186

وأمّا قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، فحالها حال حكم العقل العملىّ، فالملازمة بينهما نفياً وإثباتاً أمر وجدانىّ يدركها واحد، ولايدركها آخر، ولاتقبل النقاش الفنّىّ.

 

الجهة الثانية في التثليث الوارد في التقسيم

 

يقع البحث في هذه الجهة عن التثليث الذي ذكره الشيخ(رحمه الله)، وهو: أنّ المكلف: إمّا أن يحصل له القطع، أو الظن، أو الشكّ.

وهنا إيرادان:

الإيراد الأوّل: دعوى لزوم التداخل؛ لأنّ الظنّ غير المعتبر حكمه حكم الشكّ، مع أنّه داخل في الظنّ، فإن كان داخلاً فيما أراده الشيخ(رحمه الله) بالشكّ لزم ما ذكرناه من التداخل، وإلّا ورد عليه: أنّه لابدّ من إدخاله في المراد بالشكّ؛ لأنّ حكمه هو حكم الشكّ، فتخصيص القسم الثالث بغير الظنّ ولو لم يكن معتبراً جزافٌ.

وأمّا الجواب عن ذلك: بأنّ المقصود هو التقسيم باعتبار الأحكام الذاتيّة(1) وهي ضروريّة الحجّيّة للقطع، وامتناعها للشكّ وإمكانها للظنّ، فغير صحيح؛ فإنّه إن اُريد بالشكّ الترديد ومجموع الاحتمالين، فامتناع جعل الحجّيّة له مسلّم، لكن هذا ليس استيعاباً للأقسام؛ إذ لم يذكر حكم أحد الاحتمالين.

مضافاً إلى أنّ إرادة مجموع الاحتمالين من الشكّ خلاف سياق كلام الشيخ(قدس سره) حيث جعله في سياق الظنّ والقطع، وكلّ منهما عبارة عن طرف واحد؛ إذ لايمكن الظنّ أو القطع بكلا الطرفين.

وإن اُريد به أحد الاحتمالين، فجعل الحجّيّة له بمكان من الإمكان؛ فإنّ الاحتمال له كشف ناقص بلا إشكال وإن كان معارضاً بكاشف مثله، ومن الممكن أن يجعل المولى الحجّيّة لأحد الكشفين، كما لو اعتقد ـ مثلاً ـ أنّ احتمال ثبوت التكليف أغلب مصادفة للواقع من احتمال عدمه، فجعل احتمال التكليف حجّة.


(1) كما قد يستظهر ذلك من عبارة الشيخ الأعظم(رحمه الله) في أوّل البراءة، فراجع.

187

والتحقيق في المقام: أنّه تارة يفرض أنّ مقصود الشيخ(قدس سره) من هذا التقسيم بيان أقسام مباحث الكتاب.

واُخرى يفرض أنّ مقصوده بيان أقسام موضوع الوظائف العمليّة:

أمّا على الأوّل: فيمكن حمل الشكّ في كلامه على ما يعمّ الظنّ غير المعتبر من دون أن يرد عليه إشكال التداخل؛ وذلك لأنّ الظنّ والشكّ وإن كانا قد يتصادقان في مورد واحد، ولكنّهما لايتداخلان من حيث العنوان، فالظنّ يبحث عنه في باب الظنّ من حيث أنّه هل هو معتبر، أو لا، وبعد فرض عدم اعتباره يدخل فيما يبحث عنه في باب الشكّ، وهو البحث عمّا هو الأصل الجاري في المقام ما دام المفروض عدم حجّيّته.

إلّا أنّ هذا الفرض لايناسب ما في عبارة الشيخ(رحمه الله) من الترديد حيث يقول: «إمّا أن يحصل له القطع، أو الظنّ، أو الشكّ»؛ فإنّ ظاهر ذلك عدم التصادق في المورد أيضاً، فالمناسب لتعبيره(قدس سره) هو الفرض الثاني.

وأمّا على الثاني: فيرد إشكال التداخل على كلام الشيخ(رحمه الله) ما لم يحمل الظنّ في كلامه على الظنّ المعتبر بإخراج الظنّ غير المعتبر من هذا العنوان، وإدخاله في العنوان الثالث، وهو الشكّ، ويشهد لهذا الحمل ما صنعه الشيخ(قدس سره) في أوّل البراءة حيث ذكر عين هذا التقسيم وقيّد الظنّ ـ على ما أتذكّر ـ بكونه معتبراً (1).

والإيراد الثاني: دعوى أنّ التثليث الذي جاء في عبارة الشيخ الأعظم(قدس سره) في غير محلّه، وينبغي تثنية الأقسام كما صنعه المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) بناءً منه على تعميم الحكم للواقعىّ والظاهرىّ، فالظنّ المعتبر على هذا يساوق القطع بالحكم، وغير المعتبر ملحق بالشكّ، فلا يبقى إلّا قسمان.

والجواب: أنّنا قد ذكرنا أنّ تقسيم الشيخ(رحمه الله): إمّا بلحاظ أقسام كتابه، أو بلحاظ أقسام موضوعات الوظائف العمليّة، فإن كان باللحاظ الأوّل، فالمتعيّن هو التثليث؛ لأنّ أبحاث كتابه ثلاثة لااثنان: (بحث القطع، وبحث الظنّ، وبحث الشكّ).

وإن كان بلحاظ الثاني فالمتعيّن ـ أيضاً ـ هو التثليث؛ فإنّ موضوعات الوظائف ثلاثة:


(1) الموجود في عبارة الشيخ(رحمه الله) في أوّل البراءة الإشارة إلى إمكانيّة اعتبار الظنّ، وعدم إمكانيّة اعتبار الشكّ، وحجّيّة القطع بنفسه، وهذا أقرب إلى ما مضى: من الحمل على الأحكام الذاتيّة للقطع والظنّ والشكّ ممّا ذكر هنا من الحمل على إخراج الظنّ غير المعتبر من العنوان الثاني، وإدخاله في العنوان الثالث.

188

العلم، والظنّ، والشكّ. ولاوجه لإلغاء الثاني وإرجاع الأقسام إلى قسمين؛ إذ ليس المقصود إرجاع الأقسام إلى عنوان جامع، وإلّا أمكن إرجاعها إلى عنوان واحد، وهو العلم بالوظيفة العمليّة الذي هو أعمّ من العلم بالوظيفة الشرعيّة أو العقليّة.

 

الجهة الثالثة في متعلّق الأقسام

 

بعد الفراغ من أنّه ينبغي تثليث الأقسام لاتثنيتها، هل ينبغي جعل متعلّق هذه الأقسام ـ وهي: العلم، والظنّ، والشكّ ـ خصوص الحكم الواقعىّ، أو ما هو أعمّ من الواقعىّ والظاهرىّ؟

ذهب السيّد الاُستاذ إلى الثاني، بتقريب: أنّه كما يكون القطع والظنّ والشكّ بالحكم الواقعىّ مورداً للأثر كذلك الحال في القطع والظنّ والشكّ بالحكم الظاهرىّ، فلاوجه لتخصيص الحكم بالواقعىّ.

والموجود في (الدراسات) هو جعل متعلّق الأقسام خصوص الحكم الواقعىّ، لكنّه قد صرّح في البحث بما نقلناه عنه(1).

 


(1) ذكر الاُستاذ الشهيد ـ (رضوان الله تعالى عليه) ـ: أنّه أورد على اُستاذه فيما بين الصلاة والدرس: أنّ الاُصول العمليّة لاتجري بلحاظ الحكم الظاهرىّ؛ لأنّ التنجيز والتعذير إنّما يكونان بلحاظ الواقع، ولامجال لجريان أصالة البراءة أو الاشتغال بلحاظ الحكم الظاهرىّ؛ لأنّها إن جرت بلحاظ الحكم الظاهريّ على خلاف ما هي جارية بلحاظ الحكم الواقعىّ، فلابدّ من الأخذ بما جرى بلحاظ الواقع، وإن جرت بلحاظ الحكم الظاهريّ بالشكل المماثل لجريانها بلحاظ الواقع، فهي لغو؛ إذ كان جريانها بلحاظ الواقع مغنياً من جريانها بلحاظ الظاهر.

