لها على الفرد النادر. إذن هي كالصريح في الأمر بالالتزام بظواهر القرآن، فليست النسبة بينها وبين روايات المنع عن التفسير بالرأي نسبة العموم من وجه كما مضى، بل هي كالأخصّ مطلقاً، وبها تخصّص روايات المنع عن التفسير بتفسير المجمل بأحد معانيه أو الظاهر بما هو خلاف ظاهره.

والواقع: أنّ إشكال كون الحمل على خصوص النصوص حملاً على الفرد النادر غير وارد من أساسه، فإنّ مسألة لزوم الحمل على الفرد النادر أو تخصيص الأكثر إنّما ترد في العامّ الذي لا تكون نسبته إلى ما خرج أخفّ من نسبته إلى ما بقي باعتبار كون مفهومه مشكّكاً مثلاً. أمّا إذا كان كذلك كما لو قال: (أكرم العلماء) ثُمّ قال: (قصدت بذلك مَن هم وصلوا إلى مستوى الاجتهاد) لم يرد عليه: أنّ هذا تخصيص بالفرد النادر أو استثناء لأكثر الأفراد. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ مخالفة النصّ فرد بارز للمخالفة أكثر من مخالفة الظاهر، والأخذ بالنصّ فرد واضح من الأخذ بالكتاب أكثر من الأخذ بالظاهر.

242

الإطلاق المقاميّ والسكوت في مقام البيان ـ مثلاً ـ يدلّ على إمضاء الطريقة العرفيّة المتعارفة لاستكشاف المراد، لكن نفس الكلام لا يدلّ بظهوره اللفظيّ على أنّ تعيين المدلول والمراد بأيّ شيء يكون؟ وإنّما يدلّ على أنّ الشرط يجب أن لايكون مخالفاً لمدلول الكتاب. وعليه فتلك الأخبار التي يستدلّ بها الأخباريّون على أنّ تعيين المراد يكون بلحاظ الروايات لا بإعمال النظر لو تمّت دلالتها تكون حاكمة على هذه الطائفة، ومنقّحة لموضوعها، ومستوجبة لانحصار طريقة معرفة مدلول الكتاب بالروايات(1).

الطائفة الثالثة: هي الروايات الآمرة بعرض نفس أخبار الأئمّة(عليهم السلام)على


(1) هذا البيان لو تمّ أمكن إسراؤه إلى الطائفة الاُولى، فيقال: إنّ ما دلّ على الأمر بالأخذ بالكتاب قد يحمل على معنى الأخذ بما هو مراد من الكتاب. وروايات النهي عن التفسير بالرأي تنفي ثبوت كون ما يظهر من الكتاب ما لم نعرفه عن المعصومين مراداً من الكتاب، فتكون حاكمة على الروايات الدالّة على الأمر بالأخذ بالكتاب. وهذا لا ينافي العرضيّة المستفادة من بعض تلك الروايات بين الكتاب والسنّة كحديث الثقلين، فإنّه تكفي لانحفاظ العرضيّة نصوص الكتاب.

والصحيح: أنّ هذا البيان بحدّ ذاته غير تامّ بناءً على قبول دلالة الإطلاق المقاميّ على حجّيّة ظهور الكلام، فإنّ الذي يعارض روايات المنع عن التفسير بالرأي إنّما هو هذا الإطلاق المقاميّ، وهذا الإطلاق المقاميّ موضوعه هو ظهور الكتاب، وليس موضوعه هو المراد من الكتاب حتّى يكون ما ينفي ثبوت مراديّة الظهور حاكماً عليه بنفي موضوعه. فلا يقاس هذا الإطلاق ـ مثلاً ـ بإطلاق (أكرم العالم) الشامل لزيد العالم المحكوم لدليل ينفي تعبّداً عالميّة زيد، فإنّ هذا الإطلاق موضوعه العالم، والدليل الحاكم ينفي هذا الموضوع، بينما الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، ولعلّه لهذا لم يتعرّض اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في دورته الأخيرة لفكرة الحكومة في المقام بحسب ما يبدو من تقرير بحثه الذي ليس فيه تعرّض هنا للحكومة.