529

قصد به التوصّل، حتّى يقال: إنّه ليس الأوّل أولى من الثاني.

فتحصّل: أنّ المتعيّن اختصاص الحرمة بغير الموصل.

نعم، يبقى كلام آخر، وهو: أنّه هل يخرج من تحت الحكم بالحرمة مطلق الموصل، أو خصوص الموصل الذي علم بإيصاله من أوّل الأمر، حتّى يحرم عليه الإتيان بالمقدّمة عندما يشكّ في أنّه: هل سوف ينقدح عنده الداعي إلى الإتيان بذي المقدّمة بعدها، أو لا؟

والصحيح هو الثاني؛ لكفاية هذا المقدار من التخصيص في رفع التزاحم(1)، وهو بحث سيّال في جميع موارد باب التزاحم.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ المنافاة الاُولى توجب سقوط الحرمة من الحصّة الموصلة ولو لم يقصد بها التوصّل، وبهذا لم يبقَ مجال للكلام في المنافاة الثانية.

ثمرة بحث المقدّمة الموصلة:

التنبيه الثاني: في ثمرة بحث المقدّمة الموصلة زائداً على ما يظهر ممّا مضى في التنبيه الأوّل، ويأتي توضيحه في ثمرة بحث المقدّمة:

قد يقال: إنّه تظهر ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة وإنكارها فيما لو توقّف



(1) بل الصحيح هو الأوّل؛ لأنّ تحريم الموصل الذي لم يعلم بإيصاله منذ البدء لا يقرّب المولى إلى غرضه؛ لأنّ أحد الغرضين ـ وهو الأهمّ ـ حاصل في علم الله؛ لأنّ المفروض: أنّه سيوصل المقدّمة إلى ذيها، وحصول كلا الغرضين غير ممكن، بل إنّ هذا التحريم قد يكون دعوة للعبد إلى ما يضرّ المولى، وذلك حينما يكون الإنقاذ أهمّ، فتكون مصلحة المولى في فرض الموصليّة من دون العلم بها في وقت الاجتياز مقتضية للاجتياز، لا لعدمه.

530

الواجب على ترك عبادة بناءً على توقّف أحد الضدّين على ترك الآخر، فترك ذلك الواجب وأتى بتلك العبادة، فيمكن أن يقال: إنّه بناءً على المقدّمة الموصلة لا تبطل عبادته، وبناءً على وجوب مطلق المقدّمة تبطل عبادته على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، وأنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.

وهذه الثمرة قد بيّنها في الكفاية بعبارة تحتمل أحد تفسيرين(1):

التفسير الأوّل: أن يقال: إنّ أيّ قيد اُخذ في أحد النقيضين ينبغي أخذه في النقيض الآخر حفظاً للتناقض، فمثلا نقيض الصوم في يوم الجمعة هو ترك الصوم في يوم الجمعة، وعليه فالواجب إذا كان هو ترك الصلاة مثلاً مطلقاً، ففعلها حرام، فتبطل، وأمّا إذا كان الواجب هو ترك الصلاة المقيّد بترتّب الإزالة مثلا، فنقيضه هو الصلاة المقيّدة أيضاً بترتّب الإزالة، ومن الواضح: أنّه لو صلّى لم تترتّب الإزالة لفرض التضادّ بينهما، فلا تكون هذه الصلاة محرّمة، فلا تكون باطلة.

وهذا التقريب للثمرة واضح البطلان، بداهة أنّ أخذ قيد ترتّب الإزالة في طرف ترك الصلاة لا يوجب أخذه في طرف الصلاة، فإنّه ليس القيد المأخوذ في أحد النقيضين يؤخذ في عدمه، بمعنى كون نقيضه عدمه المقيّد بذلك القيد، وإنّما القيد المأخوذ في أحد النقيضين يؤخذ فيما يضاف إليه عدمه، أي: أنّ الوجود المقيّد بقيد يكون نقيضه هو عدم المقيّد، لا العدم المقيّد، وكم فرق بينهما.

التفسير الثاني: أن يقال: إنّه إذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، فترك الصلاة يجب على الإطلاق، ففعلها يحرم على الإطلاق، فيقع باطلا. أمّا إذا قلنا بوجوب خصوص الموصلة، فمعنى ذلك: أنّ الوجوب مشروط بترتّب الإزالة، إذن فكلّ



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 192 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

531

ترك لو فرضناه الآن واقعاً لكان موصلا يكون هو الواجب، وأمّا الترك الذي لو فرضناه الآن واقعاً لما كان موصلا، فهو غير واجب، وحيث إنّ هذا الشخص الذي اشتغل بالصلاة يوجد له صارف نفسانيّ عن الإزالة استثقالا للإزالة مثلا، فصلاته غير محرّمة عليه؛ لأنّ تركه للصلاة غير واجب عليه؛ لأنّ هذا الترك لو فرض واقعاً الآن لما كان موصلا، إذن فصلاته صحيحة.

وهذا التقريب للثمرة أيضاً واضح البطلان؛ بداهة أنّ معنى اختصاص الوجوب بالموصلة ليس هو أخذ الإيصال قيداً في الوجوب، وإنّما معناه: أخذه قيداً في الواجب، فهذا بالفعل يجب عليه الترك، أي: الترك الموصل بالرغم من أنّه لو صدر منه الترك الآن لما كان موصلا، فالصلاة التي يأتي بها يكون من المطلوب تركها تركاً موصلا، فيقال مثلا: إنّ هذه الصلاة أصبحت محرّمة فتبطل.

وهناك تقريب ثالث للثمرة هو الذي ينبغي أن يقع موضعاً للبحث إثباتاً ونفياً(1)، ولعلّه هو المراد الحقيقيّ لصاحب الكفاية بالرغم من أنّ عبارته لا تساعد على ذلك، وهو أن يقال: إنّه إذا فرض أنّ فعل أحد الضدّين متوقّف على ترك الضدّ الآخر، وكان ضدّ الواجب عبادة، فقد أصبح فعل الواجب ـ وهو الإزالة مثلا ـ موقوفاً على ترك الضدّ وهو الصلاة، فإذا كان الواجب مطلق المقدّمة، فقد وجب ترك الصلاة، وبناءً على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، تصبح الصلاة منهيّاً عنها، فبناءً على فساد العبادة بالنهي عنها تبطل الصلاة، وأمّا إذا كان الواجب خصوص الموصل، فالواجب هو ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة، و هذا ليس نقيضه فعل الصلاة؛ إذ قد يرتفعان، بأن يأتي بترك غير موصل، والنقيضان



(1) وهو الذي فسّر به الشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) كلام اُستاذه الأخوند. راجع نهاية الدراية، ج. بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 150.

532

لا يمكن ارتفاعهما، وإنّما نقيضه رفع الترك الموصل الذي قد يقترن بالصلاة، واُخرى بالترك غير الموصل، ولا موجب لسراية الحرمة من رفع الترك الموصل إلى ما قد يقترن معه وهو الصلاة، إذن فتقع الصلاة صحيحة.

