98

 

الاعتقال الثالث

 

اعتقل(رحمه الله) في سنة (1399 هـ )، في السادس عشر أو السابع عشر من رجب على حسب الاختلاف الواقع في الهلال آنذاك، واُطلق سراحه في نفس اليوم.

ولعلّ خير ما كتب عن اعتقال السيّد الشهيد(رحمه الله) في رجب، وما اكتنفه من أحداث سابقة ولاحقة، هو ما كتبه الشيخ محمّدرضا النعمانيّ حفظه الله. وإليك نصّ كلام الشيخ مع تغيير يسير:

 

توجّس السلطة وخوفها

 

في الفترة التي سبقت أحداث رجب، وتلت انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، منيت السلطة البعثيّة العميلة بخوف ورعب شديدين، فقد أحسّت أنّ حدث انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران يشكّل خطورة كبرى تهدّد مستقبل الحكم، ولانعجب من ذلك؛ لأنّ العراق هو البلد الأوّل المرشّح لثورة إسلاميّة اُخرى، فكلّ شيء في العراق كان يسير بهذا الاتّجاه، ولعلّ موقف السلطة من مرجعيّة السيّد الشهيد، ومن الحوزة العلميّة، ومن الحركة الإسلاميّة في العراق عام (1974 م) وما قبله، أوضح مؤشّر على هذه الحقيقة، فالأحداث كانت تسير باتّجاه إقامة حكومة إسلاميّة، ولم يكن يخفى ذلك على السلطة.

ومن ظواهر الرعب: تأكيد السلطة العميلة على لسان مدير الأمن العامّ (البرّاك) للسيّد الشهيد، أنّ (القيادة) تؤيّد الثورة الإسلاميّة في إيران، ولاتقف منها إلّا موقف المساند، وأشار إلى البرقيّة التي بعثها البكر المقبور إلى الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ بعد انتصار الثورة، وقال: إنّ العراق كان من الدول الاُولى التي أيّدت الثورة الإسلاميّة في إيران، وفي هذا اللقاء قال السيّد الشهيد: إذا كان موقفكم من الثورة الإسلاميّة في إيران بهذا المستوى، فلماذا منعتم العراقيين عن تأييد الثورة الإسلاميّة في إيران من خلال التظاهرات التي منعتموها، واعتقلتم المتظاهرين، على رغم كونهم لم يستهدفوا إلّا تأييد الثورة الإسلاميّة في إيران؟!...

99

فقال البرّاك: إنّ المواقف السياسيّة ومنها الموقف تجاه الثورة الإسلاميّة في إيران تحدّد من قبل (القيادة السياسيّة)، فهي وحدها المسؤولة عن ذلك، وليس من حقِّ أحد أن يعارض أو يؤيّد إلّا من خلال القرار السياسيّ الذي تتّخذه القيادة السياسيّة.

فقال السيّد الشهيد: إنّك قلت قبل قليل: إنّ القيادة السياسيّة أيّدت الثورة، وإنّ العراق كان من أوائل الدول المؤيّدة لها، أ ليس موقف الجماهير ينسجم مع هذا القرار؟!

فقال البرّاك: نعم، ولكنّ اتّخاذ مواقف سياسيّة من مسؤوليّتنا، وليس لأحد أن يتدخّل في هذه الاُمور.

ومن الواضح: أنّ صدور هذا الكلام عن السلطة المغرورة والغارقة في بحر الكبرياء والعظمة الفارغة لايصدر إلّا بسبب الخوف والرعب الذي خيّم على قلوبهم، وإلّا فإنّ أعمالهم وممارساتهم تدلّ على عكس ذلك، فهم الذين تجاهلوا الثورة الإسلاميّة وأحداثها الرائعة، ولم تواكب وسائل إعلامهم أحداث الثورة، إلّا بعد أن أصبحت الثورة الخبر الأوّل الذي يتصدّر كلّ نشرات الأخبار العالميّة، وأصبح تجاهلها يعتبر نكسة إعلاميّة وحالة شاذّة.

وهم الذين قالوا على لسان المجرم صدام التكريتيّ: «الشاه باق باق» على أمل أن يبقى الشاه.

وهم الذين أرادوا منع الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ من قيادة الثورة من النجف، واضطرّوه إلى مغادرة العراق.

وهم الذين قمعوا التظاهرات التي أيّدت الثورة الإسلاميّة في إيران، والتي خرجت بعد صلاة المغرب من جامع الخضراء في النجف الأشرف. فكيف يمكن أن نوفِّق بين ما يدّعيه البرّاك وغيره وبين الممارسات العمليّة السلبيّة تجاه الثورة ومؤيّديها؟! ومن مظاهر الرعب هو تشويش إذاعة طهران الناطقة باللّغة العربيّة التي تُسمَع في كافّة أنحاء العراق.

إنّ إذاعة الجمهوريّة الإسلاميّة (القسم العربيّ) أصبحت بعد انتصار الثورة الإسلاميّة المحطّة الاُولى والرئيسيّة بالنسبة إلى العراقيّين، وبدأت تشقّ طريقها في التأثير بالعراقيّين، ليس في أوساط المتديّنين والموالين للثورة الإسلاميّة فقط، بل حتّى في أوساط البعثيّين أنفسهم، فقبل قرار منع الاستماع إليها ومعاقبة المخالفين كانت مجاميع كبيرة من كوادر حزب البعث الحاكم يستمعون لها في مقرّات الحزب نفسه، وبلغ تعلّق

100

العراقيّين بإذاعة طهران حدّاً أقلق السلطة، فقد بدأت المفاهيم والأفكار التي تطرحها الإذاعة تنتشر بسرعة وتَشيع، وظلّ نشيد (خميني أي إمام، خميني أي إمام) يتردّد في مدارس العراق، على رغم كونه باللّغة الفارسيّة، ولم تجد السلطة من سبيل إلّا إصدار قرار بمنع الاستماع لإذاعة طهران، ومعاقبة المخالفين، وكذلك تشويش المحطّة؛ كي لايتيسّر الاستماع إليها.

ومن المؤشّرات المهمّة في هذا المجال: الزيارات المتكرّرة التي قام بها مختلف المسؤولين للسيّد الشهيد، بهدف إظهار حالة من الودّ والمحبّة، على أمل بناء علاقات جيّدة يُستهدف منها إنهاء حالة المعارضة لهم من قبل المرجعيّة بعد ذلك الشوط الطويل من السعي المتواصل لتصفية السيّد الشهيد، والقضاء على مرجعيّته الرشيدة قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران. وفي الوقت نفسه كثّفت مديريّة الأمن العامّة مراقبتها للسيّد الشهيد بشكل لم يسبق له نظير.

وأتذكّر في هذا المجال أنّ السلطة بعثت أحد عملائها في بداية حرب نفسيّة؛ ليخبر السيّد الشهيد بأنّه علم من مصادر موثوقة أنّ السلطة تنوي عدم التساهل مع السيّد الشهيد لو أنّه حاول القيام بأعمال ضدّ السلطة، وأنّ نهاية السيّد الصدر ستكون حتميّة في أوّل اعتقال يقع، ثُمَّ التمس من السيّد الشهيد ـ حرصاً على حياته وسلامته!! ـ أن لايقوم بشيء. وفي تلك الفترة كثرت أمثال هذه الأعمال من قبل أشخاص كنّا نعرف خبث سريرة بعضهم، وسذاجة البعض الآخر ممّن لايعي أبعاد الدور الذي كلّف به.

وعلى كلّ حال، فإنّ الظواهر والمؤشّرات التي برزت في تلك الفترة كانت تدلّل ـ بمالا يقبل الشكّ ـ على أنّ حالة من الخوف والذعر قد سيطرت على الحكّام، وأفقدتهم رشدهم، وجعلتهم يتخبّطون ويتناقضون في مواقفهم وتصريحاتهم. ومن الجدير أن نشير إلى التعميم الذي أصدرته قيادة الحزب العميل عن موقفها الحقيقيّ تجاه الثورة الإسلاميّة في إيران بعد أن تفشّت ظاهرة تأييد الثورة الإسلاميّة حتّى في داخل صفوف حزب البعث، فقد أكّد التعميم أنّ مواقف (بعض الرفاق) من الثورة الإسلاميّة لايوافق موقف الحزب والقيادة السياسيّة، وطلب منهم اتّخاذ موقف سلبيّ من الثورة الإسلاميّة باعتبارها (رجعيّة)، وحرّضهم على ترويج الإشاعات ضدّ الثورة، وذكر نموذجاً لذلك: هو مطالبة الجمهوريّة الإسلاميّة الدول الاستكباريّة بإرجاع الأموال التي سرقها الشاه المقبور،

101

وأودعها في بنوكهم، فصوّر (التعميم) هذا الحدث بأنّه السبب الأساس الذي دفع الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ إلى الثورة ضدّ الشاه، وطلب منهم (توعية) الشعب على هذه الحقيقة.

