547

الأصل في المسألة

الجهة السابعة: في تأسيس الأصل في المسألة.

والأصل الذي يتكلّم عنه تارةً يراد إجراؤه في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، واُخرى يراد إجراؤه في وجوب المقدّمة.

والصحيح: أنّه لا يمكن الرجوع إلى الأصل في كلّ من المرحلتين، إلّا نادراً.

وتوضيح ذلك: أنّه إن جعل مصبّ الأصل هو الوجوب الغيريّ للمقدّمة، فهذا غير صحيح، فإنّ الأصل العمليّ يجب أن ينتهي إلى الأثر العمليّ في مقام التنجيز والتعذير، وإلّا لغى؛ لوضوح: أنّ الأحكام الظاهريّة إنّما جعلت لأجل تنجيز الواقع والتعذير عنه، وفي المقام لا يتصوّر تنجيز وتعذير للوجوب الغيريّ حتّى تجري أصالة البراءة أو استصحاب عدم الوجوب؛ لما تقدّم: من أنّ الوجوب الغيريّ لا يقبل التنجيز والتعذير مستقلاًّ.

نعم، لو فرض: أنّ هذا الوجوب وقع موضوعاً لحكم نفسيّ، فلا بأس بنفيه بالاستصحاب لينتفي ذلك الحكم، إلّا أنّ هذا في الغالب مجرّد فرض؛ إذ ما يذكر له عادةً من مصاديق أكثره قابل للمناقشة، فمثلا قد يقال: إنّ الدليل دلّ على حرمة أخذ الاُجرة على الواجب، وهذا حكم نفسيّ تكليفيّ، أو وضعيّ، وقد اُخذ في موضوعه عنوان الواجب، وهو يشمل بإطلاقه الواجب الغيريّ، فيستصحب عدم وجوب المقدّمة لينتفي بذلك حرمة أخذ الاُجرة.

وهذا لا بأس به لو تمّت كبرى عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجب بهذا العنوان، لكن الصحيح: أنّه لم يدلّ دليل على هذا الحكم بهذا العنوان، وإنّما يرتبط عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجب بإحدى نكتتين: إحداهما غير موجودة في المقدّمة على كلّ حال، والاُخرى موجودة فيها على كلّ حال، فالنكتة الاُولى هي

548

دعوى: استظهاريّة المجّانيّة من دليل الوجوب، وهذه النكتة غير موجودة فيالمقدّمة حتّى لو قيل بوجوبها الغيريّ؛ لأنّ مجرّد وجوبها الغيريّ لا يقتضي الإلزام بها مجّاناً، وإنّما المجّانيّة أمر زائد وراء دليل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، وليس وجوب المقدّمة وجوباً مستفاداً من دليل لفظيّ يأمر بها، ويستظهر منه: أنّ المولى يريد هذا العمل مجاناً، والنكتة الثانية هي دعوى: أنّ أخذ الاُجرة إنّما هو في عمل يكون للعامل سلطان عليه، أي: له أن يفعل وله أن لا يفعل، فيبذل له المال حتّى يفعل. وأمّا إذا كان ملزماً على العمل بعبوديّته، فكأنّه لا سلطان له على عمله، والعقلاء يرون أنّ هذا العمل لهذا الشخص ليست له ماليّة؛ إذ لابدّ أن يأتي به على كلّ حال.

وهذه النكتة إن تمّت فهي ثابتة في المقدّمة مطلقاً، فإنّه ـ على أيّ حال ـ مضطرّ من ناحية العبوديّة والامتثال إلى الإتيان بالمقدّمة، سواء فرضناها واجبة، أم لا.

وقد تذكر كبرى اُخرى للانتهاء إلى أثر عمليّ، وهي كبرى: أنّ الفاسق لا يجوز الائتمام به. ولا يخفى: أنّه ـ بناءً على ما هو الصحيح من كفاية مخالفة واحدة في تحقّق الفسق ـ لا موضوع لهذه الثمرة؛ إذ لو ترك المقدّمة، فعلى كلّ حال قد ترك ذا المقدّمة.

نعم، تذكر هذه الثمرة بناءً على أنّ الفسق يكون بارتكاب الكبيرة والإصرار على الصغائر، فإذا كان ذو المقدّمة من الصغائر، فقد يقال: إنّه لو بنى على عدم وجوب المقدّمات، فلم تصدر منه إلّا صغيرة واحدة، ولو بنى على وجوبها، فقد صدرت منه صغائر متعدّدة.

إلّا أنّ هذا أيضاً غير صحيح لو سلّم مبناه:

أمّا أوّلا: فلأنّ عنوان الإصرار على الصغائر ـ على تقدير دخله في الفسق ـ

549

لا تقصد به صغائر لا توجد عند العقل قبح بعددها، ولا يثبت استحقاق العقاب فيمقابلها، ووجوب المقدّمة ـ على ما مضى ـ لا يستوجب تنجيزاً ولا عقاباً؛ فإنّ دليل اشتراط الإصرار ندّعي ظهوره في إرادة تعدّد المعصية بشكل يوجب تعدّد القبح العقليّ والعقاب.

وأمّا ثانياً: فلو سلّم تعميم عنوان الإصرار لذلك، فهو حالة نفسانيّة ملازمة لتعدّد المخالفة، ولا يثبت انتفاؤه باستصحاب عدم الوجوب، وذلك بناءً على أنّ موضوع الحكم هو الإصرار على الذنب بنحو التقييد، لا الإصرار على الشيء، وكون ذلك الشيء ذنباً بنحو التركيب، وإلّا فالإصرار هنا متحقّق بتعدّد ما تركه، وكون ذلك ذنباً منفيّ باستصحاب العدم، فيثبت بذلك انتفاء الموضوع، والظاهر هو التقييد؛ فإنّ الظاهر: أنّه إنّما اُخذ الإصرار على الذنب موضوعاً لحكم الفسق بما هو إصرار في مقابل المولى.

وقد تذكر كبرى ثالثة للانتهاء إلى أثر عمليّ، وهي كبرى: براءة ذمّة الناذر لو نذر أن يأتي بواجب، فبناءً على وجوب المقدّمة تفرغ ذمّته بمجرّد الإتيان بها، بخلاف ما لو بنينا على عدم وجوبها، فيجري استصحاب عدم وجوب المقدّمة.