ويمكن المناقشة في هذه الثمرة بالرغم من بيانها بهذا التقريب بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّنا لو سلّمنا كلّ الاُصول الموضوعيّة لهذه الثمرة: من أنّ الضدّ موقوف على ترك ضدّه، وأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، وأنّ هذا النهي يوجب الفساد في العبادة، قلنا: إنّ هذه الاُصول الموضوعيّة بنفسها تستبطن: أنّ فعل أحد الضدّين أيضاً مقدّمة لترك الآخر، فإنّ منشأ مقدّميّة ترك أحدهما لفعل الآخر هو التمانع، وإذا صحّ التمانع، فكما أنّ عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر من باب مقدّميّة عدم المانع لوجود الشيء، كذلك وجود أحدهما مقدّمة لعدم الآخر من باب: أنّ وجود المانع أحد أسباب انتفاء الشيء، وحينئذ نقول: إنّ الإزالة واجبة، فتركها حرام؛ لما فرض: من أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، وفعل الصلاة مقدّمة موصلة لهذا الحرام، فهي حرام؛ لأنّ فعل الصلاة لا ينفكّ أبداً عن ترك الإزالة، فهو مقدّمة تستتبع فعل الحرام، وإذا كانت مقدّمة الواجب واجبة، فمقدّمة الحرام التي تكون علّة تامّة لتحقّق الحرام أيضاً تكون محرّمة، فالصلاة إذن حرام حتّى ولو قلنا بالمقدّمة الموصلة، غاية الأمر: أنّه إن قلنا بوجوب مطلق المقدّمة لا المقدّمة الموصلة، اتّصفت الصلاة بالحرمة الغيريّة باعتبارها نقيض الواجب، وإن قلنا بالمقدّمة الموصلة، لم تتّصف الصلاة بالحرمة الغيريّة باعتبارها نقيض الواجب، ولكنّها تتّصف بالحرمة الغيريّة باعتبارها مقدّمة مستتبعة حتماً للحرام، فمن حيث النتيجة لا يبقي فرق بين القولين.

الوجه الثاني: أنّه حتّى على القول بالمقدّمة الموصلة تثبت حرمة الصلاة باعتبارها نقيضاً للواجب، وتوضيحه ببيان أمرين:

533

الأوّل: أنّ وجوب المقدّمة ـ بناءً على القول بالمقدّمة الموصلة ـ وجوب غيريّ تعلّق بمركّب ارتباطيّ، أحد أجزائه ذات المقدّمة، والجزء الآخر الإيصال، أو إرادة ذي المقدّمة، أو سائر المقدّمات مثلا.

الثاني: أنّه كما أنّ الحبّ النفسيّ الاستقلاليّ يلازم بغض نقيضه، كذلك الحبّ الضمنيّ المتعلّق بالجزء يلازم بغض نقيضه؛ إذ نحن نرى بالوجدان عدم الفرق بين الحبّ الضمنيّ والحبّ الاستقلاليّ في أنّه يسبّب بغض نقيضه، والحبّ الضمنيّ يتعلّق بذات الجزء لا الجزء المقيّد، وإلّا لتركّب الواجب أيضاً من جزء وتقيّد، فبالأخرة ننتهي إلى حبّ ضمنيّ متعلّق بذات الجزء، وهو يستلزم بغض النقيض، ولكن بغض النقيض ليس ضمنيّاً؛ لأنّ حبّ الجزء إنّما صار ضمنيّاً لأجل أنّ ملاكه ترتّب الفائدة، وهي لا تترتّب إلّا على المجموع، فيكون الحبّ ضمنيّاً، وأمّا بغض النقيض، فملاكه فوات الفائدة، وهو يترتّب على ترك كلّ جزء مستقلاًّ، فلا محالة يصبح البغض استقلاليّاً، وبهذا تثبت حرمة الصلاة حتّى على المقدّمة الموصلة؛ لأنّ الواجب الاستقلاليّ ـ على القول بالمقدّمة الموصلة ـ وإن كان هو الترك الموصل، لكن الترك يصبح محبوباً ضمنيّاً، فنقيضه ـ وهو الصلاة ـ يصبح مبغوضاً بالبغض الاستقلاليّ.

الوجه الثالث: ما جاء في تقرير بحث الشيخ الأعظم (رحمه الله). والعبارة التي يذكرها في الكفاية لا تخلو من تشويش، ولم نراجع تقرير الشيخ لنرى ما هو المستظهر منه.

وعلى أيّ حال، فيمكن بيان هذا الإشكال ببيانين:

البيان الأوّل: أنّ نقيض كلّ شيء رفعه، فالفعل ليس هو النقيض، سواء قلنا بالمقدّمة الموصلة أو لا، فالوجوب المتعلّق بالترك يستدعي حرمة نقيضه الذي هو رفع الترك، وحرمة رفع الترك تستدعي حرمة ملازمه، وهو الفعل بناءً على وجوب مطلق المقدّمة، وأمّا بناءً على وجوب المقدّمة الموصلة، فوجوب الترك الموصل

534

يستدعي حرمة رفع الترك الموصل، وهذه حرمة ثابتة لرفع الترك الموصل بنحو مطلق الوجود والانحلال، أي: أنّه تحرم ـ لا محالة ـ كلتا حصّتي هذا الرفع، وهما: الرفع الذي يتحقّق في ضمن الفعل، والرفع الذي يتحقّق في ضمن الترك غير الموصل، وإذا حرمت كلتا الحصّتين، حرم ما يلازم كلّ واحدة منهما، فالفعل الذي هو ملازم لإحدى الحصّتين أصبح حراماً.

فتحصّل: أنّ الصلاة تحرم على كلا الرأيين، لا لكونها نقيض الواجب، بل لكونها ملازم النقيض، إذن فالثمرة منتفية.

وبهذا التقريب لا يرد عليه إشكال صاحب الكفاية بأنّه لا ملازمة بين نقيض الموصل والصلاة؛ لإمكان أن يثبت النقيض في ضمن الترك غير الموصل، فهذا الكلام ـ كما ترى ـ كأنّه ينظر إلى جامع رفع الترك الموصل، بينما هذا الجامع حرام بحرمة انحلاليّة على تمام الحصص، فملازم كلّ من الحصّتين حرام.

نعم، يرد عليه: أنّ الحرمة لا تسري إلى الملازم، لكن فرض عدم السراية إلى الملازم فرض عدم الثمرة أيضاً.

فإلى هنا استحكم الإشكال على هذه الثمرة، بأن يقال: إنّ الفعل ليس نقيضاً للترك، وإنّما هو ملازم للنقيض، أو لإحدى حصّتي النقيض، فإن قلنا بحرمة ملازم الحرام، حرمت الصلاة على كلا الرأيين، وإلّا لم تحرم على كلا الرأيين.

البيان الثاني: لكلام الشيخ أن يقال: إنّ نقيض كلّ شيء رفعه، ويدّعى: أنّ الفعل مصداق للنقيض وإن لم يكن هو النقيض، ولا إشكال في سراية الحرمة من الطبيعة إلى المصاديق وإن أنكرنا السراية إلى الملازم، وفعل الصلاة هو المصداق الوحيد للنقيض بناءً على وجوب مطلق المقدّمة؛ إذ مطلق الترك نقيضه هو رفع الترك الذي لا يتمثّل إلّا في الفعل، وهوأحد المصداقين للنقيض بناءً على وجوب المقدّمة الموصلة؛ لأنّ الترك الموصل نقيضه رفع الترك الموصل المتمثّل: تارةً في الفعل،

535

واُخرى في الترك غير الموصل، فعلى كلا الرأيين ليس الفعل بعنوانه هو النقيض،وعلى كليهما يكون الفعل مصداقاً للنقيض، وحراماً.

ويتلخّص من كلام صاحب الكفاية الجواب على ذلك بالتفصيل، بأنّ الفعل هو مصداق لرفع الترك المطلق، وليس مصداقاً لرفع الترك الموصل.