كلّ ذلك من أجل إطفاء وهج الثورة في نفوس مختلف صفوف الشعب العراقيّ، بما فيها أوساط حزب البعث الحاكم.

ولكنّ الحقيقة: أنّ السلطة لم تحقّق من أعمالها المكاسب التي توخّتها، بل يمكن أن نقول: إنّ المردودات السلبيّة كانت كبيرة جداً، فقد توضّحت الصورة، وعرفت الجماهير الموقف الحقيقيّ للسلطة من الثورة الإسلاميّة، ممّا زاد من إصرار الجماهير المسلمة على التمسّك بموقفها المؤيّد والمساند للثورة الإسلاميّة في إيران.

 

لماذا ركّزت السلطة مراقبتها للسيّد الشهيد(قدس سره)؟

 

السلطة البعثيّة العميلة وأجهزتها الإرهابيّة ركّزت مراقبتها ـ بعد انتصار الثورة الإسلاميّة ـ للسيّد الشهيد، وراقبته مراقبة شديدة ودقيقة؛ فقد بذلت السلطة كلّ ما يمكن، واعتمدت مختلف الوسائل والأساليب لمعرفة كلّ صغيرة وكبيرة عن السيّد الصدر، رضوان الله عليه، وتركّزت الجهود في تعرّف نوع الصلة بين السيّد الشهيد وبين الثورة الإسلاميّة وقائدها العظيم الإمام الخمينيّ دام ظلّه... هل ستقوم الثورة بدعم الحركة الإسلاميّة في العراق بهدف قيام جمهوريّة إسلاميّة في العراق؟ هل سيتمّ تنسيق وتعاون بين الشهيد الصدر وبين الإمام الخميني دام ظلّه؟ هل ستقوم إيران بتحرير العراق عسكريّاً وإسقاط الحكم البعثيّ العميل بعلم السيّد الصدر وإشرافه؟

أسئلة كثيرة كانت تراود السلطة عن نوع العلاقة ومستوى التنسيق بين السيّد الشهيد والإمام القائد... وهي بلا شكٍّ تُقلق السلطة، وتجعلها تحسب كلّ صيحة عليها.

ولنا أن نتسائل: هل توجّس السلطة وموقفها الحائر مجرّد تصوّرات واحتمالات، أو يستند إلى أدلّة ملموسة، أو ظواهر لايمكن تفسيرها أو تبريرها إلّا بهذا الاتّجاه؟

ولا اُريد أن اُجيب عن ذلك إلّا بمضمون بعض مجريات التحقيق والاستجواب الذي اُجري مع السيّد الشهيد حين اعتقل في (17 رجب عام 1399 هـ ).

وملخّص مجريات التحقيق مع شهيدنا الغالي في هذا المجال تركّزت على ما يلي:

 

102

1 ـ حين رفض الإمام السيّد الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ شروط السلطة العميلة التي أرادت فرضها عليه في مقابل البقاء في العراق، قرّر سماحته مغادرة العراق إلى الكويت، وتمّ سفره المبارك في ساعة مبكِّرة صباحاً، وحين علم السيّد الشهيد بقرار الإمام القائد قرّر (رضوان الله عليه) زيارة الإمام برغم ما يترتّب على ذلك من آثار وحسّاسيّات أمنيّة من ناحية السلطة العميلة، حيث كانت قوّات الأمن قد طوّقت منزل السيّد الإمام والشارع والأزقّة المؤدّية إليه. وقرّر السيّد الشهيد الذهاب إلى منزل الإمام قبل أن يطّلع على سفر الإمام إلى البصرة، وتحدّث في ذلك الوقت بكلام معناه: أنّ الذهاب إلى منزل الإمام في هذه الظروف ضرورة دينيّة؛ لأنّه تأييد ومساندة للإمام في هذا الظرف الصعب.

وذهب الشهيد الغالي إلى منزل الإمام، وجلس مدّة من الزمن، وهو المرجع الوحيد الذي وقف هذا الموقف المشرّف في وقت عزّ فيه من يجرؤ على التقرّب من الزقاق الذي يقع فيه منزل الإمام، فضلاً عن الدخول فيه.

وأتذكّر أنّ البعض قالوا للسيّد الشهيد: إنّ قوّات الأمن يمنعون من يريد الوصول إلى منزل السيّد الإمام، فردّ السيّد الشهيد قائلاً: على كلّ حال سأذهب، وليحدث ما يحدث.

وقد سئل السيّد الشهيد حين اعتقل في رجب عن السبب الذي جعله يتحدّى السلطة في تلك الظروف العصيبة، ويذهب إلى زيارة بيت الإمام.

2 ـ السلسلة القيّمة التي كتبها السيّد الشهيد (الإسلام يقود الحياة) كلمحة فقهيّة تمهيديّة عن مشروع دستور الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، وصورة عن اقتصاد المجتمع الإسلاميّ، وغير ذلك.

إنّ هذه السلسلة عبرّت بوضوح عن موقف السيّد الشهيد، وتفاعله مع الثورة الإسلاميّة في إيران وقائدها العظيم الإمام الخمينيّ دام ظلّه، وإن شئت فاقرأ ما جاء في (لمحة فقهيّة عن مشروع دستور الجمهوريّة الإسلاميّة)، حين يبيّن السيّد الشهيد المسؤوليّة التأريخيّة للثورة الإسلاميّة في إيران على صعيد الجمهوريّة، وعلى صعيد العالم، فيقول:

«وفي الخارج تستهدف الدولة:

أوّلاً: حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرسالة العظيمة إلى العالم كلِّه.

ثانياً: الوقوف إلى جانب الحقّ والعدل في القضايا الدوليّة، وتقديم المَثَل الأعلى

103

للإسلام من خلال ذلك.

ثالثاً: مساعدة كلّ المستضعفين والمعذَّبين في الأرض، ومقاومة الاستعمار والطغيان وبخاصّة في العالم الإسلاميّ الذي تعتبر إيران جزءاً لايتجزّأ منه. إنّ دولة القرآن العظيمة لاتستنفد أهدافها...».

ولم يكن يخفى على السلطة مغزى هذه الكلمات القيّمة عن مسؤوليّة الجمهوريّة الإسلاميّة تجاه العراق، وباقي دول العالم الإسلاميّ؛ ولذا سئل السيّد الشهيد عن دوافع كتابة هذه الحلقات.

3 ـ بعث السيّد الشهيد أحد تلاميذه(1) إلى الجمهوريّة الإسلاميّة؛ ليكون حلقة وصل بين السيّد الشهيد والإمام السيّد الخمينيّ دام ظلّه؛ لغرض التنسيق ومواكبة حركة الثورة الإسلاميّة، وقد أحسّت السلطة بذلك فأثارها؛ ولذلك ركّز في التحقيق مع السيّد الشهيد على هذه النقطة.

وقد سألت السيّد الشهيد (رحمه الله) عن جوابه، فقال: لم أجب بشيء؛ لأنّي أعلم أنّ السلطة تعرف هذا الموضوع، اكتفيت بالقول: فسِّروه بما شئتم. فقال مدير الأمن: إنّ معلوماتنا تؤكّد أنّ الهدف كان التنسيق بينكم وبين السيّد الخمينيّ دام ظلّه، فردّ السيّد الشهيد: فليكن ذلك.

فقلت للسيّد الشهيد (رضوان الله عليه): أ ليس هذا الجواب اعترافاً بتلك الحقيقة؟! فقال(رحمه الله): حين اُعتقلت حسبت أنّ الشهادة تنتظرني في بغداد، وأحسست أنّ المسؤوليّة التي كانت تثقل كاهلي، وتسبّب لي الهموم والآلام قد انتهت، فلم أكن أحسب للآثار التي ستترتّب على جوابي هل تشكّل خطورة علىّ، أو لا؟

4 ـ مجموعة الرسائل والبرقيّات التي بعثها سماحته إلى الإمام السيّد الخمينيّ دام ظلّه، وإلى الشعب الإيرانيّ الشقيق. فقد قال البّراك (مدير الأمن العامّ): ما هو السبب الذي جعلك تنفرد دون باقي العلماء لتقف هذا الموقف الصريح متجاهلاً أنّ هناك سلطة وحزباً يحكمون القطر، لهم الكلمة الحاسمة والأخيرة في المواقف السياسيّة وغيرها؟!

من ناحية اُخرى: أنّ السلطة تدرك أهمّيّة السيّد الشهيد، وقابليّاته الهائلة في مجال الفكر والتخطيط، والحسّ السياسيّ، وقدرته العظيمة في مجال التأثير بالشعب العراقيّ،


(1)وهو السيّد محمود الهاشميّ، حفظه الله.