وهذا المطلب أيضاً مربوط بنكتة، وهي تحقيق: أنّ وجوب الوفاء بالنذر هل موضوعه عنوان الوفاء بالنذر، أو العنوان الذي وقع عليه النذر، والتزم به الناذر كصلاة ركعتين مثلا، وإنّما اُخذ عنوان الوفاء بالنذر في الدليل طريقاً ومشيراً إلى ذلك العمل؟

فعلى الأوّل يكون الاستصحاب مثبتاً؛ إذ لا ينفي عنوان الوفاء إلّا بالملازمة العقليّة؛ لأنّ عنوان الوفاء لازم عقليّ لوجوب المقدّمة، وعلى الثاني لا بأس بإجراء الاستصحاب، فإنّ الحكم الشرعيّ عبارة عن وجوب الإتيان بشيء مشروطاً بأن يكون ذلك الشيء فرداً من الواجبات، فإذا نفينا هذا الشرط بالاستصحاب، لم ينطبق

550

الوجوب على هذا الشيء، وكان عليه أن يأتي بواجب آخر(1).

وقد تحصّل: أنّه غالباً لا تترتّب ثمرة على الأصل العمليّ في المقام. هذا إذا جعل مصبّ الأصل هو الوجوب الغيريّ.

وكذلك الحال إذا جعل مصبّ الأصل هو الملازمة، فإنّه إذا كان الوجوب الغيريّ لا أثر له، فكذلك الملازمة، فلنفترض: أنّه بنفي الملازمة نفينا الوجوب، ولكن قد قلنا: إنّ نفي هذا الوجوب لا أثر له، بل لو سلّم الأثر للوجوب الغيريّ، فترتّبه على الملازمة ليس شرعيّاً، بل بنحو الملازمة العقليّة؛ لأنّ الترتّب الشرعيّ عبارة عن ترتّب الحكم المجعول على موضوعه المقدّر الوجود، وأمّا ترتّب نفس الجعل على أسبابه، فهذا ترتّب تكوينيّ؛ إذ ليس بجعل آخر للشارع، بما هو شارع فلا يمكن إثبات الملازمة أو نفيها بالاستصحاب؛ إذ الملازمة هي التي دفعت المولى إلى إنشاء هذا الجعل، لا أنّه جعل الوجوب على هذه الملازمة.

هذا هو الذي ينبغي أن يقال في بيان عدم جريان الأصل.

إلّا أنّ صاحب الكفاية (رحمه الله) قد بحث وجوهاً اُخرى لنفي جريان الأصل:

الوجه الأوّل: ما أورده على إجراء الاستصحاب بالقياس إلى الملازمة دون الوجوب، وهو: أنّ الملازمة أزليّة وجوداً أو عدماً، فلا مجال للاستصحاب.

وهذا البيان لا يأتي بالنسبة للوجوب؛ لأنّ المقدّمة مسبوقة ـ لا محالة ـ بعدم



(1) كما يمكن أيضاً تصوير الثمرة بأن ينذر مثلا التصدّق بدرهم مشروطاً بما إذا وجبت عليه هذه المقدّمة.

وهذه الثمرة يمكن تصويرها في الملازمة، كما إذا نذر التصدّق مشروطاً بتحقّق الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، فهذا الأثر يصحّح استصحاب عدم الوجوب، أو عدم الملازمة، إلّا أنّه أيضاً أثر نادر، ولعلّه لا يتحقّق في العالم أبداً.

551

الوجوب، فالوضوء مثلا غير واجب قبل الزوال، فيمكن استصحاب عدم وجوبه(1).

وتحقيق الحال: أنّ الملازمة لها معنيان:

1 ـ الملازمة بمعنى القضيّة الشرطيّة، أي: لو وجد هذا لوجد ذاك، وهي ـ على فرض صدقها ـ صادقة قبل وجود طرفيها في العالم، وهي أزليّة وجوداً أو عدماً، فلا معنى للاستصحاب فيها.

2 ـ الملازمة بنحو القضيّة الفعليّة، أي: كون هذا بالفعل قد أوجد ذاك، وهذا أمر حادث، فإنّ علّيّة كلّ شيء بهذا المعنى فرع وجوده، وما لم يوجد لم يكن موجداً، فلاستصحاب عدم العلّيّة بهذا المعنى مجال.

الوجه الثاني: ما لا يختصّ بالاستصحاب بلحاظ الملازمة، بل يشمل الاستصحاب بلحاظ الوجوب أيضاً، وهو: أنّنا نريد طبعاً بهذا الاستصحاب أن ننفي الوجوب الغيريّ للمقدّمة مع علمنا بالوجوب النفسيّ لذي المقدّمة، وهذا يؤدّي إلى احتمال ارتكاب المحال؛ لأنّنا نحتمل الملازمة بين الوجوبين، فنفي وجوب المقدّمة من المحتمل كونه تفكيكاً بين المتلازمين، وهو محال، وهذا بخلاف استصحاب عدم الوجوب في سائر الموارد، فمثلا حينما نستصحب عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال لسنا نحتمل ارتكاب المحال، أمّا هنا فنحن نحتمل استحالة الانفكاك بين الوجوبين، فكيف نرتكبه بالاستصحاب؟

وقد ذكر صاحب الكفاية في مقام الجواب على هذا الإشكال: أنّ هذا الاستصحاب لا ينفي الوجوب الغيريّ واقعاً، وإنّما ينفي فعليّته كما هو الحال في



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 199 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ (رحمه الله).

552

كلّ استصحاب، فإنّه لا ينفي الحكم الواقعيّ، وإنّما ينفي الفعليّة، فإن كانت الملازمة بين الوجوبين محتملة في مرحلة الواقع فقط، فإنّنا لم نفتِ بما تحتمل استحالته.

نعم، لو احتملنا الملازمة في مرحلة الفعليّة أيضاً، تمّ الإشكال؛ إذ أوجدنا بالأصل تفكيكاً بين الفعليّتين مع أنّنا نحتمل ـ بحسب الفرض ـ استحالة ذلك(1).

وهذا الكلام ينحلّ إلى مطلبين:

الأوّل: أنّ هذا الإشكال غير وارد لو كانت الملازمة محتملة في مرحلة الواقع فقط.

والثاني: أنّ هذا الإشكال وارد لو كانت الملازمة محتملة في كلتا المرحلتين.

أمّا المطلب الأوّل: وهو عدم ورود الإشكال في فرض احتمال الملازمة في مرحلة الواقع فحسب، فكأنّ صاحب الكفاية يظهر من عبارته الميل إلى هذا الفرض، واعتناقه كجواب عن الإشكال.

