369

الواجب المطلق والمشروط

من تقسيمات الواجب: تقسيمه إلى مطلق ومشروط، فالحجّ مثلا مشروط بالاستطاعة، ومطلق بلحاظ زوال الشمس، وصلاة الظهر بالعكس.

وقد وقع النزاع في إمكان الواجب المشروط عقلا: تارةً بلحاظ عالم الثبوت، أي: بلحاظ الوجوب، وهو في ذهن المولى بقطع النظر عن كيفيّةإبرازه وإنشائه، واُخرى بلحاظ عالم الإثبات، أي: بلحاظ إبراز الحكم وإنشائه، حيث يقال: إنّه لا يمكن رجوع القيد إلى الهيئة، بل لابدّ من رجوعه إلى المادّة.

فيقع الكلام في مقامين:

الإشكال بلحاظ عالم الثبوت:

المقام الأوّل: في تتبّع الوجوب في عالم نفس المولى قبل أن يحرّك به لسانه؛ لنرى أنّه هل يعقل الواجب المشروط في هذا المقام، أو لا؟

وفي هذا المقام توجد عندنا ثلاث مراحل:

1 ـ مرحلة الملاك.

2 ـ مرحلة الإرادة والشوق القائم في نفس المولى.

3 ـ مرحلة الجعل والتشريع.

370

فلنتتبّع كلّ مرحلة من هذه المراحل؛ لنرى في أيّ واحدة منها أنّ المشروطيّة أمرٌ معقول، أو لا؟

أمّا المرحلة الاُولى: وهي مرحلة الملاك، فلا إشكال في معقوليّة كونه مشروطاً؛ فإنّ الملاك عبارة اُخرى عن الاحتياج، ومن الواضح: أنّ الإنسان قد يكون محتاجاً إلى شيء مطلقاً من ناحية شيء آخر،أي: غير منوط به، كاحتياجه إلى الهواء مطلقاً من ناحية الشتاء أو الصيف مثلا، أي: غير منوط بمجيء الشتاء أو الصيف، وقد يكون محتاجاً إليه منوطاً بشيء آخر ومقيّداً به، كاحتياجه إلى النار منوطاً بالشتاء وبرودة الهواء، فالأوّل هو المطلق، والثاني هو المشروط.

وأمّا المرحلة الثانية: وهي الإرادة والشوق، فلا إشكال ولا ريب في الجملة في أنّ إرادة الشيء قد تكون منوطة بشيء آخر، وقد لا تكون منوطة به، فمثلا إرادة الطعام والماء غير منوطة بالمرض، بينما إرادة الدواء منوطة بالمرض، وإنّما الكلام والنزاع في تكييف هذه الإرادة المنوطة بعد الفراغ عن أصل وجودها، فهناك نظريّات وتخريجات لتفسير ذلك:

النظريّة الاُولى: هي النظريّة المنسوبة إلى تقرير الشيخ الأعظم(قدس سره)(1)، وتظهر من المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)(2) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(3) متابعته، وهي: أنّ الإرادتين كلتاهما فعليّة، وإنّما الفرق في متعلّق الإرادة، فالقيد راجع إلى المراد، فالإنسان يريد الطعام مطلقاً لكنّه يريد الدواء المقيّد بكونه في حال المرض، ولا يريد الدواء المطلق.



(1) رأيتها في كتاب المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 324 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف، وفي غيره أيضاً.

(2) لم أرها في الكفاية.

(3) راجع المحاضرات للفيّاض، المصدر السابق الذكر، ص 325، وراجع أيضاً أجود التقريرات، ج 1، الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، ص 325، تحت الخطّ.

371

وهنا يأتي إشكال وهو: أنّه لو كان القيد راجعاً إلى المراد للزم تحصيله، كما هو الحال في كلّ قيود الواجب، فإرادة الشيء سواء كانت تكوينيّة أو تشريعيّة تسري ـ لا محالة ـ إلى كلّ قيود ذلك المراد، فلابدّ للإنسان أن تسري إرادته التكوينيّة إلى تمريض نفسه لكي يشرب الدواء في حال المرض، ولابدّ أن تسري الإرادة التشريعيّة للكفّارة إلى الإفطار لكي يكفّر العبد.

فيجاب على هذا الإشكال بأنّ هذا القيد قد اُخذ على نحو لا يعقل الإلزام به من قبل تلك الإرادة، بخلاف سائر قيود الواجب؛ وذلك لأنّ القيد إنّما هو الوجود الاتّفاقي للمرض أو الاستطاعة، أي: الوجود غير المحرّك إليه من قبل نفس هذه الإرادة، وحينئذ تستحيل محرّكيّة هذه الإرادة نحوه؛ إذ بمجرّد تحريكها نحوه تخرج عن كونه مصداقاً للقيد الدخيل في الواجب.

وهذه النظريّة ـ كما ترى ـ خلاف الإلهام الفطريّ للإنسان في المسألة الحاكم بأنّ إرادة شرب الماء فعليّة، وإرادة شرب الدواء غير فعليّة، ومشروطة بنحو من الأنحاء الغامضة التي نريد أن نحلّلها في هذا البحث.

وبكلمة اُخرى: إنّ الإلهام الفطريّ يرى إجمالا رجوع القيد إلى الإرادة، فما هو السبب لصاحب هذه النظريّة في صرفه كلّ القيود من طرف الإرادة إلى المراد والمتعلّق؟!

الذي يتحصّل من كلماتهم الاستناد في ذلك إلى وجدان، وإلى برهان.

أمّا الوجدان، فيفترض أنّ هذا المطلب العجيب مطابق للوجدان، بتقريب: أنّ المولى إذا التفت إلى نفسه بالنسبة لشيء: فإمّا أن يريده، أو لا يريده، فإن لم يرده خرج عن محلّ البحث طبعاً؛ فإنّنا نتكلّم فيما يريده المولى؛ لنرى أنّ الإرادة مشروطة أو مطلقة، وأمّا ما لا يريده، فلا نتكلّم عنه، وإن أراده فقد افترضنا منذ البدء أنّ الإرادة وجدت، فمن الخلف كونها مشروطة، وإنّما هي متعلّقة تارةً بشيء

372

على الإطلاق، واُخرى بشيء على تقدير وجود شيء اتّفاقاً، ومن غير ناحية هذه الإرادة.

وهذا البيان لو تمّ فالأولى تسميته بالبرهان، لا الوجدان، وإن عبّروا عنه بالوجدان(1).