فإن كان مراده هو هذا، فليس له وجه مفهوم لدينا؛ لأنّ نكتة دعوى المصداقيّة واحدة فيهما، وهي دعوى الحمل، فيقال: هذا الفعل رفع للترك أو رفع للترك الموصل، فإن صحّ الحمل، وكانت صحّة الحمل بالحمل الشايع دليلا على المصداقيّة، ثبتت المصداقيّة على كلا القولين، وإلّا لم تثبت على كليهما، فكأنّ هذا الإشكال إلى هنا مستحكم.

وكلا هذين البيانين للإشكال لهما أصل موضوعيّ مشترك، وهو دعوى: أنّ الفعل ليس هو النقيض، وهذا كأنّه مأخوذ من المصطلح المشهور، وهو أنّ نقيض كلّ شيء رفعه.

والمحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) ناقش في هذا الأصل الموضوعيّ، وفسّر المصطلح بأنّ المقصود من الرفع ما يعمّ الرفع الفاعليّ والرفع المفعوليّ، أي: الرافعيّة والمرفوعيّة، والفعل مرفوع بالترك، فهو نقيض للترك(1).



(1) راجع نهاية الدراية، ج. بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 154 ـ 155.

والشيخ الإصفهانيّ (رحمه الله) ـ برغم ذكره لهذا الكلام ـ لم يصل إلى نتيجة صحّة ثمرة الآخوند (رحمه الله)، بل انتهى إلى عدم صحّة تلك الثمرة؛ وذلك لالتفاته إلى ما مضى من اُستاذنا (رحمه الله) في الوجه الثاني من وجوه الإشكالات على ثمرة الآخوند (رحمه الله): من أنّ كلاًّ من جزئي المقدّمة الموصلة له نقيض، وذات المقدّمة ـ وهو الترك ـ نقيضه الفعل، فيحرم، إلّا أنّه غفل عمّا أفاده اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من كون هذه الحرمة حرمة استقلاليّة لا ضمنيّة، ففرض: أنّ الحرمة الاستقلاليّة هي حرمة مجموع نقيضي الجزئين، وانتهى إلى نتيجة

حرمة الفعل، وهي الصلاة مثلا، باعتبار أنّه إذا صلّى فقد تحقّق مجموع نقيضي الترك وإرادة ذي المقدّمة، فإنّ من أتى بالصلاة فقد أفنى الترك، وإرادة ذي المقدّمة، فصارت الصلاة جزء الحرام المستقلّ. راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 150 ـ 151 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

536

وتحقيق الكلام في هذا المقام؛ أنّه لا ينبغي أن نرجع إلى معنى هذا المصطلح، أو تفسير النقيض، وإنّما يجب أن نرجع إلى مسألة: أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ العامّ الذي هو منشأ القول بالثمرة؛ لنرى: أنّه ما هي حدود ما يقتضي الأمر بالشيء النهي عنه، فلعلّه يكون أوسع من مصطلح النقيض، أو أضيق، فيجب أن نلاحظ النكتة التي فُصّل بها بين الضدّ العامّ والخاصّ؛ لنرى: أنّه بلحاظ تلك النكتة هل يدخل الفعل في الضدّ العامّ للترك المطلق، أو للترك الموصل، أو لا؟

وعليه نقول: يمكن أن يعبّر عن الضدّ العامّ بتعبيرين، كلاهما يمكن أن يطابق الوجدان القائل بالتفصيل بين الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ.

الأوّل: أنّ الضدّ العامّ هو المعاند للشيء تعانداً ذاتيّاً، أي: لا يحتاج في تعانده إلى تعاند أسبق، كما هو الحال في تعاند الوجود لعدمه، والعدم لمعدومه، فإنّهما متعاندان ذاتيّاً، وبلا افتراض أيّ تعاند آخر سابق، والضدّ الخاصّ هو الذي ليس تعانده للشيء تعانداً ذاتيّاً، أي: أنّ تعانده يكون على أساس تعاند آخر، وذلك كالوجودين المتضادّين، ولا نقصد بعدم التعاند الذاتيّ عدم التمانع الذاتيّ، وإنّما نقصد: أنّه ـ بالرغم من وجود التمانع بينهما ـ يمكن أن يوجدا معاً لو أمكن اجتماع الوجود مع العدم، فإنّ أحد الوجودين لو كان بالإمكان عدمه في نفس الوقت، لأمكن تحقّق الوجود الآخر في نفس الوقت، فمثلا المتّجه إلى الشرق لو أمكن أن

537

يكون في نفس الوقت غير متّجه إليه، لأمكن اتّجاهه نحو الغرب أيضاً؛ إذ لا يزاحم ذلك اتّجاهه نحو الشرق؛ لأنّه قد فرض عدمه في نفس الوقت. فإنّ غاية ما تتطلّبه المنافرة بين شيئين أن لا يوجد أحدهما إلّا إذا اُعدم الآخر ولم يوجد، والمفروض في المقام ـ بالرغم من وجود الآخر ـ أنّه قد اُعدم الآخر ولم يوجد.

الثاني: أنّ الضدّ العامّ للشيء هو ما يوجد ضيق ذاتيّ في عالم النفس عن اجتماع حبّه مع حبّ ذلك الشيء ذاتاً، بخلاف الضدّ الخاصّ، فالوجودان المتضادّان لا يوجد في عالم النفس بما هو ضيق عن اجتماع حبّهما ذاتاً، بل بالإمكان أن يحبّ كلاًّ منهما بعنوانه، إلّا أنّه عاجز عن الجمع بينهما، ولكن الوجود مع عدمه، أو العدم مع معدومه ليسا كذلك، فإنّ اُفق النفس بما هو أضيق من أن يجتمع فيه حبّ كلّ من الوجود والعدم بعنوانه.

نعم، قد يجتمع حبّ أحدهما مع حبّ الآخر بعنوان آخر، كأن يكون هذا الشيء وجوده محبوباً لنا، وعدمه موجباً لسرور صديقنا، فيكون أيضاً محبوباً لدينا، لكن بعنوان: أنّه يسرّ صديقنا، لا بعنوانه الأوّليّ.

وهذا التعبير الثاني عن الضدّ العامّ هو التعبير الأقرب إلى الذوق الاُصوليّ، بل التعبير الأوّل لا يوضّح ابتداءً نكتة حكم الوجدان بالتفصيل بين الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الأوّل دون الثاني، وإنّما يصلح أن يكون التعاند الذاتيّ وعدمه نكتةً لما فرض في التعبير الثاني من ضيق اُفق النفس عن حبّهما معاً ذاتاً، وعدمه الذي هو بدوره يصلح أن يكون نكتةً لتفصيل الوجدان بين الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ.