وهنا يجب أن نعرف: أنّه ماذا يريد من الفعليّة والواقع، حيث إنّ هذه الكلمة أصبح معناها غير خال من التشويش، حيث إنّه طرأ عليها معان مختلفة عند الأصحاب، فنقول:

هناك معان ثلاثة للفعليّة في مقابل الواقع:

المعنى الأوّل: ما يناسب لصاحب الكفاية أن يكون هو المراد له، حيث إنّه يقول في مقام الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة: إنّ الحكم له مرتبة إنشاء ومرتبة فعليّة، ويقصد بذلك: أنّ الحكم تارةً يكون قد اُنشِئ ولكن ليست على طبقه مرتبة تامّة من الإرادة، وقد تكون على طبقه مرتبة ناقصة من ذلك، واُخرى تكون على طبقه إرادة تامّة، ويكون فيه روح الحكم وحقيقة الحكم. وهذا هو معنى



(1) نفس المصدر، ص 199 ـ 200.

553

الفعليّة. ويقول (رحمه الله): إنّ الاُصول إنّما تنفي مرتبة الفعليّة دون أصل الحكم بوجوده الإنشائي، وبذلك يجيب على شبهة ابن قبة.

فلو أردنا تنزيل عبارته في المقام على هذا المصطلح، وهذه المباني، كان معنى ذلك: أنّ الملازمة محتملة بين الوجوبين الإنشائيّين، دون الحقيقيّين الفعليّين، وهذا واضح البطلان؛ فإنّ الأمر بالعكس تماماً، فإنّ مجرّد إنشاء أحد الحكمين لا يستلزم إنشاء الحكم الآخر، بينما الطلب الحقيقيّ لذي المقدّمة يستلزم الطلب الحقيقيّ للمقدّمة لو تمّ القول بوجوب مقدّمة الواجب.

المعنى الثاني: ما هو مصطلح المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، وهو: أنّه يريد بالإنشاء الجعل، وبالفعليّة المجعول الذي يتحقّق عند تحقّق الموضوع.

فلو اُريد هذا المعنى، فأيضاً هذا واضح البطلان؛ إذ من الواضح: أنّ جعل الوجوب لذي المقدّمة إذا استلزم جعله للمقدّمة، فمجعوله أيضاً يستلزم مجعوله، كما أنّه من الواضح أيضاً: أنّ الاستصحاب لا يخلّ بالمجعول ولا يخلّ بالجعل، فأيّ معنىً لافتراض أنّ الاستصحاب يهدم الفعليّة؟ وأيّ معنىً لافتراض أنّ الملازمة ليست بين المجعولين، وإنّما بين الجعلين؟ ولا يحتمل عادةً نظر المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)إلى هذا المعنى الذي هو مصطلح المحقّق النائينيّ (رحمه الله).

المعنى الثالث: أن يحمل ذلك على مصطلح نأخذه من المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)، بأن يقصد الفعليّة بمعنى الباعثيّة والمحرّكيّة التي تكون بالوصول، ولذا يرى المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): أنّ الفعليّة فرع الوصول.

وهذا أشبه شيء بالمنجّزيّة بحسب المصطلح العامّ، وعلى هذا فلا بأس بالتفكيك بين الوجوبين في مرحلة الفعليّة، بأن يصل وجوب ذي المقدّمة دون وجوب المقدّمة، ولا بأس بالقول بأنّ الاستصحاب يهدم الفعليّة، ويكون هذا هو الجواب الصحيح على الإشكال.

554

وأمّا المطلب الثاني: وهو ورود الإشكال لو كانت الملازمة في المرحلتين، فلو التزمنا: أنّ الاستصحاب يرفع الحكم الفعليّ، بأن اخترنا مصطلح صاحب الكفاية، والتزمنا: أنّ الملازمة أيضاً محتملة بين الفعليّتين، فبناءً على هذا يعترف المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) بورود الإشكال، إلّا أنّ المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) في حاشيته على الكفاية لا يقبل ذلك، ويقول: إنّ فرض أداء الاستصحاب إلى احتمال وقوع المحال لا يمنع عن جريانه، فإنّه إذا قام الدليل من قبل المولى على هذا الاستصحاب، لم يصحّ طرحه لمجرّد احتمال الاستحالة؛ إذ لا يجوز رفع اليد عن دليل إلّا مع القطع ببطلانه، واحتمال الاستحالة لا يساوق القطع بالبطلان، وإنّما يساوق احتمال البطلان(1).

أقول: صحيحٌ: أنّ احتمال استحالة شيء لا يمنع عن التعبّد بوقوع ذلك الشيء، وحجّيّة الدليل الذي دلّ عليه، فلو شككنا في استحالة تكلّم الميّت، وقامت بيّنة عادلة على أنّه تكلّم الميّت، كانت تلك البيّنة حجّة، ولو شككنا في إمكان حجّيّة خبر الواحد بعد الفراغ عن إمكان التعبّد بظنون اُخرى كالظهور، ودلّ ظهور آية أو سنّة متواترة على حجّيّة خبر الواحد، تعبّدنا بحجّيّة خبر الواحد، ولا يمنعنا عن ذلك احتمال استحالة حجّيّة خبر الواحد، إلّا أنّ هذا الكلام فيما نحن فيه لا يجري وإن كان متيناً في مثل هذين المثالين؛ وذلك لأنّ ما نحتمل استحالته في مورد هذين المثالين وشبههما هو ما دلّ عليه الدليل الذي تعبّدنا به من تكلّم الميّت، أو حجّيّة خبر الواحد، أو نحو ذلك، وأمّا نفس التعبّد بهذه الاُمور الذي هو ثابت بالوجدان لا بالتعبّد، فلم نكن نحتمل استحالته، وأمّا في المقام، فنفس التعبّد بعدم وجوب المقدّمة الراجع ـ بناءً على مباني صاحب الكفاية ـ إلى عدم فعليّة وجوبها



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 169 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

555

قد فرض احتمال استحالته، وهذا التعبّد ليس المفروض: أنّه شيء نتعبّد به، وإنّما المفروض: أنّه شيء ثابت بالوجدان، وليس كالتعبّد بتكلّم الميّت، أو حجّيّة خبر الواحد في المثالين السابقين، وما تحتمل استحالته لا يعقل ثبوته بالوجدان ولو قام دليل قطعيّ في المقام على الاستصحاب أوجب ذلك القطع بعدم الاستحالة، وعدم الملازمة بين الفعليّتين، ولم نحتج إلى نفي الفعليّة تعبّداً بالأصل.