قال الاُستاذ الشهيد (رضوان الله عليه): إنّ كلامي هذا كان على وفق مبنى السيّد الاُستاذ القائل بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة، فلاتبقى إلّا أصالة البراءة والاشتغال، وقد قلنا: إنّهما إنّما يجريان بلحاظ الواقع.

وقال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): إنّ السيّد الاُستاذ أجاب عن الكلام بالنقض، فأجبت عن النقض، فأتى بنقض آخر،وأجبت عنه، وهكذا إلى النقض السابع، فأجبت عنه، وأخذ يفكّر في الموضوع، إلّا أنّه حان وقت الدرس، فبدأ بالدرس، وانقطعت سلسلة البحث في هذه المسألة.

وقد نقل لي الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) تلك النقوض السبعة مع أجوبتها من دون الالتزام بالترتيب بين النقوض بالشكل الذي جرى على لسان اُستاذه حيث كان (رضوان الله عليه) ناسياً للترتيب، إلّا في النقض الأوّل الذي

189


ذكر(رحمه الله) أنّه هو النقض الأوّل من النقوض السبعة لاُستاذه.

وإليك النقوض السبعة مع أجوبتها:

الأوّل: أنّنا لو شككنا في تكليف ما مع احتمال أنّ الشارع أوجب علينا الاحتياط بالنسبة إليه، جرت البراءة عن وجوب الاحتياط.

والجواب: أنّ نفس التكليف الواقعىّ الذي لم يتنجّز لابوصوله بنفسه ولابوصول دليل احتياطه، تجري عنه البراءة، وتغنينا من إجراء البراءة عن وجوب الاحتياط، بل البراءة عن الواقع حاكمة على البراءة عن الاحتياط، لأنّها دليل اجتهادىّ على عدم وجوب الاحتياط، فيتقدّم على البراءة عن وجوب الاحتياط التي هي أصل عملي (1).

الثاني: إذا قامت الأمارة المحتملة الخطأ على حكم إلزامىّ في شيء معيّن، ثمّ وقع الاشتباه بينه وبين شيء آخر، فحصل العلم الإجمالىّ بأحد الشيئين بلحاظ الحكم الظاهرىّ، جرت أصالة الاحتياط بهذا اللحاظ.

والجواب: أنّ تلك الأمارة أسقطت الاُصول المؤمّنة بالنسبة إلى الواقع، فكان احتمال الواقع في كلّ واحد من الطرفين احتمالاً للواقع المنجّز، فيجب الاحتياط فيه بلحاظ نفس الواقع.

الثالث: إذا قامت الأمارة المحتملة الخطأ على حكم إلزامىّ، وشككنا في أنّها هل قامت على الوجوب أو على الحرمة، فقد دار الأمر بين المحذورين ظاهراً، والأصل الجاري فيه يجري بلحاظ هذا الظاهر.

والجواب: أنّنا إن قلنا: إنّ قيام الدليل على حكم إلزامىّ مع التردّد في أنّه هل قام على الوجوب، أو على الحرمة غيرُ كاف في البيان، وغيرُ مانع عن البراءة، جرت البراءة فيما نحن فيه بلحاظ الواقع؛ إذ لم يتمّ البيان بالنسبة إليه.

وإن قلنا: إنّ هذا كاف في البيان وتنجيز الواقع، وإنّ الأصل الجاري في المقام إنّما هو أصالة التخيير، لا البراءة، إذن فاحتمال التكليف الواقعىّ المنجّز موجود في كلا الطرفين من الفعل والترك، وعليه فكما أنّ الأمر مردّد بين المحذورين بالنسبة إلى الواقع في مورد القطع بدورانه بين الوجوب والحرمة ـ بلحاظ أنّ ارتكاب كلّ واحد من الطرفين موجب لاحتمال مخالفة تكليف منجّز ـ كذلك الحال في المقام؛ إذ نفس الاحتمال موجود فيما نحن فيه في كلّ واحد من الطرفين بلحاظ الواقع، وتجري أصالة التخيير بلحاظ الواقع.

وهنا أفاد الاُستاذ الشهيد(قدس سره) كلاماً مستقلّاً غير ما دار بينه وبين اُستاذه في تلك المباحثة، وهو: أنّنا حتّى لو قلنا بجريان البراءة الشرعيّة فيما لو حصل القطع بإلزام واقعىّ مردّد بين الوجوب والحرمة، أو قامت الأمارة على الجامع بينهما، لاتجري البراءة عند ما قامت الأمارة على حكم إلزامىّ معيّن، ثمّ اشتبه بين الوجوب والحرمة؛ لأنّ تلك الأمارة القائمة على أحدهما بالخصوص حاكمة على البراءة ومانعة عن جريانها(2).

الرابع: إذا صلّى بطهارة استصحابيّة، وشكّ بعد ذلك في الركوع مثلاً، جرت بشأنه قاعدة الفراغ؛ لتصحيح الصلاة، مع أنّ صحّة صلاته من أوّل الأمر لم تكن إلّا صحّة ظاهريّة؛ لأنّ طهارته استصحابيّة بحسب الفرض.

والجواب ـ بغضّ النظر عن أنّ هذا خروج عن المقام؛ لأنّ الكلام في الاُصول الجارية في الشبهات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بناءاً على مبنى القوم من حكومة الأمارة على الأصل الموافق لها.

(2) هذا بناءً على تصوير الحكومة على أساس أنّ الأمارة علمٌ اعتباريّ أو تنزيليّ.

190

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ الجمع بين التثليث وتعميم الحكم للواقعىّ والظاهرىّ مستلزم للتداخل(1)، فإنّ القطع بالحكم الظاهرىّ ظنّ معتبر بالواقع في مورد الأمارات، وشكّ فيه في مورد


الحكميّة، لا الموضوعيّة ـ: أنّ قاعدة الفراغ إنّما جرت بلحاظ الواقع؛ كي تحكم بصحّة الصلاة الواقعيّة من هذه الناحية، وتفيد أنّك قد أتيت بالركوع.

وبتعبير آخر: أنّ كلّ جزء وشرط من أجزاء الصلاة وشرائطها لابدّ من إحرازه وجداناً أو تعبّداً، وقد أحرز الركوع بقاعدة الفراغ، والطهارة بالاستصحاب، فالاستصحاب وقاعدة الفراغ قد جريا في عرض واحد بلحاظ الواقع.

الخامس: إذا ثبتت طهارة الشيء بأصالة الطهارة في شبهة حكميّة، (1) ثمّ شكّ في تنجّسه بشبهة حكميّة أيضاً، كما لو لاقى المتنجّس، وشككنا في منجّسيّة ملاقاة المتنجّس، جرى استصحاب تلك الطهارة الظاهريّة.

قال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): ولاضير هنا في إجراء الاستصحاب على مبنى السيّد الاُستاذ برغم أنّ الشبهة حكميّة؛ لأنّ السيّد الاُستاذ يرى جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة.

والجواب: أنّ هذا الاستصحاب غير جار؛ للقطع ببقاء المستصحب، وهو الطهارة الظاهريّة؛ لبقاء موضوعها، وهو الشكّ في الطهارة الواقعيّة، غاية الأمر أنّ منشأ الشكّ ابتداءً كان شيئاً واحداً، والآن حصلنا على منشأين للشكّ.

السادس: جريان الاستصحاب في الملكيّة الظاهريّة الثابتة بقاعدة اليد إذا شكّ في ارتفاعها بالبيع مثلاً.

والجواب ـ بغضّ النظر عن أنّه خروج عمّا نحن فيه؛ لكون الشبهة موضوعيّة ـ: أنّ الاستصحاب إنّما يجري بلحاظ الملكيّة الواقعيّة، فإنّ استصحابها صحيح أنّه كان بحاجة إلى اليقين والشكّ، لكنّ الشكّ ثابت بالوجدان، واليقين ثابت بالتعبّد بحكم قاعدة اليد (2).

السابع: أنّه في الاُصول المتعارضة لابدّ من الرجوع إلى وظيفة: من تخيير، أو تساقط، أو تقديم أحدهما على الآخر.

والجواب: أنّ الكلام إنّما هو في جريان الأصل مع كون موضوعه الشكّ في الحكم الظاهرىّ، لا في رفع ذاك الشكّ، وإثبات أحد طرفي الشكّ، ومورد النقض من هذا القبيل، فهو خروج عمّا نحن فيه.

