261

 

قبح الفعل المتجرّى به

 

المقام الثاني: قبح الفعل المتجرّى به وعدمه. وهناك جهتان من البحث:

إحداهما: في مقابل الشيخ الأعظم(قدس سره) المنكر للقبح، وأنّه لا يوجد في المقام شيء عدا سوء سريرة العبد لا قبح فعله.

والثانية: في قبال المحقّق النائينىّ(رحمه الله) الذي سلّم بالقبح على ما في تقرير المحقّق الكاظمىّ(رحمه الله)، وقال: إنّه قبح فاعلىّ، وليس قبحاً فعليّاً.

 

مع المنكرين للقبح

أمّا الجهة الاُولى: فتحقيق الكلام في ذلك: أنّ في موارد استحقاق المولى ـ عزّ اسمه ـ على عبده الطاعة عنصرين: عنصر الحكم الإلزامىّ، وعنصر الوصول بمرتبة من مراتب الوصول المنجّزة. فما هو مصبّ حقّ الطاعة من هذين العنصرين؟

يبدو أوّل وهلة في النظر أربعة احتمالات:

1 ـ أن يكون مصبّه العنصر الأوّل، بمعنى: أنّ من حقّ المولى على العباد إطاعة حكمه الإلزامىّ سواء وصل أو لا.

2 ـ أن يكون مصبّه العنصر الثاني، بمعنى: أنّ من حقّ المولى على العباد إطاعة ما وصل إليهم من حكمه ولو كان الوصول خاطئاً: بأن لم يكن هناك حكم إلزامىّ في الواقع.

3 ـ أن يكون مصبّه مجموع العنصرين، أو قل: الحكم الواقعىّ الواصل.

4 ـ أن يكون مصبّه كلا العنصرين، أي: إنّ صدور الحكم وحده موجب لحقّ الطاعة ولو لم يصل، والوصول وحده موجب لحقّ الطاعة ولو لم يطابق الواقع.

 


التنجيز، وعدمه بواقعه يساوق التعذير، إذن فالتنجيز والتعذير هنا يدوران مدار الواقع، ولا معنىً للحجّيّة الظاهريّة.

262

ويمكن حصر الأمر بعد شيء من التأمّل في احتمالين: الثاني والثالث؛ وذلك بأن يقال: ما معنى كون العنصر الأوّل وهو صدور الحكم بلا وصول كافياً لتنجّز حقّ الطاعة؟ إن قصد بذلك أنّ ثبوت الحكم واقعاً حتّى مع العلم بالخلاف يوجب الطاعة على العبد، فهذا بديهىّ البطلان، وإن قصد بذلك أنّ صدوره عند وصوله الاحتمالىّ يوجب الطاعة، فهذا بناءً على الإيمان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان باطل، وبناءً على عدم الإيمان بها راجع إلى الاحتمال الثالث؛ إذ معناه كون مصبّ الطاعة صدور الحكم مع مرتبة من الوصول منجّزة منضمّاً إلى الإيمان بأنّ مرتبة الوصول الاحتمالىّ منجّزة كما هو المفروض بناءً على إنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان. إذن فالعنصر الأوّل وحده لا يمكن أن يكون مصبّاً لحقّ الطاعة، وبهذا يسقط الاحتمال الأوّل والرابع.

وبإمكانك أن تقول في مقام التعليق على الاحتمال الرابع: إنّه لو قصد بذلك أن يكون للمولى حقّان: حقّ امتثال الواقع ولو لم يصل، وحقّ امتثال الواصل ولو لم يطابق الواقع، لزم من ذلك اجتماع حقّين للمولى في فرض ثبوت الواقع مع الوصول، وكون العاصي ـ عندئذ ـ معاقباً بعقابين، وهذا غير محتمل(1).

ولو قصد بذلك أنّ للمولى حقّاً واحداً له عرض عريض: بأن يكون حقّ المولى هو الجامع بين الأمرين بناءً على تصوير الجامع بينهما.

قلنا ـ بعد وضوح ضرورة استثناء الواقع المقطوع بخلافه لبداهة عدم استحقاق الطاعة فيه ـ: إنّ ثبوت حقّ الطاعة في الواقع ولو لم يصل ـ بشرط عدم القطع بالخلاف ـ وفي الواصل ولو كان على خلاف الواقع مرجعه إلى الاحتمال الثاني، وهو كون مصبّ حقّ الطاعة هو الحكم الواصل بمرتبة التنجيز ولو كان على خلاف الواقع مع توسيع دائرة الوصول المنجّز بحيث يشمل الوصول الاحتمالىّ.

وعلى أىّ حال، فإذا دار الأمر بين احتمالين وهما الثاني والثالث، فقد يقال: إنّ الصحيح هو الاحتمال الثالث، بمعنى: أنّ حقّ الطاعة للمولى تعلّق بحكمه الواقعىّ الواصل


(1) سيأتي في أوّل تعليق نذكره بعد هذا ما يكون تعليقاً على هذا الكلام.

263

بمرتبة من مراتب الوصول، ولا حقّ له حينما لا يوجد حكم في الواقع، وذلك قياساً لحقّ المولى بسائر حقوق الناس، فكما أنّ من الواضح في حقّ الملكيّة الذي هو حقّ عقلائىّ، وحقّ عدم الإيذاء والقتل مثلاً: أنّ من تصرّف فيما اعتقد كونه ملكاً لزيد، ثُمّ تبيّن أنّه كان مملوكاً له، ولم يكن ملك زيد، أو قتل من اعتقد زيداً، ثُمّ تبيّن أنّه شخص آخر مهدور الدم مثلاً، لم يصدر عنه ما يهدر حقّاً من حقوق زيد إطلاقاً، ولم يكن ظالماً له. فحقّ زيد يدور مدار واقع ملكه، أو واقع حياته، وليس من حقّه ترك التصرّف فيما اعتقدنا خطأً أنّه ملكه، أو ترك قتل من اعتقدنا خطأً أنّه هو، فكذلك الحال بالنسبة إلى المولى تعالى، فحقّه يدور مدار واقع حكمه بشرط الوصول بمرتبة من المراتب. أمّا إذا لم يكن حكم في الواقع، وكان الوصول خطاءً محضاً، فليس له حقّ الطاعة، وبهذا يثبت أنّ الفعل المتجرّى به ليس قبيحاً.

ولكن الواقع: أنّ الصحيح هو الاحتمال الثاني، وليس الثالث، وأنّ قياس المقام بالحقوق الاُخرى قياس مع الفارق؛ وذلك لأنّ حقّ طاعة المولى ليس بملاك غرض المولى وحاجة يحتاجها بنحو يقبل انكشاف الخلاف نظير ما بين الناس من الحقوق، بل إنّما هو بملاك احترام المولى وإجلاله وعدم التوهين بشأنه، والمعصية والتجرّي متساويان في مرتبة مخالفة الاحترام، وعليه فمصبّ حقّ الطاعة إنّما هو الحكم الواصل بمرتبة منجّزة سواء كان ثابتاً في الواقع أو لا، فالتجرّي قبيح كالمعصية(1).

 


(1) أقول لا إشكال في أنّ أمر المولى ينشأ من غرض ما، وعندئذ لا يبعد القول بأنّ العقل يحكم بأنّ للمولى حقّ تحقيق غرضه كما أنّ له حقّ الاحترام. وفي مورد المعصيّة قد خولف كلا الحقّين، وفي مورد التجرّي خولف حقّ واحد، وهو حقّ الاحترام.

وبكلمة اُخرى: أنّ العنصر الثاني وهو مجرّد الوصول ولو خطأً مصبّ لحقّ الطاعة بملاك الاحترام، والعنصر الأوّل وهو عنصر الحكم الإلزامىّ بشرط مستوى من مستويات الوصول مصبّ لحقّ الطاعة بملاك تحصيل غرض المولى.

وبتعبير آخر: أنّ الاحتمال الثاني والثالث كلّ منهما مستقلّاً وبعنوانه صحيح. وما يلزم من ذلك من أشدّيّة العاصي من المتجرّي في استحقاق العقاب لا نتحاشى عنه، ولا نراه خلاف الوجدان، وإنّما الذي يكون خلاف الوجدان هو أشدّيّة وضع العاصي من المتجرّي أمام محكمة الوجدان وذمّ العقل، ونحن لا نقول بأنّ ذمّ المولى عقابه كي يسري حكم الوجدان بعدم كون العاصي أشدّ حالاً من المتجرّي في ذلك إلى مسألة العقاب.

264

وما ذكرناه واضح بناءً على أنّ قبح المعصية ـ الثابت بنفس مولويّة المولى كما هو الحقّ، أو بقاعدة قبح الظلم كما هو مبنى القوم ـ أمر واقعىّ يدرك بالعقل العملىّ.

أمّا لو قلنا بأنّ قبحها حكم عقلائىّ مجعول من قبل العقلاء تحفّظاً على النظام الاجتماعىّ، ولا واقع لباب الحسن والقبح وراء جعل العقلاء التابع لما يرونه من مصالح ومفاسد، فالالتزام بثبوت هذا الحكم العقلائىّ قد يرد عليه ما مضى في مسألة الحرمة: من إشكال عدم المحرّكيّة، أي: إنّ هذا الإشكال لو تمّ هناك تمّ هنا أيضاً، فيقال: إنّ المتجرّي الذي يعتقد كون عمله معصية وقبيحاً عند العقلاء لو لم يردعه هذا القبح المعتقد لا يردعه قبح التجرّي المفروض جعله من قبل العقلاء.