الوجه الثالث: مبنيّ على مقدّمتين:

الاُولى: أنّ الاستصحاب باعتباره تصرّفاً شرعيّاً لا يقع إلّا على مجعولات الشارع، وما يكون تحت تصرّفه جعلا ورفعاً، ومن هنا يشترط كون المستصحب مجعولا شرعيّاً، أو موضوعاً لمجعول شرعيّ حتّى ينتهي الاستصحاب إلى التصرّف في الجعل الشرعيّ.

الثانية: أنّ وجوب المقدّمة ليس مجعولا شرعيّاً؛ لأنّ وجوب المقدّمة من لوازم ماهيّة وجوب ذي المقدّمة، ولوازم الماهيّة غير مجعولة لا بسيطاً ولا تأليفيّاً.

وقد أجاب عن ذلك صاحب الكفاية بأنّ وجوب المقدّمة وإن لم يكن مجعولا بالأصالة، لكنّه مجعول بالعرض باعتبار مجعوليّة ملزومه، وكونه مجعولا بالعرض يكفي في إجراء الاستصحاب(1).

وتحقيق الحال في ذلك يتمّ بالكلام في ثلاث نقاط:

النقطة الاُولى: في المقدّمة الاُولى.

والنقطة الثانية: في المقدّمة الثانية.

والنقطة الثالثة: في أنّه لو تمّت المقدّمتان، فهل يتمّ الإشكال، أو لا؟



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 199 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ (رحمه الله).

556

أمّا النقطة الاُولى: فمربوطة بأبحاث الاستصحاب، وهناك ذكرنا: أنّه لا يشترط كون المستصحب مجعولا للشارع، أو موضوعاً لجعله، وإنّما الشرط هو الانتهاء إلى الأثر العمليّ في مقام التنجيز والتعذير، أمّا اشتراط الانتهاء إلى الأثر العمليّ فلأنّ هذا هو حقيقة الحكم الظاهريّ على ما حقّق في محلّه، وأمّا عدم اشتراط كون المستصحب تحت الجعل، فلأنّ نكتة توهّم اشتراط ذلك هي دعوى: أنّ الاستصحاب تصرّف شرعيّ، فيحتاج إلى محلّ قابل، وهو عبارة عن مجعولات الشارع ومرفوعاته، وهذا لا يعدو أن يكون كلاماً صوريّاً؛ لأنّ الاستصحاب تصرّف شرعيّ ظاهريّ لا واقعيّ، ومرجع ذلك إلى التعبّد بثبوت شيء أو عدمه، وكما يمكن أن يعبّد المولى بمجعولاته كذلك يمكن أن يعبّد بغيرها لو انتهى إلى أثر عمليّ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى بحث الاستصحاب.

فتحصّل: أنّ المقدّمة الاُولى باطلة، وهذا كاف في بطلان هذا الإشكال.

ثمّ على تقدير صحّة هذه المقدّمة ننتقل إلى النقطة الثانية، فنقول:

وأمّا النقطة الثانية: فنتكلّم فيها أوّلا فيما هو الفارق بين لوازم الماهيّة ولوازم الوجود، حيث تقسّم اللوازم عادةً إلى قسمين: لوازم الماهيّة، كالإمكان بالنسبة للإنسان، والزوجيّة بالنسبة للأربعة، ولوازم الوجود، كالحرارة بالنسبة للنار.

وقالوا في الفرق بينهما: إنّ الأوّل يكفي في ثبوته وتحقّقه وواقعيّته نفس الماهيّة بلا حاجة إلى وجودها الخارجيّ أو الذهنيّ، فالإنسان مثلا حتّى لو لم يوجد خارجاً ولا ذهناً يكون ممكناً، والثاني عبارة عن اللازم الذي يحتاج في ثبوته وتحقّقه إلى كون الماهيّة موجودة، كالحرارة، فإنّ ماهيّة النار بما هي لا تترتّب عليها الحرارة ما لم توجد.

وقد اعترض على هذا الضابط جملة منهم، كالمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) بأنّ جعل الضابط في لازم الماهيّة كفاية نفس الماهيّة في تحقّقه غير معقول بناءً على أصالة

557

الوجود واعتباريّة الماهيّة، فإنّ الماهيّة ـ بغضّ النظر عن الوجود ـ أمر اعتباريّ صرف، لا يمكن أن تكون مؤثّرة في شيء، وعلّةً للازم، فاللازم دائماً هو لازم الوجود، غاية الأمر: أنّه تارةً يكون لازماً لكلا نحوي الوجود، أي: الذهنيّ والخارجيّ، وهذا يسمّى لازم الماهيّة، من قبيل الزوجيّة للأربعة، واُخرى يكون لازماً للوجود الخارجيّ فقط، وهذا يسمّى لازم الوجود، من قبيل الحرارة التي لا تثبت إلّا للنار الموجودة خارجاً، دون النار الموجودة في الذهن(1).

وهذا الاعتراض غير صحيح؛ إذ إنّنا ندرك بالضرورة أنّ الماهيّة يثبت لها بعض اللوازم ولو قيّدت بعدم الوجود الخارجيّ والذهني معاً، فيصدق قولنا: إنّ الأربعة المعدومة بقول مطلق زوج، وإنّ الإنسان المعدوم بقول مطلق ممكن، ونحن حينما نحضر في ذهننا الأربعة المعدومة، أو الإنسان المعدوم، فبهذا وإن أصبحت الأربعة أو الإنسان موجوداً في الذهن بالحمل الشايع، لكنّه بالحمل الأوّليّ أربعة معدومة، أو إنسان معدوم، ويصحّ حمل الزوجيّة أو الإمكان عليه حتّى مع لحاظه بالحمل الأوّليّ، وهذا آية: أنّ الزوجيّة أو الإمكان لا تحتاج إلى الوجود أصلا، وأمّا ما اُثيرت من الشبهة وهي: أنّ الماهيّة أمر اعتباريّ بناءً على أصالة الوجود، فلا يمكن أن تؤثّر، ففي غير محلّها، فإنّ لازم الماهيّة نسبته إلى الماهيّة نسبة الصفة إلى الموضوع، لا نسبة المعلول إلى العلّة(2)، فإمكان الإنسان موضوعه الإنسان،



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 166، تحت الخطّ بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

(2) لا يخفى: أنّ الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) لم يدّعِ أنّ لازم الماهيّة لو كان، لكان معلولا للماهيّة، في حين أنّ الماهيّة أمر اعتباريّ محض، ولا يمكن لها التأثير، بل ادّعى: أنّ لازم الماهيّة لو كان، فهو منتزع من الماهيّة، في حين أنّه لا يمكن انتزاع ماهيّة من ماهيّة اُخرى، وإلّا لكان الاستلزام والاستتباع جزء ذات الماهيّة.