أقول: هذا يعني: أنّ الحكم الظاهرىّ هنا حكم واحد، وهو الثابت بالأخير بعد إعمال وظيفة التعارض بين خبري البراءة والإحتياط، لابين نفس الأصلين، فلايقاس هذا باستصحاب الحكم الظاهرىّ الذي ثبت حدوثاً و شُكّ بقاءً.

(1) هذا بناءً على أنّ التقسيم بلحاظ الآثار، كما هو المستفاد من استدلال السيّد الخوئىّ على ضرورة كون متعلّق الأقسام هو الحكم الجامع بين الواقعىّ والظاهريّ باشتراكهما في ترتّب الأثر على ما يتعلّق بهما من القطع والظنّ والشكّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا داعي إلى هذا القيد.

(2) هذا بناءً على أنّ الأمارات تقوم مقام القطع الموضوعىّ.

191

الاُصول الشرعيّة.

وثانياً: أنّ ما ذكره من لزوم تعميم الحكم للواقعىّ والظاهرىّ موقوف على تسليم كون الشكّ في الحكم الظاهرىّ موضوعاً للوظائف العمليّة الثابتة بأمارة أو أصل، وكونهما منجّزين للحكم الظاهرىّ، في حين أنّه ليس الأمر كذلك.

وهنا خرجنا عن البحث اللفظىّ البحت في التقسيم الذي ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره) الذي لا يعدو عن كونه مناقشة في التعبير، وانتهينا إلى بحث فنّىّ.

وحاصل هذا البحث الفنّيّ هو: أنّ الشكّ في الحكم الظاهرىّ هل هو كالشكّ في الحكم الواقعىّ يكون موضوعاً لوظيفة عمليّة ثابتة بالأمارة أو الأصل، وهما منجّزان لذاك الحكم الظاهرىّ، أو لا؟

والكلام في ذلك: تارة يقع في الاُصول غير التنزيليّة.

واُخرى في الأمارات والاُصول التنزيليّة:

أمّا الاُصول غير التنزيليّة، فمحطّ النظر منها هنا أربعة اُصول، وهي: أصالة البراءة، وأصالة الاشتغال الشرعيّتان والعقليّتان، ولايقع الشكّ في الحكم الظاهرىّ ـ بما هو كذلك ـ موضوعاً لواحد منها أصلاً.

أمّا أصالة الاشتغال الشرعيّة، فإنّما يجعلها الشارع بملاك الاهتمام بغرضه، وغرضه إنّما هو في الحكم الواقعىّ؛ إذ الحكم الظاهرىّ ليس إلّا طريقاً صرفاً، ولانقول بالسببيّة، فموضوع إيجاب الاحتياط ـ دائماً ـ هو الشكّ في الواقع، غاية الأمر أنّ الشكّ في الواقع تارة يجعل ـ على الإطلاق ـ موضوعاً لأصالة الاشتغال، واُخرى يجعل بقيد قيام أمارة ما على الواقع موضوعاً لها؛ لكون المصادفة للواقع في ظرف قيام الأمارة أكثر مثلاً، فيشتدّ ملاك الاهتمام بالواقع، وهذا غير مسألة وقوع الشكّ في الحكم الظاهرىّ ـ من حيث هو كذلك ـ موضوعاً لأصالة الاشتغال.

وأمّا أصالة الاشتغال العقليّة، فهي ـ أيضاً ـ إنّما تكون بملاك التحفّظ على مطلوب المولى عند سقوط الاُصول المؤمّنة، وليس مطلوب المولى إلّا الواقع، والحكم الظاهرىّ طريق صرف، غاية الأمر أنّه قد يكون قيام الحكم الظاهرىّ هو الموجب لسقوط الاُصول

192

المؤمّنة، كما لو قامت البيّنة على نجاسة أحد شيئين، فوجب الاجتناب من كليهما احتياطاً للعلم الإجماليّ، فهذا لايعني أنّ قيام البيّنة صار ـ بما هو ـ موضوعاً لوجوب الاحتياط، بل يعني: أنّ قيام البيّنة أسقط الاُصول المؤمّنة، وبقي احتمال الواقع بلا معذّر، فوجب الاحتياط فيه عقلاً.

وأمّا البراءة الشرعيّة، فسيأتي ـ إنْ شاء الله ـ أنّها في الحقيقة رفع لإيجاب الاحتياط الشرعىّ، إذن فموضوعها عين موضوعه.

وأمّا البراءة العقليّة، فهي عبارة عن قبح العقاب بلا بيان، والعقاب إنّما هو بلحاظ الواقع لا بلحاظ الحكم الظاهرىّ الذي هو طريق محض.

وإن شئت قلت في باب البراءة، شرعيّة كانت أو عقليّة: إنّها لو جرت بلحاظ الحكم الظاهرىّ، تساءلنا عن الحكم الواقعىّ، هل جرت بلحاظه البراءة أيضاً، أو لا؟ فإن لم تجر البراءة بلحاظ الواقع، وكان احتمال العقاب على مخالفة الواقع قائماً، فأىّ فائدة في إجراء البراءة عن الحكم الظاهرىّ عند ما لابدّ له من الاحتياط اتّجاه الحكم الواقعىّ؟!

وإن جرت البراءة بلحاظ الواقع، وأصبح مأموناً عن العقاب عليه، فأىّ حاجة تبقى للعبد إلى البراءة عن الحكم الظاهرىّ بعد أن أصبح مأموناً عن العقاب على الواقع، والحكم الظاهرىّ لاعقاب عليه؟!

وأمّا الأمارات والاُصول التنزيليّة، فقد يكون الشكّ في الحكم الظاهرىّ موضوعاً لها، كما لو دلّ الاستصحاب على بقاء حجّيّة خبر الواحد، أو دلّ ظاهر الكتاب على حجّيّته مثلاً، ولكنّ ذلك منجّز للواقع رأساً، وليس منجّزاً أوّلاً للحكم الظاهرىّ كي يسري ـ بعد ذلك ـ التّنجيز منه إلى الواقع، ولذا لو فرضنا أنّه ثبتت بظاهر الكتاب أو بالاستصحاب حجّيّة خبر الواحد القائم على وجوب صلاة الجمعة مثلاً، في حين أنّه لم يكن في الواقع خبر الواحد حجّة، وكانت صلاة الجمعة في الواقع واجبة، وتركها المكلّف برغم ثبوت وجوبها له ظاهراً، كان مستحقّاً للعقاب على المعصية، لاعلى صرف التجرّي؛ وذلك لأنّه خالف الواقع بلا عذر، في حين أنّه لو كان التنجيز ثابتاً على الحكم الظاهرىّ كي يسري

193

منه إلى الواقع، لم يكن معاقباً بغير عقاب التجري؛ لعدم ثبوت الحجّيّة في الواقع(1).

هذا تمام الكلام فيما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره) من التقسيم وموضوعه ومتعلّق الأقسام.

 

 

 


(1) وواقع المطلب: أنّ روح الحجّيّة عبارة عن التنجيز والتعذير، بمعنى: إبراز المولى ما يترتّب عليه عقلاً التنجيز والتعذير، والحكم الظاهرىّ لايقبل التنجيز والتعذير بلحاظ نفسه؛ لكونه طريقاً محضاً، وغير مشتمل على الملاك النفسىّ، ولذا لو قطعنا بعدم تنجيز الواقع لم يكن معنىً لافتراض حكم ظاهرىّ ملزم، إذن فحقيقة الأمر هي: أنّ التنجيز يثبت رأساً للواقع.

وبكلمة اُخرى: أنّ روح الحكم الظاهرىّ عبارة عن الحجّيّة التي هي في روحها عبارة عن التنجيز، ولامعنىً لتنجيز التنجيز إلّا تنجيز أصل الحكم.

195

بحث القطع

2

 

 

 

حُجّيّة القطع

 

 

 

○ أساس حُجّيّة القطع.

○ جعل الحُجّيّة ورفعها في القطع.

○ الفروع الموهمة للترخيص في مخالفة العلم.

 

 

 

 

197

 

 

 

 

ذكر المحقّق الخراسانىّ(قدس سره) وغيره: أنّ بحث حجّيّة القطع خارج من مباحث علم الاُصول، وإنّما يبحث هنا بالمناسبة.