ومن هنا ظهر ما في كلام المحقّق الإصفهانىّ (رحمه الله) حيث يرى في بحث الحرمة أنّ حرمة التجرّي لغو؛ لعدم المحرّكيّة؛ إذ من لم تردعه حرمة الفعل التي اعتقد بها خطأً لا تردعه


ولايلزم ممّا ذكرناه من فرض حقّين للمولى ـ حقّ الاحترام، وحقّ تحصيل الطاعة بملاك تحصيل الغرض ـ أن يكون العاصي أشدّ حالاً أمام ذمّ العقل ولوم الوجدان كي يقال: إنّ هذا خلاف الوجدان.

وتوضيح ذلك: أنّ لوم الوجدان أو قل ذمّ العقل لا يتبع الحقّ الواقعىّ لشخص ما، بل هو تابع لوصول الحقّ ولو خطأً، فمن قتل شخصاً باعتقاده فلاناً من الناس الذي لا يجوز قتله، ثُمّ تبيّن له أنّ قتله كان حقّاً له؛ لأنّ المقتول كان قاتلاً لأبيه، فكان من حقّه القصاص، فهذا الإنسان على الرغم من أنّه لم يخالف حقّاً واقعيّاً للمقتول يكون ملوماً لدى الوجدان حتّى بعد انكشاف الواقع؛ لأنّه حينما قتله كان يعتقد ولو خطاءً أنّه ليس من حقّه قتله، هذا ما ندّعيه بالوجدان، وليس بالإمكان إقامة برهان على ذلك.

وبناءً عليه يكون المتجرّي والعاصي متساويين أمام محكمة الوجدان على الرغم من أنّ العاصي خالف حقّين للمولى، والمتجرّي خالف حقّاً واحداً له؛ وذلك لأنّ المتجرّي حين التجرّي كان يعتقد أنّ عمله كان معصية للمولى ومخالفة لحقّ طاعة الحكم الواقعىّ له، فهو ملوم لدى الوجدان على هذا العمل لهذه النكتة حتّى بعد انكشاف الخلاف.

أمّا لو لم نقبل ملامة الوجدان لمن يخالف باعتقاده حقّ أحد بعد أن ينكشف خطأ الاعتقاد، وقلنا: إنّ الوجدان المطّلع على حقيقة الأمر لا يلوم هذا الإنسان، فلازم ذلك بناءً على ما اخترنا: من ثبوت حقّين للمولى ـ (حقّ الاحترام، وحقّ تحصيل الغرض المطلوب) ـ عدم مساواة العاصي والمتجرّي أمام محكمة الوجدان. وهذه النتيجة الواضحة البطلان قد تسرّب البطلان إليها من المقدّمة الاُولى، وهي إنكار ملامة الوجدان عند انكشاف عدم الحقّ واقعاً، لا من المقدّمة الثانية، وهي فرض تعلّق حقّ للمولى بتحصيل غرضه. وعلى تقدير عدم حكم الوجدان باللوم عند انكشاف عدم الحقّ لا يحكم الوجدان بمساواة العاصي والمتجرّي في الذمّ والملامة.

265

حرمة التجرّي، ومع ذلك التزم في المقام بقبح التجرّي على الرغم من أنّه يرجع باب الحسن والقبح إلى المجعولات العقلائيّة.

ودليله على إرجاع باب الحسن والقبح إلى المجعولات العقلائيّة، واعتبارهما من المشهورات لا من الضرورات العقليّة: أنّ الضرورات العقليّة منحصرة في ستّة اُمور: الأوّليّات: وهي التي يكفي تصوّر طرفيها مع تصوّر النسبة بينهما في الجزم بها كقولنا: الكلّ أعظم من الجزء. والفطريات: وهي الّتي قياسها معها كقولنا: الأربعة زوج، فهذا الكلام قياسه معه، وهو كون الأربعة منقسمة إلى متساويين. والمتواترات: وهي القضايا المخبر بها بأخبار كثيرة حسيّة توجب القطع كقولنا مكة موجودة. والحسيّات، والتجريبيّات، والحدسيّات، في حين أنّ حسن العدل وقبح الظلم ليسا من الأوليّات؛ لأنّ تصوّر الطرفين مع النسبة لا يكفي في الجزم ولا من الفطريّات؛ إذ ليس معها قياس يدلّ عليها، ولا من المتواترات؛ إذ ليس مصدر العلم بها إخبارات حسيّة كثيرة، ولا من المحسوسات، أو التجريبيّات، أو الحدسيّات كما هو واضح، إذن ليس الحسن والقبح من الضروريّات(1).

ويرد عليه: أنّ انحصار الضروريّات في هذه الاُمور الستّة ليس داخلاً في هذه الاُمور؛ إذ ليس هو أوّليّاً؛ لعدم كفاية تصوّر طرفيه مع تصوّر النسبة للجزم به، ولا فطريّاً؛ لعدم كون قياسه معه، ولا متواتراً؛ لعدم إخبار جماعة كثيرة به عن حسّ، ولا من المحسوسات، أو التجريبيّات أو الحدسيّات كما هو واضح. وإنّما هو حكم استقرائىّ. وهذا الاستقراء موقوف على تسليم عدم كون باب حسن العدل وقبح الظلم ـ مثلاً ـ من الضروريّات العقليّة، إذن فلا يمكن الاستدلال على عدم ضروريّة الحسن والقبح بعدم دخولها في الضروريّات الستّ؛ فإنّ هذا البرهان دورىّ(2).

 


(1) راجع نهاية الدراية ج 2 ص 8.

(2) بإمكان المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) أن يقول: إنّ ضروريّة القضيّة إمّا أن تكون بمعنى كفاية تصوّر أطرافها للتصديق بها، أو بمعنى وضوح برهانها بحيث تعتبر القضيّة قياسها معها، والحسّيّات والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات كلّها راجعة إلى ما يكون قياسه معه. والقياس المتدخّل في هذه الاُمور هو ما يعتقدون به من قانون: أنّ الصدفة لا تكون أكثريّة، وبما أنّ حسن الشيء أو قبحه ليس من الاُمور التي يكفي تصوّر أطرافها للتصديق

266

وعلى أىّ حال، فالصحيح هو كون قبح مخالفة المولى ثابتاً بنفس مولويّة المولى، وكونه أمراً واقعيّاً يدركه العقل، وليس حكماً مجعولاً للعقلاء. وعليه فلا إشكال في أنّ الفعل المتجرّى به قبيح بعنوانه الثانوىّ، وهو التجرّي بالبيان الذي عرفت.

بقي الكلام فيما استدلّ به المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) على عدم قبح الفعل المتجرّى به حيث ذكر لذلك وجوهاً ثلاثة برهانيّة ووجهاً آخر وجدانيّاً، ويمكن صياغته بشكل فنّيّ، فهذه وجوه أربعة:

الوجه الأوّل: أنّ الحسن والقبح من صفات الأفعال الاختياريّة، والمتجرّي لم يصدر عنه فعل اختيارىّ قابل للتوصيف بالقبح؛ فإنّ العنوان الذي يتصوّر في المقام كونه منشأً للقبح هو عنوان شرب مقطوع الحرمة مثلاً، ولكنّه لم يكن مريداً لهذا العنوان، فهذا العنوان ليس اختياريّاً له.

والجواب عن ذلك ما حقّقناه في بحث الطلب والإرادة: من أنّ اختياريّة الفعل ـ بالمعنى الذي يكون موضوعاً للأحكام العقليّة من الحسن والقبح واستحقاق الثواب والعقاب وغير ذلك ـ ليس هو تعلّق الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد، بل هو السلطنة، بمعنى: أنّ له أن يفعل وله أن لا يفعل، وهي متقوّمة بالقدرة والالتفات.

فإذا حصلت القدرة والالتفات، فقد تحقّق الاختيار، وهما حاصلان في المقام. أمّا


بها، ولا نمتلك قياساً حاضراً معه، فلا محالة نحتاج إلى برهان خارجىّ عليه.

فإن لم يكن في المقام برهان من هذا القبيل، فلا محالة نذهب إلى القول بأنّ الحسن والقبح من القضايا المشهورة لا اليقينيّة. فإن كان هذا هو واقع مقصود المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله)، لم يرد عليه الإشكال بكون حصر الضروريّة في الاُمور الستّة ليس من الاُمور الستّة. نعم، يرد عليه: منع عدم كون الحسن والقبح في كثير من الاُمور من الأوّليّات.

فصحيح أنّنا لا نقبل قانون حسن العدل وقبح الظلم؛ لرجوعهما إلى القضيّة بشرط المحمول، ولكنّا نرى أنّ حسن كثير من الاُمور وقبح كثير منها من الأوّليّات، أي: إنّه يكفي تصوّر الأطراف للجزم بالحسن والقبح وإن أنكره بعض الناس؛ لشبهة حصلت له، أو لما ذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) خارج الدرس: من أنّ بالإمكان ثبوتاً أن تكون في الإنسان قوّة تسمّى بالعقل العملىّ تدرك بعض الأشياء كقبح الظلم، ولكنّها بحاجة إلى إعدادات ومقدّمات لابدّ من طيّها كي توجد تلك القوّة المدركة، كما في الحواس الظاهريّة المدركة لبعض الأشياء الحاصلة بعد استكمال النطفة للإعدادات والمقدّمات.

267

الإرادة فلا دخل لها في الاختيار. نعم، لو سمّيت الإرادة اختياراً كمصطلح، لانناقش في ذلك، فلامشاحّة في الاصطلاح، ولكن المهم أنّ مناط الأحكام العقليّة ـ كالحسن والقبح، أو استحقاق المدح والذم ـ هو الاختيار المتقوّم بالقدرة والالتفات، أمّا الإرادة فهي أجنبيّة عنه على ما برهنّا عليه في بحث الطلب والإرادة.

وقد أورد المحقّق الإصفهانىّ (رحمه الله) نقضين على دخل إراديّة الفعل في الاختيار، وأجاب عنهما(1):

النقض الأوّل: أنّه لو شرب الخمر عالماً، لكن لا للشوق إلى شرب الخمر، بل بقصد التبريد مثلاً، فهنا لا إشكال في قبح فعله، وكونه معاقباً على شرب الخمر، وصدور ذلك عنه اختياراً، في حين لم يكن هو مريداً لهذا العنوان ومشتاقاً إليه.

