566

ردّ تفصيلين ذكرا في الكفاية:

بقي الكلام في تفصيلين ذكرا في الكفاية مع ردّهما.

الأوّل: التفصيل بين الشرط الشرعيّ وغيره، بدعوى: أنّ الشرط الشرعيّ يفرض سابقاً وجوب الشرط؛ لأنّه إنّما انتزع عنوان الشرطيّة له من أمر المولى به، وإلّا فهو بذاته ليس شرطاً ومقدّمةً، وهذا بخلاف الشروط والمقدّمات العقليّة والتكوينيّة.

وقد أجاب على ذلك صاحب الكفاية وغيره بأنّ الشرطيّة ليست منتزعة من الوجوب الغيريّ، وإنّما الوجوب الغيريّ يكون في طول الشرطيّة والمقدّميّة، وإنّما تنتزع الشرطيّة من الأمر بالعمل المقيّد بذلك الشرط، وتلك الشرطيّة في حقيقتها شرطيّة عقليّة وتكوينيّة، حيث إنّ حصول المقيّد متوقّف عقلا وتكويناً على تحقّق القيد(1).

الثاني: التفصيل بين السبب التوليديّ وغيره، بتقريب: أنّ متعلّق الأمر يجب أن يكون مقدوراً، ففي غير السبب التوليديّ يكون المسبّب بنفسه مقدوراً؛ إذ بعد الإتيان بسبب يكون بإمكان العبد أن يأتي بالمسبّب، وبإمكانه أن لا يأتي به، ولكن في فرض السبب التوليديّ لا يدخل تحت القدرة إلّا نفس السبب، وأمّا المسبّب فيترتّب قهراً، إذن فالتكليف متعلّق بالسبب(2).

وهذا في واقعه ليس تفصيلا في الوجوب الغيريّ، وإنّما يكون مرجعه إلى دعوى تعلّق الوجوب النفسيّ في باب الأسباب التوليديّة بنفس السبب دون المسبّب؛ لعدم القدرة على المسبّب.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 203 بحسب الطبعة الماضية.

(2) المصدر السابق، ص 202.

567

ويرد عليه: ما ذكره صاحب الكفاية وغيره: من أنّ القدرة على المسبّب التوليديّ حاصلة بواسطة السبب، فإنّ القدرة المشروطة عقلاً في التكليف ليست عبارة عن كون الشيء عملا لنفس القوى الجسميّة، أو النفسيّة مباشرة حتّى يقال: إنّ المسبّب التوليديّ كاحتراق الورقة بالنار ليس عملا لتلك القوى، وإنّما عمل تلك القوى هو الإلقاء في النار، وإنّما هي عبارة عن أن لا يكون الفعل بنحو يوجب التكليف به الضيق على المكلّف وإحراجه. وبتعبير آخر: أن يكون الفعل بنحو: إن شاء المكلّف تحقّق، وإن لم يشأ، لم يتحقّق، وهذا صادق في المسبّب التوليديّ الذي يكون سببه تحت القدرة(1).

هذا تمام الكلام في مقدّمة الواجب، ومنه يظهر الكلام في مقدّمة المستحبّ.



(1) المصدر السابق، ص 203.

569

مقدّمة الحرام

وأمّا مقدّمة الحرام، فحيث إنّ المطلوب في الحرام هو الترك، والترك ليس موقوفاً على ترك كلّ المقدّمات، فلم يجب كلّ التروك، ولم تحرم كلّ المقدّمات، بينما كان المطلوب في الواجب هو الفعل الموقوف على تمام المقدّمات، ولذا وجب تمام المقدّمات، إذن فماذا يحرم من مقدّمات الحرام؟

تفصيل ذلك: أنّ مقدّمات الحرام: تارةً يفرض: أنّ إحداها بينها هي التي تقع الجزء الأخير من العلّة، أي: لابدّ أن تقع في نهاية سلسلة المقدّمات، واُخرى يفرض: أنّ تلك المقدّمات في عرض واحد، فكما يمكن أن تتقدّم هذه وتتأخّر تلك، كذلك يمكن العكس.

ففي القسم الأوّل يحرم الجزء الأخير من العلّة، ويجب تركه؛ إذ بتركه يُترك الحرام، ومع تركه لا حاجة إلى ترك الباقي، وترك الباقي من دون ترك هذا الجزء غير معقول، ومن هذا القسم كلّ الأفعال الداخلة تحت الإرادة المباشرة، فإنّ إرادتها بمنزلة الجزء الأخير من العلّة، فهي التي تحرم دون سائر المقدّمات، ففي كلّ الأفعال الداخلة تحت الإرادة مباشرة لا يحرم شيء من مقدّماتها غير الإرادة حرمة غيريّة.

نعم، قد يقال فقهيّاً بحرمة الإتيان بمقدّمة من مقدّمات الحرام بقصد التوصّل إلى الحرام، إلّا أنّ هذه حرمة نفسيّة مرتبطة بمسألة حرمة التجرّي وعدمها، وليست حرمة غيريّة.

570

كما قد يقال أيضاً بحرمة مقدّمة الحرام على من يعلم أنّه لو أتى بها، فبعد ذلك سوف ينهار أمام إغراء الحرام، ويرتكب الحرام اختياراً، وهذه أيضاً حرمة نفسيّة(1)، قد يدلّ عليها قوله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً)(2)، فإنّ الوقاية ليس معناها عرفاً مجرّد عدم الإلقاء المباشر فيما يوجب استحقاق النار، بل معناها التحرّز عن كلّ ما يعلم أو يحتمل انتهاؤه ـ ولو بالاختيار ـ إلى ما يوجب استحقاق النار.

وعلى أيّ حال، فإن ثبتت هذه الحرمة، فليست هي الحرمة الغيريّة المبحوث عنها في المقام، وإنّما هي حرمة نفسيّة.

وفي القسم الثاني يحرم مجموع المقدّمات، أي: يجب ترك أحدها على سبيل التخيير، فإذا أتى بكلّ المقدّمات ما عدا واحدة، وجب تركها من باب تعيّن أحد أفراد التخيير بعد تعذّر باقي الأفراد.

هذا حال مقدّمة الحرام، وتلحق بها مقدّمة المكروه، كما تلحق مقدّمة المستحبّ بمقدّمة الواجب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.



(1) يمكن تخريج هذه الحرمة النفسيّة على أساس حرمة التجرّي كما في المسألة السابقة، كما يمكن تخريجها على أساس آية: (قُوا أَنْفُسَكُمْ)، إلّا أنّه يقوى في النظر كون الأمر في الآية بوقاية النفس إرشاديّاً بحتاً.

(2) السورة 66، التحريم، الآية: 6.