والوجه في ذلك: أنّ حجّيّة القطع لايستنبط منها الحكم الشرعىّ؛ فإنّ المفروض في موضوعها هو الوصول إلى الحكم الشرعىّ؛ لأنّه القطع بالحكم الشرعىّ، فلو عرّفت القاعدة الاُصوليّة: بأنّها ما تقع كبرى في طريق استنباط الحكم الشرعىّ ـ مثلاً ـ كما قيل، فحجّيّة القطع لم تكن كذلك، بل الاُصول العقليّة ـ أيضاً ـ ليست كذلك؛ إذ لاتوصلنا إلى حكم الشرع.

ولو عطفت على ذلك جملة: (أو ما ينتهى إليه في مقام العمل) إدخالاً للاُصول العمليّة، أمكن القول: إنّ هذا لايدخل حجّيّة القطع في التعريف؛ لأنّ الانتهاء إليه في مقام العمل يعني: أنّه بعد الفحص واليأس ينتهي الأمر في مقام العمل إليه، في حين أنّ فرض القطع هو فرض الظفر بالمطلوب وعدم اليأس.

ويمكن القول في قبال ذلك: إنّه لايشترط في القاعدة الاُصوليّة الوصول عن طريقها إلى الحكم الشرعىّ مع عطف جملة (أو ما ينتهى إليه في مقام العمل) مثلاً، بل من أوّل الأمر نقول: إنّ ما يقع كبرى في قياس التنجيز والتعذير، فهو داخل في علم الاُصول، وحجّيّة القطع من هذا القبيل.

وذكر المحقّق الأصفهانىّ(رحمه الله): أنّ اُصول الفقه عبارة عن المبادئ التي يصل الفقيه بمعونتها إلى غرضه؛ ولذا سمّيت اُصولاً للفقه، وغرض الفقيه بما هو فقيه إنّما هو: فهم الحكم الشرعىّ الذي هو مفروغ منه في المرتبة السابقة على حجّيّة القطع، فهذا البحث خارج عن علم الاُصول.

ويرد عليه: منع كون غرض الفقيه بما هو فقيه منحصراً في ذلك، بل فهم التنجيز والتعذير العقليّين ـ أيضاً ـ داخل في غرضه؛ ولذا لو لم يجد الفقيه في مسألة ما دليلاً على

198

الحكم، حتّى على مستوى الأصل العمليّ الشرعىّ، ووصلت النوبة في رأيه إلى البراءة العقليّة، نراه يفتي في رسالته العمليّة بالإباحة؛ اعتماداً على ما نقّحه في علم الاُصول من البراءة العقليّة، مع أنّها ليست حكماً شرعيّاً.

والتحقيق(1): أنّ حجّيّة القطع خارجة عن المسائل الاُصوليّة؛ لأنّها غير دخيلة أصلاً في عمليّة الاستنباط في الفقه، ولاتشكّل أيّ مقدّمة في القياس الفقهىّ.

وتوضيح ذلك: أنّ هدف الفقيه في استنباطه ليس إلّا الوصول إلى القطع بالحكم، أو ما يقوم مقام القطع به: من الأمارات، أو الاُصول الشرعيّة، أو العقليّة، وبعد تحصيل القطع لايترقّب الفقيه ـ بما هو فقيه ـ أىّ شيء آخر، فمباحث الأمارات والاُصول الشرعيّة والعقليّة إنّما نعدّها من علم الاُصول؛ لأنّها دخيلة في القياس الفقهىّ ولو على مستوى تنجيز الحكم، لكن القطع لايعتبر داخلاً في القياس الفقهىّ وإن كان هو ـ أيضاً ـ منجّزاً للحكم، وعلم الفقه شأنه شأن كلّ العلوم الاُخرى التي تكون الغاية القصوى فيها هي تحصيل القطع بالنتائج، وبعد فرض حصول القطع لايترقّب شيء.

 

أساس حُجّيّة القطع

 

ولنبحث الآن أساس حجّيّة القطع.

إنّ حجّيّة القطع لها معنيان:

الأوّل: صحّة الاعتماد عليه في مقام اقتناص الواقع كشفاً وعملاً، وهذه هي الحجّيّة بالمعنى المنطقىّ، والتي أسميناها في كتاب (فلسفتنا) بنظريّة المعرفة، وليس هنا محلّ بحثها.

والثاني: كونه منجّزاً ومعذّراً، وهذه هي الحجّيّة بالمعنى الاُصولىّ، وهي المعنى المبحوث عنه هنا.

وهذه من أحكام العقل العمليّ التي أدخلوها جميعاً تحت قاعدة حسن العدل وقبح


(1) هذا البيان لإخراج حجّيّة القطع عن المسائل الاُصوليّة لم يذكره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) هنا في الدورة التي حضرت فيها بحث القطع، وإنّما أخذته من بحثه في تعريف الاُصول في أوّل علم الاُصول في دورته الأخيرة.

199

الظلم، فتكون حجّيّة القطع عندهم من صغريات قاعدة حسن العدل وقبح الظلم.

ومن هنا تختلف المبانىّ في حجّيّة القطع باختلافها في تلك القاعدة، فالمشهور بين الاُصوليّين: أنّ حسن العدل وقبح الظلم أمر واقعىّ يدركه العقل من قبيل الإمكان والامتناع، وعلى هذا فحجّيّة القطع ـ أيضاً ـ من هذا القبيل.

وذهب جماعة من الاُصوليّين إلى ما هو مبنى الفلاسفة: من أنّ حسن العدل وقبح الظلم حكم عقلائىّ حكم به العقلاء لصالح نظامهم الاجتماعىّ، وهذا ما يسمّى في المنطق بــ (المشهورات). وعلى هذا فحجّيّة القطع ـ أيضاً ـ من مجعولاتهم.

وربّما يتراءى من بعض العبائر مبنىً ثالث واضح البطلان، ولعلّه ليس مقصوداً بالعبارة، وهو: أنّ حسن العدل وقبح الظلم حكم إلزامىّ للعقل، فالعقل هو الذي يحكم على الإنسان بوجوب العدل، وينهاه عن الظلم، وعليه فحجّيّة القطع ـ أيضاً ـ من هذا القبيل. ولكن من الواضح: أنّ العقل وظيفته الإدراك لاالحكم.

وقد أورد السيّد الاُستاذ على المبنى الثاني إيرادين انتصاراً للمبنى الأوّل:

الأوّل: أنّ حجّيّة القطع لو كانت من مجعولات العقلاء لنظامهم الاجتماعىّ، لما كان حجّة للفرد الأوّل من البشر، في حين أنّ القطع كان حجّة له أيضاً.

والثاني: أنّها لو كانت من مجعولاتهم للنظام الاجتماعىّ، لم يكن حجّة بالنسبة إلى الأوامر غير الدخيلة في وضعهم الاجتماعىّ الثابتة تعبّداً بالشرع، فماذا يقال في تلك الأوامر؟!

ويرد على الأوّل: أنّه إن أراد بحجّيّة القطع لآدم(عليه السلام) حجّيّته بمعنى أنّه لو رأى مائعاً وقطع بكونه ماءً ـ مثلاً ـ لرتّب على قطعه الأثر بشربه عند ما يعطش، فهذا مسلّم وثابت في الحيوانات أيضاً، لكن هذه هي حجّيّة القطع بالمعنى المنطقىّ.

وإن أراد بالحجّيّة معنى التنجيز والتعذير، قلنا: لاسبيل لمعرفة حجّيّة القطع لآدم(عليه السلام) إلّا أحد أمرين:

الأوّل: التجربة بأن نظفر بإنسان عاش وحيداً، وفي غير مجتمع عقلائىّ، ورأيناه يعتقد بحجّيّة القطع لنفسه. وهذه التجربة لم تحصل.

والثاني: دعوى أنّ العقل قد أدرك حجّيّة القطع على الإطلاق، بلا فرق بين فرض

200

وجود مجتمع عقلائىّ وعدمه. وهذا يعني المصادرة على المطلوب.