وأجاب عن ذلك بأنّ شرب الخمر أصبح مقدّمة للتبريد، ومن اشتاق إلى شيء اشتاق بالتبع إلى مقدّمته، فهو مريد لشرب الخمر.

وما نحن فيه ليس من هذا القبيل؛ فشوقه لم يكن متعلّقاً بشرب مقطوع الحرمة.

النقض الثاني: أنّه لو اشتاق إلى الجامع بين الحرام وغير الحرام كما لو احتاجت معدته إلى جامع المائع، فشرب الخمر عمداً لا بشوق منه وإرادة لهذا العنوان، بل بشوق منه وإرادة لشرب جامع المائع، فلا إشكال في قبح ما صدر عنه من شرب الخمر واختياريّته واستحقاقه للعقوبة عليه مع أنّ إرادته لم تتعلّق بذلك، وإنّما تعلّقت بشرب المائع. ولا يأتي على هذا النقض الجواب السابق؛ لانتفاء المقدّميّة في المقام.

وأجاب المحقّق الإصفهانىّ (رضوان الله عليه) عن ذلك بأنّه لو لم تتعلّق إرادته وشوقه بهذه الحصّة، لكان ترجيحها على حصّة اُخرى ترجيحاً بلامرجّح، وهو مستحيل، إذن هو يقصد الخصوصيّة ـ أيضاً ـ لا صرف الجامع.

وجواب المحقّق الإصفهانىّ عن النقض الأوّل في الحقيقة تصعيد لذاك النقض إلى مستوى النقض الثاني؛ إذ يثبت أنّ من قصد التبريد ـ مثلاً ـ قصد مقدّمته، ومقدّمته عبارة


(1) راجع نهاية الدراية ج 2 ص 9، 10.

268

عن الجامع بين شرب الخمر وشرب الماء، إذن فقد اشتاق إلى الجامع، واختار عملاً أحد فرديه. فإذا رجع النقض الأوّل إلى النقض الثاني، جاء جواب النقض الثاني.

وكلام المحقّق الإصفهانىّ في الجواب عن النقض الثاني إنّما يتمّ على مذهب الفلاسفة الذين طبّقوا قانون العلّة والمعلول على باب الأفعال الاختياريّة للفاعل.

ولو سلّمنا ذلك، أمكن ـ على رغم هذا ـ توجيه النقض إلى المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)بفرض أنّه إنّما اختار شرب الخمر لا لشوق إلى هذه الحصّة، بل لفقدان الحصّة الاُخرى، كما لو لم يكن لديه ماء، أو لمرجّح فيها يلازم هذا العنوان، كما لو كان الخمر في إناء نظيف، والماء في إناء وسخ، فقدّم شرب الخمر على شرب الماء؛ لنظافة الإناء على الرغم من أنّه لا اشتياق له إلى شرب الخمر، بل ربّما يكرهه، إذن فالنقض الثاني يتمّ إيراده على المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ولو بشيء من التعديل، وكذلك النقض الأوّل ـ أيضاً ـ يمكن إيراده بشيء من التعديل؛ وذلك لأنّ المفروض في النقض الأوّل كان عبارة عن كون العنوان المقصود حلالاً معلولاً للحرام، فأجاب عن النقض بأنّ الحرام مقصود مقدّمة وبالتبع، والآن لنفرض العكس: بأن كان العنوان المقصود حلالاً علّة للحرام، فليس الحرام مقصوداً لا بذاته ولا بالتبع؛ إذ ليس من اشتاق إلى العلّة فقد اشتاق إلى المعلول، ومثاله: ما لو أراد الشخص إنارة الكهرباء وسلكها متّصل بيد مؤمن، فإنارتها علّة لقتله، لكن المنير لا يقصد قتل المؤمن، وإنّما يقصد إنارة الكهرباء، وهو عالم بما يترتّب عليه من قتل المؤمن، فإنّه لا إشكال في ترتّب تمام آثار القتل الاختيارىّ عليه، في حين لم يكن الشوق متعلّقاً بذلك(1).

وقد يجاب عن كلّ هذه النقوض بدعوى أنّ إرادة أحد المتلازمين تلازم إرادة المتلازم الآخر، ففي كلّ موارد النقض قد أراد الحرام؛ لأنّه أراد ما يلازمه، وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ


(1) أقول: إنّ النقض الثاني حتّى بعد تعديله يمكن الجواب عنه بما هو الحقّ عندنا وعند اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)كما ذكره في مبحث اجتماع الأمر والنهي: من أنّ حبّ الجامع يستلزم حبّ كلّ من الفردين على تقدير عدم الفرد الآخر، فهو حينما أحبّ جامع شرب المائع، ولم يكن كارهاً لشرب الخمر بدرجة تغلب هذا الحب ـ وإلّا لما كان يشرب حتّى لو لم يجد الماء ـ إذن فقد ثبت أنّه يحبّ تحقّق شرب الخمر على تقدير عدم تحقّق شرب الماء لأىّ سبب من الأسباب: من عدم وجدانه، أو وساخة الظرف، أو أىّ شيء آخر، إذن فقد صدر عنه عنوان شرب الخمر بالشوق والإرادة. نعم، النقض الأوّل بعد تعديله الذي مضى لا يرد عليه هذا الجواب.

269

عنوان مقطوع الحرمة لم يكن مراداً بذاته، ولا بلحاظ تلازمه مع المراد؛ فإنّ المراد كان هو شرب الخمر مثلاً، ولاإشكال في أنّ شرب الخمر ملازم لشرب مقطوع الحرمة، لكن تلك الحصّة من شرب مقطوع الحرمة الملازمة لشرب الخمر لم تتحقّق؛ لعدم تحقّق شرب الخمر، والحصّة التي تحقّقت لا تلازم شرب الخمر.

ويرد عليه: أنّ استلزام إرادة الشيء ـ بمعنى الشوق المؤكّد ـ لإرادة ما يلازمه ممّا لا يكون مقدّمة له ممنوع؛ فإنّ الإرادة إنّما تنشأ من ملاك في المراد، وذلك غير موجود في ملازمه. وليس حال الإرادة التكوينيّة في ذلك إلّا كحال الإرادة التشريعيّة التي أنكر صاحب الكفاية(رحمه الله) في المجلّد الأوّل من كفايته الملازمة فيها بين المتلازمين.

على أنّه لو تمّ هذا، فهو لا ينفع المحقّق الخراسانىّ في المقام، لا في موارد الشبهة الحكميّة، ولا في موارد الشبهة الموضوعيّة: ففي موارد الشبهة الحكميّة قد أراد ما يلازم شرب مقطوع الحرمة، فمن شرب التتن قاطعاً بحرمته وهو غير محرّم واقعاً، فقد أراد شرب التتن الملازم لشرب مقطوع الحرمة، فبناءً على التلازم في الإرادة بين المتلازمين قد أراد شرب مقطوع الحرمة.

نعم، في الشبهة الموضوعيّة بناءً على عدم صدور فعل اختياريّ عنه أصلاً لم يرد ما يلازم شرب مقطوع الحرمة. أمّا لو سلّمنا بصدور فعل اختيارىّ عنه، فذاك الفعل الاختيارىّ أيّاً كان ملازم لشرب مقطوع الحرمة، إذن فتتوقّف تماميّة هذا الوجه لإثبات عدم قبح الفعل المتجرّى به على القول بعدم صدور فعل اختيارىّ عنه أصلاً، في حين قد جعل صاحب الكفاية دعوى عدم صدور فعل اختياريّ عنه أصلاً في الشبهات الموضوعيّة وجهاً مستقلّاً لإثبات عدم القبح منفصلاً عن هذا الوجه(1).

وهنا إشكال آخر يرد على المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)، وهو: أنّ برهانه الذي مضى لإثبات


(1) لم يذكر صاحب الكفاية(رحمه الله) ذلك كوجه مستقلّ لإثبات عدم قبح الفعل المتجرّى به، وإنّما ذكره في سياق آخر وإن أمكننا صوغ برهان منه على مدّعاه من عدم القبح. فالاُولى في تتميم الإشكال في المقام على صاحب الكفاية بلحاظ الشبهات الموضوعيّة إنّما هو الإصرار على صدور فعل اختيارىّ عنه على رغم كون الشبهة موضوعيّة على ما سيتّضح ـ إن شاء الله ـ في بحث الوجه الثالث من وجوه إثبات عدم قبح الفعل المتجرّى به.

270

عدم قبح الفعل المتجرّى به (من أنّه لم يرد شرب مقطوع الحرمة) أخصّ من المدّعى؛ إذ قد يتّفق للشارب الشوق إلى شرب مقطوع الحرمة أيضاً.

الوجه الثاني: ما جعله المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) وجهاً غالبيّاً: وهو أنّ القاطع لا يلتفت غالباً إلّا إلى الواقع الذي قطع به، وأراده بعنوانه، أمّا عنوان كونه مقطوع الحرمة، فهو عنوان آلىّ، وغير ملتفت إليه غالباً، فكيف يكون موجباً للقبح؟!

وأورد المحقّق النائينىّ(رحمه الله) على ذلك النقض بالقطع الموضوعىّ؛ فإنّ المحقّق الخراسانىّ(قدس سره)يعترف بأنّ القطع قد يقع موضوعاً لحكم شرعىّ، في حين لو كان القطع ممّا لا يلتفت إليه، لما صحّ جعله موضوعاً لحكم شرعيّ؛ لأنّ الحكم على ما لا يلتفت إليه لا يمكن وصوله، فيلغو.