وعلى أيّ حال، فهذا البيان ليس إلّا تلاعباً بالألفاظ؛ فإنّه إن اُريد بكلمة الإرادة الإرادة المطلقة وغير المنوطة، فافتراض كون صورة عدم الإرادة خارجةً



(1) لم أجد تعارف تسمية هذا الوجه بالوجه الوجدانيّ. وكأنّ مقصودهم من الوجه الذي سمّوه بالوجدان ـ وإن فرض قصور تعبيرهم عن أداء المقصود ـ هو: أنّه هل تفرض وجود إرادة ولو مشروطة ومعلّقة، أو لا؟

فإن فرض عدم الإرادة نهائيّاً، فهذا خروج عن محلّ البحث، ولا يبقى معه موضوع للبحث، وإن فرض وجود إرادة في الجملة، قلنا: هل الإرادة فعليّة قبل تحقّق الشرط، أو لا؟ فإن قيل: إنّها فعليّة قبل تحقّق الشرط، كان معنى ذلك رجوع الشرط إلى المراد، لا الإرادة؛ إذ لو كانت الإرادة مشروطة بشرط، فلا معنى لفعليّتها قبل فعليّة شرطها، وإن قيل: إنّها ليست فعليّة قبل تحقّق الشرط، فهذا خلاف الوجدان القاضي بوجود فرق نفسيّ قبل المرض بين من يبني على شرب الدواء إذا تمرّض، ومن يبني على ترك الدواء إذا تمرّض، أو على الأقلّ لا يبني على شربه إذا تمرّض.

وتسمية هذا البيان بالوجدان أنسب من البيان الذي نقل في المتن عن كلماتهم.

والواقع: أنّه يوجد في مقابل هذا الوجدان وجدان آخر حاكم بمعلّقيّة نفس إرادة شرب الدواء على المرض بوجه من الوجوه، أو قل: حاكم بوجود فارق نفسيّ في من يبني على شرب الدواء إذا تمرّض بين ما لو لم يتمرّض، وما لو تمرّض، وهذا الوجه وهو افتراض كون الشرط راجعاً للمراد لا الإرادة قد يشبع الوجدان الأوّل، ولكن الوجدان الثاني يبقى فارغاً وبلا تفسير، بينما الوجه المختار الذي يأتي في المتن يجمع بين الوجدانين.

373

عن محلّ البحث أوّل الكلام، بل البحث يكون في هذه الصورة لنرى: أنّه عند عدم الإرادة المطلقة هل يتعقّل إرادة منوطة ومقيّدة، أو لا؟ وإن اُريد بكلمة الإرادة ما يشمل الإرادة المنوطة، فمن الصحيح ما ذكر: من أنّ صورة عدم الإرادة خارجة عن محلّ الكلام، لكنّنا نريد أن نفهم ما هي حقيقة الإرادة المنوطة، فهل هي ترجع إلى الإرادة المطلقة المتعلّقة بمراد مقيّد، أو أنّ القيد والإناطة راجع إلى نفس الإرادة؟

وأمّا البرهان، فهو: أنّنا نرى أنّ إرادة الواجب تترشّح على مقدّمات وجوده قبل تحقّق ذلك الشرط، فالمولى قد خاطب بالحجّ المشروط بالاستطاعة قبل الاستطاعة، وهذا الخطاب بنفسه من مقدّمات وجود الحجّ؛ إذ على أساسه يتحرّك العبد ويحجّ، فالمولى قد ترشّحت من إرادته للحجّ إرادة لإيجاد الخطاب بالحجّ، وذلك قبل الاستطاعة. فهذا برهان على فعليّة إرادة الحجّ قبل الاستطاعة؛ إذ لولا فعليّتها ووجودها، فكيف ترشّحت منها الإرادة إلى إيجاد الخطاب؟!

والجواب: أنّه وإن كان لا إشكال بحسب لحاظ الموارد العرفيّة للواجب المشروط في أنّ المولى قد يأمر بالعمل مشروطاً، ويوجّه الأمر والخطاب قبل تحقّق الشرط حتّى لو لم يكن في ذات توجيه الخطاب الآن ملاك نفسيّ، فيقول مثلا من الآن: «إن مرضتُ فهيّئ لي الطبيب» حتّى لو لم يكن ملاك في نفس هذا الخطاب، لكن هذا لا ينحصر تفسيره في تعلّق الإرادة الفعليّة الآن بالجزاء، وهو تهيئة الطبيب، بل يمكن تفسيره على أساس تفسير المقدّمات المفوّتة الذي سيأتي شرحه في محلّه إن شاء الله.

فتحصّل: أنّه لا الوجدان تامّ في المقام، ولا البرهان.

بل هناك برهان على خلاف هذا المدّعى، ذلك: أنّه قد مضى الإشكال على هذا

374

الوجه بلزوم ترشّح الإرادة إلى القيد، فكان جواب صاحب هذا الوجه عن ذلكبأنّنا نأخذ القيد عبارة عن الشرط بوجوده الاتّفاقيّ، وهذا الجواب ـ كماترى ـ إنّما يقتضي أن لا يبرز المولى شوقه إلى هذا الشرط، ولا يقتضي عدم شوقه في نفسه إليه؛ فإنّه غاية ما يفرض هي: أنّ هذا الشرط إنّما يكون بوجوده غير الناشئ من محرّكيّة هذا الشوق، وهذا إنّما يمنع من إبراز الشوق، وأمّا أصل الشوق، فهو موجود في نفس المولى ما دمنا نؤمن بأنّ الشوق إلى شيء يستتبع الشوق إلى مقدّمته، ولا يستطيع المولى أن يكبس نفسه.

هذا في الإرادة التشريعيّة، وأمّا في الإرادة التكوينيّة، فأيضاً نقول: إنّ غاية ما تقتضيه شرطيّة الوجود الاتّفاقيّ للقيد أن لا يكون شوقه إلى القيد محرّكاً له نحوه، لا أن لا يتحقّق الشوق إليه، اللّهم إلّا أن يفرض: أنّ الشرط إنّما هو خصوص ذلك الوجود من القيد الذي لم يتعلّق به الشوق التكوينيّ، أو التشريعيّ، إلّا أنّ هذا معناه شرطيّة مستحيلة؛ لأنّ انفكاك الاشتياق إلى الشيء من الاشتياق إلى مقدّمته محال.

فقد تحصّل: أنّ هذه النظريّة الاُولى غير صحيحة.

النظريّة الثانية: نظريّة المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(1)، وهي: أنّ الإرادة المشروطة كالإرادة المطلقة فعليّة من أوّل الأمر، كما هو الحال على النظريّة الاُولى، ولكنّها تختلف عن النظريّة الاُولى في أنّ النظريّة الاُولى كانت تفترض: أنّ الإرادة مطلقة دائماً، ولهذا تكون فعليّة، غاية ما هناك أنّها: تارةً تتعلّق بشيء مطلق، واُخرى تتعلّق بشيء منوط ومقيّد بوجود شيء اتّفاقيّ، لكن هذه النظريّة تفترض: أنّ الإرادة المشروطة ليست مطلقة، وأنّ الشرط راجع إلى نفس الإرادة، ولكن إنّما



(1) راجع المقالات، ج 1، ص 310 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار ج 1، ص 298 ـ 299 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

375

تصبح الإرادة فعليّة لأنّ شرطها فعليّ؛ وذلك لأنّ الشرط ليس هو الوجود الخارجيّ للشيء، وإنّما هو الوجود الذهنيّ للشيء، فالمولى يريد أن يشرب عبده الماء إذا عطش، وهذا معناه: أنّ إرادة الشرب مشروطة بالعطش، لكن لا بالوجود الخارجيّ للعطش، بل بالوجود اللحاظيّ له، والوجود اللحاظيّ ثابت قبل العطش، ولذا تكون الإرادة فعليّة من أوّل الأمر، وإنّما لا تترشّح هذه الإرادة إلى القيد وهو العطش؛ لأنّ من النتائج التكوينيّة لإناطة الإرادة بلحاظ شيء كون فاعليّة تلك الإرادة منوطة بتحقّق ذلك الشيء خارجاً، فلا يجب إيجاد ذلك الشيء من قبل تلك الإرادة.