ويرد على الثاني: أنّ المقصود بكون القطع حجّة ببناء العقلاء حفظاً للنظام الاجتماعىّ ليس هو دخل متعلّق الأمر في نظمهم، كي يقال: إنّ هناك أوامر غير دخيلة في النظم الاجتماعىّ، بل المقصود به: أنّ العقلاء رأوا أنّ في نفس التزامهم بأوامر رئيسهم مصلحة اجتماعيّة، ولو قطعوا في بعض أوامر الرئيس بأنّه أخطأ ـ مثلاً ـ في إصدار هذا الأمر، وأنّ متعلّقه لم يكن ذا مصلحة اجتماعيّة، فالمصلحة الاجتماعيّة في نظر العقلاء إنّما هي في نفس التقيّد بأوامر الرئيس.

والصحيح: أنّ استنتاج حجّيّة القطع من قاعدة حسن العدل وقبح الظلم في غير محلّه، سواء فسرّت القاعدة بالمبنى الأوّل، أو بالمبنى الثاني.

بيان ذلك(1): أنّ الظلم عبارة عن سلب ذي الحقّ حقّه، والعدل عبارة عن إعطائه إيّاه وعدم سلبه عنه، فلابدّ أن يفترض في المرتبة السّابقة حقّ، كي يقال: إنّ سلبه ظلم، وهذا الحقّ هنا عبارة عن حقّ المولويّة، فلو لم نفترض الآمر مولىً، لم يكن القطع منجّزاً أو معذّراً كما هو واضح. فإن كان المقصود من الاستدلال على حجّيّة القطع بقبح الظلم وحسن العدل إثبات مولويّة المولى بذلك، كان هذا دوراً واضحاً؛ فإنّ كون العمل بالقطع عدلاً ومخالفته ظلماً فرع مولويّة المولى، فلايمكن إثبات مولويّته بذلك.

وإن كان المقصود إثبات حجّيّة القطع بأمر المولى بعد فرض مولويّته في المرتبة السابقة، ورد عليه: أنّه بعد فرض مولويّة المولى فيما نقطع به من أحكامه تثبت الحجّيّة للقطع بلا حاجة إلى قاعدة حسن العدل وقبح الظلم التي يكون جريانها في طول المولويّة؛ فإنّ مولويّة المولى تعني: لزوم إطاعة أمره، وقد قطعنا بتحقّق الأمر بحسب الفرض.

وبكلمة اُخرى: أنّ حجّيّة القطع بمعنى التنجيز والتعذير ليست إلّا عبارة عما تتحقّق كبراها بفرض مولويّة المولى، وصغراها بنفس القطع بحكم المولى، وتكفي في ثبوت النتيجة تماميّة الصغرى والكبرى، ولو قطع العبد بحكم مولاه ومع ذلك لم يطعه، لم يكن له عذر إلّا أحد أمرين:


(1) ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في خارج مجلس البحث: أنّ أصل قاعدة حسن العدل وقبح الظلم قضيّة ضروريّة بشرط المحمول، ووضّح ذلك بما يقرب من نفس هذا البيان، ونحن لم نتعرّض لتوضيح ذلك هنا اعتماداً على ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ مفصّلاً في بحث الحسن والقبح العقليّين حيث تعرّض له اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)في بحثه هناك.

201

الأوّل: منع مولويّة المولى فيما قطع به من أمره، والمفروض هو الفراغ من مولويّته.

والثاني: إنكار وصول أمره إليه، والمفروض وصوله بالقطع الذي هو حجّة بالمعنى المنطقىّ بلا إشكال.

وهذه النتيجة أعني الحجّيّة يمكن نسبتها إلى القطع باعتبار وقوعه في صغراها، أمّا كونها من ذاتيّات القطع فلا، وإنّما هي من ذاتيّات مولويّة المولى.

وإن شئت فعبّر: بأنّها من ذاتيّات القطع بحكم المولى مع فرض التحفّظ على مولويّته فيما قطع به، أي: إنّها ذاتيّة لمجموع الصغرى والكبرى.

ومولويّة المولى على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن تكون مولويّة مجعولة لنفس المجتمع، كأن يجتمع العقلاء وينصبوا على أنفسهم سلطاناً؛ ليطيعوه باعتبار ما تقتضيه المصالح الاجتماعيّة. وفي هذا القسم تكون سعة دائرة الحجّيّة وضيقها دائرة مدار سعة جعل المولويّة وضيقها، فلو فرض ـ مثلاً ـ أنّهم جعلوه مولىً على أنفسهم في أوامره المظنونة دون أوامره المقطوعة، كان الظنّ هو الحجّة دون القطع.

والثاني: أن تكون مجعولة لمولىً فوق هذه المولويّة، كجعل مولويّة الرسول من قبلالله تعالى. والحجّيّة في هذا القسم ـ أيضاً ـ تتبع دائرة جعل المولويّة سعة وضيقاً، فلو فرض ـ مثلاً ـ جعل المولويّة في خصوص المظنونات، كان الظنّ هو الحجّة ـ أيضاً ـ دون القطع.

والثالث: أن تكون مولويّة ذاتيّة غير مجعولة لجعل جاعل. وفي هذا القسم لايتصوّر اختصاص المولويّة بغير ما قطع به من أوامره، فمن كان له حقّ الطاعة ذاتاً لا إشكال في ثبوت هذا الحقّ فيما قطع به من أوامره، فيكون القطع به حجّة.

والمفروض هو الفراغ من المولويّة الذاتيّة لله تعالى في علم الكلام(1)، وليس البحث عنها مربوطاً بعلم الاُصول. وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ القطع بحكم الشارع حجّة بلا إشكال.

 


(1) على أساس وجوب شكر المنعم، كما اشتهر على لسان المتكلّمين. وهناك أساس آخر له أيضاً، وهو: الملكيّة الحقيقيّة لله تعالى؛ إذ هو خالقنا وموجدنا، إذن فهو مالك لنا بالحقيقة. والأساس الصحيح ـ فيما أرى ـ هو الأوّل فحسب.

202

 

جعل الحُجّيّة ورفعها في القطع

 

وبعد هذا يبقى أن نرى أنّ هذه الحجّيّة هل هي قابلة للجعل التشريعيّ أو الردع، أو لا؟ فهنا مسألتان:

الاُولى: أنّ حجّيّة القطع غير قابلة للجعل التشريعىّ؛ لما عرفت: من أنّ حجّيّته بالمعنى الاُصولىّ ثابتة بضمّ مولويّة المولى إلى حجّيّة القطع بالمعنى المنطقىّ، فجعل حجّيّته بالمعنى الاُصولىّ لايكون إلّا بجعل حجّيّته بالمعنى المنطقىّ، أو بجعل المولويّة. ومن الواضح أنّ الشخص لايمكنه جعل مولويّة نفسه، كما أنّ حجّيّة القطع بالمعنى المنطقىّ ذاتيّة له، فلاتقبل الجعل، إذن فحجّيّة القطع بالحكم الشرعىّ بمعناها الاُصوليّ غير قابلة للجعل.

والثانية: أنّ حجّيّة القطع بحكم الشارع هل هي قابلة للردع، أو لا؟

ذكر بعض الأخباريّين حصول الردع عن العمل بقطع لم يحصل عن الأخبار والروايات. وقد شدّد النكير عليهم من قبل الاُصوليّين إلى مستوىً بدأ يبرز الأمر بما يشبه تشنيع إحدى طائفتين متعاندتين على الاُخرى. وعلى أىّ حال، فلابدّ من البحث في ذلك بشكل موضوعىّ، فنقول:

إن جميع ما ذكروه هنا لإثبات عدم إمكان الردع بعد دعوى البداهة يرجع إلى وجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ الردع عن العمل بالقطع يوجب اجتماع المتضادّين في الواقع، إن كان القطع مصادفاً للواقع، وفي الاعتقاد إن كان مخالفاً له، وكما أنّ اجتماع المتضادّين في الواقع مستحيل كذلك الاعتقاد بتحقّق المحال مستحيل.

الثاني: أنّ حكم الشارع بعدم حجّيّة القطع مناقض لحكم العقل بحجّيّته، ولايصحّ حكم الشارع بما يناقض حكم العقل.

الثالث: أنّ ردع الشارع عن العمل بالقطع نقض لغرضه.