ويرد عليه: أنّ المحقّق الخراسانىّ لم ينكر عدم إمكانيّة الالتفات المستقلّ إلى القطع، فهو يعترف بإمكانيّة الالتفات الاستقلالىّ إليه؛ ولذا قيّد عدم الالتفات بقيد الغالب. ومقصوده(رحمه الله): أنّ القاطع يكون همّه وغرضه كامناً بحسب الغالب في المقطوع به، وعندئذ لا يلتفت غالباً إلى قطعه بالاستقلال، وإنّما يراه رؤية آليّة للوصول إلى المقطوع به. وأمّا إذا اُخذ القطع موضوعاً لحكم، فلا إشكال في أنّه حينما يلتفت إلى ذلك الحكم يلتفت إلى قطعه بالاستقلال؛ فإنّ هذا القطع ليس طريقاً إلى ما يريد امتثاله من الحكم كي لا يراه إلّا آليّاً، بل هو موضوع له، فيلتفت إليه استقلالاً.

ويرد على المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله):

أوّلاً: أنّ الالتفات الإجمالىّ الآلىّ كاف في اختياريّة الفعل. والقاطع إن لم يكن ملتفتاً بالاستقلال إلى قطعه، فلا إشكال في التفاته إليه آليّاً.

وثانياً: أنّ العنوان المدّعى قبحه في المقام ليس هو شرب مقطوع الخمريّة، كي يقال: إنّ هذا القطع طريقىّ لا يلتفت إليه غالباً بالاستقلال؛ لأنّ همّ القاطع وغرضه كامن في المقطوع به، وهو شرب الخمر، فلا يلتفت عادة إلى قطعه إلّا آليّاً، بل العنوان المدّعى قبحه هو شرب مقطوع الحرمة، وغرض الشارب ـ في غير فرض نادر ـ ليس متعلّقاً بشرب الحرام من حيث هو حرام حتّى يكون القطع طريقاً إلى غرضه، بل غرضه متعلّق بشرب

271

الخمر الذي قد يلتفت إلى القطع بحرمته مستقلّاً؛ كي يتّخذ تصميمه أمام الرادعيّة العقليّة لذلك، لكي يرتدع أو لا يرتدع بذلك.

الوجه الثالث: ما يكون مختصّاً بالشبهات الموضوعيّة: وهو أنّه في فرض الشبهة الموضوعيّة لم يصدر عنه فعل اختيارىّ أصلاً؛ فإنّ من شرب مائعاً قاصداً لشرب الخمر، وكان في الواقع ماءً، فما صدر عنه من شرب الماء لم يكن مقصوداً بحسب الفرض، وما قصده من شرب الخمر لم يصدر عنه، إذن لم يصدر عنه فعل اختيارىّ أصلاً (1). وهذا نظير ما لو رمى سهماً بقصد حيوان، فأخطأ السهم، وأصاب إنساناً، فلا يحكم عليه بحكم القتل العمدىّ، بل يحكم عليه بحكم القتل الخطئيّ.

وذكر المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) في حاشيته على الرسائل إشكالاً على هذا الوجه مع بيان جواب عنه:

أمّا الإشكال: فهو أنّه قد قصد الجامع بقصده للفرد؛ إذ يكفي في قصد الجامع قصد فرد منه، وقد وقع الجامع في الخارج؛ إذ يكفي في وقوعه وقوع فرد منه، إذن قد وقع ما قصده، وهو الجامع، فالجامع فعل اختيارىّ له.


(1) المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) أشار في كفايته إلى عدم صدور فعل اختياريّ عنه أصلاً في فرض الشبهة الموضوعيّة، لكنّه لم يظهر من عبارته جعل هذا برهاناً مستقلّاً على عدم قبح التجرّي.

وعلى أىّ حال، فالذي يبدوفي بادئ النظر أنّ جعل هذا برهاناً في مقابل البرهان الأوّل على عدم قبح الفعل ليس جيّداً؛ فإنّ المهمّ في المقام هو فرض عدم اختياريّة العنوان الذي يمكن أن يدّعى قبحه، وهو عنوان شرب معلوم الخمريّة، وهذا ما ركّز عليه في البرهان الأوّل. ولا يحتمل أحد أنّ مجرّد وجود عمل اختيارىّ ما كاف في قبح التجرّي؛ كي يبرهن على عدمه بالبرهنة على عدم وجود فعل اختيارىّ إطلاقاً.

نعم، قد يستظهر من عبارة صاحب الكفاية في تعليقته على الرسائل جعل هذا الوجه برهاناً مستقلّاً على نفي حرمة الفعل المتجرّى به شرعاً حيث برهن على ذلك أوّلاً بأنّ الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع الحرمة ليس اختياريّاً، ثُمّ قال بلحاظ الشبهة الموضوعيّة: (بل لا يكون اختياريّاً أصلاً)، وجعل هذا برهاناً مستقلّاً على عدم الحرمة الشرعيّة أمر معقول؛ إذ قد يخطر بالبال احتمال كون عنوان مقطوع الخمريّة حيثيّة تعليليّة لحرمة شرب الماء شرعاً مثلاً، فكون هذا العنوان غير اختيارىّ لا يكفي ـ عندئذ ـ للبرهان على عدم الحرمة، فيبرهن على ذلك بكون الفعل غير اختيارىّ بجميع عناوينه حتّى بعنوان شرب الماء مثلاً. أمّا بالنسبة إلى القبح، فلامجال لاحتمال كون العنوان الدخيل في موضوعه ـ وهو عنوان شرب مقطوع الخمريّة ـ حيثيّة تعليليّة، فإن كان دخيلاً، فإنّما هو بنحو التقييد والموضوعيّة، وقد فرضناه غير اختياريّ، وبه ينتفي القبح. أمّا عدم اختياريّة الفعل بسائر عناوينه، فلا دخل له في القبح وعدمه.

272

أقول: الجامع المتصوّر في المقام أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: عنوان شرب المائع الذي يكون مقصوداً في الضمن بلاشكّ؛ إذ المائعيّة داخلة في ماهيّة الخمر.

والثاني: عنوان التجرّي بمعناه الأعمّ الثابت في المعصية الحقيقيّة: وهو الهتك والإساءة.

والثالث: عنوان شرب مقطوع الخمريّة، أو مقطوع الحرمة، ونحو ذلك ممّا لا يكون داخلاً في ماهيّة الخمر. والجامع الثاني والثالث ليسا ممّا لابدّ أن يكون مقصوداً في الضمن وإن أمكن فرض قصدهما.

هذا. والمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) ذكر فيما نحن فيه في تصوير الجامع الأمر الأوّل والثاني دون الثالث.

وأمّا الجواب: فهو أنّ الجامع إنّما هو مراد في الضمن لا استقلالاً، فشرب المائع ـ مثلاً ـ إنّما يكون مراداً في ضمن إرادة شرب الخمر، ومقتضى قانون الإرادة الضمنيّة أنّ الإرادة لا تتعلّق بالجامع، إلّا في ضمن المراد المستقلّ.

أمّا الحصّة الاُخرى من الجامع، فليست متعلّقة للإرادة، فهذا الشخص إنّما أراد جامع شرب المائع، أو جامع التجرّي الموجود في ضمن شرب الخمر، والذي وقع هو حصّة اُخرى من الجامع.

وبهذا البيان اتّضح أنّه لو أبطلنا الوجه الأوّل، وأثبتنا أنّ شرب مقطوع الخمريّة مراد، بقي للمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) هذا الوجه؛ إذ يقال: صحيحٌ أنّ شرب مقطوع الخمريّة مراد في الضمن، لكن الحصّة المرادة منه التي هي في ضمن شرب الخمر لم تقع، والحصّة التي وقعت لم تقصد(1).


(1) لعلّ هذا إشارة إلى الجواب عمّا ذكرناه آنفاً: من أنّ جعل هذا الوجه برهاناً مستقلّاً على عدم القبح في مقابل البرهان الأوّل ليس جيداً، فيقال في الجواب عن ذلك: إنّ البرهان الأوّل إن فرض بطلانه للإيمان بتعلّق الإرادة بشرب مقطوع الخمريّة، يبقى البرهان الثالث ثابتاً على قوّته؛ لأنّه يثبت أنّ أيّ عنوان من العناوين الجامعة المتصوّرة في المقام لو سلّم تعلّق الإرادة به، فإنّما تعلّقت الإرادة بالحصّة التي هي في ضمن شرب الخمر، ولم توجد، ولم تتعلّق بالحصّة التي وجدت من الجامع.

ولكن سيأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ هذا الكلام يكون روحه روح البرهان الأوّل لا الثالث، فانتظر.

273

ويرد عليه:

أوّلا: النقض بالمعصية الحقيقيّة عند إرادة فرد من الجامع ووقوع فرد آخر منه، كما لو أراد شرب الخمر المتّخذ من الزبيب، ثُمّ تبيّن أنّ ما شربه كان متّخذاً من العنب، وكما لو أراد شرب الخمر الواقع في الساعة العاشرة من النهار، ثُمّ تبيّن وقوعه في الساعة التاسعة، ونحو ذلك من الفروض التي لا غبار على صدق عنوان القبيح على الفعل، واستحقاق العقاب عليه فيها وجداناً. ولا يمكن للمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)الالتزام بخلافه مع أنّ ما ذكره في المقام لو تمّ لجرى في هذه الفروض حرفاً بحرف، فيقال: إنّه إنّما قصد جامع المعصية في ضمن الفرد الذي لم يقع، والحصّة الواقعة منه غير مقصودة له.