والبرهان على كون الشرط بوجوده اللحاظيّ دخيلا في الإرادة، لا بوجوده الخارجيّ: أنّ الإرادة من موجودات عالم النفس المجرّدة، فيستحيل أن يؤثّر فيه الوجود الخارجيّ، وإنّما الذي يؤثّر فيه هو الوجود اللحاظيّ الذي هو أيضاً من موجودات عالم النفس.

وكأنّه اُريد بهذه النظريّة أن يُشبع ضمناً الوجدان القائل بارتباط نفس الإرادة بالشرط بوجه من الوجوه، ففرض: أنّه مرتبط بوجوده اللحاظيّ.

أقول: إنّ البرهان الذي ذكر على هذه النظريّة غير صحيح؛ إذ كأنّما فرض فيه: أنّ الأمر دائر بين كون الشيء بوجوده الخارجيّ دخيلا في الإرادة، أو كونه بوجوده اللحاظيّ دخيلا، وحيث إنّ الأوّل محال، فتعيّن الثاني، في حين أنّ هناك شقّاً ثالثاً، وهو أن يكون الدخيل هو التصديق بوجوده الخارجيّ الذي هو أيضاً من موجودات عالم النفس، كاللحاظ والتصوّر(1).

وأصل هذه النظريّة خلاف الوجدان؛ لأنّ الوجدان قاض بأنّ مجرّد لحاظ



(1) لا يخفى أنّ مقصود المحقّق العراقيّ (رحمه الله) هو كون الدخيل هو التصديق بوجوده الخارجيّ.

376

العطش من المرتوي لا يحدث في نفسه شوقاً إلى الماء فعلا؛ لأنّ الشوق ـ بحسب تركيب الإنسان ـ إنّما ينشأ من ملائمة قوّة من قواه، وحاجة من حاجاته النفسيّة لشيء يكمّله، ويجبر نقصه الذي يحسّ به، والمرتوي بالفعل لا يناسب قواه شرب الماء، بل قد يكون مضرّاً بحاله، والشوق فرع الملائمة حقيقة، لا تصوّر الملائمة(1).

النظريّة الثالثة: نظريّة المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، وهي: أنّ وجود الإرادة المشروطة كالمطلقة فعليّ من أوّل الأمر، كما هو الحال على النظريّتين السابقتين، إلّا أنّ وجود الإرادة المشروطة عبارة عن وجود إرادة معلّقة، بينما وجود الإرادة



(1) وبكلمة اُخرى: هل يقصد المحقّق العراقيّ (رحمه الله) دخل مجرّد الوجود اللحاظيّ التصوّريّ للمرض مثلا في الشوق إلى ذات شرب الدواء، فبمجرّده يصبح الشوق إلى الدواء فعليّاً، ولكن فاعليّته بتحريكه نحو الشرب تتأخّر لحين التصديق بالمرض، أو يقصد دخل مجرّد الوجود اللحاظيّ التصوّريّ للمرض في الشوق، لا إلى ذات شرب الدواء، بل إلى شربه على تقدير المرض، أو يقصد دخل الوجود اللحاظيّ التصديقيّ للمرض بالعلم الحصوليّ أو الحضوريّ في الشوق إلى شرب الدواء؟

فإن قصد الأوّل، فهو خلاف الوجدان القاضي بأنّ مجرّد لحاظ الشرط تصوّراً كالمرض أو العطش لا يخلق الشوق إلى الجزاء من شرب الدواء أو الماء، وأنّ التفكيك بين فعليّة الشوق وفاعليّته مع القدرة على تحصيل المشتاق إليه أمر غير معقول.

وإن قصد الثاني، رجع إلى إرجاع القيد إلى المراد الذي فرغنا وفرغ هو عن بطلانه.

وإن قصد الثالث كما هو المفهوم من نهاية الأفكار، بل والمقالات، كان هذا المقدار من البيان عاجزاً عن تفسير الوجدان الحاكم بالفرق النفسيّ بين من لم يتمرّض ويعلم أنّه لا يتمرّض أبداً، أو يحتمل ذلك، ولكنّه بان على شرب الدواء لو تمرّض، ومن لم يتمرّض ويعلم أنّه لا يتمرّض، أو يحتمل ذلك، ولكنّه بان على عدم شرب الدواء حتّى على تقدير المرض، أو غير بان على أحد الطرفين.

377

المطلقة عبارة عن وجود إرادة فعليّة وغير معلّقة، فالوجود فعليّ في كليهما، لكن الموجود بهذا الوجود في المشروطة معلّق ومنوط، وفي المطلقة غير معلّق وغير منوط(1)، وهذا نظير الاعتباريّات والوجودات الذهنيّة، فالإنسان قد يتصوّر الآن نزول مطر في هذا الآن، وقد يتصوّر الآن نزول مطر على تقدير برد الهواء، فوجود المطر الذهنيّ في كليهما فعليّ، لكن الموجود بهذا الوجود في الأوّل مطر فعليّ، وفي الثاني مطر معلّق على تقدير برد الهواء(2).



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 137 ـ 140 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 189 ـ 191 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

وقد حمل الشيخ النائينيّ (رحمه الله) ـ على ما في التقريرين ـ كلام الشيخ الأنصاريّ و غيره على ما يقوله هو (رحمه الله).

(2) التنظير بالاعتباريّات لم يرد لا في أجود التقريرات، ولا في فوائد الاُصول، وكأنّ هذا توجيه وتفسير من قبل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)لتوضيح أو تقريب كلام الشيخ النائينيّ (رحمه الله).

وكأنّ حاصل كلام الشيخ النائينيّ (رحمه الله) التفكيك بين وجود الإرادة وذات الإرادة، أو الماهيّة الموجودة بهذا الوجود، فوجودها فعليّ، لكن هويّة الإرادة الموجودة بهذا الوجود تارةً هي إرادة مطلقة، واُخرى هي إرادة مقيّدة ومعلّقة.

والجواب: أنّ الإطلاق والتقييد، أو قل: إنّ الفعليّة والتعليق بلحاظ كلّ ماهيّة إنّما هما بيان لحال وجودها، أمّا ذات الماهيّة فليست هي إلّا حدّاً عدميّاً للوجود، لا يتصوّر فيه إطلاق أو فعليّة تارةً، وتقييد أو تعليق اُخرى.