104

ولم يكن بوسع السلطة تجاهل تجربتها المعقّدة والطويلة مع السيّد الشهيد قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، هذه التجربة التي كانت حصيلتها للسلطة فشلاً على فشل، وهزيمة إثر هزيمة، فما من جولة ـ على رغم آثارها وجراحها المؤلمة ـ إلّا وكان النصر إلى جانب السيّد الشهيد(رحمه الله).

إنّ السلطة العميلة كانت مقتنعة بأنّ السيّد الصدر هو مركز البركان، وهو الخطر الوحيد الذي يتهدّدها، خاصّة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، والآثار النفسيّة والمعنويّة التي أوجدتها في نفوس العراقيّين، وفي مقدّمتها حالة التهيّؤ والاستعداد لثورة إسلاميّة في العراق بقيادة الشهيد السعيد السيّد الصدر، رضوان الله عليه.

 

برقيّة الإمام

 

وجاءت برقيّة إمام الاُمّة السيّد الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ لتقطع الشكّ باليقين عن العلاقة بين الشهيد الصدر والإمام الخمينيّ، دام ظلّه.

إنّ السيّد الشهيد لم يستلم البرقيّة التي بعثها الإمام السيّد الخمينيّ دام ظلّه، فقد احتُجزت، ولم تسلّم للسيّد الشهيد، ولكنّي كنت قد سجّلتها من إذاعة طهران، وأسمعتها السيّد الشهيد بعد إذاعتها بدقائق، وهذا نصّها:

«سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الحاجّ السيّد محمّدباقر الصدر، دامت بركاته:

علمنا أنّ سماحتكم تعتزمون مغادرة العراق بسبب بعض الحوادث، إنّني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الأشرف مركز العلوم الإسلاميّة، وإنّي قلق من هذا الأمر، آمل ـ إن شاء الله ـ إزالة قلق سماحتكم، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

روح الله الموسويّ الخمينيّ»

 

الموقف التأريخيّ المشرّف للعراقيّين

 

في تلك الفترة كانت إذاعة طهران العربيّة هي الإذاعة الاُولى من حيث استماع العراقيّين لها، فكان من الطبيعيّ أن يستمع الشعب لبرقيّة إمام الاُمّة، ويتعرّف مغازيها وما

105

تعنيه. والبرقيّة لم تكن عاديّة بحيث لاتلفت الانتباه، فقد أكّد إمام الاُمّة نقطتين أساسيّتين:

1 ـ مغادرة السيّد الشهيد (رحمه الله) للعراق، وما تعنيه من فراغ كبير للنجف والعراق.

2 ـ ما يتعرّض له السيّد الشهيد من مضايقات وضغط من قبل السلطة البعثيّة العميلة.

للأسباب هذه كان وقع البرقيّة عظيماً في كافّة أوساط الشعب العراقيّ، فكانت بداية جديدة لمرحلة جديدة من الصراع بين الإسلام والكفر، فبدأت تتقاطر الوفود إلى النجف الأشرف من كافّة أنحاء العراق تطالب السيّد الشهيد بالبقاء في العراق وعدم مغادرته له.

 

وقفة مع الوفود:

من الضروريّ أن نقف عند هذه الظاهرة التي تستحقّ الدراسة والتقييم، فالوفود كانت متميّزة، متميّزة في أشخاصها وشعاراتها وهتافاتها واستمراريّتها وتحدّيها للسلطة الجائرة:

أوّلاً: الشمول، من الملاحظ أنّ طابع الشمول كان ظاهرة بارزة، فلم تقتصر على محافظة دون اُخرى، أو شريحة دون اُخرى، بل شملت معظم محافظات العراق، ومختلف شرائح المجتمع العراقيّ.

وللتاريخ اُسجّل للقارئ نماذج من الوفود التي زارت السيّد الشهيد، وجدّدت له البيعة، وعاهدته على التأييد والمساندة حتّى آخر قطرة دم.

 

بغداد:

جاءت عدّة وفود من بغداد، نذكر منها:

1 ـ وفد الشهيد السعيد حجّة الإسلام السيّد قاسم المبرقع، من مدينة الثورة.

2 ـ وفد الشهيد السعيد حجّة السلام الشيخ قاسم ضيف، من مدينة البيّاع.

3 ـ وفد حجّة الإسلام الشيخ النمديّ، من مدينة الكاظميّة.

 

محافظة واسط:

1 ـ وفد الشهيد السعيد آية الله السيّد قاسم شبر، من قضاء النعمانيّة.

106

2 ـ وفد أهالي الكوت مع سماحة حجّة الإسلام الشيخ عفيف النابلسيّ.

3 ـ وفد أهالي العزيزيّة وناحية الزبيديّة وضواحيها مع سماحة الشهيد السعيد حجّة الإسلام السيّد عزّالدين الخطيب.

 

البصرة:

وفد على رأسه حجّة الإسلام السيّد عصام شبّر.

 

العمارة:

وفد حجّة الإسلام الشهيد السعيد الشيخ عبدالأمير محسن العماريّ.

وغيرها من الوفود، من قبيل: وفد الناصريّة وديالى وكركوك والديوانيّة وكربلاء والسماوة.

ثانياً: من الملاحظ أنّ الوفود كما أنّها شملت مختلف محافظات وأنحاء العراق كذلك شملت مختلف أوساط المجتمع، فتجد الكهل والشابّ والمرأة والطفل، وتجد العامل والفلّاح والكاسب والاُستاذ والطالب الجامعيّ، وطالب الإعداديّة والابتدائيّة. وإضافةً إلى ذلك تجد مختلف الرُّتَب العسكريّة، حتّى ضمّ أحد الوفود من المناطق الجنوبيّة عدداً من الطيّارين العسكريّين، أو العاملين في القوّة الجويّة.

ثالثاً: الشعارات التي ردّدتها الوفود كانت رائعة، ومعبّرة عمّا في نفوس أبناء العراق تجاه السيّد الشهيد(قدس سره) والإمام الخمينيّ دام ظلّه: (باسم الخميني والصدر، الإسلام دوماً منتصر) و(عاش عاش عاش الصدر، والدين دوماً منتصر). لقد عبّرت الوفود من خلال شعاراتها عن تمسّكها بالإسلام، وتأييدها للثورة الإسلاميّة، والمرجعيّة الرشيدة.

رابعاً: الظاهرة الاُخرى الملفتة للانتباه هي الكثافة العظيمة، حيث اكتظّت النجف بالاُلوف من خيرة أبناء العراق، وكان السيّد الشهيد يستقبل هذه الوفود من الصباح الباكر حتّى ساعة متأخّرة من الليل، حتّى ظهرت عليه علامات الإرهاق والتعب الشديد، لدرجة أنّه في بعض الأحيان كان يعجز من مجرّد الكلام.

خامساً: التحدّي الصارخ للسلطة، وهذا ما اعترف به أكثر من مسؤول بعثيّ كبير.

107

سادساً: استمراريّة تقاطر الوفود كانت ميزة، ولو لابعض الآثار التي حدت بالسيّد الشهيد إلى الاكتفاء بهذا القدر لاستمرّ زخم الوفود وتقاطرها إلى فترة طويلة، حيث كانت تصل إلينا الأخبار تباعاً عن تهيّؤ وفود اُخرى من مختلف أنحاء العراق، ولكن السيّد الشهيد أمر وكلاءه إبلاغ الاُمّة بأنّه لن يغادر العراق، وسيبقى معكم حتّى النفس الأخير، ولاداعي لتجشّم عناء السفر.

إنّ أهمّ الأسباب التي دعت السيّد الشهيد لاتّخاذ هذا الموقف هو:

أوّلاً: أنّ الآلاف من المؤمنين والمجاهدين استطاعوا أن يعبِّروا بوضوح عن موقف الشعب العراقيّ الأصيل من المرجعيّة الرشيدة والثورة الإسلاميّة.

ثانياً: حرص السيّد الشهيد على عدم كشف كافّة الأوساط الموالية والمؤمنة بالمرجعيّة وبالثورة الإسلاميّة؛ إذ إنّ سلطات الإرهاب كانت تراقب الوفود بدقّة، وهي لن تتورّع ـ إن قرّرت الانتقام ـ من تصفية الملايين.

 

تقييم السيّد الشهيد(رحمه الله) للوفود:

أكثر من مرّة عبّر السيّد الشهيد عن موقفه تجاه كلّ الوفود التي زارته، عبّر عن اعتزازه وتقديره وشكره، وكان الأمل يملأ قلبه في أن يعود الإسلام إلى مسرح الحياة على أيدي هؤلاء الأبطال.