وثانياً: أنّ ما ذكره لو تمّ فإنّما يتمّ بلحاظ شرب المائع دون الجامع الآخر، وهو عنوان التجرّي. وكان الأولى به أن ينكر انطباق عنوان التجرّي على هذا الفعل. أمّا ما فعله من تسليم انطباقه عليه مع تسليم أنّ هذا الفعل ليس قصديّاً، فهو جمع بين المتنافيين؛ لأنّ عنوان التجرّي والإهانة ليس من العناوين الواقعيّة للفعل التي يمكن انطباقها على الفعل من دون أن يكون الفعل قصديّاً كعنوان شرب المائع، بل هو في قبال عنوان التعظيم، وهما عنوانان قصديّان، وقوامهما بالقصد والإراده، فلا يعقل انطباقهما على فعل غير إرادىّ.

وحلّ المغالطة: أنّه تارة يفرض أنّ الميزان في اختياريّة الفعل كونه بنفسه مصبّاً للإرادة، واُخرى يفرض أنّ الميزان فيه كونه معلولاً لمحرّكيّة الإرادة وصادراً بتحريكها، فإن فرض الأوّل، تمّ ما ذكره من عدم صدور فعل اختياريّ عنه؛ إذ ما كان اختياريّاً لم يصدر، وما صدر لم يكن اختياريّاً. وأمّا إن فرض الثاني، فعدم كون ما صدر عنه اختياريّاً ممنوع؛ فإنّه صادر بمحرّكيّة الإرادة.

توضيح ذلك: أنّ الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد ـ دائماً ـ تتعلّق حقيقتها بالكلّي، وتحرّك الإنسان ـ بحسب الخارج ـ نحو الفرد بواسطة وصول انطباق ذاك الكلّي على هذا الفرد إليه بالعلم أو بغيره من أنحاء الوصول، وهذا الوصول يحرّكه نحو ذلك الفرد سواء كان مطابقاً للواقع أو لا(1).

 


(1) هذا كلّه بعد فرض التنزّل عمّا مضى: من أنّ المقياس في اختياريّة الفعل ليست هي الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد، بل هي السلطنة الموجودة في المقام حتماً.

274

الوجه الرابع: هو التمسّك بالوجدان؛ فإنّ الوجدان حاكم بأنّ العبد لو أنقذ غريقاً باعتقاد كونه عدوّاً للمولى، فتجرّى بإنقاذه، ثُمّ ظهر أنّه كان ابن المولى، كان ما تحقّق من إنقاذ الابن محبوباً للمولى.

وبيان هذا الوجه بتعبير فنّيّ هو: أنّه لو فرض قبح الفعل المتجرّى به، فإمّا أن يفرض انسلاخه من عنوانه الأوّليّ من المحبوبيّة للمولى، أو يفرض بقاؤه على ذلك العنوان. والأوّل خلاف الوجدان، والثاني جمع بين المتضادّين: بأن يكون هذا الفعل محبوباً وحسناً في حال كونه مبغوضاً وقبيحاً.

ويرد على هذا الوجه: أنّ هذا خلط بين باب الحسن والقبح وباب المصالح والمفاسد. فهذا الوجه إنّما يكون له مجال ـ وإن لم يصحّ أيضاً ـ لو قلنا: بأنّ الحسن والقبح في المقام من المجعولات العقلائيّة التابعة لملاكات المصالح والمفاسد، فتقع المزاحمة بين ملاك هذا الحكم وملاك محبوبيّة الفعل للمولى، ولا يعقل الجمع بين الحكم بقبحه ومحبوبيّته لدى المولى، أمّا بناءً على ما هو الصحيح: من كون حسن الطاعة وقبح المعصية للمولى أمرين واقعيّين كشفهما العقل، فلا مجال لادخالهما في باب مبادئ الحكم من المصلحة


وعلى أىّ حال، فهذا البيان من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) ـ وهو توضيح كفاية محركيّة الإرادة في اختياريّة الفعل ولو بواسطة وصول خاطئ للانطباق ـ قد أبطل البرهان الثالث؛ إذ أثبت أنّ الفعل الذي صدر عنه فعل اختيارىّ باعتباره صادراً عن إرادة عنوان اعتقد ـ ولو خطأً ـ انطباقه عليه، إذن فما صدر عنه من شرب الماء فعل اختيارىّ له، إلّا أنّ هذا البيان لم يبطل ما مضى من اُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه): من إمكان القول إنّه حتّى لو فرض بطلان البرهان الأوّل للإيمان بتعلّق الإرادة بعنوان شرب مقطوع الخمريّة أو مقطوع الحرمة، بقيت للمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) البرهنة على المقصود بأنّ الإرادة تعلّقت بتلك الحصّة من شرب مقطوع الخمريّة، أو الحرمة التي هي في ضمن شرب الخمر ولم تحصل، والحصّة التي حصلت من هذا العنوان لم تكن مقصودة، فهذا الكلام ـ كما ترى ـ باق على قوّته، على رغم هذا الجواب عن البرهان الثالث؛ فإنّ هذا الجواب غاية ما أثبت هو أنّ ذات الفعل الذي صدر عنه فعل إرادىّ، وليس هو إلّا ذات شرب الماء، أمّا عنوان شرب مقطوع الخمريّة أو الحرمة ـ تلك الحصّة التي تكون في ضمن شرب الماء ـ فليس مراداً حتماً؛ لأنّنا لو سلّمنا ـ مثلاً ـ أنّ إراديّة الفرد تجعل الجامع الذي في ضمنه إراديّاً ـ ولو لم يكن الجامع داخلاً في ماهيّة الفرد ـ فإنّما نسلّم ذلك في فرض الالتفات إلى ثبوت تلك الحصّة في ضمن الفرد، في حين هذا الفاعل لا يعتقد إلّا بوجود الحصّة الاُخرى، وهي الحصّة الموجودة في ضمن الخمر.

وهذا ينبّه إلى ما أردت أن أقوله: من أنّ ذاك الكلام ليس تصحيحاً للبرهان الثالث، وإنّما روحه روح البرهان الأوّل: وهو إثبات عدم إراديّة العنوان المدّعى قبحه، لا روح البرهان الثالث: وهو عدم صدور شيء عنه بالاختيار إطلاقاً، فلا تغفل.

275

والمفسدة والمحبوبيّة والمبغوضيّة. ولا تلازم بين محبوبيّة الفعل عند المولى وحسنه، ولا بين مبغوضيّته لديه وقبحه.

فقد يكون الفعل محبوباً للمولى؛ لما يشتمل عليه من مصالح كثيرة، لكنّه يقبح صدوره عن العبد؛ لكونه تجرّياً منه على المولى بسبب تشخيصه الخاطئ، وقد يكون مبغوضاً للمولى؛ لما يشتمل عليه من مفاسد كثيرة، ولكن يحسن صدوره عن العبد؛ لكونه انقياداً منه للمولى باعتبار ما وصله من الحكم الخاطئ.

 

مع القائلين بالقبح الفاعلىّ

وأمّا الجهة الثانية: وهي الكلام في كون قبح التجرّي فعليّاً أو فاعليّاً، فقد ذكر المحقّق النائينىّ(رحمه الله) (على ما في تقرير المحقّق الكاظمىّ): أنّ التجرّي قبيح بقبح فاعلىّ لا بقبح فعلي؛ فإنّ الفعل بنفسه ليس قبيحاً، وإنّما القبيح صدوره عن هذا الشخص.

وأمّا ما يستفاد من أجود التقريرات من تفسير القبح الفاعليّ بكشف الفعل عن سوء سريرة العبد، فهو يناسب إنكار قبح التجرّي رأساً كما صدر عن الشيخ الأعظم(قدس سره).

والتحقيق: أنّ افتراض كون الفعل غير قبيح، وإنّما القبيح هو صدوره عن هذا الشخص، إن قصد به أنّ هذا الفعل بعنوانه الأوّليّ ليس قبيحاً، وإنّما أصبح قبيحاً باعتبار صدوره عمّن اعتقد حرمته، فهذا عبارة اُخرى عن أنّ قبح هذا الفعل إنّما هو بعنوانه الثانوىّ، وهو التجرّي، لا بعنوانه الأوّليّ. وهذا ممّا لا غبار عليه، إلّا أنّ هذا ليس تصويراً لقبح فاعلىّ في قبال القبح الفعلىّ.

وإن اُريد بذلك أنّ القبيح ليس هو ذات الفعل، بل النسبة الثابتة بينه وبين الفاعل، ورد عليه ما حقّقنا في محلّه: من أنّ النسبة بين الفعل والفاعل والعلّة والمعلول ليست أمراً ثابتاً في الخارج، وإلّا لزم التسلسل، وإنّما هي أمر تصوّرىّ يرجع إلى تضييق المفهوم وتحصيصه، وأمّا في الخارج فليس هناك وجود ثالث غير وجود العلّة والمعلول أو الفعل والفاعل.

نعم، بالإمكان أن يقال ـ مع الاعتراف بأنّ القبيح دائماً هو الفعل ـ: إنّ مصدر القبح ومصبّه تارة يكون ذات الفعل بوصفه موجوداً من الموجودات تترتّب عليه آثار معيّنة

276

سيّئة، واُخرى يكون هذا الفعل بوصفه صادراً عن الإنسان لا بذاته بغضّ النظر عن حيثيّة الصدور.

والتفكيك بينهما أمر معقول، فمثلاً: كنس الشوارع بما هو هو حسن، وليس قبيحاً؛ إذ تترتّب عليه نظافة الشوارع، ولكن لو صدر عن شخصيّة محترمة لها مقام مخصوص، كان قبيحاً. فالأوّل هو القبح الفعلىّ، والثاني هو القبح الفاعلىّ.

وهذا الكلام يتوقّف تصويره على إرجاع باب الحسن والقبح إلى باب المصلحة والمفسدة.