558

وزوجيّة الأربعة موضوعها الأربعة، لا أنّ الأربعة علّة للزوجيّة، والإنسان علّة للإمكان؛ لأنّ لوازم الماهيّة ليس لها وجود أصلا، بل هي واقعيّة بنفسها، لا بوجودها، ولوح الواقع أوسع من لوح الوجود، فهناك أشياء واقعيّة بنفسها، و هناك أشياء واقعيّة بوجودها، فإمكان الإنسان مثلا له واقعيّة بنفسه بلا وجود، ولا علّة له، فهو كالواجب بالذات، إلّا أنّه ليس موجوداً، فلم يلزم تعدّد واجب الوجود بالذات.

فتحصّل: أنّه صحيح ما يقال: من أنّ لوازم الماهيّة ما تكفي نفس الماهيّة في ثبوتها، ولوازم الوجود ما لا يكون ثابتاً إلّا بعد الوجود، ومن هنا ينقدح: أنّ لوازم الماهيّة ليست مجعولة أصلا، بخلاف لوازم الوجود، أمّا مجعوليّة لوازم الوجود، فلأنّها معلولة للوجود، فهي مجعولة بالمباشرة للوجود، ومجعولة بالتبع من قبل خالق هذا الوجود، وأمّا عدم مجعوليّة لوازم الماهيّة فلأنّها ذاتيّة للماهيّة بلا علّة أصلا، فصحّ أن يقال: إنّ لوازم الماهيّة مجعولة بالعرض، أي: أنّ من يجعل ويوجد ماهيّة الأربعة، يكون هذا الجعل من قبله جعلا لماهيّة الأربعة حقيقة، وللزوجيّة مسامحة وعناية وبالعرض، وهذا غير مصطلح الجعل بالتبع، فإنّ الجعل بالتبع يقال بالنسبة للوازم الوجود، فالحرارة إذا قيست إلى النار، فهي مجعولة مباشرة، وإذا قيست إلى خالق النار، فهي مجعولة بالتبع، فالجعل بالتبع جعل حقيقيّ، والجعل بالعرض جعل عنائيّ.

إذا عرفت كلّ هذا، جئنا إلى المقام؛ لنرى: أنّ وجوب المقدّمة هل هو من لوازم الماهيّة، أو من لوازم الوجود؟

ظاهر تعبير المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) ـ إن كان جارياً على المصطلحات بالدقّة ـ: أنّه من لوازم الماهيّة؛ إذ عبّر بأنّه مجعول بالعرض، ولم يعبّر بأنّه مجعول بالتبع(1)،



(1) بل صرّح في ضمن ذكر الإشكال على الاستصحاب بأنّ وجوب المقدّمة من لوازم ماهيّة وجوب ذيها.

559

بينما من الواضح: أنّه من لوازم الوجود، لا الماهيّة، فإنّ الشوق الغيريّ فرد من الشوق مغاير وجوداً وحقيقةً مع الشوق النفسيّ ومترشّح منه، لا أنّ هناك شوقاً واحداً يسند إلى ذي المقدّمة حقيقة، وإلى المقدّمة مجازاً، فالتعبير بأنّه مجعول بالعرض إمّا مسامحة، أو خطأ.

وأمّا النقطة الثالثة: فيكفي في تماميّة الاستشكال في الاستصحاب الإيمان بالمقدّمة الاُولى، مع الإيمان بأنّ وجوب المقدّمة ليس مجعولا بالأصالة، ومستقلاًّ عن وجوب ذي المقدّمة، فإنّنا لو سلّمنا: أنّه يشترط في الاستصحاب كون المستصحب مجعولا، وسلّمنا: أنّ وجوب المقدّمة من لوازم الماهيّة، فهو مجعول بالعرض، أو فسّرنا المجعول بالعرض بالمجعول بالتبع، فكونه مجعولا بالعرض، أو بالتبع لا يكفي في جريان الاستصحاب؛ لأنّنا في الكبرى التي اشترطنا فيها كون المستصحب حكماً مجعولا، أو موضوعاً لحكم مجعول قد بيّنّا هذا الاشتراط، بأنّ الاستصحاب تصرّف شرعيّ يحتاج إلى قابليّة المحلّ للرفع والوضع الشرعيّ، والمجعول بالعرض، أو بالتبع لا يقبل الرفع إلّا بالعرض، أو بالتبع، أي: برفع وجوب ذي المقدّمة الذي هو خلف، وإن أردتم بالاستصحاب رفعه بالذات بدعوى: أنّ الرفع بالذات إذا كان ظاهريّاً صحيح وإن لم يكن المحلّ قابلا للرفع بالذات، فهذا إنكار لكبرى الاشتراط.

560

استدعاء وجوب ذي المقدّمة وجوب المقدّمة وعدمه

الجهة الثامنة: في تحقيق أصل المطلب، وهو: أنّ وجوب ذي المقدّمة هل يستدعي وجوب المقدّمة، أو لا؟

فنقول: إنّ الحكم بمعنى الجعل والإنشاء الثابت على ذي المقدّمة له مبدءان: الشوق والملاك. أمّا في مرحلة الملاك، فلا ينبغي الخلاف في مسألة ثبوت الملازمة بين ذي المقدّمة والمقدّمة فيه، بداهة: أنّه إن اُريد كون ثبوت الملاك النفسيّ في ذي المقدّمة مستلزماً لثبوت الملاك النفسيّ في المقدّمة، فهو واضح البطلان، وإن اُريد كونه مستلزماً لثبوت الملاك الغيريّ في المقدّمة، فهو بديهيّ الصحّة، فيجب أن يرجع الخلاف والنزاع: إمّا إلى مرحلة الجعل والإنشاء، أو إلى مرحلة الشوق والبغض، فنقول:

أمّا مرحلة الجعل والإنشاء، فدعوى الملازمة فيها باطلة، وتوضيح ذلك: أنّ الملازمة بين شيئين: إمّا أن يقصد بها: كون أحدهما مستتبعاً للآخر قهراً وبلا اختيار، أو يقصد بها: أنّ أحدهما يوجد المناسبة والداعي في نفس الفاعل بالاختيار لإيجاد الشيء الثاني.