واُشير هنا إلى ما جاء في نداء السيّد الشهيد(قدس سره):

«أيّها الشعب العراقيّ المسلم، إنّي اُخاطبك أيّها الشعب الحرّ الأبيّ الكريم، وأنا أشدّ الناس إيماناً بك وبروحك الكبيرة، وبتأريخك المجيد، وأكثرهم اعتزازاً لما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحبّ والولاء والبُنوّة للمرجعيّة؛ إذ تدفّقوا إلى أبيهم يؤكّدون ولاءهم للإسلام بنفوس ملؤها الغيرة والحميّة والتقوى، يطلبون منّي أن أظلّ اُواسيهم، وأعيش آلامهم عن قرب؛ لأنّها آلامي، وإنّي أودّ أن اُؤكّد لك يا شعب آبائي وأجدادي، أ نّي معك وفي أعماقك، ولن أتخلّى عنك في محنتك، وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك».

وأعتقد أنّ هذا المقطع من النداء لايحتاج إلى تعليق، فهو يطفح بمشاعر السيّد الشهيد تجاه أبناء العراق البررة، ويجسّدها تجسيداً حيّاً.

 

108

موقف السلطة:

لم تحسب السلطة المجرمة أن يكون ردّ الشعب العراقيّ المسلم بهذا المستوى؛ إذ كان زخم الوفود مفاجأة بكلّ معنى الكلمة، ولذلك أحجمت عن اتّخاذ أىّ إجراء قمعيّ فوريّ؛ لأنّها لاتعرف مستوى التحرّك، وهل للجيش صلة بالموضوع، أو لا؟. وفضّلت مراقبة الوضع والتريّث إلى حين.

ولنا أن نتساءَل عن رأي السلطة كيف كانت تنظر إلى هذا الوضع؟ وما ذا كان يعني في رأيها تقاطر الوفود إلى النجف لتأييد السيّد الشهيد ومبايعته؟ وهنا اُشير إلى تصريحين بهذا الشأن:

الأوّل: اعتراف مدير أمن النجف بأنّ ما حدث كان ثورة، وأوشكت أن تنجح لو لا (حزم) السلطة(1).

الثاني: ما نقله السيّد علي بدر الدين عن أحد أعضاء ما يسمّى بمجلس قيادة الثورة، فقد قال: إنّ السيّد محمّد باقر الصدر قام بثورة كادت أن تنجح، ونحن من الآن نتعامل معه على هذا الأساس، ولو لا أنّه فاجأنا بهذا التحرّك، لعرفنا كيف نتعامل مع هؤلاء (العملاء) الذين حرّكهم ضدنا... إلى آخره.

والحقيقة: أنّ هذا التقييم هو عين الواقع، فما حدث في رجب كان ثورة حقيقيّة ضدّ السلطة، ولو لا العجز عن توفير السلاح والعتاد، لنجحت الثورة في جانبها العسكريّ بعد أن نجحت في الجوانب الاُخرى.

أمّا الإجراءات التي اتّخذت لقمع التحرّك في رجب، فهي كالتالي:

أ ـ استدعاء عشرات الاُلوف من قوّات الأمن والجيش اللاشعبيّ للتواجد في النجف، وتطويق شوارعها وأزقّتها، وفرض السيطرة عليها.

ب ـ فرض حالة التأهّب والاستعداد في الجيش، والجيش اللاشعبيّ، والحزب.

ج ـ تسجيل أسماء وعناوين الوافدين إلى النجف.

د ـ تصوير الوافدين (فتوغرافيّاً)، وتسجيل أصواتهم.

هـ ـ وفي المرحلة الأخيرة بدأت حملة شاملة لاعتقال جميع من زار السيّد الشهيد(رحمه الله).


(1)وسيأتى ذكر هذه القِصّة لدى ذكر المفاوضات التى جرت مع السيّد الشهيد فى فترة الاحتجاز.

109

اعتقال وكلاء السيّد الشهيد(رحمه الله):

تركّزت الحملة في أوّل الأمر في اعتقال وكلاء السيّد الشهيد، أمثال السادة الأعلام:

1 ـ السيّد قاسم شُبَّر.

2 ـ السيّد حسين السيّد هادي الصدر.

3 ـ السيّد حسين السيّد إسماعيل الصدر.

4 ـ السيّد قاسم المبرقَع.

5 ـ السيّد محمّد حسين المبرقَع.

6 ـ السيّد جاسم المبرقَع.

7 ـ الشيخ عبد الجليل مال الله.

8 ـ الشيخ محمّد علي الجابريّ.

9 ـ السيّد عبّاس الشوكيّ.

10 ـ الشيخ سامي طاهر.

11 ـ الشيخ قاسم ضيف.

12 ـ الشيخ عبد الجبّار البصريّ.

13 ـ الشيخ مهدي السماويّ.

14 ـ السيّد عبد الرحيم الياسريّ.

15 ـ الشيخ خزعل السودانيّ.

16 ـ الشيخ عبد الأمير محسن الساعديّ.

17 ـ السيّد عِزّالدين الخطيب.

وغيرهم من الوكلاء في مختلف المناطق، كما شمل الاعتقال عدداً من العلماء من غير وكلاء السيّد الشهيد، ممّن ساهم في انتفاضة رجب.

واستمرّت حملات الاعتقال في كافّة أوساط الشعب العراقيّ بصورة وحشيّة وقاسية بما لا يوصف، ولايمكن معه عدّ المعتقلين أو إحصاؤهم.

 

110

جواب السيّد الشهيد(رحمه الله) عن برقيّة الإمام

 

إنّ الكثيرين أصرّوا على السيّد الشهيد أن يتجنّب الدخول في صراع مع البعثيّين بهذا المستوى، وكانت حجّتهم هي الطبيعة الدمويّة والعدوانيّة لهذه الزمرة، فهم لن يتردّدوا في اتّخاذ أقسى الإجراءات لأدنى معارضة أو موقف يشمّ منه ذلك. وفي هذا السياق رجّح البعض أن يكون جواب السيّد الشهيد عن برقيّة إمام الاُمّة بشكل لايؤدّي إلى إثارة السلطة وتحفيزها على اتّخاذ موقف حاد.

إلّا أنّ السيّد الشهيد رفض الاستماع إلى هذه النصائح، وقرّر أن يكون الجواب بالشكل الذي يناسب وضع إمام الاُمّة ومقامه، وكذلك وضع المرحلة الجديدة من الصراع، خاصّة بعد أن عرف الجميع مستوى العلاقة بين السيّد الشهيد(قدس سره) والإمام الخمينيّ دام ظلّه، وبالتدقيق في عبارات البرقيّة الجوابيّة ندرك حجم العلاقة ومستوى الوفاء والإخلاص والتفاني الذي يكنّه السيّد الشهيد للثورة الإسلاميّة ولقائدها العظيم. وهذا نصّ البرقيّة:

بسم الله الرحمن الرحيم

سماحة آية الله العظمى الإمام المجاهد السيّد روح الله الخمينيّ، دام ظلّه.

تلقَّيت برقيّتكم الكريمة التي جسّدت اُبوّتكم ورعايتكم الروحيّة للنجف الأشرف الذي لايزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة، وإنّي أستمدّ من توجيهكم الشريف نفحة روحيّة، كما أشعر بعمق المسؤوليّة في الحفاظ على الكيان العلميّ للنجف الأشرف، وأودّ أن اُعبّر لكم بهذه المناسبة عن تحيّات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز، الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد على يدكم ضوءاً هادياً للعالم كلّه، وطاقة روحيّة لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الأمريكيّ خاصّة، ولتحرير العالم عن كلّ أشكاله الإجراميّة، وفي مقدّمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدّسة فلسطين، ونسأل المولى ـ سبحانه وتعالى ـ أن يمتّعنا بدوام وجودكم الغالي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الخامس من رجب ( 1399 هـ )النجف الأشرف

محمّد باقر الصدر

 

111

لقد أخبرني (رضوان الله عليه) أنّ من النقاط التي ركّزوا عليها أثناء التحقيق في رجب كان بعض فقرات البرقيّة الجوابيّة التي بعثتها إلى الإمام الخمينيّ دام ظلّه، وانصبّت الأسئلة على اُمور ثلاثة:

1 ـ ما هو المقصود برعاية الإمام الخمينيّ للنجف؟ هل هناك مساعدات ماليّة، أو عسكريّة وصلت من إيران لمساعدتك في التحرّك ضدّنا؟

2 ـ من خوّلك نقل تحيّات ملايين العراقيّين إلى السيّد الخمينيّ؟

3 ـ ما معنى التوجيه الذي تتلقّاه من السيّد الخمينيّ؟

يقول السيّد الشهيد كنت قد أجبت عن أسئلتهم بما يناسب حجم التحرّك، وحجم الثورة الإسلاميّة، فقد كنت مصمِّماً على الاستشهاد في سبيل الله؛ ولذا كنت أتعمّد أن لا اُجيب عن بعض الأسئلة بغرض إقلاقهم وإرعابهم، ولكن ظلّ البرّاك يلحّ على إجابة محدّدة، وبقيت ـ أيضاً ـ أتعمّد الغموض، وكلّما انتقل البرّاك إلى أسئلة اُخرى بعيدة عن موضوع البرقيّة عاد مرّة اُخرى إلى البرقيّة، وكرّر الأسئلة بشكل وآخر.