أمّا بناءً على ما هو صحيح: من كونهما أمرين واقعيّين مدركين بالعقل العملىّ، وغير راجعين إلى باب المصلحة والمفسدة، فمصبّهما ـ دائماً ـ هو الفعل بلحاظ الصدور عن الفاعل المختار، لا ذات الفعل بغضّ النظر عن حيثيّة الصدور؛ فإنّ الفعل بغضّ النظر عن نسبته إلى الفاعل المختار لا يتّصف بالقبح أبداً، فقتل المؤمن الصادر عن الكهرباء ـ مثلاً ـ ليس قبيحاً، وإنّما يتّصف الفعل بالقبح باعتبار نسبته إلى الفاعل المختار.

نعم، قد يكون مطلق صدوره عن الفاعل المختار لا ضير فيه، وإنّما يصبح قبيحاً بعنوان مخصوص كعنوان التجرّي. وهذا هو الذي قلنا: إنّه راجع إلى كون القبح بعنوان ثانوىّ، لا إلى تصوير قبح فاعلىّ في مقابل القبح الفعلىّ. وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه:

أوّلاً: أنّ التقريب الموجود في تقرير المحقّق الكاظمىّ(رحمه الله) لتصوير قبح فاعلىّ في مقابل القبح الفعلىّ غير مقبول.

وثانياً: أنّ قبح الفعل لا يعقل تقسيمه إلى قبح فعلىّ بلحاظ ذات الفعل، وقبح فاعلىّ بلحاظ الصدور، إلّا بناءً على إرجاع باب الحسن والقبح إلى المصلحة والمفسدة، وإلّا فالقبح ـ دائماً ـ يكون بلحاظ الصدور.

بل نقول: إنّه حتّى بناءً على إرجاع ذلك إلى باب المصلحة والمفسدة لا يصحّ فرض كون القبح تارة فعليّاً واُخرى فاعليّاً (1).


(1) كأنّ مقصوده(رحمه الله) من فرض رجوع الحسن والقبح إلى باب المصلحة والمفسدة فرضهما مجعولين من قبل العقلاء بلحاظ المصلحة والمفسدة، وعندئذ يقال: إنّ تقسيم القبح إلى الفعلىّ والفاعلىّ غير صحيح حتّى بناءً على كونه جعليّاً؛ لأنّنا بما نحن عقلاء لا نشكّ في أنّ العقلاء لم يجعلوا قبحاً للفعل بغضّ النظر عن صدوره عن الفاعل المختار، وجعل العقلاء للحسن والقبح كان بحكمة الدفع والزجر، وكان خاصّاً بالصدور عن الفاعل المختار.

277

 

استحقاق المتجرّي للعقاب

 

المقام الثالث: استحقاق المتجرّي للعقاب وعدمه. والصحيح: هو استحقاق المتجرّي للعقاب كما يتّضح بالجمع بين أمرين مضى منّا بيانهما:

أحدهما: ما مضى من أنّ منجّزيّة القطع من الاُمور الواقعيّة المستكشفة بحكم العقل المدرك لحقّ المولويّة.

والثاني: ما بيّناه من أنّ التجرّي والمعصية متساويان في مخالفة حقّ المولى الذي هو عبارة عن حقّ الاحترام، فكلاهما في رتبة واحدة في مستوى الهتك وترك الاحترام(1)


(1) والواقع: أنّ استحقاق المتجرّي للعقاب وعدمه يترتّب على ما هو المختار في قبح الفعل المتجرّى به الذي مضى البحث عنه، فإن كان المبنى هو عدم القبح بمقتضى القواعد الأوّليّة، فمن الواضح أنّه لا مورد لاستحقاق العقاب بمقتضى تلك القواعد. ومن الغريب ما ذهب إليه صاحب الكفاية(رحمه الله): من الجمع بين إنكار قبح التجرّي والإيمان باستحقاق المتجرّي للعقاب، فهو يرى أنّ نفس سوء السريرة عند إبرازه بمبرز عملىّ يوجب استحقاق العقاب وإن كان قبل الإبراز لا يوجب إلّا اللوم، غفلة منه عن أنّ هذا يكشف عن قبح ذاك الإبراز.

وعلى أىّ حال، فلتبسيط الكلام شيئاً ما في مسألة استحقاق المتجرّي للعقاب نشير إلى عدّة مبان في قبح التجرّي:

المبنى الأوّل: أن يقال: إنّ حقّ المولى مرتبط بواقع التكليف، فلو لا التكليف لما كان له حقّ الامتثال، إذن فالمتجرّي لم يخالف حقّاً من حقوق المولى؛ فإنّ حقّ المولى عبارة عن حقّ تحقيق الغرض الذي كلّفنا به، وفي مورد التجرّي لا يوجد غرض كذلك، ولكن على رغم هذا نقول بقبح التجرّي على أساس أنّ القبح العقلىّ يدور مدار اعتقاد الفاعل بموضوع الحقّ ولو خطأً على رغم من أنّ فعليّة الحقّ تختصّ بفرض وصول موضوع الحقّ وصولاً مطابقاً للواقع.

وبناءً على هذا المبنى يثبت القبح، ولكن لا يثبت العقاب؛ لأنّ استحقاق العقاب إنّما يترتّب عقلاً على مخالفة حقّ من يعاقب، أمّا مجرّد القبح العقلىّ من دون مخالفة حقّ، فلا يوجب عدا استحقاق اللوم.

المبنى الثاني: أن نحصر القبح بدائرة مخالفة الحقّ واقعاً، ونوسع دائرة حقّ المولى بأن يقال: إنّ حقّ المولى عبارة عن حقّ الاحترام وعدم الهتك، ونسبة ذلك إلى موارد المعصية والتجرّي على حدّ سواء. وهذا هو مختار اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، ويترتّب على ذلك استحقاق العقاب على الفعل المتجرّى به.

المبنى الثالث: ما اخترناه من أنّه يوجد بالنسبة إلى المولى حقّان: حقّ تحصيل الغرض الذي كلّفنا به، وحقّ الاحترام. والحقّ الأوّل خاصّ بمورد المصادفة للواقع، والحقّ الثاني يعمّ موارد التجرّي، ويترتّب على ذلك استحقاق المتجرّي للعقاب بمستوىً أخفّ من العاصي على رغم تساوي التجرّي والمعصية في القبح بناءً

278

أمّا بناءً على عدم كون حقّ الطاعة أمراً واقعيّاً يدركه العقل، بل هو حكم عقلائىّ ـ كما عليه مشهور الفلاسفة، والمحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله)، وخلافاً لما عليه مشهور الاُصوليّين ـ فيشكل القول باستحقاق المتجرّي للعقاب؛ لأنّ المفروض أنّ استحقاقه للعقاب ليس ذاتيّاً، وإنّما هو بجعل الشارع، وجعل الشارع ليس بملاك التشفّي، وإنّما هو بملاك التحريك باعتبار أنّ غالبيّة الناس لا يعبدون الله بمجرّد جعل الحكم، ومن دون فرض خوف وطمع، فالله تعالى خلق الجنّة والنار، ووضع الثواب والعقاب تتميماً لتحريك العباد نحو الطاعة وترك المعصية.

والمتجرّي إذا كان الحكم قد تنجّز عليه بالقطع لا بغيره من المنجّزات، فلا فائدة بشأنه في جعل العقاب عليه؛ إذ هو لا يحتمل كونه متجرّياً، ويقطع بكونه عاصياً، ولا مجال لجعل عقاب آخر على الجامع بين العصيان والتجرّي؛ إذ يكفي عن هذا الجعل جعل ذاك العقاب على خصوص العاصي. ولا فرق بالنسبة إلى المولى بين هذا الجعل وجعل العقاب على الجامع، وبعد فرض عدم التشفّي في حقّه يختار المولى جعل العقاب على خصوص العاصي؛ لأنّ جعله على الجامع يستلزم أن يشوي لحم هذا المتجرّي في نار جهنّم بلا وجه.

هذا. مضافاً إلى أنّه لا دليل إثباتاً على استحقاق المتجرّي للعقاب بناءً على هذا المبنى.

وعلى أىّ حال، فقد ظهر أنّ الصحيح ـ على مبنانا من ذاتيّة الاستحقاق ـ: هو استحقاق المتجرّي للعقاب، بلا حاجة إلى ما تشبّثوا به من الوجوه لإثبات ذلك مع بطلانها في نفسها، وتلك الوجوه مايلي:

 


على أنّ القبح يتبع اعتقاد الفاعل ولو خطأً.

المبنى الرابع: افتراض أنّ حقّ الامتثال ليس إلّا حقّاً عقلائيّاً لا عقليّاً، وبالتالي استحقاق العقاب ليس أمراً واقعيّاً يكشف عنه العقل، بل أمر يثبت بجعل العقلاء، أو بجعل الشارع.

وعلى هذا، فلا يمكن إثبات الاستحقاق في مورد التجرّي ببرهان أو وجدان، فمن المحتمل اختصاص جعل العقاب بفرض المعصية، والاقتصار في رادعيّة العقاب بالنسبة إلى موارد التجرّي على وصول الحكم إليه ولو خطأً، بل لو كان الحكم إليه بالقطع لا بغيره من المنجّزات، فجعل العقاب على التجرّي لا توجد فيه رادعيّة إضافيّة، وبالتالي ربّما لايبقى داع لجعل العقاب كما هو مشروح في المتن.

279

إنّ المحقّق النائينىّ(رحمه الله) نقل على ما في أجود التقريرات برهاناً عن السيّد الشيرازىّ الكبير(قدس سره) على استحقاق المتجرّي للعقاب مؤتلفاً من مقدّمات أربع، ولكن الاُوليين منها في الحقيقة غير مرتبطتين بما نحن فيه، وكلّ واحدة من الاُخريين لو تمّت لكانت وجهاً مستقلّاً لإثبات المطلوب. وهناك وجه آخر نقل في الرسائل وغيره، فهذه وجوه ثلاثة:

الأوّل: ما جعله في أجود التقريرات مقدّمة ثالثة لذاك البرهان، وهو: أنّ تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية هو العلم الثابت في فرض التجرّي ـ أيضاً ـ بلا دخل لفرض المصادفة للواقع في ذلك، وإلّا للزم سدّ باب حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية نهائيّاً؛ إذ مصادفة القطع للواقع غير محرزة، فقد يصادف وربّما لا يصادف.