وبكلمة اُخرى: إنّ فعليّة الماهيّة عبارة اُخرى عن وجودها، فلا معنى لتقسيم الماهيّة الموجودة إلى فعليّة ومعلّقة، وإنّما الماهيّة تارةً تكون موجودة، واُخرى لا تكون موجودة.

378

أقول: إنّ هذه النظريّة أيضاً غير صحيحة، فإنّ الوجود عين الموجود، فلا معنى لافتراضه فعليّاً، وافتراض الموجود تعليقيّاً، وقياسه بالوجود الاعتباريّ والذهنيّ قياس مع الفارق، وتوضيحه: أنّ الوجود تارةً يكون حقيقيّاً كوجود المطر خارجاً، واُخرى اعتباريّاً وعنوانيّاً ومسامحيّاً كوجود المطر في الذهن، فإنّ هذا ليس وجوداً حقيقيّاً للمطر، وقد يكون وجود واحد بالقياس إلى شيء حقيقيّاً، وبالقياس إلى شيء آخر اعتباريّاً ومسامحيّاً، فوجود المطر في ذهننا وجود حقيقيّ، وبالحمل الشائع لأمر ذهنيّ، ووجود مسامحيّ وعنوانيّ للمطر. والوجود الحقيقيّ لكلّ شيء هو عين الموجود بذلك الوجود، فيستحيل أن يكون أحدهما معلّقاً والآخر فعليّاً، فمثلا لا يمكن أن يكون الوجود الحقيقيّ للمطر فعليّاً والموجود تعليقيّاً.

نعم، الوجود المسامحيّ للشيء ليس عين الشيء، فيمكن فيه ذلك، ولذا أمكن كون وجود المطر الذهنيّ فعليّاً في حين أنّ المطر الذي فرض هذا وجوداً مسامحيّاً له مطر تعليقيّ.

وأمّا فيما نحن فيه، فحيث إنّنا نتكلّم عن واقع انقداح الشوق في عالم النفس الذي هو الوجود الحقيقيّ للإرادة، فيستحيل أن يكون الوجود الحقيقيّ لها فعليّاً والإرادة معلّقة.

والصحيح في جميع موارد الإرادة المشروطة: أنّه توجد عندنا ـ في الحقيقة ـ إرادتان:

الاُولى: إرادة نفس ذلك الفعل المفروض وجود شرط بالنسبة له، وهو شرب الماء مثلا المشروط بالعطش، وهذه الإرادة ليست فعليّة قبل وجود الشرط في وجدان الشخص، وإنّما تتحقّق بوجود الشرط في وجدانه، وذلك: إمّا بأن يحضر نفس الشرط لديه إن كان من الموجودات الحضوريّة لدى نفس المريد، أو بأن

379

يحضر التصديق بوجوده لديه، وهذه الإرادة يستحيل أن تكون موجودة قبل ذلك؛ لما قلنا: من أنّ الشوق إلى شيء إنّما يحصل عند ملائمة قوّة من قواه إلى ذلك الشيء، والإحساس بالحاجة إليه.

الثانية: إرادة مطلقة وفعليّة قبل وجود الشرط، أو التصديق به، وهذه الإرادة غير متعلّقة بنفس ذلك الفعل كشرب الماء. وأظنّ أنّ إحساسهم الوجدانيّ إلى أنّ هناك شيئاً ما قبل وجود الشرط، وعدم التفاتهم إلى إرادة اُخرى غير إرادة شرب الماء جعلهم يتخيّلون أنّ تلك الإرادة فعليّة، بينما الإرادة الفعليّة إنّما تعلّقت بعدم تحقّق المجموع من شرط الوجوب وعدم الواجب، أي: العطش وعدم شرب الماء، فهذا الاجتماع مبغوض لديه بالفعل؛ لمنافرته لقواه، والمنافرة فعليّة، فينقدح في نفسه شوق فعليّ نحو أن لا يقع هذا المجموع المركّب، وهذه الإرادة الفعليّة غير إرادة شرب الماء، ولا تبعث نحو شرب الماء، وإنّما تبعث نحو أن لا يعطش عطشاً لا يشرب معه الماء، ولذا لو علم أنّه لو صعد على السطح عطش عطشاً لا يمكنه شرب الماء معه، كان ذلك داعياً له لعدم الصعود، في حين أنّ إرادة شرب الماء لا دور لها في عدم الصعود، فإنّها إنّما تبعث نحو الشرب عند العطش، فلولا هذه الإرادة الاُخرى التي بيّنّاها فما الذي يدعوه ويبعثه نحو عدم الصعود؟!

وبنظرة أكثر تحليليّة يمكن أن يقال: إنّ إرادة الشرب ـ في الحقيقة ـ تطوّر للإرادة المطلقة، وهي إرادة عدم المجموع، أو قل: إرادة الجامع بين الشرب وعدم العطش، فإنّ إرادة هذا الجامع يمكن إشباعها: إمّا بأن لا يحدث عطش، أو يحدث ويشرب الماء، فهي ذات اقتضاء تخييريّ أوّلا، وبعد أن تحقّق العطش اقتضت شرب الماء، فتحوّلت عن إرادة تخييريّة إلى إرادة تعيينيّة لا يمكن إشباعها إلّا بالماء؛ لفرض فعليّة العطش.

وبانكشاف الإرادتين بهذا الشكل ينحلّ الإشكال الذي جعله أصحاب النظريّة

380

الاُولى برهاناً على كون إرادة الواجب مطلقة، وهو: أنّه لو لم تكن مطلقة وثابتة قبل الشرط فكيف تبعث نحو الخطاب قبل الشرط؟

وقد أجبنا عن ذلك بجواب إجماليّ، وهو: أنّه من باب المقدّمات المفوّتة، وهنا يظهر تفصيله، حيث نقول: إنّ الخطاب إنّما هو بمحرّكيّة الإرادة الثانية، وهي إرادة مطلقة وفعليّة، فالتحريك نحو بعض المقدّمات وإن كان برهاناً على فعليّة الإرادة وإطلاقها، لكن ليست هي إرادة الجزاء كما تخيّل، بل إرادة الجامع بين عدم الشرط ووجود الجزاء، فحيث إنّه يبغض عطشاً لا ماء معه، ويرى أنّه لو لم يوجد الخطاب الآن، فسوف يوجد عطش لا ماء معه، فلذا يوجد الخطاب الآن.

هذا تمام ما ينبغي أن يقال في المرحلة الثانية، وهي مرحلة الإرادة والشوق.

وحينئذ فإن قلنا: إنّ الحكم في عالم الثبوت ليس له عدا مرحلتين: مرحلة الملاك، ومرحلة الإرادة والشوق، وبعد تماميّتهما يبرز المولى هذه الإرادة والشوق: إمّا بصياغة إخباريّة كقوله: (اُريد كذا)، أو إنشائيّة، كقوله: (افعل كذا) لم يبقَ بحث آخر بلحاظ عالم الثبوت ونفس المولى، وهذا الإبراز الذي لا يكون الاختلاف فيه من ناحية الإنشائيّة أو الإخباريّة إلّا مجرّد تفنّنات في التعبير يكشف بالدلالة المطابقيّة عن الإرادة المشروطة لنفس الفعل، وبالالتزام عن الإرادة المطلقة للجامع بين الفعل وعدم الشرط، وحيث إنّ العقل ينتزع من الخطاب الباعثيّة والمحركيّة لأجل كشفه عن إرادة المولى، وقد فرضنا هنا إرادتين: مطلقة ومشروطة، فالعقل ينتزع هنا باعثيّتين: مطلقة ومشروطة(1).