وعلى أيّ حال، فكلا هذين التعبيرين متساويان في التصادق، وكلاهما ينتج: أنّ الفعل يدخل في الضدّ العامّ للترك المطلق وللترك الموصل؛ إذ هما متعاندان تعانداً ذاتيّاً، ويضيق اُفق النفس عن حبّهما معاً ذاتاً، فبهذا البيان تبطل الثمرة للقول

538

بالمقدّمة الموصلة وعدمه، فإنّ نكتة الوجدان الاُصوليّ القائل بالفرق بين الضدّ العامّ والضدّ الخاصّ ليست هي: أنّ الضدّ العامّ لا يمكن أن يرتفع مع المأمور به، والخاصّ يمكن أن يرتفع معه، حتّى يقال: إنّ الفعل مع الترك المطلق لا يرتفعان، لكن الفعل مع الترك الموصل يرتفعان. ولو كانت نكتة الفرق الوجدانيّ بين الضدّين ذلك، لحرمت الأضداد الخاصّة، بتقريب: أنّ الفعل مع جامع نقائضه لا يمكن ارتفاعهما، فإذا وجب الفعل، حرم جامع النقائض، وبالتالي حرم كلّ مصاديق ذلك الجامع، وإنّما نكتة ذلك الوجدان ما عرفته: من ضيق اُفق النفس عن حبّهما ذاتاً وعدمه، وهذه النكتة تقتضي جعل الفعل ضدّاً عامّاً للترك، سواء اُريد به الترك المطلق أو الترك الموصل.

539

ثمرة القول بوجوب المقدّمة وعدمه

الجهة السادسة: في ثمرة القول بوجوب المقدّمة وعدمه.

إنّ الثمرة قد تكون عبارة عن إثبات أصل الجعل، كما في بحث حجّيّة خبر الواحد، وقد تكون عبارة عن انطباق جعل، كما في البحث عن وجوب شيء؛ لكي يدخل في كبرى عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجبات.

والثمرة التي تتطلّب من المسألة الاُصوليّة إنّما هي من القسم الأوّل، فالبحث الواقع في طريق تطبيقات الجعل المفروغ عنه ليس بحثاً ذا ثمرة اُصوليّة. ومبنيّاً عليه قد يقال: إنّ بحث المقدّمة ليست له ثمرة اُصوليّة؛ لأنّ الثمرة قد يتصوّر أنّها نفس الوجوب الغيريّ للمقدّمة، وهذا من القسم الأوّل، وهذا هو ظاهر عبارة الكفاية، لكن اعترض عليه المتأخّرون بأنّ مقصود الاُصوليّ إنّما هو إثبات حكم يكون موضوعاً للثواب والعقاب، والوجوب الغيريّ ليس كذلك، وقد يتصوّر أنّها تطبيق بعض الأحكام، كحرمة أخذ الاُجرة على الواجبات، أو غير ذلك، على نقاش وبحث في بعضها، ولكن كلّ ما تمّ منها فهو أجنبيّ عن ثمرة المسألة الاُصوليّة، وأيّ نزاع في العالم يتصوّر له ثمرة من هذا القبيل، فيقال مثلا: إنّ البحث عن مجيء زيد وعدمه له ثمرة، وذلك لأنّه على تقدير مجيئه يكون الإخبار بمجيئه جائزاً، وعلى تقدير عدمه يكون ذلك الإخبار حراماً؛ لكونه داخلا في كبرى حرمة الكذب.

وعلى أيّ حال، فهذا الكلام لو تمّ فطبعاً معناه عدم ترتّب الثمرة على أصل مبحث المقدّمة، أعني: بحث وجوب المقدّمة غيريّاً، لا على أبحاث ذكرت ونقّحت تحت عنوان (مبحث المقدّمة)، من قبيل بحث الشرط المتأخّر، والواجب المعلّق ممّا له ثمرات واضحة في الفقه.

540

والصحيح: ترتّب الثمرة بالنحو المطلوب من المسألة الاُصوليّة على بحث وجوب المقدّمة بلحاظ بعض أقسامها.

وتوضيح ذلك: أنّ المقدّمة: تارةً تكون بطبعها مباحة، واُخرى محرّمة، وثالثة مشتملة على فرد مباح وفرد حرام:

أمّا في القسم الأوّل، فلا ثمرة للبحث.

وأمّا في القسم الثاني: من قبيل ما لو توقّف إنقاذ الغريق على اجتياز الأرض المغصوبة، فإن قلنا بعدم وجوب المقدّمة، فلا تعارض بين دليل وجوب ذي المقدّمة ودليل حرمة المقدّمة، وإنّما هما حكمان متزاحمان، كلّ منهما مقيّد ـ كسائر الأحكام ـ بالقدرة، وعدم الانشغال بما هو مساو أو أهمّ، فيطبّق عليهما حكم باب التزاحم.

وإن قلنا بوجوب المقدّمة وكانت حرمة المقدّمة أهمّ، أو مساوية، فأيضاً لا تعارض في المقام؛ لأنّ وجوب ذي المقدّمة ـ باعتباره كسائر الواجبات مشروطاً بعدم الانشغال بالمساوي أو الأهمّ ـ يصبح مشروطاً بالإتيان بالمقدّمة، فتنقلب المقدّمة إلى المقدّمة الوجوبيّة. ومن الواضح: أنّه لا تعارض بين حرمة المقدّمة الوجوبيّة ووجوب ذي المقدّمة على تقدير تحقّق تلك المقدّمة.

وإن قلنا بوجوب المقدّمة وكان ذو المقدّمة أهمّ، فإن وجبت الموصلة فقط، فلا تعارض أيضاً؛ لأنّ وجوب ترك المقدّمة مشروط بعدم الانشغال بالأهمّ، إذن فالمقدّمة الموصلة ليست محرّمة، وغير الموصلة وإن كانت محرّمة، لكن حرمتها لا تنافي وجوب ذي المقدّمة، وإن وجبت المقدّمة مطلقاً من باب عدم المقتضي للتقييد بالموصلة، فهنا تقيّد بالموصلة بناءً على ما هو المشهور: من أنّ ذا المقدّمة إذا كانت لمقدّمته حصّتان: إحداهما محرّمة، والاُخرى محلّلة، اختصّ الوجوب بالمحلّلة، ففي ما نحن فيه نقول: إنّ الموصلة حصّة محلّلة؛ لارتفاع حرمتها بسبب

541

أهمّيّة ذي المقدّمة، وغير الموصلة حصّة محرّمة، ويختصّ الوجوب بالموصلة؛ لأنّ عدم اختصاصه بها إنّما كان لأجل أنّه لا مقتضي للاختصاص، وهنا وجد المقتضي، وعليه فأيضاً لا تعارض في المقام.

وأمّا إن قلنا باستحالة تقييد وجوب المقدّمة بالموصلة؛ للزوم مثل الدور والتسلسل، فهنا يستحكم التعارض بين دليل وجوب ذي المقدّمة ودليل حرمة المقدّمة(1).

فهذه هي الثمرة في المقام، وقد اتّضحت بهذا أيضاً ثمرة بحث المقدّمة الموصلة.

وأمّا في القسم الثالث، فإن بنينا على عدم وجوب المقدّمة، فلا تعارض ولا تزاحم بين الدليلين، وإن بنينا على وجوبها: فتارةً نبني ـ كما هو المشهور ـ على اختصاص الوجوب بالحصّة المباحة، فأيضاً لا تعارض ولا تزاحم بينهما، واُخرى نبني على أنّ الوجوب يتعلّق بالجامع بين المباح والحرام، فيدخل المقام في باب اجتماع الأمر والنهي بالمعنى الأعمّ من الاجتماع؛ لأنّ الجامع يجب، وبعض حصصه يحرم، فإن قيل بأنّ الوجوب الغيريّ يتعلّق بعنوان المقدّمة، أصبح المقام دائماً من باب تعدّد العنوان، ودخل في اجتماع الأمر والنهي بالمعنى المصطلح؛ لأنّ عنوان الواجب أصبح دائماً غير عنوان الحرام، فإن قلنا بجواز الاجتماع لدى تعدّد العنوانين، فلا تعارض في المقام، وإن قلنا بالامتناع، حصل التعارض بين الدليلين.