فإن قصد في المقام الأوّل، فهو واضح البطلان، فإنّ كلا الجعلين والإنشاءين من الأفعال الاختياريّة للمولى، تصدر عن قصد وإرادة، والملازمة بهذا المعنى غير معقولة بين فعلين اختياريّين، وتكون خلف كون اللازم فعلا اختياريّاً صادراً عن قصد وإرادة، وإن قصد الثاني، بمعنى: أنّ وجوب ذي المقدّمة يستوجب مناسبة وداعياً في نفس المولى لجعل الوجوب وإنشائه على المقدّمة، فهذا أيضاً باطل، فإنّ جعل الحكم وإنشاءه عادةً يكون له أحد داعيين:

الأوّل: داعي إبراز ما في نفس الجاعل من شوق وبغض.

561

والثاني: تعيين مركز المسؤوليّة، فقد يتّفق أنّ الشوق النفسيّ للمولى يكمن في شيء، لكنّه يدخل شيئاً آخر تحت المسؤوليّة، فمثلا قد يحبّ المولى أن يصون العبد نفسه عن الفحشاء والمنكر، لكنّه لا يأمره بذلك ابتداءً؛ إذ لو أمره به ابتداءً أساء العبد التصرّف؛ إذ لا يعرف كيف يصنع حتّى تحصل هذه الصيانة، فيُدخل في عهدته مقدّمة من مقدّمات ذلك، وهي الصلاة مثلا.

وشيء من الداعيين غير موجود في وجوب المقدّمة: أمّا الداعي الأوّل، وهو إبراز الشوق، فلأنّ الشوق إلى المقدّمة ـ بناءً على الملازمة بين الوجوبين ـ غيريّ، ويكفي في إبرازه نفس جعل وجوب ذي المقدّمة وإنشائه، وأمّا الداعي الثاني، وهو تعيين مركز المسؤوليّة، فلأنّ الوجوب الغيريّ لا يدخل الشيء في العهدة، على ما مضى: من أنّ الوجوب الغيريّ لا يقبل التنجيز، ولا يستتبع حكم العقل بوجوب الإطاعة أو حرمة المعصية، ولا استحقاق ثواب أو عقاب على الفعل أو الترك.

وأمّا مرحلة الشوق والحبّ، فدعوى الملازمة بين الشوق والحبّ لذي المقدّمة والشوق والحبّ للمقدّمة ليست إلّا دعوى ملازمة بين أمرين تكوينيّين، حالها حال دعوى الملازمة بين أيّ أمرين تكوينيّين آخرين خارجيّين أو نفسيّين، لا يمكن إثباتها ببراهين عقليّة وأدلّة فكريّة، بل لابدّ فيها من التجربة، وكما أنّ الإنسان لا يعرف أنّ النار هل هي تلازم الإحراق أو لا، إلّا بأن يجرّب بإدخال يده فيها، أو إلقاء قرطاس فيها ونحو ذلك، وليست الملازمة بينهما ممّا يمكنه أن يتوصّل إليها بمجرّد التفكير، كذلك الملازمة بين الشوق إلى الشيء والشوق إلى مقدّمته لم يكن الإنسان لكي يتوصّل إليها لو لم يكن هو يمتلك أشواقاً إلى أشياء لها مقدّمات، فيجرّب نفسه ليرى هل يلازمه شوقه للشيء الشوق إلى مقدّمته أو لا، وحيث إنّ القضيّة نفسيّة وليست خارجيّة، فتجربتها ليست إلّا عبارة عن مراجعة

562

الوجدان، لنرى: أنّه هل يحكم بالملازمة بين الشوق إلى الشيء والشوق إلى مقدّمته، أو لا، فلو أنّ أحداً لم يدرك بوجدانه هذه الملازمة، لم يكن له بالإمكان أن يصل إلى هذه الملازمة ببرهان عقليّ صحيح، وبمجرّد التفكير والتأمّل.

والصحيح عندي هو شهادة الوجدان بهذه الملازمة، بل كأنّ المنكرين للملازمة كالسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة لا ينكرون الملازمة بين الشوقين، فقد اعترف السيّد الاُستاذ بثبوت الملازمة بين الشوقين، إلّا أنّه قال: إنّ هذا ليس قولا بوجوب المقدّمة؛ لأنّ الوجوب حكم شرعيّ، والحبّ والشوق ليس حكماً شرعيّاً.

إلّا أنّ الصحيح: أنّ هذا هو قول بوجوب المقدّمة، فإنّنا لا نبحث إلّا بمقدار الثمرة، ولا نقصد مجرّد بحث في عالم الألفاظ، وقد كانت الثمرة عبارة عن لزوم التعارض بين دليل وجوب ذي المقدّمة ودليل حرمة المقدّمة إذا كان وجوب ذي المقدّمة مستلزماً لوجوب المقدّمة، وهذه الثمرة ـ كماترى ـ يكفي فيها مجرّد سراية الشوق والحبّ إلى المقدّمة، فإنّه يلزم من ذلك كون مصبّ الحبّ والبغض شيئاً واحداً، وهو مستحيل، وموجب للتعارض، ولا فرق في ذلك بين فرض القول بجعل الوجوب وإنشائه للمقدّمة وعدمه.

هذا ما ينبغي أن يقال في المقام.

وقد يستدلّ على وجوب المقدّمة بوجوه اُخرى:

الوجه الأوّل: أن تدّعى صغرويّاً الملازمة في باب الإرادات التكوينيّة، ويدّعى كبرويّاً: أنّ ما يصدق في الإرادات التكوينيّة يصدق ما يوازيه في الإرادات التشريعيّة.

وتوضّح الصغرى في المقام بأحد بيانين:

البيان الأوّل: أنّنا نرى: أنّ من يشتاق إلى شيء ويريده بالإرادة التكوينيّة،

563

يشتاق إلى مقدّمته أيضاً، ببرهان: أنّه يأتي بالمقدّمة، فإنّ إتيانه بالمقدّمة برهان إنّيّ على اشتياقه إليها، وحيث إنّنا لا نملك هذا البرهان الإنّيّ في الإرادات التشريعيّة، ولهذا اضطررنا إلى التمسّك بكبرى: أنّ ما يصدق في الإرادات التكوينيّة يصدق في الإرادات التشريعيّة، فكما أنّ الشوق التكوينيّ إلى شيء وإرادته يستلزم الشوق التكوينيّ إلى مقدّمته، كذلك الشوق التشريعيّ إلى شيء وإرادته يستلزم الشوق التشريعيّ إلى مقدّمته.

إلّا أنّ هذا البيان يمكن النقاش فيه ـ إن سلّمت الكبرى ـ بأنّ من يشكّك في الملازمة بين الشوق إلى ذي المقدّمة والشوق إلى المقدّمة في الإرادة التشريعيّة، ولا يحسّ بوجدانه بهذه الملازمة، يمكنه أن يشكّك في ذلك في الإرادة التكوينيّة أيضاً، ويُبدي احتمال كون انبعاث المريد التكوينيّ لشيء إلى مقدّمته ناشئاً راسأ من شوقه إلى ذي المقدّمة، لا من شوقه إلى المقدّمة.