(1) قد يقال: لو فرض في الواجب المشروط تعلّق الإرادة بالجامع بين عدم الشرط ووجود المشروط، إذن لا يمكن إجراء البراءة عن الواجب عند الشكّ في تحقّق الشرط

381



خارجاً؛ للقطع بالتكليف بالجامع والشكّ في حصوله؛ لأجل الشكّ في حصول أحد فرديه، وهو عدم الشرط، فينحصر المؤمّن في استصحاب عدم الشرط عندما يكون جارياً. إلّا أنّ هذا الإشكال ينحلّ لو آمنّا بمرحلة ثالثة للحكم، وهي مرحلة الجعل والاعتبار، فيمكن إجراء البراءة الشرعيّة بلحاظ هذه المرحلة. أمّا إذا لم نؤمن بمرحلة الجعل، فنقول: إنّ الإشكال إنّما يتّجه إذا كان الشرط مقدوراً للمكلّف، أمّا إذا كان غير مقدور، فحتماً لا يكون العبد فيه ملزماً بالجامع بحدّه الجامعيّ في مقابل إلزامه بالجزاء على تقدير تحقّق الشرط؛ إذ لا محصّل لهذا الإلزام مع وجود ذاك الإلزام لو تحقّق الشرط مع عدم القدرة على الشرط، فتجري البراءة عند الشكّ في تحقّق الشرط بلا إشكال، فيبقى علينا حلّ الإشكال في الواجبات المشروطة في موارد القدرة على الشرط، وعندئذ نقول: إن الإشكال ينحلّ فيما لو احتملنا أحد اُمور:

الأوّل: أن يحتمل: أنّه بالرغم من تعلّق الشوق الكامل بالجامع بين عدم الشرط ووجود الجزاء، لعلّ المولى يشتاق إلى عدم كون العبد ملزماً عقلا بهذا الجامع، وكونه فقط ملزماً بالجزاء لو تحقّق الشرط، فهذا الاحتمال يكفي في إجراء البراءة عند الشكّ في تحقّق الشرط، وهذا احتمال عقلائيّ لو كانت مُلزميّة الشخص بالجامع مشتملة على مؤونة زائدة على ملزميّته بالجزاء حينما يتحقّق الشرط، وهذا يكون فيما لو أمكن تحقّق الشرط الذي يوجب اشتياق المولى إلى الجزاء مع عدم قدرة العبد على الجزاء بأن لم تكن القدرة على الجزاء دخيلة في شوق المولى إليه، فإنّه في مثل هذا الفرض تُنتج مُلزَميّة العبد بالجامع إلزامه بالمنع عن حصول الشرط حينما يكون عاجزاً عن الجزاء على تقدير تحقّق الشرط.

وهذا الوجه مبنيّ على أنّ اشتياق المولى إلى عدم مُلزَميّة العبد عقلا بما يشتاق إليه المولى شوقاً لزوميّاً يُسقط حقّ المولى على العبد في لزوم تحصيل ذلك لو اطّلع على هذا الشوق اللزوميّ.

382



الثاني: أن يحتمل: أنّ الشوق إنّما هو إلى الجزاء مطلقاً، أي: حتّى مع عدم تحقّق الشرط، لا إلى الجامع بين الجزاء وعدم الشرط، فليس الشرط بحسب عالم الملاك والشوق شرطاً للوجوب، كما ليس شرطاً للواجب، إلّا أنّ المولى إنّما استثنى فرض عدم الشرط شوقاً منه إلى عدم سعة دائرة مُلزميّة العبد، فمع هذا الاحتمال لا مانع من إجراء البراءة، وهذا أيضاً مبنيّ على ما بنينا عليه الوجه الأوّل.

الثالث: أن يحتمل: أنّ الشرط بحسب عالم الملاك والشوق شرط الواجب، لا شرط الوجوب، وإنّما جعله المولى بحسب عالم الإثبات شرطاً للوجوب شوقاً منه إلى أن لا يكون العبد ملزَماً بإيجاد الشرط(1)، وهذا أيضاً مبنيّ على ما بنينا عليه الوجهين الأوّلين.

الرابع: أن يحتمل: أنّ الشوق إنّما هو إلى الجزاء مطلقاً، وليس الشرط بحسب عالم الملاك والشوق شرطاً للوجوب، ولا شرطاً للواجب، إلّا أنّ المولى إنّما استثنى بحسب عالم الإثبات فرض عدم الشرط؛ لأنّ المشتاق إليه في فرض عدم الشرط إنّما كان هو الوجود الاتّفاقيّ للجزاء، أي: غير الناشئ من شوق المولى وإرادته.

الخامس: أن يحتمل: أنّ الشرط بحسب عالم الملاك والشوق شرط الواجب، لا شرط الوجوب، وإنّما جعله المولى بحسب عالم الإثبات شرط الوجوب لأنّ الشرط كان هو الوجود الاتّفاقيّ، أي: غير الناشئ من شوق المولى وإرادته.

السادس: أن يفرض: أنّ الشرط ـ حتّى بحسب عالم الملاك والشوق ـ شرط للوجوب، فالمولى يشتاق إلى الجامع بين الجزاء وعدم الشرط، إلّا أنّه يحتمل أن لا يكون أحد فردي الجامع هو مطلق عدم الشرط، بل العدم الاتّفاقيّ، أي: غير الناشئ من شوق المولى وإرادته.


(1) فإنّه لو جعله شرطاً للواجب وجب على العبد تحصيله.

383

هذا تمام تصوير المطلب بناءً على عدم تصوّر مرحلة ثالثة في مقام الثبوت.

وأمّا المرحلة الثالثة: وهي مرحلة الجعل والاعتبار لو قلنا بوجود مرحلة من هذا القبيل، بدعوى: أنّه وإن لم يكن لها أثر؛ لأنّ تمام الأثر إنّما هو لعالم الملاك والإرادة مع تصدّي المولى لتحصيلهما وإبرازهما، إلّا أنّ هذه المرحلة تكون وفق الصياغات العقلائيّة للعلاقات بين الموالي والمكلّفين، فإذا افترضنا مثل هذه المرحلة كما هو كذلك عرفاً في القضايا المجعولة بنحو تقنين القوانين والقضايا الحقيقيّة، فهل القيد يكون قيداً لنفس الإلزام، أو للواجب؟



فلو افترضنا الجزم بعدم كلّ هذه الاحتمالات الستّة، فلا محيص عن عدم جريان البراءة، إلّا أنّه فرض لا واقع له.