هذا بناءً على افتراض: أنّ وجوب المقدّمة بمعنى وجوب الجامع بين المباح



(1) وهذا أيضاً بناءً على المشهور: من عدم إمكان وجوب الجامع بين الحلال والحرام، ولزوم اختصاص الوجوب بالحصّة المحلّلة.

542

والحرام مستفاد بدلالة التزاميّة لفظيّة من دليل وجوب ذي المقدّمة، أمّا لو كان وجوب المقدّمة مستفاداً من دليل عقليّ فحسب من دون دعوى دلالة التزاميّة عرفيّة للفظ(1)، فطبعاً إن قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي، اختصّ الوجوب ـ لا محالة ـ بالحصّة المباحة؛ لأنّ كون الوجوب على الجامع دون بعض الحصص إنّما هو لعدم المقتضي للاختصاص، والآن قد وجد المقتضي، إذن فهذا رجوع إلى ما مضى من فرض اختصاص الوجوب بالحصّة المباحة، وقد قلنا: إنّه عندئذ لا يوجد تعارض ولا تزاحم.

وإن قيل بأنّ عنوان المقدّمة حيثيّة، تعليليّة، وإنّ الوجوب يتعلّق بعنوان المشي إلى النهر في الإنقاذ، أو نصب السلّم في الصعود على السطح مثلا، فعندئذ قد يتّفق أنّ الحرمة أيضاً متعلّقة بنفس العنوان، وقد يتّفق أنّها متعلّقة بعنوان آخر كالغصب، فعلى الثاني دخل في الاجتماع المصطلح، والكلام الكلام، وعلى الأوّل يتعيّن الامتناع على كلّ حال حتّى عند القائلين بجواز الاجتماع، فإنّه إن جاز، فإنّما يجوز عند تعدّد العنوان، أمّا مع وحدة العنوان فيمتنع الاجتماع ويحصل التعارض.

فتحصّل: أنّ القسم الثالث ـ على بعض تقاديره ـ يدخل في الاجتماع دون بعض، ولعلّ هذا هو المراد ممّا نسب إلى الوحيد البهبهانيّ (رحمه الله) في الكفاية(2): من أنّ



(1) أو كان أصل وجوب المقدّمة في الجملة مستفاداً بدلالة لفظيّة التزاميّة، ولكن كان إطلاقه يثبت بواسطة عدم المقتضي للاختصاص، أي: أنّ الدلالة الالتزاميّة كانت تدلّ على وجوب يكون مطلقاً لولا ظهور مقتض للاختصاص.

(2) نقل في الكفاية، ج 1، ص 198 بحسب الطبعة المشتملة في الحواشي على تعليقات الشيخ المشكينيّ (رحمه الله) عن الوحيد البهبهانيّ(قدس سره): أنّه جعل الثمرة اجتماع الوجوب والحرمة إذا قيل بالملازمة فيما إذا كانت المقدّمة محرّمة، فيبتني على جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، بخلاف ما لو قيل بعدمها.

543



واُورد على ذلك في الكفاية بوجوه:

أوّلا: أنّ المسألة لا علاقة لها بباب الاجتماع؛ لأنّ موضوع الوجوب ليس هو عنوان المقدّمة كي يختلف عن عنوان الغصب مثلا، فيدخل مجمع العنوانين في موارد اجتماع الأمر والنهي، فإنّ الواجب إنّما هو ما يكون بالحمل الشائع مقدّمة.

وثانياً: أنّ المورد لا علاقة له بباب الاجتماع حتّى لو فرضنا: أنّ الوجوب يثبت على عنوان المقدّمة؛ وذلك لأنّ المقدّمة إن كانت غير منحصرة بالمصداق الحرام، اختصّ الوجوب بالمصداق الحلال، وإن كانت منحصرة بالمصداق الحرام، استحال بقاء المقدّمة على الحرمة، وبقاء ذي المقدّمة والمقدّمة على الوجوب لفرض عدم المندوحة، فإمّا أنّ الوجوب يرتفع عن ذي المقدّمة، وعن المقدّمة لو قلنا بالملازمة، أو أنّ الحرمة ترتفع عن المقدّمة، فلا مورد ـ على كلّ حال ـ لاجتماع الأمر والنهي.

وثالثاً: أنّ أثر الدخول في صغرى اجتماع الأمر والنهي هو: أنّه بناءً على امتناع الاجتماع تبطل العبادة، وبناءً على جوازه تصحّ العبادة، في حين أنّ هذا الأثر لا يترتّب في المقام؛ لأنّ المقدّمة إن كانت توصّليّة، صحّ التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، سواء قلنا بجواز الاجتماع، أو قلنا بامتناعه، وإن كانت عباديّة، فصحيح: أنّه على القول بالامتناع تبطل العبادة، وعلى القول بالجواز تصحّ، ولكن بطلان العبادة في فرض الامتناع ثابت، سواء قلنا بوجوب المقدّمة أو لم نقل، فلم يرتبط ذلك بثمرة وجوب المقدّمة وعدمه، وصحّة العبادة في فرض جواز الاجتماع ثابتة أيضاً، سواء قلنا بوجوب المقدّمة أو لا، فلم يرتبط ذلك أيضاً بثمرة وجوب المقدّمة وعدمه.

أقول: قد اتّضح من البيان الذي أسلفناه من اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): أنّه يمكن تفسير كلام الوحيد البهبهانيّ (رحمه الله) بما لا يرد عليه شيء من هذه الإشكالات:

544

ثمرة المسألة هي الدخول في باب الاجتماع، وعليه لا ترد الإشكالات الثلاثة المذكورة في الكفاية، كما يظهر بالمراجعة والتأمّل.

بقي هنا شيء، وهو: أنّ ما ذكرناه في القسم الثالث من دخوله في اجتماع الأمر والنهي المصطلح أحياناً هل يأتي أيضاً في القسم الثاني إذا كان ذو المقدّمة أهمّ، وقلنا بوجوب مطلق المقدّمة، أي: الأعمّ من الموصلة، أو لا؟

والتحقيق: أنّه لو فرض الوجوب على عنوان المقدّمة، دخل ذلك أيضاً في باب الاجتماع؛ لأنّه أصبح عنوان مقدّمة الواجب واجباً، وعنوان الغصب غير الموصل



أمّا الإشكال الأوّل: فلإمكان الجواب عنه بأنّ فرض كون الواجب ما هو بالحمل الشايع مقدّمة، لا عنوان المقدّمة لا يبرهن على وحدة عنوان الواجب والحرام؛ لأنّه يبقى عندئذ أن نرى العنوان الذي به صارت المقدّمة مقدّمة، هل هو عين العنوان الذي به صارت حراماً، أو لا؟ فإن اتّحدا، خرج المورد عن مورد الاجتماع المصطلح، وإن اختلفا، دخل في مورد الاجتماع.

وأمّا الإشكال الثاني: فلإمكان الجواب عنه باختيار فرض كون المقدّمة ذات حصّة محلّلة وحصّة محرّمة، فالمندوحة موجودة، يبقى إشكال اختصاص الوجوب بالحلال، ولكن وجه الاجتماع يمكن أن يكون مبنيّاً على فرض إمكان وجوب الجامع بين الحلال والحرام بعنوان غير العنوان المحرّم، مع فرض: أنّ وجوب الجامع هذا يثبت بدلالة لفظية التزاميّة لدليل وجوب ذي المقدّمة، لا بالدليل العقليّ فحسب.