أقول: تارة يفرض ردع الشارع عن حجّيّة تمام أفراد القطع، واُخرى يفرض ردعه عن بعض أفراده:

203

أمّا الأوّل: فلاإشكال في بطلانه؛ إذ لايمكن أن يترتّب أثر على هذا الردع، سواء وصل إلى المكلّف أو لم يصل، أمّا مع عدم الوصول، فواضح؛ إذ الأثر فرع الوصول، وأمّا مع الوصول وحصول القطع به؛ فلأنّ إسقاط تمام أفراد القطع عن الحجّيّة يساوق إسقاط نفس هذا القطع عن الأثر.

وأمّا الثاني: وهو الذي صدرت دعواه عن الأخباريّين، فلايرد عليه ما ذكرناه في الفرض الأوّل، ويبقى ما مضى من الوجوه الثلاثة لإبطاله، ففيما يلي نتعرّض لتمحيص تلك الوجوه:

أمّا الوجه الأوّل: وهو المضادّة بين الواقع والردع عن العمل بالقطع، فالتضادّ بينهما: إمّا أن يكون بلحاظ مبادئ الأحكام، وإمّا أن يكون بلحاظ المحرّكيّة.

أمّا التضادّ بلحاظ المبادئ، فهذا الإشكال بعينه يطرح في مسألة الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ أيضاً، فلابدّ من ملاحظة ما يختار من الجواب هناك؛ كي نرى أنّه هل يجري في المقام أيضاً، أو لا؟

والواقع: أنّ هذا يختلف باختلاف الأجوبة هناك، فمن كان مختاره هناك جواباً يجري في المقام، لايحقّ له إثبات عدم صحّة الردع عن القطع بلزوم التضادّ في المبادئ.

فمثلاً: من قال هناك في حلّ الإشكال: إنّ الحكم الظاهرىّ في طول الشكّ في الحكم الواقعيّ الذي هو في طول الحكم الواقعىّ، وإنّ تعدّد الرتبة كاف في دفع هذا التضادّ، وجب عليه أن يقول هنا ـ أيضاً ـ: إنّ الردع عن العمل بالقطع في طول القطع بالحكم الذي هو في طول الحكم، فيرتفع التضادّ.

وأمّا التضادّ بلحاظ المحرّكيّة، فهذا ـ أيضاً ـ من إشكالات الجمع بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ، ويجاب عنه في الجمع بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ: بأنّ الحكم الواقعىّ لو وصل، انتفى موضوع الحكم الظاهرىّ، ولو لم يصل، لم يكن محرّكاً.

وهذا الجواب ـ كما ترى ـ لايجري في المقام؛ إذ الحكم الواقعىّ واصل بالقطع، فيأتي ـ لامحالة ـ السؤال عن أنّه كيف يمكن الجمع بين محرّكيّة الحكم الواصل بالقطع، وبين الردع عن القطع؟

وتحقيق الكلام في المقام: أنّ التحرّك نحو أوامر المولى تارة يفترض بداعي المحرّكيّة

204

الشخصيّة، كما لو تحرّك نحو أوامر المولى حبّاً له، واُخرى يفترض بداعي ما يحكم به العقل من التنجيز ووجوب الطاعة وحجّيّة القطع، فإن كان المراد من التضادّ بين الردع والمحرّكيّة هو التضادّ بين الردع والمحرّكيّة الشخصيّة، قلنا: ليس هذا إشكالاً على ردع المولى؛ فإنّ المولى من شأنه ـ دائماً ـ الردع عن المحرّكيّات الشخصيّة، ولا استحالة في ذلك.

وإن كان المراد هو التضادّ بين الردع والمحرّكيّة العقليّة، قلنا: هذا رجوع إلى الوجه الثاني، وهو: أنّ ردع الشارع مناقض لحكم العقل، وهذا ما سنبحثه الآن.

وأمّا الوجه الثاني: وهو التضادّ بين ردع الشارع وحكم العقل، فتوضيحه على حدّ مصطلحات القوم: أنّ العقل حكم بكون الحجّيّة من ذاتيّات القطع، وذاتىّ الشيء يستحيل انفكاكه عنه.

إلّا أنّ صرف كون ما حكم به العقل من ذاتيّات القطع لايكفي في إثبات عدم إمكان الردع عنه، بل يجب أن يرى أنّ ما حكم به العقل، ويكون من ذاتيّات القطع، هل هو حجّيّة القطع المعلّقة على عدم الردع عنها، بحيث يكون الردع رافعاً لموضوع حكم العقل، أو هي الحجّيّة التنجيزيّة؟

فعلى الأوّل يصحّ الردع، وعلى الثاني لايصحّ الردع، وتعيين أحد الاحتمالين موكول إلى الوجدان، ولابرهان عليه.

وأمّا توضيحه على حدّ مصطلحاتنا، فهو: أنّ فرض مولويّة المولى هو فرض وجوب طاعته، فالردع عن ذلك ردع عن مولويّة المولى، وذلك مستحيل.

وهنا ـ أيضاً ـ نقول: إنّ صرف كون المولويّة عبارة عن استحقاق الطاعة لايكفي لإثبات عدم صحّة الردع، بل يجب أن يرى أنّ جوهر المولويّة هل هو عبارة عن حقّ الطاعة التنجيزيّ، أو عبارة عن حقّ الطاعة المعلّق على عدم إسقاطه؟ فعلى الأوّل لايقبل حقّ الطاعة الإسقاط، وعلى الثاني يقبل الإسقاط، من دون أن يستلزم ذلك إسقاط المولى نفسه عن المولويّة، كي يقال: إنّ هذا مستحيل. وتعيين أحد الاحتمالين هنا ـ أيضاً ـ موكول إلى الوجدان، ولابرهان عليه.

205

وأمّا الوجه الثالث: وهو كون إسقاط حجّيّة القطع نقضاً للغرض، فإن اُريد بالغرض الملاك الموجود في المتعلّق، رجع ذلك إلى الشقّ الأوّل من الوجه الأوّل، وهو: التضادّ بحسب عالم المبادئ.

وإن اُريد به الداعي إلى الجعل حيث يقال: إنّ المولى لو أراد الردع عن حجّيّة القطع بما أمر به، فما الذي دعاه إلى أصل الجعل؟!

قلنا: إنّ الداعي إلى أصل الجعل إنّما هو المحرّكيّة التي يقتضيها العقل، فيضيق ويتّسع بضيق تلك المحرّكيّة العقليّة وسعتها، فلو فرضنا أنّ تلك المحرّكيّة تعليقيّة، لم تكن مضادّة بين الداعي إلى الجعل والردع عن الحجّيّة، فلم يكن ذلك نقضاً للغرض، فلم يصحّ هذا الوجه على فرض تعليقيّة التحريك العقلىّ، كما لم يصحّ الوجه الثاني على هذا الفرض، أي: إنّ الوجهين متلازمان صحّة وبطلاناً. أمّا أنّ الصحيح هل هو تعليقيّة التحريك، أو تنجيزيّته؟ فقد مضى أنّ تعيين أحد الاحتمالين موكول إلى الوجدان، ولابرهان عليه.

أمّا الكلام في تحقيق أصل المطلب، فكما يلي:

إنّ غرض المولى تارة يفترض تعلّقه بحصّة خاصّة من الفعل، وهي: الإتيان به بداعي المحرّكيّة الشخصيّة على أساس حبّ العبد للمولى، لابداعي التنجيز العقلىّ، كما لو أراد المولى أن يمتحن عبده، ويرى أنّ حبّه له هل بلغ مرحلة تكفي لتحريكه للامتثال من دون تنجيز عقلىّ، أو لا؟

واُخرى يفترض تعلّقه بطبيعىّ الفعل من دون نظر إلى صدوره بالمحرّكيّة الشخصيّة أو المحرّكيّة المولويّة.

فإن فرض تعلّق الغرض بتلك الحصّة الخاصّة، كان إمكان إسقاط القطع عن الحجّيّة متوقّفاً على القول بتعليقيّة حقّ الطاعة، بمعنى كونه معلّقاً على عدم إسقاطه، فإن قلنا بتعليقيّة حقّ الطاعة، أمكن للمولى إسقاط القطع عن الحجّيّة بإسقاط حقّ الطاعة؛ كي يصبح أمره الإلزامىّ كالأمر الإلزامىّ الناشئ من قبل من لاتجب عقلاً طاعته على المأمور، وبذلك يجرّب المولى مدى حبّ العبد له، وأنّه هل بلغ حبّه إلى مستوىً يكفي

206

وحده لتحريك العبد نحو الامتثال، أو لا؟ وإن قلنا بتنجيزيّة حقّ الطاعة، لم يمكن ذلك(1).