البيان الثاني: أنّنا نرى: أنّ من يريد شيئاً بالإرادة التكوينيّة، يستلزم ذلك التصدّي لحفظ المقدّمة، فكذلك الحال في الإرادة التشريعيّة، إلّا أنّ حفظ المقدّمة في الإرادة التكوينيّة يكون من سنخها، أي: أنّه حفظ تكوينيّ، وحفظها في الإرادة التشريعيّة يكون من سنخها، أي: أنّه حفظ تشريعيّ، وذلك بأن يأمر العبد بالإتيان بها.

وهذا البيان لا يمكن دفعه بالنقاش في الصغرى؛ فإنّه من أوضح الواضحات أنّ من يريد شيئاً يأتي بمقدّمته، إلّا أنّه يمكن النقاش فيه ـ إن سلّمت الكبرى ـ بأنّه وإن سلّم: أنّ من يريد شيئاً بالإرادة التشريعيّة يحفظ مقدّمته تشريعاً، لكن لم يثبت بذلك أنّ طريقة حفظه للمقدّمة عبارة عن الأمر بها، بل لعلّه يحفظها بنفس الأمر بذي المقدّمة الذي يسبّب حكم العقل بوجوب الإتيان بالمقدّمة، فحكم العقل بضرورة الإتيان بالمقدّمة وليد لفعل المولى بما هو مولىً، وهو كاف في حفظ

564

المقدّمة، فلعلّ المولى اكتفى بذلك، بل إنّ أمر المولى بالمقدّمة ليس له أيّ دخل في حفظ المقدّمة، على ما مضى: من أنّ الوجوب الغيريّ لا يستتبع ثواباً ولا عقاباً، ولا يتنجّز على العبد، وليست له إطاعة ولا معصية.

الوجه الثاني: ما يقال: من أنّه إن لم تجب المقدّمة، لجاز تركها، وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه، لزم التكليف بما لا يطاق، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً.

وقد حاول صاحب الكفاية(1) إصلاح هذا الوجه بحمل جواز الترك على عدم المنع، وإلّا فمن الواضح عدم الملازمة بين عدم الوجوب والإباحة الشرعيّة، وبحمل لزوم التكليف بما لا يطاق عندئذ على لزوم ذلك إذا ترك المقدّمة، لا على لزومه بمجرّد جواز ترك المقدّمة؛ بداهة: أنّ مجرّد جواز ترك المقدّمة لا يسلب القدرة.

ثمّ أورد عليه بأنّه مع ترك المقدّمة يسقط الوجوب، لا بكونه مشروطاً بالإتيان بالمقدّمة، بل بالعصيان.

أقول: ويمكن تعديل الدليل بصياغة اُخرى، وهي أن يقال: لو لم تجب المقدّمة، لجاز تركها، ومع جواز الترك: إن كان يترتّب من تبعة الترك عقاب على العبد، كان ذلك خلف الجواز، وإن لم يكن يترتّب عليه من تبعة الترك أيّ عقاب، كان معنى ذلك انقلاب الواجب المطلق إلى الواجب المشروط.

والجواب: أنّ الترك وإن كان يستتبع عقاباً، ولكن ليس هذا عقاباً على ذات ترك المقدّمة حتّى ينافي جوازه، بل عقاب على ما استتبعه الترك من ترك ذي



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 201 بحسب الطبعة المشتملة في الحواشي على تعليقات المشكينيّ (رحمه الله). وأصل الوجه منسوب في الكفاية إلى أبي الحسن البصريّ.

565

المقدّمة، وهذا لا ينافي جوازه. نعم، ينافي ظاهر تصريح المولى بالجواز، حيث إنّ ظاهر ذلك عرفاً هو: أنّ الترك لا يستتبع عقاباً ولو بلوازمه، إلّا أنّ كلامنا ليس في فرضيّة تصريح المولى بالجواز، والظهور العرفيّ لهذا التصريح.

الوجه الثالث: أنّ صدور الأوامر العرفيّة أو الشرعيّة أحياناً بالمقدّمة دليل على المقصود، فإنّ تلك الأوامر ليس لها إلّا الملاك الغيريّ، أعني: ملاك توقّف المطلوب النفسيّ عليه، فإن تمّ ذلك ملاكاً لوجوب المقدّمة، تمّ في كلّ الموارد؛ لأنّ الملازمة لا تتبعّض، وإن لم يتمّ، لم يصحّ الأمر في تلك الموارد.

ويرد عليه: أنّ تلك الأوامر يمكن حملها على الإرشاد إلى المقدّميّة والشرطيّة، فإن اُريد التمسّك بظهور الأمر في كونه تكليفاً وإيجاباً، لا إرشاداً إلى المقدّميّة والشرطيّة، فيصبح الدليل دليلا تعبّديّاً لا وجدانيّاً، ورد عليه إنكار هذا الظهور في الأوامر الواردة في المقدّمات والشرائط، بل ظاهرها أنّها لتحقيق الواجب النفسيّ وتحصيله، لا للتكليف المستقلّ بالمقدّمة والشرط.

على أنّنا نقول: من الذي يتمسّك بهذا الظهور؟! هل هو الذي يجد في وجدانه حبّ المقدّمة عندما يحبّ ذا المقدّمة، أو الذي لا يجد في وجدانه ذلك؟!

أمّا الأوّل، فهو يعرف بالقطع واليقين وجوب المقدّمة مطلقاً؛ لأنّ المفروض: أنّ الملازمة لا تتبعّض، ولا تختلف من شخص إلى شخص، أو من مورد إلى مورد. وأمّا الثاني فهو يعرف بالقطع واليقين عدم وجوب المقدّمة مطلقاً؛ لأنّ المفروض: أنّ الملازمة لا تتبعّض، وأمّا لو فرضنا تطرّق احتمال التبعّض من شخص إلى شخص، ومورد إلى مورد، فهذا الدليل ينهار من أساسه؛ إذ لا يكون حينئذ ورود الأوامر العرفيّة، أو الشرعيّة في بعض الموارد دليلا على وجوب المقدّمة مطلقاً.

نعم، على فرض الشكّ في الوجدانات قد يتمّ الاستدلال بهذا الوجه.

فالصحيح في تحقيق المطلب هو ما مضى منّا.

566

ردّ تفصيلين ذكرا في الكفاية:

بقي الكلام في تفصيلين ذكرا في الكفاية مع ردّهما.