وخلاصة الكلام في حلّ الإشكال في الشروط المقدورة بناءً على إنكار مرحلة الجعل هي: أنّ الإشكال ينحلّ بإحدى نكتتين:

1 ـ افتراض: أنّ رغبة المولى إلى عدم مُلزميّة العبد توجب سقوط الإلزام العقليّ حقيقةً.

وهذا عندنا صحيح، ونرى: أنّ هذا هو روح تفسير جواز الارتكاب في المكروهات، والترك في المستحبّات.

2 ـ افتراض: كون المشتاق إليه الفرد الاتّفاقيّ.

وهاتان النكتتان: تارةً نحلّ بإحداهما إشكال البراءة مباشرة، واُخرى نحلّ إشكال البراءة بسلخ الشرط بحسب عالم الملاك والشوق عن كونه شرطاً للوجوب، وجعله شرطاً للواجب، أو إسقاطه عن الشرطيّة رأساً، فيأتي إشكال آخر وهو: أنّه إذن لماذا صار الوجوب بحسب عالم الإثبات ومقدار مطالبة المولى مشروطاً؟! ويكون دور هاتين النكتتين حلّ هذا الإشكال.

384

الصحيح هو الأوّل. والبرهان على ذلك يتمّ على أساس الالتفات إلى أمر، وهو: أنّ ما يكون قيداً في الواجب ولا يكون قيداً للوجوب لابدّ من كونه محرَّكاً نحوه بذاك الوجوب؛ لأنّ فرض كونه قيداً للواجب لا للوجوب هو فرض كون الوجوب فعليّاً قبل ذاك القيد، وفرض فعليّة الوجوب هو فرض فاعليّته، فهو يحرّك قبل تحقّق القيد نحو المقيّد، فبالتالي يحرّك نحو القيد لا محالة، حيث إنّ المقيّد لا يتحقّق إلّا بتحقّق القيد، وافتراض التحريك نحو المقيّد من دون كون ذلك تحريكاً نحو قيده أمر غير معقول؛ إذ المقيّد لا يتقوّم ولا يوجد خارجاً إلّا بقيده، فينبغي افتراض استحالة ذلك أصلا موضوعيّاً، والكلام على ضوئه في بيان الضابط في القيود التي يمكن سحبها من الوجوب إلى الواجب، والقيود التي لا يمكن فيها ذلك، فنقول بعد افتراض ذلك الأصل الموضوعيّ:

إنّ القيود ـ كما عرفنا في ما سبق ـ على قسمين:

الأوّل: ما يكون دخيلا في فعليّة اتّصاف الشيء بالمصلحة، كدخل برودة الهواء في اتّصاف إشعال النار بالمصلحة.

والثاني: ما يكون دخيلا في ترتّب المصلحة على الشيء خارجاً بعد فرض فعليّة الاتّصاف سابقاً، كدخل سدّ الأبواب والمنافذ في ترتّب الدفء على إشعال النار:

أمّا القسم الأوّل: فهي تارةً تكون اختياريّة، وأقصد بذلك ما يعقل الإلزام بها من قبل المولى، واُخرى تكون غير اختياريّة، وأقصد بذلك ما لا يعقل الإلزام بها من قبل المولى، سواء كان ذلك لأجل خروجه عن قدرة المكلّف، أو لأجل كون الدخيل خصوص الحصّة التي تتحقّق صدفةً واتّفاقاً:

أمّا ما يكون اختياريّاً، فلا يعقل سحب القيد فيه من الوجوب إلى الواجب؛ إذ بذلك يصبح الوجوب محرّكاً نحوه على ما أسّسناه من الأصل الموضوعيّ، بينما

385

لا مقتضي للتحريك نحوه؛ لأنّ هذا القيد ليس محصّلا للمصلحة الفعليّة، وموجباً لترتّبها خارجاً حتّى يحرَّك نحوه، وإنّما هو دخيل في اتّصاف الفعل بالمصلحة، وأيّ اهتمام للمولى باتّصاف الفعل بالمصلحة وعدمه؟!

وأمّا ما لا يكون اختياريّاً، فأيضاً لا يعقل سحب التقييد به من الوجوب إلى الواجب؛ إذ بذلك يصبح الوجوب محرّكاً نحوه بحسب ما مضى، بينما لا يصحّ هنا التحريك نحوه لعدم المقتضي بنفس البيان الذي عرفت في الاختياريّ، ولوجود المانع، وهو لزوم التحريك نحو غير الاختياريّ.

فتحصّل: أنّ قيود الاتّصاف مطلقاً يجب أن تؤخذ قيوداً في الوجوب.

نعم، بعد فرض أخذها قيوداً في الوجوب لا مانع من أخذها قيداً في الواجب أيضاً لو كانت دخيلة في ترتّب المصلحة أيضاً، فمثلا قد يفرض: أنّ الاستطاعة التي هي قيد الوجوب يكون لاقتران الحجّ بها دخل في ترتّب المصلحة، بحيث لو استطاع وترك الحجّ إلى أن فاتت الاستطاعة، فحجّ متسكّعاً، لم يقبل حجّه، فيوجب المولى على المستطيع الحجّ المقترن بالاستطاعة، ولا بأس بجعل ذلك قيداً في الواجب؛ لوجود المقتضي لذلك وعدم المانع، أمّا المقتضي، فلما فرضنا من عدم ترتّب المصلحة، إلّا على الحصّة المقرونة، وأمّا عدم المانع، فلأنّه حتّى فيما إذا كان القيد أمراً غير اختياريّ لا يلزم من أخذه في الواجب بعد أن كان المفروض أخذه في الوجوب التحريك نحو غير المقدور؛ لأنّ فرض فعليّة الوجوب فرض فعليّة القيد خارجاً وإن كان غير مقدور، ومعه لا تحريك نحوه، فإنّ التحريك نحو المقيّد الذي وجد قيده خارجاً إنّما هو تحريك نحو ذات المقيّد والتقيّد، لا القيد، وذات المقيّد والتقيّد كلاهما اختياريّ في المقام.

وأمّا القسم الثاني: وهي قيود ترتّب المصلحة، فهي أيضاً: إمّا اختياريّة، أو غير اختياريّة.

386

أمّا الاختياريّ منها فيؤخذ قيداً في الواجب، ويطلق الوجوب من ناحيته؛ لأنّ المقتضي موجود، وهو الدخل في وجود المصلحة بعد فرض فعليّتها، والمانع مفقود، وهو لزوم التحريك نحو أمر غير اختياريّ، لأنّنا فرضنا: أنّه اختياريّ.

وأمّا غير الاختياريّ منها، كما لو كان طلوع الفجر قيداً في ترتّب المصلحة على الصوم، لا في اتّصاف الصوم بالمصلحة، فلا يعقل سحبه من دائرة الوجوب، وأخذه محضاً في دائرة الواجب، بل لابدّ مضافاً إلى أخذه في دائرة الواجب من أخذه في دائرة الوجوب، ولا يعقل إطلاق الوجوب، لا لعدم المقتضي، فلو أمكن للمولى جعل الوجوب المطلق لجعله؛ لكون القيد دخيلا في ترتّب المصلحة الفعليّة،بل لوجود المانع، وهو أنّ الوجوب لو كان مطلقاً، كان محرّكاً بالفعل نحو المقيّد حتّى في حالات عدم وجود القيد، وهذا تحريك نحو أمر غير اختياريّ.