 

اعتقال السيّد الشهيد(قدس سره)

 

لم يكن اعتقال السيّد الشهيد بعد أحداث رجب أمراً محتملاً فحسب، بل كان السيّد الشهيد يتوقّع في أيّ لحظة أن يعتقل، ولكن لاللتحقيق أو لإذلال المرجعيّة كما في المرّات السابقة، بل للاستشهاد في سبيل الله، وكان (رضوان الله عليه) قد هيّأ نفسه لذلك، وكان من عادته قبل كلّ اعتقال أن يسلّم (الخاتم) إلى من يثق به؛ لكي لايقع بيد السلطة بعد الاستشهاد. وهكذا فعل في رجب بعد ثلاثة أيّام من بداية تقاطر الوفود إلى مبايعته.

في يوم الاثنين المصادف 16 رجب عام (1399 هـ ) بدأت قوّات الأمن تكثّف دوريّاتها ومراقبتها لمنزل السيّد الشهيد، والأزقّة القريبة منه، وبقيت أرقب الوضع حتّى الساعة التاسعة مساءً، حيث منعت السلطة التجوّل في الزقاق، ومنعت المارّة تمهيداً لاعتقال السيّد الشهيد.

أخبرت السيّد الشهيد واُختة العلويّة الشهيدة، وقلت للسيّد: إنّ المجرمين ينوون

112

اعتقالكم غداً، فالدلائل تشير إلى ذلك.

لم يتأثّر السيّد الشهيد، ولم يأبه للعشرات من الأمن المدجّجين بالسلاح الذين يجوبون الزقاق، فذهب إلى مضجعه، ونام وهو في غاية الاطمئنان، بعد أن استعدّ وتهيّأ لكلّ ما يمكن أن يقع له على أيدي هؤلاء الجلّادين.

 

قرار المواجهة المباشرة:

قرّر السيّد الشهيد أن يتعامل مع المسؤولين بمستوىً جديد، فصمّم على أن ينهج نَهْجَ جدّه الحسين(عليه السلام)، ويتمسّك بمبدأ «لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد». إنّ موقف السيّد الشهيد هذا ناشئ من تصميمه على الدخول في مواجهة مباشرة مع السلطة؛ إذ لامعنىً للثورة بدون ذلك. وكان (رضوان الله عليه) يستهدف من ذلك تهيئة الأجواء للشعب العراقيّ للسير معه في نفس الاتّجاه، على رغم يقين شهيدنا الغالي بأنّ الشهادة هي المحطّة التي سينتهي إليها في آخر المطاف، ولم يكن هذا المصير يقلق مفجّر الثورة؛ لأنّه لم يكن يفكّر إلّا بقضيّته ورسالته التي هي رسالة الإسلام.

إنّ السيّد الشهيد يعرف السلطة وطبيعتها الإجراميّة، وكان يعرف أنّ لغتها الوحيدة هي المشانق والسجون، ولم يكن بحاجة إلى التكهّن بمصيره لو أراد مواجهتها؛ لأنّه يعرف مسبقاً النتيجة، وما أشبهه بجدّه الحسين(عليه السلام) حين كان يجسّد أمامه مصرعه «كأ نّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوات». وهكذا كان شهيدنا العظيم يرى مصرعه، يرى الأيدي الأثيمة تمتدّ إلى قلبه الطاهر لتقطعه بسيوف حقدها، ومع ذلك كان (رحمه الله) يرى أنّ ذلك يهون ويسهل إذا كان ينتهي إلى إقامة حكومة إسلاميّة في العراق.

لا أقول هذا الكلام بسبب علاقتي أو حبّي للسيّد الشهيد (رحمه الله)، بل الوقائع والأدلّة هي الشاهد، وهي البرهان على ما أقول، وسنعيش معاً تلك اللحظات في خلال فترة الحجز حين رفض شهيدنا العظيم كلّ العروض التي قدّمتها السلطة كشرط لفكّ الحجز ولإرضائه، وإنهاء الخصومة معه، ووقف كالجبل الأشمّ حتّى كأنّك تراه وقد نزع الله ـ عزّ وجلّ ـ من كيانه غريزة حبّ الحياة، وأبدلها بغريزة حبّ الاستشهاد، فكان من الطبيعيّ أن يتّخذ(رحمه الله)هذا الموقف ما دام قد بدأ الثورة، وأذِنَ لشعلتها أن تتوهّج، وتستمرّ حتّى إقامة حكومة الإسلام في العراق.

113

الاعتقال:

في صباح يوم الثلاثاء السابع عشر من رجب جاء المجرم مدير أمن النجف، وطلب اللقاء بالسيّد الشهيد، في هذا اللقاء قال مدير الأمن: إنّ السادة المسؤولين يريدون الاجتماع بكم في بغداد. فأجابه السيّد الشهيد بانفعال شديد، وقال له: إن كنت تحمل أمراً باعتقالي، فنعم أذهب، وإن كانت مجرّد زيارة، فلا.

وأضاف: أنّكم كَممتم الأفواه، وصادرتم الحرّيّات، وخنقتم الشعب، تريدون شعباً ميّتاً يعيش بلا إرادة ولاكرامة، وحين يعبّر شعبنا عن رأيه، أو يتّخذ موقفاً من قضيّة ما، حين تأتي الاُلوف لتعبّر عن ولائها للمرجعيّة وللإسلام، لاتحترمون شعباً، ولاديناً، ولاقيماً، بل تلجأون إلى القوّة؛ لتكمّوا الأفواه، وتصادروا الحرّيّات، وتسحقوا كرامة الشعب.

أين الحرّيّة التي تدّعونها؟! أين هذا الشعب الذي تدّعون أنّكم تدافعون عنه؟! أليس هؤلاء الآلاف الذين جاؤوا ليعبّروا عن ولائهم للمرجعيّة هم أبناء العراق؟! ماذا ستقولون للجماهير وأنتم تسحقون قيمهم بأيديكم؟! وظلّ الشهيد الغالي يصرخ بوجه هذا المجرم، وكانت مفاجأة عظيمة له أذهلته وجعلته يلوذ بالصمت، ولم يتمكّن من الردّ ولو بكلمة واحدة.

ثُمَّ قال (رضوان الله عليه): هيّا لنذهب إلى حيث تريد.

خرج السيّد الشهيد وكنت برفقته، وكذلك الأخ الشيخ طالب الشطريّ، والشهيدة السعيدة بنت الهدى، وعقيلته الطاهرة اُمّ جعفر، ورافقنا ـ أيضاً ـ خادم السيّد (الحاجّ عباس).

كانت قوّات الأمن أكثر من مئتي شخص، تتألّف من قوّات الأمن، والجيش الشعبيّ، وأعضاء منظّمة حزب البعث العميل في النجف، وكلّهم مدجّجون بالسلاح والعتاد.

 

بنت الهدى تهزم الجموع:

خلال مسيرنا في الزقاق المؤدّي إلى شارع الإمام زين العابدين(عليه السلام) سبقتنا الشهيدة بنت الهدى؛ لتأخذ مكانها هناك استعداداً لإلقاء خطبتها التي هزّمت فيها الجموع التي

114

تحشّدت لاعتقال السيّد الشهيد.

وقفت كأنّها زينب لم تأبه بالمجرمين الذين تتقطّر وجوههم شرّاً وحقداً ووحشيّة، لم ترهبها رشّاشات الكلاشنكوف، وبدأت خطبتها التأريخيّة التي تعتبر وثيقةً مهمّةً من وثائق الثورة الإسلاميّة في العراق، قالت (رضوان الله عليها):

انظروا... أخي وحده، بلاسلاح، بلامدافع ورشّاشات، أمّا أنتم بالمئات... انظروا، وأشارت إلى الجموع هنا وهناك، فهل سألتم أنفسكم: لِمَ هذا العدد الكبير؟ ولِمَ كلّ هذه الأسلحة؟ لأنّكم تخافون... إي والله تخافون؛ لأنّكم تعلمون أنّ أخي ليس وحده، بل معه كلّ العراقيّين.

إنّكم تخافون، ووالله لولا ذلك لما جئتم لاعتقال أخي في هذه الساعة المبكِّرة من هذا الصباح... لماذا لاتجيئون إلّا والناس نيام؟ لماذا تختارون هذا الوقت؟ هل سألتم أنفسكم؟ هل هذا إلّا دليل على ما أقول؟

وما أن أتمّت الشهيدة خطبتها حتّى تفرّق الحشد الأثيم، واختفى في الأزقّة، وبقيت سيارات الأمن ومن فيها في سكون وثبات، لم يتحرّك أحد حين خطبت الشهيدة، وكأنّ على رؤوسهم الطير. ثُمَّ توجّهت بخطابها إلى شهيدنا العظيم، وقالت: اذهب يا أخي، الله معك، فهذا هو طريقنا، وهذا هو طريق أجدادك الطاهرين.