وأمّا الإشكال الثالث: فلإمكان فرض كون الثمرة المقصودة الانتهاء إلى التعارض بناءً على عدم إمكان الاجتماع، وعدم التعارض بناءً على جواز الاجتماع، في حين أنّه لولا وجوب المقدّمة لم يكن هناك اجتماع، فلم يكن تعارض، لا الانتهاء إلى بطلان العبادة وعدم بطلانها.

545

مثلا حراماً، واجتمع العنوانان في الحصّة غير الموصلة من المقدّمة.

أمّا لو قلنا بأنّ المقدّمة حيثيّة تعليليّة للوجوب، وكانت الحرمة متعلّقة بعنوان غير العنوان الذي يكون الشيء بذلك العنوان مقدّمة للواجب، فقد يتخيّل: أنّ الفرض يدخل هنا أيضاً في باب الاجتماع، فيقال مثلا: لو فرضنا أنّ إنقاذ الغريق يتوقّف على اجتياز الأرض المغصوبة، وأنّ الحرام هو الغصب، وفرض: أنّ عنوان الاجتياز غير عنوان الغصب، فهذا يدخل في باب الاجتماع؛ لتعدّد عنواني الواجب والحرام مع وجود المندوحة؛ إذ لو أتى بالمقدّمة الموصلة، فقد فعل الواجب وترك الحرام؛ لأنّ الحصّة الموصلة حرمتها مرتفعة بالمزاحمة مع وجوب ذي المقدّمة الأهمّ، فلا يقال: إنّه لا يمكن الاجتماع لعدم المندوحة.

إلّا أنّ الواقع: أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ وذلك لأنّه وإن كان الاجتياز المتوقّف عليه الواجب مع الغصب الحرام مثلا عنوانين متباينين حسب الفرض، إلّا أنّنا ننقل الكلام إلى مقدّمة المقدّمة، أعني: إرادة الاجتياز، فنقول: إنّ إرادة الاجتياز واجبة ولو لم توصل إلى الإنقاذ؛ لأنّ المفروض عدم إمكان اختصاص الوجوب بالموصل، ومن ناحية اُخرى تكون إرادة الاجتياز مع عدم إرادة الإنقاذ بمجموعهما محرّماً؛ لأنّهما بمجموعهما علّة تامّة للحرام، وهو الغصب غير الموصل، فإنّه ليست علّة الغصب منحصرة في إرادة عنوان الغصب، بل إرادة أيّ عنوان آخر ينطبق على معنون الغصب تكون علّة للغصب، إذن فإرادة الاجتياز حرام ضمنيّ، وهي في نفس الوقت واجبة بالوجوب المقدّميّ، فلزم اجتماع الوجوب والحرمة على عنوان واحد، وهذا غير معقول، فيقع التعارض بين دليل وجوب ذي المقدّمة ودليل حرمة المقدّمة، بينما هذا البيان لا يأتي في القسم الثالث، وهو ما لو كان للمقدّمة فردان: أحدهما حرام، والآخر مباح، كما لو كان هناك طريقان: أحدهما مغصوب، والآخر غير مغصوب، فإنّه هنا حتّى لو نقلنا

546

الكلام إلى مقدّمة المقدّمة ـ وهي الإرادة ـ لا يلزم توارد الوجوب والحرمة على عنوان واحد، بل يبقى عنوان الواجب غير عنوان الحرام؛ وذلك لأنّ الحرام هنا عبارة عن إرادة اجتياز الطريق المغصوب، بينما عنوان الواجب هو إرادة جامع الاجتيازين، فإنّ الإنقاذ موقوف على جامع الاجتيازين، لا على كلّ واحد من الاجتيازين بخصوصه(1).



(1) فإن قلت: إنّ مجموع إرادة جامع الاجتيازين مع عدم إرادة اجتياز الطريق المباح علّة تامّة للحرام وهو الغصب كما قلتم في القسم السابق: إنّ إرادة الاجتياز مع عدم إرادة الإنقاذ علّة تامّة للحرام، فلا فرق بين القسمين.

قلت: الفرق واضح؛ وذلك لأنّ إرادة جامع الاجتيازين مع عدم إرادة الطريق المباح ليس هو العلّة لسلوك الطريق المغصوب، وإنّما هو ملازم لإرادة سلوك الطريق المغصوب التي هي العلّة للحرام، بينما في القسم الثاني تكون إرادة الاجتياز مع عدم إرادة الإنقاذ علّة للحرام وهو الغصب. والسرّ في ذلك: أنّ إرادة الحصّة غير الموصلة التي هي علّة للحرام دائماً تنحلّ إلى إرادة ذات المقدّمة مع إرادة عدم الإيصال، أو عدم إرادة الإيصال، في حين أنّ إرادة اجتياز الطريق المغصوب التي هي العلّة للحرام لا تنحلّ إلى إرادة جامع الاجتيازين مع عدم إرادة اجتياز المباح، والنكتة في الانحلال هناك وعدم الانحلال هنا: أنّ ذات الحصّة الموصلة هي عين ذات الحصّة غير الموصلة، والإيصال وعدم الإيصال لا يؤثّران في جعل الفرد فرداً آخر، وإنّما التحصيص هنا يكون بإضافة قيد في عالم الذهن، وهو قيد الإيصال وعدمه، إذن فإرادة ذات المقدّمة مع عدم إرادة ذي المقدّمة عبارة اُخرى عن إرادة الحصّة غير الموصلة، وأمّا في القسم الثالث فيوجد فردان من الاجتياز، أحدهما بذاته مباين للآخر، فليست إرادة الجامع مع عدم إرادة أحد الفردين عبارة اُخرى عن إرادة الفرد الآخر وإن كان ملازماً لها. نعم، تصدق في مورد إرادة الفرد إرادة الجامع من باب تصادق عنوانين على معنون واحد.

547

الأصل في المسألة

الجهة السابعة: في تأسيس الأصل في المسألة.

والأصل الذي يتكلّم عنه تارةً يراد إجراؤه في الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، واُخرى يراد إجراؤه في وجوب المقدّمة.

والصحيح: أنّه لا يمكن الرجوع إلى الأصل في كلّ من المرحلتين، إلّا نادراً.

وتوضيح ذلك: أنّه إن جعل مصبّ الأصل هو الوجوب الغيريّ للمقدّمة، فهذا غير صحيح، فإنّ الأصل العمليّ يجب أن ينتهي إلى الأثر العمليّ في مقام التنجيز والتعذير، وإلّا لغى؛ لوضوح: أنّ الأحكام الظاهريّة إنّما جعلت لأجل تنجيز الواقع والتعذير عنه، وفي المقام لا يتصوّر تنجيز وتعذير للوجوب الغيريّ حتّى تجري أصالة البراءة أو استصحاب عدم الوجوب؛ لما تقدّم: من أنّ الوجوب الغيريّ لا يقبل التنجيز والتعذير مستقلاًّ.