وإن فرضنا تعلّق الغرض بطبيعىّ الفعل من دون نظر إلى صدوره بالتحريك الشخصىّ، أو التحريك المولوىّ، فهنا لايعقل الردع؛ لأنّ ردعه عن العمل بالقطع: إمّا أن يكون بالحكم النفسيّ، أو يكون بالحكم الطريقىّ:

أمّا الردع بالحكم النفسىّ، فغير معقول؛ لوقوع المضادّة بينه وبين الواقع من حيث المبادئ، وإنّما نحلّ هذا الإشكال في باب الجمع بين الحكم الظاهرىّ والواقعىّ باعتبار طريقيّة الحكم الظاهرىّ، وكونه ناشئاً بملاك التحفّظ على الواقع لابملاك نفسىّ، أمّا لو قيل: إنّ الحكم الظاهرىّ حكم نفسىّ، فلامفرّ من هذا الإشكال(2).


(1) الواقع: أنّ إسقاط حقّ الطاعة في المقام أو تعليقيّة حقّ الطاعة على عدم الإسقاط معقول بمعنى إسقاط الإلزام على نفس النسق المعقول في المستحبّات.

وتوضيح ذلك: أنّ هنا إشكالاً في تصوير الأمر غير الإلزامىّ الصادر عن المولى في المستحبّات، وهو: أنّه لماذا يجعل المولى أمره غير إلزامىّ؟ والجواب عنه (بأنّه إنّما جعله غير إلزامىّ لعدم بلوغ غرضه في الأهمّية إلى مستوى الإلزام) ربّما لايكفي في دفع الإشكال جذريّاً؛ إذ قد يقول القائل:

إنّ غرض المولى مهما كان ضئيلاً، فما دام تحقّقه خيراً من عدمه لاداعي لجعل الأمر به غير إلزامىّ، فلابدّ من تعميق الجواب بأن يقال:

إنّ غرض المولى قد تعلّق بالفعل، ومهما فرض ضئيلاً، ومعارضاً لمصلحة التسهيل مثلاً، فالمفروض أنّ الصعوبة الموجودة في الفعل على العبد لم تسقط الفعل ـ بالكسر والانكسار فيما بين المصالح ـ عن المحبوبيّة لدى المولى، وإلّا لما كان مستحبّاً أيضاً، ولكن يوجد في مقابل هذا الغرض غرض آخر للمولى متعلّق بعدم كون الأمر ملزماً، وهو غرض التسهيل، لابمعنى السهولة العمليّة للعبد بأن يترك الفعل لكون الترك أسهل من الفعل، بل بمعنى إعطاء الحرّيّة للعبد وعدم التضييق عليه بالإلزام، فالغرض الذي أوجب الأمر كامن في الفعل، والغرض الذي أوجب جعل الأمر غير إلزامىّ ليس كامناً في الترك كي يزاحم الغرض الأوّل ويسقطه، وإنّما هو كامن في كون العبد حرّاً في تصرّفه وعدم شعوره بالإلزام المولوىّ واللابدّيّة العقليّة، والجمع بين الغرضين يكون بإصدار الأمر غير الإلزامىّ، وما نحن فيه من هذا القبيل، فللمولى غرض متعلّق بالفعل، وفي نفس الوقت له غرض متعلّق بكون العبد حرّاً في تصرّفه، وأن لايشعر بالإلزام المولوىّ واللابدّيّة العقلّية، إلّا أنّه ليس هنا لأجل مصلحة التسهيل، وإنّما هو لأجل معرفة مدى تحرّك العبد بتحريك الحبّ وحده للمولى مثلاً، فالمولى ـ عندئذ ـ يصدر الأمر، ويجعله غير إلزامىّ، ويسمّى ذلك باسم إسقاط حقّ الطاعة، أو بأىّ اسم آخر.

(2) سيأتي في محله ـ إن شاء الله ـ أنّه بناءً على نفسيّة الحكم الظاهرىّ قد يدفع التضادّ بين المبدءين بافتراض أنّ الأمارة ليست سبباً لحدوث الملاك في نفس مصبّ ملاك الواقع، كي يقع التضادّ بينهما، بل هي سبب لحدوث الملاك في عنوان الانقياد.

إلّا أنّ هذا الوجه سواء تمّ هناك أو لم يتمّ لايعقل تطبيقه على المقام، إلّا بأن يحوّل إلى القول بأنّ ملاك الردع كامن في عدم الانقياد لمولويّة المولى، بمعنى عدم ثقل الكاهل بحقّ الطاعة، وهذا رجوع إلى الفرض الأوّل، وهو فرض تعلّق الغرض بحصّة خاصّة من الفعل، وهي: الحصّة التي لم تنشأ من التحريك المولوىّ.

207

وأمّا الردع بالحكم الطريقىّ، فغير ممكن؛ لأنّ الحكم الطريقىّ لايمكن أن يتنجّز على المكلّف بنفسه، وإنّما دوره هو دور تنجيز ما هو طريق إليه من الحكم الواقعىّ، والمفروض في المقام أنّ المكلّف قاطع بعدم وجود حكم واقعىّ يناسب تنجيزه بهذا الردع، فلايبقى أثر لهذا الحكم الطريقىّ.

وتوضيح ذلك:

أنّ الردع عن حجّيّة القطع بحكم طريقىّ لايخلو عن أحد فروض ثلاثة:

الأوّل: أن يفرض أنّ قطع المكلّف قد تعلّق بالإباحة، وأنّ المولى أراد ردعه عن حجّيّة القطع بإلزامه بفعل ما قطع بعدم وجوبه، أو ترك ما قطع بعدم حرمته؛ وذلك بملاك أنّ العبد يخطأ في بعض الأحيان في قطعه بالإباحة وعدم الإلزام؛ فحفاظاً على ملاك الواقع الكامن في موارد خطأ العبد حكم بعدم حجّيّة قطعه بنفي الإلزام حكماً طريقيّاً.

ويرد عليه: أنّ هذا الحكم الطريقىّ لا أثر له؛ إذ إنّه لايقبل التنجيز؛ لكونه طريقيّاً، ولايؤثّر في تنجيز الواقع؛ لأنّ المكلّف قاطع بعدمه.

فتبيّن: أنّ الردع عن معذّريّة القطع غير معقول بخلاف الردع عن معذّريّة الشكّ، فالردع عن معذّريّة الشكّ يكون بإيجاب الاحتياط إيجاباً طريقيّاً، أمّا الردع عن معذّريّة القطع لا يمكن أن يكون بحكم نفسىّ، ولابحكم طريقىّ، أمّا الأوّل، فلأنّه يؤدّي إلى التضادّ بين المبادئ، وأمّا الثانىّ، فلما قلنا: من أنّ هذا الحكم الطريقىّ لايقبل التنجيز؛ لكونه طريقيّاً، ولايؤثّر في تنجيز الواقع؛ لفرض القطع بعدمه.

الثاني: أن يفرض أنّ قطع المكلّف تعلّق بالإلزام، وأنّ المولى أراد إسقاط حجّيّة القطع بحكم طريقىّ؛ لعلمه بأنّ العبد قد يخطأ في قطعه، فيحصل له القطع بالإلزام في مورد لايوجد فيه الإلزام، ويفترض أنّ في التزام العبد بما تخيّله في موارد الخطأ من الإلزام مفسدة أكبر من المصلحة الكامنة في موارد عدم الخطأ، وهي مفسدة بروز الشريعة على شكل شريعة صعبة وغير سمحة مثلاً؛ فحذراً من هذه المفسدة الواقعيّة حكم المولى حكماً طريقيّاً بالردع عن حجّيّة قطع العبد بالإلزام.

ويرد عليه: أنّ هذا الحكم الطريقىّ لا أثر له؛ فإنّ هذا الترخيص في مخالفة القطع ترخيص اضطرارىّ بملاك التزاحم بين المصلحة في مورد والمفسدة في مورد آخر،

208

ودوران الأمر بينهما في كلّ ما قطع العبد فيه بالإلزام، ولكن المفروض أنّ العبد يقطع بعدم الدوران، وبأنّه قد ميّز موارد المصلحة من موارد المفسدة، فهو قادر على تحصيل كلا الغرضين، وفي هذا الفرض لايكون ترخيص المولى عذراً له.