استمرّ خطاب الشهيدة الخالدة أكثر من خمس عشرة دقيقة، فلم يجرؤ أحد من الجلاوزة على منعها، فقد كان صوتها الزينبىّ وكلماتها الثائرة أقوى من كلّ قوّة، لقد أربكت الجلاوزة وأرعبتهم، ولم تدع لهم من سبيل إلّا الاختفاء في الأزقّة.

 

الشهيدة قرّرت الاستشهاد

 

بعد أن اعتُقل السيّد الشهيد(رحمه الله) عادت الشهيدة إلى المنزل، فقلت لها: كان المفروض أن تتريّثي قليلاً؛ كي تتبيّن الاُمور وتتوضّح، إنّ هذا الخطاب من الممكن أن يؤثّر عليكم سلباً، ويفتح صفحة جديدة لكم في سجلّات الأمن، وتزداد مراقبة الأمن لكم، إضافة إلى

115

الآثار التي ستترتّب على السيّد.

فقالت الشهيدة رحمها الله: إنّ المسؤوليّة الشرعيّة والواجب الدينيّ هو الذي دفعني إلى اتّخاذ هذا الموقف، إنّ زمن السكوت انتهى، ولابدّ أن نبدأ صفحة جديدة من الجهاد، لقد سكتنا طويلاً، وكلّما طال سكوتنا كبرت محنتنا، وازدادت أتعابنا، لماذا أسكت وأنا أرى مرجعاً مظلوماً يقع في قبضة هؤلاء المجرمين؟

قلت: إنّ هولاء المجرمين لايتورّعون من أن تمتدّ أيديهم القذرة إليكم، ويمكن أن ينالك الإعدام.

فقالت: والله إنّي أتمنّى الشهادة في سبيل الله، ولقد قرّرت أن اُستشهد منذ اليوم الأوّل الذي جاءت فيه الوفود، فأنا أعرف هذه السلطة، وأعرف وحشيّتهم وقساوتهم، وأعلم أنّ الرجل والمرأة عندهم سواء، أمّا أنا فسيّان عندي أن أعيش أو أموت، ما دمت واثقة بأنّ موقفي كان لله ومن أجله تعالى.

لقد كنت أستمع للشهيدة وكأ نّي أستمع لزينب بنت أمير المؤمنين(عليه السلام) إنّها تتكلّم من أعماقها كلام الواثقة كلّ الثقة بعقيدتها وقضيّتها. لقد جسّدت بنت الهدى إيمانها العظيم وصلابتها الهائلة، ليس في حادث اعتقال السيّد الشهيد فقط، بل وفي طيلة فترة الاحتجاز وفي يوم اعتقالها كما سيأتي.

 

الشهيدة تثير الجماهير

 

عادت الشهيدة إلى المنزل، ولكن لتبدأ صفحة اُخرى من جهادها العظيم؛ إذ إنّها لم تكتفِ بموقفها الشجاع الأوّل، وبقيت تفكِّر فيما يجب أن تفعله في هذه الساعات الحرجة والحاسمة، وكأنّها تقول: أنا ابنة علىّ (عليه السلام) لن أسكت، ولن أصبر على الضيم.

لقد رأيتها تمشي وتتكلّم، ولكنّها كانت تعيش بروحها في عالم آخر، تفكّر في الخطوة القادمة والحلقة الاُخرى، واستطاعت أن تهزّ المشاعر، وتثير في نفوس المؤمنين العزم والتصميم على التحرّك وفعل كلّ شيء ثأراً للمرجع المظلوم شهيد السجون السيّد

116

الصدر(رحمه الله)، فكانت التظاهرة الاحتجاجيّة العظيمة التي أرعبت حكّام بغداد الخونة، وجعلتهم في مأزق صعب اضطرّهم إلى الإفراج عن السيّد الشهيد (رحمه الله).

ولكن كيف بدأت هذه الخطوة؟ وكيف استطاعت شهيدتنا العظيمة أن تنجح في الإعداد لتظاهرة في يوم وساعة وظرف تكاد تكون فيه مثل هذه الأعمال مستحيلة، بسبب الوضع الأمنيّ الخانق والطوق الإرهابيّ المفروض على شعبنا؟

حين اعتُقل شهيدنا العظيم في ساعة مبكّرة كان الناس نياماً، والشوارع خالية، ولم يشهد حادث الاعتقال إلّا نفر يسير ممّن وجد صدفةً في ذلك الوقت.

مع ذلك فكّرت شهيدتنا العظيمة بالذهاب إلى الحرم العلويّ الطاهر؛ لإعلام الناس بالحادث، ولكنّها لم تجد العدد المطلوب، فذهبت ثانيةً بعد أن أشرقت الشمس واستيقظ الناس، وهناك عند جدّها أمير المؤمنين علىّ(عليه السلام) علا صوتها الزينبيّ، وبدأت تخاطب جدّها، كما فعلت زينب(عليها السلام) بعد قتل أخيها الحسين بعبارات مؤثِّرة، وكلمات من قلب صادق.

واستطاعت أن تحشّد الناس، وتثير في نفوسهم الغيرة للانتقام من معتقلي المرجع المظلوم.

إلى جانب الشهيدة العظيمة كانت هناك مجموعة من الطلبة والمؤمنين(1) قد هزّهم


(1) وأحدهم السيّد علي أكبر الحائريّ الذي كتب يقول في شرح القِصّة ما يلي:

عند ما اعتُقل السيّد الشهيد(رحمه الله) في ساعة مبكّرة من صباح يوم السابع عشر من رجب سنة (1399 هـ ) كانت الشهيدة (بنت الهدى) أوّل من خرجت لإشاعة هذا النبأ، وكسر طوق التعتيم البعثىّ الذي كانوا يخيّمونه على جرائمهم، فنطقت نطقها صارخة فى حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأدّت دورها البطولىّ الرائع فى إبلاغ خبر اعتقال هذا المرجع العظيم من قبل جلاوزة السلطة الغاشمة، وسرعان ما اشتهر هذا النبأ فى أوساط المؤمنين المخلصين للسيّد الشهيد(رحمه الله) فى النجف الأشرف، وكان الخبر فى بادئ الأمر على شكل شائعة غير مؤكّدة، وكان جلاوزة الأمن واقفين على باب دار السيّد الشهيد يراقبون الأوضاع عن كثب خشية وقوع حادثة أو ردّ فعل معيّن.

وبعد التأكّد من الخبر وقع الاضطراب والبلبلة فى أوساط المؤمنين، وكانت تخيِّم علينا جميعاً حالة التحيّر والشكّ فى الوظيفة العمليّة، رغم إحساس الجميع بضرورة وقوع ردّ فعل جماهيريّ عظيم تجاه هذه الجريمة النكراء التى قامت بها السلطة الظالمة، ولكن كلّ يقول: ماذا نصنع؟ كيف نتحرّك؟ ما هي الوظيفة؟

117

الحدث، ورفعهم الإيمان إلى التحرّك بنفس الاتّجاه، فتجمّعوا في الحرم الشريف، وبدؤوا


ما هو الاُسلوب؟... وأنا بدوري شعرت ـ أيضاً ـ بأنّ هذه ساعة حرجة لابدّ فيها من اتّخاذ موقف سريع، فذهبت مع أحد الإخوة المؤمنين ـ من طلاب السيّد الشهيد(رحمه الله) ـ إلى بيت شخص آخر من زملائنا الأعزاء، فعقدنا هناك اجتماعاً ثلاثيّاً للتخطيط حول ما يجب صنعه فى هذه الساعات الحرجة، فكانت نتيجة هذا الاجتماع هو التصميم القاطع بتنظيم مظاهرة جماهيريّة للاحتجاج على هذه الجريمة النكراء، مع وضع الخطة الكاملة من حيث: تعيين مكان التجمّع، وساعة الانطلاق، وكيفيّة الإعداد. فقد عيّنا الحرم الشريف مكاناً للتجمّع وصمّمنا على الانطلاق من هناك على رأس الساعة العاشرة بعد قراءة دعاء الفرج. وانّما اخترنا دعاء الفرج ضمن الأدعية المأثورة باعتبار أنّ هذا الدعاء ينتهي باسم الإمام الحجّة عجّل الله فرجه، وسيقوم الناس بطبيعتهم احتراماً لاسم الإمام(عليه السلام)، فيكون هذا القيام إعداداً للانطلاق فى المظاهرة، وهكذا كان، فقد خرجت أنا وصاحبى من بيت ثالثنا؛ لنبلّغ المؤمنين بهذا القرار، فمررنا بأكثر المدارس العلميّة فى النجف، وبلّغنا من وجدنا فيها من الطلّاب والمؤمنين، والتقينا بمن التقينا من المؤمنين ـ أيضاً ـ فى الطرق والشوارع، وبلّغناهم بالأمر، ولمّا قرب الموعد ذهبت إلى الحرم الشريف، وانتظرت هناك إلى أن حان الوقت، واجتمع عدد من المؤمنين، ولم أجد صاحبى الذي كنت أتعاون معه فى القضيّة، ولاذاك الثالث الذي انطلق القرار من بيته، فصمّمت على أن أبدأ بالأمر، فشرعت بقراءة دعاء الفرج، وكان الجميع يردّدون معي جملة جملة، إلى أن بلغنا اسم الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه، فقمنا جميعاً إجلالاً له(عليه السلام)، ثُمّ بدأت الشعارات: الله أكبر، الله أكبر، نصر من الله وفتح قريب، عاش عاش عاش الصدر... وانطلقت المظاهرة بركضة سريعة.