نعم، لو فرض: أنّ هذا الوجوب وقع موضوعاً لحكم نفسيّ، فلا بأس بنفيه بالاستصحاب لينتفي ذلك الحكم، إلّا أنّ هذا في الغالب مجرّد فرض؛ إذ ما يذكر له عادةً من مصاديق أكثره قابل للمناقشة، فمثلا قد يقال: إنّ الدليل دلّ على حرمة أخذ الاُجرة على الواجب، وهذا حكم نفسيّ تكليفيّ، أو وضعيّ، وقد اُخذ في موضوعه عنوان الواجب، وهو يشمل بإطلاقه الواجب الغيريّ، فيستصحب عدم وجوب المقدّمة لينتفي بذلك حرمة أخذ الاُجرة.

وهذا لا بأس به لو تمّت كبرى عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجب بهذا العنوان، لكن الصحيح: أنّه لم يدلّ دليل على هذا الحكم بهذا العنوان، وإنّما يرتبط عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجب بإحدى نكتتين: إحداهما غير موجودة في المقدّمة على كلّ حال، والاُخرى موجودة فيها على كلّ حال، فالنكتة الاُولى هي

548

دعوى: استظهاريّة المجّانيّة من دليل الوجوب، وهذه النكتة غير موجودة فيالمقدّمة حتّى لو قيل بوجوبها الغيريّ؛ لأنّ مجرّد وجوبها الغيريّ لا يقتضي الإلزام بها مجّاناً، وإنّما المجّانيّة أمر زائد وراء دليل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، وليس وجوب المقدّمة وجوباً مستفاداً من دليل لفظيّ يأمر بها، ويستظهر منه: أنّ المولى يريد هذا العمل مجاناً، والنكتة الثانية هي دعوى: أنّ أخذ الاُجرة إنّما هو في عمل يكون للعامل سلطان عليه، أي: له أن يفعل وله أن لا يفعل، فيبذل له المال حتّى يفعل. وأمّا إذا كان ملزماً على العمل بعبوديّته، فكأنّه لا سلطان له على عمله، والعقلاء يرون أنّ هذا العمل لهذا الشخص ليست له ماليّة؛ إذ لابدّ أن يأتي به على كلّ حال.

وهذه النكتة إن تمّت فهي ثابتة في المقدّمة مطلقاً، فإنّه ـ على أيّ حال ـ مضطرّ من ناحية العبوديّة والامتثال إلى الإتيان بالمقدّمة، سواء فرضناها واجبة، أم لا.

وقد تذكر كبرى اُخرى للانتهاء إلى أثر عمليّ، وهي كبرى: أنّ الفاسق لا يجوز الائتمام به. ولا يخفى: أنّه ـ بناءً على ما هو الصحيح من كفاية مخالفة واحدة في تحقّق الفسق ـ لا موضوع لهذه الثمرة؛ إذ لو ترك المقدّمة، فعلى كلّ حال قد ترك ذا المقدّمة.

نعم، تذكر هذه الثمرة بناءً على أنّ الفسق يكون بارتكاب الكبيرة والإصرار على الصغائر، فإذا كان ذو المقدّمة من الصغائر، فقد يقال: إنّه لو بنى على عدم وجوب المقدّمات، فلم تصدر منه إلّا صغيرة واحدة، ولو بنى على وجوبها، فقد صدرت منه صغائر متعدّدة.

إلّا أنّ هذا أيضاً غير صحيح لو سلّم مبناه:

أمّا أوّلا: فلأنّ عنوان الإصرار على الصغائر ـ على تقدير دخله في الفسق ـ

549

لا تقصد به صغائر لا توجد عند العقل قبح بعددها، ولا يثبت استحقاق العقاب فيمقابلها، ووجوب المقدّمة ـ على ما مضى ـ لا يستوجب تنجيزاً ولا عقاباً؛ فإنّ دليل اشتراط الإصرار ندّعي ظهوره في إرادة تعدّد المعصية بشكل يوجب تعدّد القبح العقليّ والعقاب.

وأمّا ثانياً: فلو سلّم تعميم عنوان الإصرار لذلك، فهو حالة نفسانيّة ملازمة لتعدّد المخالفة، ولا يثبت انتفاؤه باستصحاب عدم الوجوب، وذلك بناءً على أنّ موضوع الحكم هو الإصرار على الذنب بنحو التقييد، لا الإصرار على الشيء، وكون ذلك الشيء ذنباً بنحو التركيب، وإلّا فالإصرار هنا متحقّق بتعدّد ما تركه، وكون ذلك ذنباً منفيّ باستصحاب العدم، فيثبت بذلك انتفاء الموضوع، والظاهر هو التقييد؛ فإنّ الظاهر: أنّه إنّما اُخذ الإصرار على الذنب موضوعاً لحكم الفسق بما هو إصرار في مقابل المولى.

وقد تذكر كبرى ثالثة للانتهاء إلى أثر عمليّ، وهي كبرى: براءة ذمّة الناذر لو نذر أن يأتي بواجب، فبناءً على وجوب المقدّمة تفرغ ذمّته بمجرّد الإتيان بها، بخلاف ما لو بنينا على عدم وجوبها، فيجري استصحاب عدم وجوب المقدّمة.

وهذا المطلب أيضاً مربوط بنكتة، وهي تحقيق: أنّ وجوب الوفاء بالنذر هل موضوعه عنوان الوفاء بالنذر، أو العنوان الذي وقع عليه النذر، والتزم به الناذر كصلاة ركعتين مثلا، وإنّما اُخذ عنوان الوفاء بالنذر في الدليل طريقاً ومشيراً إلى ذلك العمل؟

فعلى الأوّل يكون الاستصحاب مثبتاً؛ إذ لا ينفي عنوان الوفاء إلّا بالملازمة العقليّة؛ لأنّ عنوان الوفاء لازم عقليّ لوجوب المقدّمة، وعلى الثاني لا بأس بإجراء الاستصحاب، فإنّ الحكم الشرعيّ عبارة عن وجوب الإتيان بشيء مشروطاً بأن يكون ذلك الشيء فرداً من الواجبات، فإذا نفينا هذا الشرط بالاستصحاب، لم ينطبق

550

الوجوب على هذا الشيء، وكان عليه أن يأتي بواجب آخر(1).

وقد تحصّل: أنّه غالباً لا تترتّب ثمرة على الأصل العمليّ في المقام. هذا إذا جعل مصبّ الأصل هو الوجوب الغيريّ.

وكذلك الحال إذا جعل مصبّ الأصل هو الملازمة، فإنّه إذا كان الوجوب الغيريّ لا أثر له، فكذلك الملازمة، فلنفترض: أنّه بنفي الملازمة نفينا الوجوب، ولكن قد قلنا: إنّ نفي هذا الوجوب لا أثر له، بل لو سلّم الأثر للوجوب الغيريّ، فترتّبه على الملازمة ليس شرعيّاً، بل بنحو الملازمة العقليّة؛ لأنّ الترتّب الشرعيّ عبارة عن ترتّب الحكم المجعول على موضوعه المقدّر الوجود، وأمّا ترتّب نفس الجعل على أسبابه، فهذا ترتّب تكوينيّ؛ إذ ليس بجعل آخر للشارع، بما هو شارع فلا يمكن إثبات الملازمة أو نفيها بالاستصحاب؛ إذ الملازمة هي التي دفعت المولى إلى إنشاء هذا الجعل، لا أنّه جعل الوجوب على هذه الملازمة.

هذا هو الذي ينبغي أن يقال في بيان عدم جريان الأصل.

إلّا أنّ صاحب الكفاية (رحمه الله) قد بحث وجوهاً اُخرى لنفي جريان الأصل:

الوجه الأوّل: ما أورده على إجراء الاستصحاب بالقياس إلى الملازمة دون الوجوب، وهو: أنّ الملازمة أزليّة وجوداً أو عدماً، فلا مجال للاستصحاب.