الأوّل: التفصيل بين الشرط الشرعيّ وغيره، بدعوى: أنّ الشرط الشرعيّ يفرض سابقاً وجوب الشرط؛ لأنّه إنّما انتزع عنوان الشرطيّة له من أمر المولى به، وإلّا فهو بذاته ليس شرطاً ومقدّمةً، وهذا بخلاف الشروط والمقدّمات العقليّة والتكوينيّة.

وقد أجاب على ذلك صاحب الكفاية وغيره بأنّ الشرطيّة ليست منتزعة من الوجوب الغيريّ، وإنّما الوجوب الغيريّ يكون في طول الشرطيّة والمقدّميّة، وإنّما تنتزع الشرطيّة من الأمر بالعمل المقيّد بذلك الشرط، وتلك الشرطيّة في حقيقتها شرطيّة عقليّة وتكوينيّة، حيث إنّ حصول المقيّد متوقّف عقلا وتكويناً على تحقّق القيد(1).

الثاني: التفصيل بين السبب التوليديّ وغيره، بتقريب: أنّ متعلّق الأمر يجب أن يكون مقدوراً، ففي غير السبب التوليديّ يكون المسبّب بنفسه مقدوراً؛ إذ بعد الإتيان بسبب يكون بإمكان العبد أن يأتي بالمسبّب، وبإمكانه أن لا يأتي به، ولكن في فرض السبب التوليديّ لا يدخل تحت القدرة إلّا نفس السبب، وأمّا المسبّب فيترتّب قهراً، إذن فالتكليف متعلّق بالسبب(2).

وهذا في واقعه ليس تفصيلا في الوجوب الغيريّ، وإنّما يكون مرجعه إلى دعوى تعلّق الوجوب النفسيّ في باب الأسباب التوليديّة بنفس السبب دون المسبّب؛ لعدم القدرة على المسبّب.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 203 بحسب الطبعة الماضية.

(2) المصدر السابق، ص 202.

567

ويرد عليه: ما ذكره صاحب الكفاية وغيره: من أنّ القدرة على المسبّب التوليديّ حاصلة بواسطة السبب، فإنّ القدرة المشروطة عقلاً في التكليف ليست عبارة عن كون الشيء عملا لنفس القوى الجسميّة، أو النفسيّة مباشرة حتّى يقال: إنّ المسبّب التوليديّ كاحتراق الورقة بالنار ليس عملا لتلك القوى، وإنّما عمل تلك القوى هو الإلقاء في النار، وإنّما هي عبارة عن أن لا يكون الفعل بنحو يوجب التكليف به الضيق على المكلّف وإحراجه. وبتعبير آخر: أن يكون الفعل بنحو: إن شاء المكلّف تحقّق، وإن لم يشأ، لم يتحقّق، وهذا صادق في المسبّب التوليديّ الذي يكون سببه تحت القدرة(1).

هذا تمام الكلام في مقدّمة الواجب، ومنه يظهر الكلام في مقدّمة المستحبّ.



(1) المصدر السابق، ص 203.

569

مقدّمة الحرام

وأمّا مقدّمة الحرام، فحيث إنّ المطلوب في الحرام هو الترك، والترك ليس موقوفاً على ترك كلّ المقدّمات، فلم يجب كلّ التروك، ولم تحرم كلّ المقدّمات، بينما كان المطلوب في الواجب هو الفعل الموقوف على تمام المقدّمات، ولذا وجب تمام المقدّمات، إذن فماذا يحرم من مقدّمات الحرام؟

تفصيل ذلك: أنّ مقدّمات الحرام: تارةً يفرض: أنّ إحداها بينها هي التي تقع الجزء الأخير من العلّة، أي: لابدّ أن تقع في نهاية سلسلة المقدّمات، واُخرى يفرض: أنّ تلك المقدّمات في عرض واحد، فكما يمكن أن تتقدّم هذه وتتأخّر تلك، كذلك يمكن العكس.

ففي القسم الأوّل يحرم الجزء الأخير من العلّة، ويجب تركه؛ إذ بتركه يُترك الحرام، ومع تركه لا حاجة إلى ترك الباقي، وترك الباقي من دون ترك هذا الجزء غير معقول، ومن هذا القسم كلّ الأفعال الداخلة تحت الإرادة المباشرة، فإنّ إرادتها بمنزلة الجزء الأخير من العلّة، فهي التي تحرم دون سائر المقدّمات، ففي كلّ الأفعال الداخلة تحت الإرادة مباشرة لا يحرم شيء من مقدّماتها غير الإرادة حرمة غيريّة.

نعم، قد يقال فقهيّاً بحرمة الإتيان بمقدّمة من مقدّمات الحرام بقصد التوصّل إلى الحرام، إلّا أنّ هذه حرمة نفسيّة مرتبطة بمسألة حرمة التجرّي وعدمها، وليست حرمة غيريّة.

570

كما قد يقال أيضاً بحرمة مقدّمة الحرام على من يعلم أنّه لو أتى بها، فبعد ذلك سوف ينهار أمام إغراء الحرام، ويرتكب الحرام اختياراً، وهذه أيضاً حرمة نفسيّة(1)، قد يدلّ عليها قوله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً)(2)، فإنّ الوقاية ليس معناها عرفاً مجرّد عدم الإلقاء المباشر فيما يوجب استحقاق النار، بل معناها التحرّز عن كلّ ما يعلم أو يحتمل انتهاؤه ـ ولو بالاختيار ـ إلى ما يوجب استحقاق النار.

وعلى أيّ حال، فإن ثبتت هذه الحرمة، فليست هي الحرمة الغيريّة المبحوث عنها في المقام، وإنّما هي حرمة نفسيّة.

وفي القسم الثاني يحرم مجموع المقدّمات، أي: يجب ترك أحدها على سبيل التخيير، فإذا أتى بكلّ المقدّمات ما عدا واحدة، وجب تركها من باب تعيّن أحد أفراد التخيير بعد تعذّر باقي الأفراد.

هذا حال مقدّمة الحرام، وتلحق بها مقدّمة المكروه، كما تلحق مقدّمة المستحبّ بمقدّمة الواجب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.



(1) يمكن تخريج هذه الحرمة النفسيّة على أساس حرمة التجرّي كما في المسألة السابقة، كما يمكن تخريجها على أساس آية: (قُوا أَنْفُسَكُمْ)، إلّا أنّه يقوى في النظر كون الأمر في الآية بوقاية النفس إرشاديّاً بحتاً.

(2) السورة 66، التحريم، الآية: 6.