وهنا لابدّ لي من الإشارة إلى مشاركة المرأة المسلمة العراقيّة في هذه الانتفاضة، حيث تواجد عدد من المؤمنات الرساليّات في الحرم الشريف، واشتركن في بداية المظاهرة، إلّا أنّ سرعة حركة المظاهرة منعتهنّ عن إمكان الالتحاق بالرجال عند الخروج من الحرم الشريف، فتفرّقن بطبيعة الحال، وتعرّض بعضهنّ إلى المراقبة والملاحقة من قبل أعضاء جهاز الأمن الإرهابيّ في العراق.

ولمّا انطلقت المظاهرة التحق بنا جمع غفير من المؤمنين من خارج الحرم الشريف، وسرعان ما اتّسع العدد ـ أيضاً ـ عند ما دخلت المظاهرة شارع الإمام الصادق(عليه السلام). وحاولت أجهزة الأمن الإرهابيّة بشتّى الأساليب أن تفرّق المتظاهرين منذ خروجهم من الصحن الشريف فلم تستطع، حتّى اقتحمت سيارة الأمن جموع المتظاهرين وهم في شارع الإمام الصادق(عليه السلام)، فلم تحصل إلّا على ضربات قاسية على زجاجها من قبل المتظاهرين.

ثُمّ واصلت المظاهرة طريقها في شارع الإمام الصادق(عليه السلام) إلى أن واجهت قوىً أمنيّة مكثّفة من جهة الأمام، فحرفت مسيرها إلى جهة السوق الكبير من أحد الأزقّة المؤدّية إليه، ولمّا دخلنا السوق وجدنا المحلّات كلَّها معطّلة، فواصلنا السير في داخل السوق إلى أواخر السوق حيث وقع الاشتباك بين المتظاهرين وجهاز الأمن الإرهابيّ، رغم تجرّد المتظاهرين من كلّ سلاح. وتعالت أصوات إطلاق الرصاص من قبل الجلاوزة، ثُمّ رجع المتظاهرون في داخل السوق باتّجاه الحرم الشريف حيث كان الجلاوزة ينتظروننا على مدخل السوق، فاضطررنا الرجوع مرّةً اُخرى من إحدى الأزقّة إلى شارع الإمام الصادق(عليه السلام). وبدأ التفرّق من هناك حيث هرب من هرب، واُلقي القبض على من اُلقي.

ثُمّ بدأت عملية إلقاء القبض على الناس بصورة عشوائيّة في أكثر شوارع النجف الأشرف، ممّا يدلّ على مدى الرعب والوحشة التي ابتلت بها الجلاوزة على أثر هذه المظاهرة.

118

بقراءة دعاء الفرج كاُسلوب للتجمّع والتهيّؤ، وكان الأخ حجّة الإسلام السيّد علي أكبر الحائريّ ـ وهو أحد تلاميذ السيّد الشهيد والمقرّبين إليه ـ هو أوّل من جاء إلى منزل السيّد الشهيد، واستفسر عن حادث الاعتقال، وهو الذي قرأ دعاء الفرج في الحرم الشريف. وبدأ الناس بالتجمّع، وبعد ذلك انطلقوا في تظاهرة، أقول: إنّها عظيمة ليس في كمّها، بل في الآثار التي نتجت منها، وترتّبت عليها، وفي روح التحدّي التي اتّسمت بها.

انطلقت التظاهرة من الحرم الشريف، وبدأت التظاهرة صغيرة، فهي لاتضمّ إلّا الصفوة من أبناء الشهيد الصدر، ولكن سرعان ما كبرت واتّسعت، فقد انضمّ إليها عدد من الناس الذين اتّفق وجودهم هناك، وكانت شعارات المتظاهرين تندّد بالسلطة وأعمالها الإجراميّة، وتطالب بالإفراج عن الشهيد الغالي، (رضوان الله عليه).

 

المواجهة المسلّحة

 

في السوق بدأت أجهزة الأمن محاولتها لتطويق المتظاهرين الأبطال أبناء الصدر الشهيد، وقبل ذلك قام تجّار النجف في السوق الكبير بإغلاق محلّاتهم، بعد أن علموا أنّ التظاهرة حدثت احتجاجاً على اعتقال المرجع المظلوم، وقد عطّلت النجف في ذلك اليوم أسواقها كتعبير عن استيائهم واحتجاجهم على اعتقال السيّد الصدر، (رضوان الله عليه).

في السوق الكبير حاولت قوّات الأمن تطويق المتظاهرين تمهيداً لاعتقالهم، ولكنّهم واجهوا من أبناء الصدر مقاومة شجاعة، حيث اشتبك رجال الأمن والمتظاهرون، وعلى رغم أنّ المتظاهرين لايملكون حتّى أبسط أنواع الأسلحة الناريّة إلّا أنّهم هزموا قوّة الإرهاب بعد أن كبّدوهم عدداً من الجرحى، واستطاع عدد كبير منهم الإفلات من قبضة السلطة المجرمة، في حين تمكّنت بعض مفارز الأمن من اعتقال آخرين.

إلى جانب تظاهرة النجف المتميّزة انطلقت تظاهرات اُخرى في مدينة الكاظميّة المقدّسة والبصرة وديالى وغيرها من مدن العراق الاُخرى.

وهنا يجب أن لاننسى دور بنات الزهراء(عليها السلام)، فقد كانت هناك مجموعة من خيرة

119

المؤمنات قد اشتركن في هذه التظاهرات، على رغم علمهنّ بالعواقب الخطيرة التي تترتّب فيما لو وقعن في قبضة السلطة، وكانت الشهيدة ـ رحمها الله ـ تذكرهنّ بالأسماء باعتزاز وتقدير وإكبار، وهكذا كان شهيدنا الغالي يرفع يديه إلى السماء يدعو الله تعالى لهنّ، ولكلّ المخلصين والمجاهدين الذين وقفوا مع الإسلام في محنته في رجب، وما تلاه من أشهر الحصار والمعاناة.

 

لماذا اُفرج عن شهيدنا الغالي؟

 

قد أشرنا سابقاً: أنّ اعتقال السيّد الشهيد في رجب كان بهدف التصفية الجسديّة، وليس مجرّد التحقيق عن أحداث رجب العظيمة، فقد أكّد سيّدنا الشهيد أنّ كلّ الدلائل كانت تشير إلى ذلك: منها اُسلوب التعامل، الكلمات البذيئة التي يسمعها من هذا وذاك، التهديد القاسي، وغير ذلك.

وحين حضر المجرم فاضل البرّاك، وبدأ باستجواب السيّد كان الجوّ يؤكّد تلك الحقيقة، ولكن بعد ساعة واحدة من بداية التحقيق دخل أحد ضباط الأمن، وسلّم فاضل البرّاك ورقة صغيرة تغيّر بعدها اُسلوب التحقيق، واعتذر البرّاك للسيّد من اعتقاله، وقال له: في الحقيقة لم يكن هدفنا الاعتقال، بل التفاهم في هذه الاُمور التي وقعت، وبدأ يلاطف السيّد الشهيد(رحمه الله).

يقول السيّد الشهيد (رضوان الله عليه): لقد أحسستُ من التغيّر المفاجئ أنّ حدثاً ما قد وقع، ولكن ما هو؟ ولماذا تغيّر الاُسلوب بهذه السرعة؟

لم يُخفِ البرّاك الحقيقة، فقال للسيّد الشهيد: إنّ تظاهرات كبيرةً جدّاً في النجف والكاظميّة قد خرجت احتجاجاً على اعتقالكم، في حين حقيقة الأمر أنّ مجيئكم إلى هنا لم يكن اعتقالاً، وإنّما وقع اشتباه من قبل الرفيق (أبو سعد) حيث فسّر طلبنا بالاجتماع بكم بالاعتقال، في حين نحن لم نقصد ذلك، وأنت الآن حرّ في البقاء أو الذهاب. ثُمَّ قال: ولأجل أن نبرهن لكم عن حسن نيّاتنا فإنّكم ستذهبون إلى النجف بسيّارتي الخاصّة.