وهذا البيان لا يأتي بالنسبة للوجوب؛ لأنّ المقدّمة مسبوقة ـ لا محالة ـ بعدم



(1) كما يمكن أيضاً تصوير الثمرة بأن ينذر مثلا التصدّق بدرهم مشروطاً بما إذا وجبت عليه هذه المقدّمة.

وهذه الثمرة يمكن تصويرها في الملازمة، كما إذا نذر التصدّق مشروطاً بتحقّق الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، فهذا الأثر يصحّح استصحاب عدم الوجوب، أو عدم الملازمة، إلّا أنّه أيضاً أثر نادر، ولعلّه لا يتحقّق في العالم أبداً.

551

الوجوب، فالوضوء مثلا غير واجب قبل الزوال، فيمكن استصحاب عدم وجوبه(1).

وتحقيق الحال: أنّ الملازمة لها معنيان:

1 ـ الملازمة بمعنى القضيّة الشرطيّة، أي: لو وجد هذا لوجد ذاك، وهي ـ على فرض صدقها ـ صادقة قبل وجود طرفيها في العالم، وهي أزليّة وجوداً أو عدماً، فلا معنى للاستصحاب فيها.

2 ـ الملازمة بنحو القضيّة الفعليّة، أي: كون هذا بالفعل قد أوجد ذاك، وهذا أمر حادث، فإنّ علّيّة كلّ شيء بهذا المعنى فرع وجوده، وما لم يوجد لم يكن موجداً، فلاستصحاب عدم العلّيّة بهذا المعنى مجال.

الوجه الثاني: ما لا يختصّ بالاستصحاب بلحاظ الملازمة، بل يشمل الاستصحاب بلحاظ الوجوب أيضاً، وهو: أنّنا نريد طبعاً بهذا الاستصحاب أن ننفي الوجوب الغيريّ للمقدّمة مع علمنا بالوجوب النفسيّ لذي المقدّمة، وهذا يؤدّي إلى احتمال ارتكاب المحال؛ لأنّنا نحتمل الملازمة بين الوجوبين، فنفي وجوب المقدّمة من المحتمل كونه تفكيكاً بين المتلازمين، وهو محال، وهذا بخلاف استصحاب عدم الوجوب في سائر الموارد، فمثلا حينما نستصحب عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال لسنا نحتمل ارتكاب المحال، أمّا هنا فنحن نحتمل استحالة الانفكاك بين الوجوبين، فكيف نرتكبه بالاستصحاب؟

وقد ذكر صاحب الكفاية في مقام الجواب على هذا الإشكال: أنّ هذا الاستصحاب لا ينفي الوجوب الغيريّ واقعاً، وإنّما ينفي فعليّته كما هو الحال في



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 199 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ (رحمه الله).

552

كلّ استصحاب، فإنّه لا ينفي الحكم الواقعيّ، وإنّما ينفي الفعليّة، فإن كانت الملازمة بين الوجوبين محتملة في مرحلة الواقع فقط، فإنّنا لم نفتِ بما تحتمل استحالته.

نعم، لو احتملنا الملازمة في مرحلة الفعليّة أيضاً، تمّ الإشكال؛ إذ أوجدنا بالأصل تفكيكاً بين الفعليّتين مع أنّنا نحتمل ـ بحسب الفرض ـ استحالة ذلك(1).

وهذا الكلام ينحلّ إلى مطلبين:

الأوّل: أنّ هذا الإشكال غير وارد لو كانت الملازمة محتملة في مرحلة الواقع فقط.

والثاني: أنّ هذا الإشكال وارد لو كانت الملازمة محتملة في كلتا المرحلتين.

أمّا المطلب الأوّل: وهو عدم ورود الإشكال في فرض احتمال الملازمة في مرحلة الواقع فحسب، فكأنّ صاحب الكفاية يظهر من عبارته الميل إلى هذا الفرض، واعتناقه كجواب عن الإشكال.

وهنا يجب أن نعرف: أنّه ماذا يريد من الفعليّة والواقع، حيث إنّ هذه الكلمة أصبح معناها غير خال من التشويش، حيث إنّه طرأ عليها معان مختلفة عند الأصحاب، فنقول:

هناك معان ثلاثة للفعليّة في مقابل الواقع:

المعنى الأوّل: ما يناسب لصاحب الكفاية أن يكون هو المراد له، حيث إنّه يقول في مقام الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة: إنّ الحكم له مرتبة إنشاء ومرتبة فعليّة، ويقصد بذلك: أنّ الحكم تارةً يكون قد اُنشِئ ولكن ليست على طبقه مرتبة تامّة من الإرادة، وقد تكون على طبقه مرتبة ناقصة من ذلك، واُخرى تكون على طبقه إرادة تامّة، ويكون فيه روح الحكم وحقيقة الحكم. وهذا هو معنى



(1) نفس المصدر، ص 199 ـ 200.

553

الفعليّة. ويقول (رحمه الله): إنّ الاُصول إنّما تنفي مرتبة الفعليّة دون أصل الحكم بوجوده الإنشائي، وبذلك يجيب على شبهة ابن قبة.

فلو أردنا تنزيل عبارته في المقام على هذا المصطلح، وهذه المباني، كان معنى ذلك: أنّ الملازمة محتملة بين الوجوبين الإنشائيّين، دون الحقيقيّين الفعليّين، وهذا واضح البطلان؛ فإنّ الأمر بالعكس تماماً، فإنّ مجرّد إنشاء أحد الحكمين لا يستلزم إنشاء الحكم الآخر، بينما الطلب الحقيقيّ لذي المقدّمة يستلزم الطلب الحقيقيّ للمقدّمة لو تمّ القول بوجوب مقدّمة الواجب.

المعنى الثاني: ما هو مصطلح المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، وهو: أنّه يريد بالإنشاء الجعل، وبالفعليّة المجعول الذي يتحقّق عند تحقّق الموضوع.

فلو اُريد هذا المعنى، فأيضاً هذا واضح البطلان؛ إذ من الواضح: أنّ جعل الوجوب لذي المقدّمة إذا استلزم جعله للمقدّمة، فمجعوله أيضاً يستلزم مجعوله، كما أنّه من الواضح أيضاً: أنّ الاستصحاب لا يخلّ بالمجعول ولا يخلّ بالجعل، فأيّ معنىً لافتراض أنّ الاستصحاب يهدم الفعليّة؟ وأيّ معنىً لافتراض أنّ الملازمة ليست بين المجعولين، وإنّما بين الجعلين؟ ولا يحتمل عادةً نظر المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)إلى هذا المعنى الذي هو مصطلح المحقّق النائينيّ (رحمه الله).

المعنى الثالث: أن يحمل ذلك على مصطلح نأخذه من المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)، بأن يقصد الفعليّة بمعنى الباعثيّة والمحرّكيّة التي تكون بالوصول، ولذا يرى المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): أنّ الفعليّة فرع الوصول.

وهذا أشبه شيء بالمنجّزيّة بحسب المصطلح العامّ، وعلى هذا فلا بأس بالتفكيك بين الوجوبين في مرحلة الفعليّة، بأن يصل وجوب ذي المقدّمة دون وجوب المقدّمة، ولا بأس بالقول بأنّ الاستصحاب يهدم الفعليّة، ويكون هذا هو الجواب الصحيح على الإشكال.