الثالث: أن يفرض قطع المكلّف بالحكم الإلزامىّ في بعض الموارد، فى حين أنّه يكون الحكم في بعض موارد قطعه إلزاميّاً على عكس الإلزام الذي قطع به، بأن يكون بعض ما تخيّله واجباً محرّماً في الواقع أو بالعكس، فحرّم عليه المولى العمل بقطعه طريقاً للتحفّظ على الأحكام التي أخطأ العبد فيها.

وهذا الردع في الحقيقة له جانبان: جانب التنجيز للإلزام الذي قطع بخلافه، وجانب التعذير عن الإلزام الذي قطع به، والكلام في الجانب الأوّل هو الكلام في الفرض الأوّل، والكلام في الجانب الثاني هو الكلام في الفرض الثاني.

 

الفروع المُوهِمة للترخيص في مخالفة العلم

 

قد يذكر في المقام فروع يتخيّل فيها أنّ الشارع رخّص في مخالفة العلم بالحكم في تلك الفروع.

 

الفرع الأوّل: الدراهم عند الودعىّ

لو كان عند الودعىّ درهمان لزيد، ودرهم لعمرو، فُسرِق أحد الدراهم، فقد حُكِم بأنّ أحد الدرهمين يعطى لزيد، والآخر ينصّف بينهما. وهذا قد يؤدّي إلى مخالفة العلم التفصيلىّ، كما لو انتقل كلّ من النصفين إلى شخص، فاشترى بهما جارية، ووطأها.

أقول: تارة يقع الكلام في هذا الفرع من الناحية الفقهيّة، واُخرى من ناحية كونه نقضاً على حجّيّة القطع وعدم إمكانيّة الردع عنه.

أمّا الكلام من الناحية الفقهيّة، فتفصيله: أنّ هذه الدراهم تارة يفرض عدم معروفيّة ما كان منها لزيد، وما كان منها لعمروعلى أثر وقوع الخلط والامتزاج، واُخرى يفرض ذلك على أثر النسيان دون خلط أو امتزاج.

209

أمّا الفرض الأوّل: ففيه أقوال ثلاثة:

1 ـ إعطاء أحد الدرهمين لزيد، وتنصيف الآخر بينهما.

2 ـ تثليث الدرهمين، وإعطاء ثلثيهما لزيد، وثلثهما لعمرو.

3 ـ تشخيص مالك الدرهم الثاني بالقرعة التي هي لكلّ أمر مشكل.

أمّا القول الأوّل: وهو التنصيف، فيدلّ عليه أمران:

الأوّل: رواية السكونىّ، لكنّها ساقطة عن درجة الاعتبار؛ لضعف السند(1).

الثاني: قاعدة العدل والإنصاف، والدليل عليها ـ على ما أفاده السيّد الاُستاذ ـ هو السيرة العقلائيّة الممضاة من الشارع.

ومُفادها ـ على ما يستفاد من كلماته ـ مجموع أمرين:

الأمر الأوّل: الحكم التكليفىّ، وهو: أنّه إذا دار الأمر في مال بين وصول نصفه فقط قطعاً إلى المالك، أو وصول تمامه احتمالاً إليه، فمقتضى السيرة العقلائيّة هو الأخذ بالثاني.

والآخر: الحكم الوضعىّ، وهو: ثبوت الملك ظاهراً لكلّ من النصفين لمن يعطى له. وذكر في المقام: أنّ تنصيف المال بينهما الموجب لوصول أحد النصفين إلى صاحبه وفوات النصف الآخر عليه، يكون نظير صرف الحاكم نصف المال حسبة، مقدّمة لإيصال النصف الآخر إلى مالكه.

ولعلّه يقصد بذلك مجرّد التنظير والتقريب إلى الذهن.

وعلى أيّ حال، فتارة تفترض دعوى السيرة العقلائيّة على قاعدة العدل والإنصاف. وحجّيّتها في باب القضاء، ولعلّه المقصود للسيّد الاُستاذ، كما يشهد لذلك تنظيره بمسألة اختيار الحاكم إيصال نصف المال بصرف النصف الآخر.

واُخرى تفترض دعوى السيرة على ذلك، وحجّيّة القاعدة في نفسها، وبغضّ النظر عن باب القضاء. ولاتلازم بين حجّيّة الشيء في نفسه، وحجّيّته في مقام القضاء والحكم، فاليمين ـ مثلاً ـ حجّة في مقام الحكم، وليس حجّة في نفسه، والاستصحاب حجّة في


(1) المقصود بذلك ما ورد في الوسائل ج 13 باب 12 من الصلح ص 171 عن السكونىّ عن الصادق(عليه السلام) عن أبيه(عليه السلام) «في رجل استودع دينارين، فاستودعه آخر ديناراً، فضاع دينار منها، قال: يعطى صاحب الدينارين ديناراً، ويقسّم الآخر بينهما نصفين» والسند ضعيف بالنوفلىّ.

210

نفسه، وليس حجّة في مقام الحكم.

أمّا الدعوى الاُولى: وهي دعوى السيرة على قاعدة العدل والإنصاف في مقام فصل الخصومة، فإن ثبتت، لم تفدنا شيئاً؛ لأنّ هذه السيرة مردوعة بإطلاق الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ القضاء إنّما هو بالبيّنات والأيمان، فإنّها ناظرة إلى إسقاط كلّ ما يجعل فاصلاً للخصومة عدا البيّنة واليمين عن درجة الاعتبار، فلايمكن إثبات جواز فصل الخصومة بشيء آخر، إلّا بالنصّ الخاصّ، لا السيرة العقلائيّة(1).

وعلى أيّ حال، فلاحاجة لنا في باب فصل الخصومة إلى هذه السيرة؛ لدلالة النصّ الخاصّ على قاعدة العدل والإنصاف فيه، حيث ورد في فرض تعارض البيّنتين وعدم مرجّح لأحدهما على الاُخرى الحكمُ بالتنصيف(2).

ومقتضى الجمود على اللفظ هو الاقتصار في فصل الخصومة بهذه القاعدة على خصوص فرض تعارض البيّنتين المتساويتين، دون ما لم تكن هناك بيّنة أصلاً، لكن الظاهر عرفاً من الكلام: أنّ الحكم بالتنصيف يكون بنكتة أنّ البيّنتين بعد التعارض وعدم المرجّح كالعدم، فتتّجه حجّيّة هذه القاعدة في مقام فصل الخصومة حتّى مع عدم وجود البيّنة.

وأمّا الدعوى الثانية: وهي دعوى قيام السيرة على حجّيّة قاعدة العدل والإنصاف في نفسها، فهي ممنوعة بكلا جانبيها التكليفىّ والوضعىّ.

والحاصل: أنّ السيرة إن سلّمت، فإنّما تسلّم في مورد فصل الخصومة، ولاحاجة إليها هناك؛ للردع أوّلاً، وللنصّ الخاصّ ثانياً، ولاتسلّم في غير باب فصل الخصومة.


(1) قد يفسّر قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» على وفق مناسبات الحكم والموضوع بحصر أدلّة تشخيص الحقّ في باب الترافع بالبيّنة والأيمان، في حين أنّ قاعدة العدل والإنصاف لا تستعمل لتشخيص الحقّ، بل تستعمل بعد فرض تردّد الحقّ بين من يقسّم المال عليهم بالعدل والإنصاف.

(2) من قبيل ما ورد عن غياث بن إبراهيم بسند تامّ عن أبي عبد الله(عليه السلام)، «أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دا بّة، وكلاهما أقام البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين» (الوسائل ج 18 باب 12 من كيفية الحكم، ح 3 ص 182) إلّا أنّه يوجد بهذا الصدد ـ أيضاً ـ ما دلّ على القرّعة، كما ورد بسند تامّ عن سماعة، قال: «إنّ رجلين اختصما إلى عليّ(عليه السلام) في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده، وأقاما كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة... إلى أن قال: فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها» (المصدر نفسه ج 12 ص 185).