120

نعم، إنّ التظاهرات التي نظّمها أبناء الصدر الشهيد كانت السبب في الإفراج عن السيّد الشهيد، ولولاها لنُفّذت جريمة الإعدام في ذلك التأريخ.

لقد أفادتنا مصادر قريبة من بعض رجال السلطة أنّ برقيّة اُرسلت من النجف إلى المقبور أحمد حسن البكر، أكّدت له خطورة الوضع في النجف، والعواقب التي ستترتّب على استمرار اعتقال السيّد الصدر، وأشارت إلى تظاهرة النجف، وتعطيل الأسواق فيها، إلى غير ذلك. وعلى أثر هذه البرقيّة تراجعت السلطة مرغمة، وأفرجت عن السيّد الشهيد.

مساعد مدير الشعبة الخامسة في مديريّة الأمن قال لبعض من يخصّ السيّد الشهيد: ليعلم السيّد محمّد باقر الصدر أنّه إذا كانت الظروف لاتسمح فعلاً بإعدامه، فإنّنا نعرف كيف ننتقم من أنصاره وأتباعه، ونجعله مقصوص الجناحين.

إنّ السيّد علي بدرالدين نقل للسيّد الشهيد خلال فترة الحجز تفاصيل الوضع عن أحداث رجب في داخل ما يسمّى بالقيادة، حيث كانت له صلات صداقة مع بعضهم، وقال: إنّ (القادة) أرعبتهم هذه التظاهرات، وأدهشتهم جرأة المتظاهرين، والروح العالية التي جعلتهم يتجاهلون وحشيّة السلطة، وإجراءاتها القاسية.

حين أراد شهيدنا العظيم مغادرة مديريّة الأمن وجد أنّ السلطة قد احتجزت مرافقيه، وهما: الأخ الشيخ طالب الشطريّ، والأخ السيّد محمود الخطيب، حيث كانا قد رافقا السيّد الشهيد إلى بغداد، فرفض (رحمه الله) الذهاب إلّا بعد الإفراج عنهما، والسماح لهما بالعودة إلى النجف، فقال مدير الشعبة الخامسة المجرم أبو أسماء: سيّدنا بعد ساعات يطلق سراحهما، والمسألة مجرّد إجراءات روتينيّة. ولكن السيّد الشهيد رفض ذلك، وأصرّ على الإفراج عنهما، وفعلاً عاد السيّد الشهيد، وعادا معه أيضاً.

حين اعتُقل السيّد الشهيد اتّصل أحد المؤمنين(...) هاتفيّاً بأحد المسؤولين في الجمهوريّة الإسلاميّة، وأطلعه على قضيّة اعتقال السيّد الشهيد، والأوضاع المتأزّمة والخطيرة التي تحيط به، وما يتهدّد شهيدنا الغالي من أخطار، وقد أعلنت إذاعة الجمهوريّة الإسلاميّة (القسم الفارسيّ) خبر اعتقال السيّد الشهيد، وشهيدُنا العظيم مازال في الطريق متّجهاً إلى بغداد.

121

كيف بدأ الاحتجاز؟

 

قد ذكرنا سابقاً: لم يكن الإفراج عن السيّد الشهيد قد حصل باختيار السلطة وإرادتها، أو أنّ الحسابات قد صفّيت معه، بل الضرورة والظروف المعقّدة أجبرتهم على امتصاص جزء من غضب الجماهير المسلمة الثائرة حتّى حين، وذلك بالإفراج عن سيّدنا الشهيد الصدر.

ولنترك السلطة والإجراءات التي تعتزم اتّخاذها ضدّ شهيدنا العظيم؛ لنتعرّف انطباعات السيّد الشهيد عن هذا الموضوع، وما لمسه منهم في مديريّة الأمن العامّة:

قال لي(رحمه الله): كنت واثقاً بأنّ السلطة تعتزم إعدامي، وكانت مجريات التحقيق تدلّ على ذلك، وخاصّةً التأكيد على نوع وحجم الصلة والعلاقة بالسيّد الخمينيّ دام ظلّه، وتفسيرهم لها تفسيراً سياسيّاً، أو (تآمراً) للإطاحة بالسلطة البعثيّة العميلة، ومن الطبيعيّ ـ في قوانين البعث ـ أن ينال الإعدام كلّ من يُتّهم بهذه التهمة.

قال المجرم البّراك مخاطباً السيّد الشهيد: لو كان أحد غيرك ـ ومهما كان ـ لنفّذنا فيه عقوبة الإعدام، ولكن لاعتبارات خاصّة تتريّث القيادة في اتّخاذ قرار الإعدام.

هذا الكلام أو نظيره سمعه السيّد الشهيد منهم مرّات عديدة خلال فترة اعتقاله في شهر رجب، ولم يكن يخفى على شهيدنا العظيم مغزاه، إذن فالإعدام هو القرار الذي كانت تفكّر به السلطة؛ لحسم الثورة وقائدها العظيم.

ولم يكن السيّد الشهيد (رحمه الله) يخشى هذا المصير، وهذه هي النقطة المهمّة، فالسيّد الشهيد(رحمه الله) كان يتمنّى الاستشهاد في سبيل الله، بسبب قناعته بأنّ أهمّ عنصر لنجاح الثورة الإسلاميّة في العراق هو أن يراق دمه الزكيّ؛ لتبقى الشعلة التي تنير الطريق، ويؤجّج الحماس في نفوس العراقيّين للإطاحة بسلطة البعث العفلقيّة، وهو القائل: «إنّ العراق بحاجة إلى دم كدمي».

وعلى هذا الأساس صمّم السيّد الشهيد على أن يبدأ مرحلة جديدة من التعامل مع السلطة تناسب المرحلة الجديدة للثورة، وهذا ما حدث، وأحسّت به السلطة خلال

122

اعتقاله واستجوابه في شهر رجب.

فمثلاً: حين جاء مدير أمن النجف الأشرف مع أكثر من أربع مئة من أزلامه وأعوانه لاعتقال شهيدنا العظيم، واجهه السيّد الشهيد مواجهة عنيفة. وفي مديريّة الأمن كان يرفض ويمتنع من الإجابة عن بعض الأسئلة على رغم إصرار البرّاك مدير الأمن العامّ وتهديده له بالإعدام إذا لم يقنع (القيادة السياسيّة) بإجابة وافية وكاملة عنها. وكان شهيدنا المظلوم يقول: «كنت قد هيّأتُ نفسي للاستشهاد، فلااُبالي أوقع الموت علىّ أم وقعت على الموت».

بعد الإفراج عن السيّد الشهيد إثر التظاهرات الاحتجاجيّة التي خرجت في النجف والكاظميّة والثورة والخالص وغيرها أخبرته بأنّ المؤمنين حين علموا باعتقالكم خرجوا في تظاهرات احتجاجاً على اعتقالكم، واستطاعت السلطة أن تعتقل عدداً منهم، وتزجّهم في السجون... فتأثّر السيّد الشهيد كثيراً، فأمر أحد الأشخاص القريبين منه أن يتّصل هاتفيّاً بمدير الأمن العامّ، ويبلغه: أنّ السيّد الصدر يطالب بالإفراج عن جميع المعتقلين دون استثناء، وإلّا فالسيّد الصدر سوف يغلق داره، ويمتنع عن العودة إلى حياته الاعتياديّة احتجاجاً على ذلك. بعد هذا الاتّصال طلب البرّاك فترة قصيرة ليبلغ (القيادة) بالموضوع، وبعد ذلك سيبلغ السيّد الصدر بالجواب، وقال: أنا أتوقّع خيراً إن شاء الله.

وقبل أن نتعرّف جواب (القيادة) يجب أن نشير إلى أنّ عدداً من قوّات الإرهاب في النجف قد قُتلوا أو جُرحوا على أيدي المؤمنين المتظاهرين، فكان من الصعب على السلطة أن تغضّ النظر عن ذلك، فالتغاضي سيشجّع المؤمنين على أعمال أكثر جرأة وشجاعة هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّ تهديد السيّد الصدر لهم بإغلاق داره يشكّل خطورة اُخرى أعظم من سابقتها، خاصّة وإنّ الاُمور ما زالت غامضة ومجهولة عن حجم التحرّك الثوريّ في رجب؛ لذلك كان جواب مدير الأمن العامّ إيجابيّاً، فقد اتّصل هاتفيّاً، وأبلغ السيّد الشهيد: أنّ (القيادة) قرّرت الإفراج عن جميع المعتقلين.

أمّا الواقع فلم يكن كذلك: فالذي ظهر فيما بعد هو: أنّ السلطة العفلقيّة أرادت أن تناور كعادتها، ففي الوقت الذي (تقنع) السيّد الصدر بالعودة إلى حياته الطبيعيّة تقوم بالإفراج