فتحصّل: أنّ قيد الاتّصاف مطلقاً، وقيد الترتّب إذا كان غير اختياريّ لابدّ من أخذه قيداً في الوجوب.

نعم، نستثني من ذلك من قيود الاتّصاف حالة واحدة، وهي ما لو أحرز المولى بنفسه تحقّق القيد بنحو القضيّة الخارجيّة في حقّ كلّ المكلّفين بهذا التكليف، فعلم مثلا أنّ الفلك يتحرّك، وأنّ الفجر سوف يطلع قبل أن تقوم القيامة، فحينئذ لا بأس بعدم تقييد الوجوب بهذا القيد، فإنّه مع ضمان وجود القيد يكون المقيّد به اختياريّاً حتّى لو كان القيد غير اختياريّ، فلا يلزم التحريك نحو غير المقدور.

بقيت الإشارة إلى شيء، وهي: أنّ ما تعقّلناه في المرحلة الثالثة من الوجوب المشروط لا يعني المقايسة التامّة لباب الأحكام بباب القضايا الحقيقيّة التكوينيّة، من قبيل (النار محرقة) كما يفهم من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، حيث إنّه بعد أن تعقّل الواجب المشروط ذكر: أنّ الحكم في الواجب المشروط قضيّة شرطيّة حالها حال القضايا الحقيقيّة التكوينيّة، من قبيل (النار محرقة) التي مرجعها إلى قضيّة

387

شرطيّة، وهي (إن وجدت النار، فهي تحرق)، وكما أنّ تلك القضايا الحقيقيّة لها مرحلتان: مرحلة القضايا الشرطيّة، ومرحلة فعليّة الجزاء عند فعليّة الشرط، كذلك الحكم الشرعيّ له مرحلتان: مرحلة الجعل التي ترجع إلى قضيّة شرطيّة، ومرحلة المجعول، وهي مرحلة فعليّة الجزاء عند فعليّة الشرط(1).

وهذه المقايسة بين القضيّة الحكميّة والقضيّة الحقيقيّة التكوينيّة بلحاظ المرحلة الاُولى صحيحة، لكن بلحاظ المرحلة الثانية غير صحيحة، فإنّ قضيّة (النار محرقة) لها مرحلة فعليّة، وهي مرحلة فعليّة الجزاء بفعليّة الشرط، لكن القضيّة الحكميّة ليست كذلك، على ما تقدّمت الإشارة إليه.

وحاصل الكلام في ذلك: أنّ الحاكم بالحكم التشريعيّ وإن كان يقدّر الشرط، ويحكم على تقديره، كما هو الحال أيضاً في الحكم بقضيّة شرطيّة تكوينيّة، لكن مع ذلك حينما يتحقّق الشرط لا تتحقّق للجزاء فعليّة ـ بالدقّة ـ وإن كانت تتحقّق الفعليّة في القضايا الشرطيّة التكوينيّة.

والبرهان على ذلك: أنّ ما يفرض تحققّه عند تحقّق الشرط في الحكم الفعليّ هل نسبته إلى الجعل في القضيّة الشرطيّة نسبة المجعول إلى الجعل، بمعنى: أنّ الجعل جعلٌ له، أو نسبة المسبّب إلى السبب؟

فإن فرض: أنّ نسبته إليه نسبة المجعول إلى الجعل، فهذا غير معقول؛ لأنّ المجعول مع الجعل كالوجود مع الإيجاد، والوجود عين الإيجاد، بينما في المقام الجعل والاعتبار إنّما هو جعل واعتبار للقضيّة الشرطيّة، لا للجزاء الذي فرض القائل بوجود مرحلتين للحكم: أنّ وجوده الفعليّ بعد الجعل، وعند تحقّق الشرط.



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 127 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 175 ـ 177 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

388

وبتعبير أدقّ نقول: إنّ الاعتبار النفسانيّ صفة من الصفات النفسانيّة ذات الإضافة، كالحبّ والبغض والعلم، والإضافة في هذه الصفات داخلة في حاقّ ذاتها، وليست عارضة عليها من قبيل عروض البياض على الجسم، ولذا ترى أنّ الجسم يمكن تصوّره في مرتبة ذاته بغضّ النظر عن أيّ لون من الألوان، بينما هذه الصفات لا يمكن تصوّرها في أيّ مرتبة من المراتب بغضّ النظر عن إضافتها، والإضافة متقوّمة بالمضاف إليه، إذن فالاعتبار والجعل في اُفقه متقوّم بالمضاف إليه، فالمجعول الحقيقيّ موجود بنفس وجود الجعل في اُفق نفس الجاعل، والمعتبر الحقيقيّ موجود بنفس وجود الاعتبار في اُفق نفس المعتبر، كما أنّ المعلوم الحقيقيّ، أو المحبوب، أو المبغوض الحقيقيّ موجود بنفس وجود العلم، أو الحبّ، أو البغض في نفس صاحبه، وهذا هو المسمّى بالمعلوم بالذات، والمحبوب بالذات، والمبغوض بالذات وهكذا، فإن فرض: أنّ المجعول الذي يوجد ويصبح فعليّاً عند تحقّق الشرط هو مجعول بالذات للجعل قد انفصل عنه، فهذا غير معقول، وإن فرض: أنّه المجعول بالعرض، إذن فلو كان أمراً حقيقيّاً فلابدّ من افتراض سببيّة للجعل بالنسبة إليه، وهذا معناه الانتقال إلى الفرض الثاني.

وإن فرض: أنّ نسبته إليه نسبة المسبّب إلى السبب، لكن الجعل ليس سبباً كافياً له، بل هو مع حدوث الشرط خارجاً سبب كاف لتحقّق المجعول وفعليّته، فهذا أيضاً غير صحيح؛ لأنّ هذا المسبّب: إمّا أن يدّعى كونه موجوداً خارجيّاً، أو يدّعى كونه موجوداً نفسيّاً في نفس المولى، وكلاهما باطل.

أمّا الأوّل، فلوضوح: أنّ الأحكام الشرعيّة ليست من الموجودات الخارجيّة، وأمّا الثاني، فلأنّه لا يعقل وجود شيء في نفس الجاعل تبعاً لوجود الشرط خارجاً وهو الاستطاعة مثلا، بحيث سواء علم المولى بتحقّق هذا الشرط أو لا سيكون نفس تحقّقه خارجاً موجباً لوجود الجزاء في نفسه بالفعل.

389

فتحصّل: أنّ الشقوق كلّها باطلة، إذن فالحكم المجعول والمعتبر ليس له وجود إلّا نفس وجوده في اُفق النفس والاعتبار عند الجعل على نحو القضيّة الشرطيّة.