وأجاب المحقّق النائينىّ(رحمه الله) عن ذلك بأنّه صحيح أنّ العلم تمام الموضوع لحكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية، ولكن الثابت في فرض التجرّي هو الجهل المركّب، وليس العلم.

أقول: ليس الكلام في تفسير كلمة (العلم)، وما هو المفهوم منه عرفاً كي يقال: إنّ الجهل المركّب علم، أو لا؟ وإنّما الكلام في أنّ أخذ المصادفة في موضوع حكم العقل معقول، أو غير معقول لعدم إحراز المصادفة؟ فلو تمّ القول بعدم معقوليّته، لزم كون الموضوع لحكم العقل هو الجامع بين العلم المطابق والجهل المركّب سواء سمّي الجهل المركّب علماً أو لا. والعمدة في ردّ هذا البرهان هي: إنّ مصادفة القطع محرزة بنفس القطع؛ فإنّ القاطع لا يحتمل خطأ قطعه، وإنّما يطرأ له هذا الاحتمال بالنسبة إلى قطع غيره، وبالنسبة إلى قطع نفسه ـ أيضاً ـ في غير حالة قطعه.

الثاني: ما جعله في أجود التقريرات مقدّمة رابعة لذاك البرهان، وهو: أنّ ما يوجب استحقاق العقاب هو القبح الفاعلىّ لا القبح الفعلىّ، وهو موجود في فرض التجرّي. والدليل على كون ملاك استحقاق العقاب هو القبح الفاعلىّ لا الفعلىّ: أنّه لو كان الملاك هو القبح الفعلىّ للزم ثبوت العقاب في موارد الجهل والشكّ؛ لأنّ القبح الفعلىّ للحرام لا يرتفع بالشكّ والجهل.

وأجاب المحقّق النائينىّ(رحمه الله) عن ذلك بأنّ ملاك استحقاق العقاب هو القبح الفاعلىّ

280

الناشئ من القبح الفعلىّ، أو قل: إنّ ملاك الاستحقاق ليس أحد القبحين، بل مجموعهما.

ويظهر ما في هذا الوجه مع جوابه من كلماتنا السابقة؛ فإنّ ذلك كلّه متفرّع على تصوير قبحين: قبح فعلىّ، وقبح فاعلىّ، وتخيّل رجوع باب الحسن والقبح إلى باب المصلحة والمفسدة، وقد عرفت أنّ القبح ليس إلّا قسماً واحداً، وهو متعلّق بالفعل بما هو مضاف إلى الفاعل، وأنّ باب الحسن والقبح غير باب المصلحة والمفسدة، وأنّ ثبوت القبح في فرض الشكّ والجهل المعذّر غير معقول. وقد عرفت ـ أيضاً ـ أنّ القبح الكامن في المعصية عبارة عن قبح مخالفة حقّ المولى، وثابت عند المعصية والتجرّي معاً.

الثالث: أنّا لو فرضنا شخصين شرب كلّ منهما مائعاً باعتقاد الخمريّة، فصادف قطع أحدهما الواقع دون الآخر، فإن قيل: إنّه يعاقب كلاهما، فهو المطلوب، وإن قيل: إنّه يعاقب من صادف قطعه الواقع فقط، لزم إناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن القدرة، وهو المصادفة؛ فإنّ الخطأ والمصادفة لو كانا باختيار الإنسان، لما أخطأ أحد.

والجواب: أنّ فرض اختصاص العقاب بمن صادف قطعه الواقع لا يستلزم استناد العقاب إلى ما هو خارج عن الاختيار، وتوضيح ذلك:

أنّ هذا الشخص إنّما يعاقب على سدّ باب واحد من أبواب العدم، وهو العدم الناشئ عن عدم إرادته لشرب الخمر، وهو تحت اختياره قطعاً.

نعم، المتجرّي ـ عند من لايرى عقابه ـ إنّما لايعاقب لانفتاح باب من أبواب العدم عليه ولو بلااختيار، كالعدم الناشئ من الخطأ في قطعه.

وما أكثر من ينجو من استحقاق العقاب بسبب انفتاح باب من أبواب العدم عليه خارج عن اختياره، كالعدم الناشئ من عدم وجود الخمر في الخارج، أو من عدم قدرته على الشرب؛ لمرض يمنعه عن التحرّك نحو الخمر وأخذه، أو عدم قدرته على شرائه ونحو ذلك، ولابأس بذلك(1).


(1) العقاب إنّما هو على المعصية لاعلى سدّه لباب من أبواب عدم المعصية. ولعلّ هناك مسامحة في التعبير من قبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): بأن يكون المقصود بيان أنّ ما صدر عنه وعليه العقاب هو العصيان الاختيارىّ ولو باختياريّة سدّ باب واحد من أبواب عدمه.

281

 

تنبيهات

 

وينبغي التنبيه على اُمور:

الأوّل: قد عرفت أنّ التجرّي لا يختصّ بفرض القطع، بل يثبت عند التنجّز بمنجّز آخر، ونقول هنا: إنّه وقع الإشكال في ذلك في صورة واحدة، وهي ما لو شرب ما تنجّزت خمريّته ـ مثلاً ـ برجاء عدم كونه خمراً. فقد يقال بعدم كون هذا تجرّيّاً؛ لأنّ المفروض اعتناؤه بالمولى وعدم شربه لذلك إلّا برجاء عدم المصادفة.

ولكن التحقيق ثبوت التجرّي في هذا الفرض أيضاً؛ إذ المفروض أنّه يعلم بتنجّز حرمة شرب الخمر عليه بجميع حصصه التي منها هذه الحصّة، وهي الشرب برجاء عدم الخمريّة، وعلى رغم علمه بذلك ارتكب هذه الحصّة. ولا ينبغي الشكّ في أنّ هذا نوع إهانة للمولى، وجرأة عليه، وخروج عن رسوم العبوديّة، ومخالفة لحقّ المولويّة، وعنوان الرجاء ليس مؤمّناً.

ومن ثبت له مؤمّن من قطع أو غيره كأمارة أو أصل شرعىّ أو عقلىّ، لم يكن فعله تجرّياً بلاإشكال، إلّا في صورة واحدة وقع الإشكال فيها، وهي ما لو شرب ما تنجّز عدم خمريّته ـ مثلاً ـ برجاء كونه خمراً. فقد أفاد المحقّق النائينىّ(رحمه الله): أنّ هذا داخل في التجرّي، ويترتّب عليه حكمه.

لكن التحقيق خلاف ذلك، توضيحه: أنّ هذا الشخص تارة يشرب المائع برجاء خمريّته اعتماداً على المؤمّن، ولا منافاة بين هذا الرجاء وهذا الاعتماد، ومعنى ذلك: أنّه لو لم يكن مأموناً من ناحية الحكم الشرعىّ، لما كان يشربه، ولو كان عالماً بعدم خمريّته، لما كان يشربه أيضاً، فهو يحبّ أن يشرب الخمر مع المؤمّن من ناحية الحكم الشرعىّ؛ ليعرف طعم الخمر ـ مثلاً ـ من دون الابتلاء بتبعات الحرمة. وفي هذا الفرض لا ينبغي الإشكال في عدم صدور التجرّي عنه مادام معتمداً في فعله على ما هو مؤمّن من الحكم الإلزامىّ للشرع.

282

واُخرى يفترض شربه للمائع برجاء خمريّته بلا اعتماد على المؤمّن بحيث لولا المؤمّن لكان يشربه أيضاً، ولكنّه على أىّ حال عالم بكونه مأذوناً في عمله، وكون عمله مقترناً بالمعذّر. فأيضاً لا ينبغي الإشكال في أنّ عمله ليس تجرّياً منه؛ إذ لم يعمل إلّا ما علم بالإذن فيه. وإنّما الفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة: أنّ في هذه الصورة يثبت التجرّي في حقّه بحسب أمر نفسانىّ، وهو استقلال إرادته عن مولاه، وعدم اهتمامه بأحكامه، لكن هذا النوع من التجرّي لا يختصّ بفرض الشرب، بل يثبت بشأن من لا يعتني بحكم مولاه، ولا يهتمّ بكون فعله مخالفاً لحكم مولاه سواء صدر عنه في الخارج ما يحتمل كونه خلاف حكم المولى على رغم المؤمّن، أو لا. فإن قلنا بثبوت استحقاق العقاب على مثل هذا التجرّي، فهو ثابت حتّى مع فرض عدم شربه لهذا المائع، إذن فشربه لهذا المائع المشمول للمؤمّن ليست فيه على أىّ حال نكتة إضافيّة ـ على فرض عدم الشرب ـ توجب استحقاق العقاب(1).

الثاني: اشتهر بينهم الخلط بين الحسن والقبح ومبادئ الأحكام من المصالح والمفاسد

والحبّ والبغض، ومن هنا ذهب صاحب الفصول(رحمه الله) إلى القول بوقوع الكسر والانكسار بين جهة التجرّي وجهة الواقع، وتقديم ما هو غالب منهما؛ لثبوت المنافاة بينهما.

وأفاد المحقّق العراقىّ(قدس سره) وجهاً لدفع المنافاة بين قبح التجرّي والحكم الواقعىّ، وهو: أنّ التجرّي عنوان ينتزع من الفعل في رتبة الامتثال والعصيان المتأخّرة عن الجهة الواقعيّة. فجهة التجرّي مع الجهة الواقعيّة ليستا في رتبة واحدة حتّى تقع المنافاة بينهما.

وبنفس هذا الجواب أعني تعدّد الرتبة جمع(قدس سره) بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعىّ.

وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في مبحث الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ ما في هذا


(1) نعم، لو شرب هذا المائع برجاء الحرمة لا بمجرّد رجاء الخمريّة، فلا يبعد أن يقال بكون هذا نوعاً من الهتك للمولى، فلا ينفعه المؤمّن في المقام.

283

الكلام صغرىً وكبرىً.

ونقول هنا: إنّه لو سلّمت الصغرى وهي تعدّد الرتبة، فإنّما هو في المقام بين قبح التجرّي والحرمة المتخيّلة، لا بين قبح التجرّي والوجوب الواقعىّ، إذن فلو سلّمت الكبرى وهي كفاية تعدّد الرتبة في دفع المنافاة، لم تنطبق على المقام؛ لأنّ المنافاة إنّما هي بحسب الفرض بين قبح التجرّي والوجوب الواقعىّ، في حين تعدّد الرتبة إنّما هو بين القبح وحكم آخر، وهو الحرمة لا الوجوب(1).

والتحقيق في المقام ما ظهر ممّا سبق: من أنّ باب الحسن والقبح غير باب مبادئ الأحكام. والخلط بينهما موقوف على القول بكون الحسن والقبح مجعولين عقلائيّين بحسب المصالح والمفاسد. وقد مضى أنّ المولى الحقيقىّ يكون حسن طاعته وقبح معصيته ذاتيّين. فقد اتّضح أنّه لا مجال لفرض التنافي بين قبح التجرّي وجهة الواقع كي يفترض وقوع الكسر والانكسار بينهما(2).

نعم، عدم المنافاة الذي وضّحناه هنا إنّما هو بين الوجوب الواقعىّ ـ مثلاً ـ وقبح التجرّي، وليس بين الوجوب الواقعىّ وتنجّز الحرمة بقطع أو أمارة أو غيرهما، فيمكن دعوى المنافاة بين الحكم الواقعىّ وهذا التنجّز سواء قلنا بقبح التجرّي أو أنكرنا قبحه، والكلام في هذه المنافاة مربوط ببحث الجمع بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ الطرق المتعارفة للجمع بينهما لا تتكفّل إلّا الجمع بين الإلزام والترخيص: بأن يكون أحد الحكمين إلزاماً والآخر ترخيصاً دون ما إذا فرض أحدهما إيجاباً والآخر تحريماً.

وعلى أىّ حال، فتحقيق الكلام في ذلك مربوط بذاك البحث. وإنّما كان المقصود هنا


(1) يحتمل أن لايكون نظر الشيخ العراقيّ(رحمه الله) إلى تعدّد الرتبة، بل إلى تعدّد العنوان مع مبنى عدم سراية الحكم أو الحبّ والبغض من العنوان إلى المعنون. راجع فوائد الاُصول ج 3 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم ص 54 مع ص 42 وتعليق المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في الموردين.

(2) قد يقال: إنّ الحسن والقبح يصلحان ملاكين للأحكام، فمعنى كون الأحكام تابعة للمصالحوالمفاسد ـ لاللحسن والقبح ـ إنّما هو: أنّ المصالح والمفاسد تكفي في انبعاث مبدأ الحكم في نفس المولى، لا أنّ الحسن والقبح لا يصلحان لذلك، وعليه فقد يقع الكسر والانكسار في طرف الحكم (لا في طرف حرمة التجرّي) بين قبح التجرّي ومصلحة الفعل.

وحلّ ذلك يكون بالجمع المختار فيما بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ الذي سيتضح في محلّه إن شاء الله.

284

الإشارة إلى أنّ ما ادّعيناه في المقام كان هو عدم المنافاة بين الوجوب الواقعىّ وقبح التجرّي، وذلك لا ينافي فرض التنافي بين الوجوب الواقعيّ وتنجّز الحرمة. فلو سلّم هذا التنافي، وقد أثبتنا قبح التجرّي، تعيّن القول بارتفاع الوجوب الواقعىّ.

الثالث: ذكر المحقّق العراقىّ(رحمه الله) ثمرة لقبح التجرّي وعدمه، وهي: إنّه لو قامت الأمارة على حرمة صلاة الجمعة مثلاً، ومع ذلك صلّى المكلّف صلاة الجمعة برجاء كونها واجبة؛ لأنّه لم يكن قاطعاً بعدم الوجوب وإن تنجّزت عليه الحرمة، ثُمّ انكشف كونها واجبة، فبناءً على قبح التجرّي بطلت صلاته؛ لعدم صلاحيّتها للمقرّبيّة؛ لأنّ التقرّب إلى المولى بما هو قبيح غير ممكن، وبناءً على عدم قبحه صحّت صلاته؛ إذ لا قبح فيها يسقطها عن صلاحيّتها للمقرّبيّة.

أقول: الكلام تارة يقع في التوصّليّات، واُخرى في التعبّديّات:

أمّا التوصّليّات فلا تكون الصحّة والبطلان فيها مترتّبة على قبح التجرّي وعدمه، بل تكون مترتّبة على أن يستفاد من الدليل ثبوت ملاك هذا الواجب أو المستحبّ التوصّلىّ وعدمه، فعلى الأوّل يصحّ مطلقاً، وعلى الثاني لا يصحّ مطلقاً.

وأمّا التعبّديّات فالمتّجه فيها هو البطلان مطلقاً. أمّا على قبح التجرّي فواضح؛ إذ لا يكون ظلم المولى مقرّباً للعبد إلى المولى، وأمّا بناءً على عدم قبحه، فمن الممكن فرض صلاحيّتها للمقرّبيّة، كما إذا كان الدليل مثبتاً للملاك حتّى في فرض التجرّي، لكن العبادة لا يكفي في صحّتها صلاحيّتها للمقرّبيّة، بل تكون صحّتها مشروطة ـ أيضاً ـ بكون حركة العبد نحوها ناشئة من ناحية المولى، فإذا وجد الشرط الأوّل وهو صلاحيّة المقرّبيّة دون الثاني وهو الداعي الإلهىّ كما في السلام على المؤمن لا بداع إلهىّ، لم تكن عبادة. وكذا العكس كما لو أتى العبد بفعل بداعي القربة باعتقاد كونه مطلوباً للمولى، فتبيّن خلافه. ومن صلّى صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ على رغم علمه بتنجّز حرمتها عليه، لا يكون متحرّكاً من ناحية المولى وبداع إلهىّ وإن فرض عدم قبح التجرّي؛ إذ هو يحتمل كون الإتيان بهذا الفعل ظلماً للمولى، ولا يحتمل كون تركه ظلماً له، فكيف يعقل إتيانه بداعي المولى؟!

285

نعم، في التجرّي بالنسبة إلى المولى العرفىّ الذي تنجّز حكم له على العبد مع احتمال أن يكون صلاح المولى في خلافه يعقل تحرّك العبد نحو الخلاف بداعي المولى(1).

 

 


(1) وفي ختام البحث عن التجرّي لا بأس بالإشارة إلى بحث الانقياد، وتوضيح فارق فنّيّ بين البابين فنقول:

إنّ من انقاد لأمر وصله بأىّ مرتبة من مراتب الوصول ولو غير منجّزة ـ بخلاف باب التجرّي الذي كان يشترط فيه التنجّز ـ فاستحقاقه للمدح على حسن السريرة لا إشكال فيه، كما لم يكن إشكال في استحقاق المتجرّي للذمّ على سوء السريرة حتّى عند المنكر لقبح التجرّي.

ونحن كما آمنّا في باب التجرّي بثبوت القبح، ودوران الذمّ مدار وصول موضوع الحقّ ولو خطأً، كذلك نقول في المقام بثبوت الحسن، واستحقاق المدح لمجرّد وصول موضوع الحقّ. ولو فرضنا تنزّلاً كون الحسن والقبح مشروطين بمطابقة الوصول للواقع، قلنا: قد ذكرنا في باب التجرّي أنّ أحد الحقّين للمولى هو حقّ الاحترام، وقد حصل بهذا الانقياد احترام المولى.

أمّا استحقاق الثواب، فلو قصد به وجوبه على الله تعالى كدين يطلبه الدائن أو أجرة يطلبها الأجير، فنحن لا نؤمن بذلك حتّى في الطاعة الحقيقيّة فكيف بالانقياد؛ فليس الثواب من الله تعالى إلّا فضلاً منه ورأفة ورحمة؛ لأنّ الوفاء بالحقّ لا يوجب شيئاً على ذي الحقّ، وليس حال الوفاء بالحقّ حال مخالفة الحقّ التي تثبت لذي الحقّ حقّ المجازاة.

ولو قصد به مجرّد حسن مثوبته، وأنّ هذا العبد أهل لأن يثاب، قلنا: إنّ هذا لا يدور مدار الوفاء بالحقّ واقعاً كما كان العقاب يدور مدار مخالفة الحقّ واقعاً، وإنّما يدور مدار الوفاء بما وصله ولو خطأً، إذن فحتّى لو قلنا في باب التجرّي بعدم استحقاقه للعقاب؛ لأنّ حقّ المولى عبارة عن حقّ عدم تفويت الفرض ولم يخالفه المتجرّي، أو قلنا ـ كما هو المختار ـ: إنّ عقاب المتجرّي أخفّ من عقاب العاصي؛ لأنّه خالف أحد الحقّين بخلاف العاصي الذي خالف كليهما، نقول هنا: بأنّ المنقاد المطابق فهمه للواقع مع المنقاد الذي أخطأ سيّان في استحقاق الثواب. وهذا هو الفارق الفنّىّ بين البابين الذي أردنا الإشارة إليه.

هذا. ولعلّه حينما يكون الوصول بشكل غير منجّز يكون استحقاق الثواب آكد؛ فإنّ من يتحرّك بوصول غير منجّز هو خير ممّن لا يتحرّك إلّا بالوصول المنجّز.