نعم، فاعليّة هذا الحكم ومحرّكيّته لا تكون إلّا عند فعليّة الشرط وانطباقه على شخص معيّن، فوجوب الحجّ على المستطيع يستحيل أن يحرّك الفقراء مثلا ماداموا فقراء.

نعم، لا بأس بأن يقال بوجود مجعول عند تحقّق الشرط مسامحة؛ حيث إنّ المولى كأنّه يتصوّر عند الجعل مجعولا خارجيّاً في زمان تحقّق الشرط، ويجعله على تقدير تحقّق الشرط، وهذه وإن كانت نظرة غير واقعيّة لكنها تصوير عرفيّ يجري عليه العقلاء، ويتطابق عليه الفهم العرفيّ؛ حيث إنّ المجعول والمعتبر حينما يرى بالنظرة الفنائيّة كأنّه يرى خارجيّاً، ومع هذه النظرة انساق المحقّق النائينيّ (رحمه الله)، فادّعى وجود مرحلتين: مرحلة الجعل، ومرحلة فعليّة المجعول، فنحن لا ننكر تعدّد الجعل والمجعول بالنظرة العرفيّة، وإنّما ننكر ذلك بالنظرة الدقّيّة، ويترتّب على إنكاره بالنظرة الدقّيّة حلّ إشكال الشرط المتأخّر(1) بلحاظ المجعول كما مضى، ويترتّب على قبوله بالنظرة العرفيّة صحّة استصحاب بقاء المجعول في موارد الشكّ في بقاء الحكم كما يأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه.

الإشكال بلحاظ عالم الإثبات:

المقام الثاني: في إشكال رجوع القيد إلى الوجوب بلحاظ عالم الإثبات.

وهذا الإشكال إنّما يكون فيما إذا اُفيد الوجوب بمثل صيغة الأمر، لا بمفهوم اسميّ، كما لو قال: «وجوب الحجّ مشروط بالاستطاعة»، فإنّ الإشكال يكون من ناحية أنّ الوجوب مفاد الهيئة التي يعتبر معناها من المعاني الحرفيّة والنسب، وليست المعاني الحرفيّة والنسب قابلة للتقييد، فلابدّ من إرجاع القيد إلى شيء



(1) يقصد(قدس سره) بذلك: حلّ إشكال الشرط المتأخّر للوجوب.

390

آخر غير الهيئة، ومن هنا تأتي فكرة إرجاع القيد إلى الواجب.

والاستشكال في قابليّة المعنى الحرفيّ للتقييد له تقريبان نذكرهما في المقام منبّهين قبل ذلك إلى أنّ كلامنا هنا إنّما هو في تقييد النسبة التامّة(1)، وأمّا النسبة الناقصة فقد عرفت فيما مضى أنّها نسبة تحليليّة، فلا وجود حقيقيّ لها في الذهن حتّى تقبل التقييد، وإنّما الموجود في الذهن هو المفهوم الاسميّ.

التقريب الأوّل: أنّ المعنى الحرفيّ جزئيّ، ويكون الحرف موضوعاً للنسب الجزئيّة على حدّ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، والجزئيّ الحقيقيّ لا يقبل التقييد، وإنّما قبول التقييد شأن المفاهيم الكلّيّة.

وتحقيق حال هذا التقريب مرتبط ـ في الحقيقة ـ بمعرفة ما يُتبنّى من الجزئيّة للمعنى الحرفيّ، ويختلف اُسلوب البحث فيه باختلاف المعاني المختلفة لجزئيّة المعنى الحرفيّ، ونحن هنا نتكلّم على المبنى الذي اخترناه في بحث المعاني الحرفيّة في جزئيّة المعنى الحرفيّ، فقد اخترنا هناك جزئيّة المعنى الحرفيّ بمعنى جزئيّة ما وضع له الحرف من النسبة في مقابل طرفيها، لا الجزئيّة على الإطلاق وفي مقابل كلّ شيء، حيث قلنا: إنّ النسب تختلف وتتباين باختلاف الطرفين في كلّ نسبة؛ لتقوّم كلّ نسبة بطرفيها، فلا يعقل انتزاع جامع بينها يكون هو المعنى



(1) يقصد (رحمه الله) بالنسبة التامّة والناقصة في المقام: النسبة التي لا توحّد الطرفين المستقلّين، كما في النسبة الظرفيّة بين زيد والمسجد في قولنا: «زيد في المسجد»، والنسبة التي توحّدهما وتخلق منهما حصّة واحدة لمعنىً استقلاليّ واحد كما في نسبة الإضافة في قولنا: «غلام زيد»، فلا يعترض بأنّ نسبة الظرفيّة في المثال الآتي في المتن، وهو (زيد في المسجد) ليست تامّة، لأنّ صحّة السكوت لم تنشأ منها، بل نشأت من النسبة الخبريّة بين (زيد) و(في المسجد).

391

الحرفيّ؛ لأنّه إن انتزعنا الجامع بين النسب بتجريدها عن طرفيها، كان معنى ذلك انتزاع الجامع بينها بتجريدها عن حقيقتها وماهيّتها؛ لأنّ قوام ماهيّتها وذاتها إنّما هو بطرفيها، وهذا غير معقول، وإن انتزعنا الجامع بينها من دون تجريدها عن طرفيها، فهذا أيضاً غير معقول؛ إذ هي بمالها من أطراف متباينة فيما بينها، ولا معنى لانتزاع الجامع، فإذن يستحيل انتزاع جامع بين النسب تكون نسبة كلّيّة يوضع لها الحرف.

وهذا كلّه لا يقتضي جزئيّة المعنى الحرفيّ بلحاظ سائر الجهات والقيود بحيث لا ينطبق على مصاديق كثيرة خارجاً.

وكلّ هذا شرحه وبيانه موكول إلى بحث المعنى الحرفيّ، ونأخذه هنا كأصل موضوعيّ، ومبنيّاً عليه لا يبقي مجال للإشكال في إمكانيّة التقييد في المقام كما هو واضح، فإنّ المعنى الحرفيّ لم يصبح جزئيّاً بمعنى عدم انطباقه على حصص عديدة، وعدم قابليّته للصدق على كثيرين حتّى لا يعقل تقييده بشرط من الشروط، وإنّما كان جزئيّاً في مقابل طرفيه فقط.

التقريب الثاني: أنّ الإطلاق والتقييد حكم من قبل المتكلّم، يحتاج إلى التوجّه إلى موضوعه، وهو ما ينصبّ عليه الإطلاق أو التقييد، بينما المعنى الحرفيّ آليّ لا استقلاليّ، فلا يمكن التوجّه إليه والالتفات نحوه تفصيلا.

والجواب: أنّه إن اُريد بالآليّة المرآتيّة، أي: أنّه يُرى به غيره، من قبيل المرآة التي ينظر الرائي فيها إلى وجهه وهو غافل عن نفس الزجاجة وإن أمكنه الالتفات إلى نفس الزجاجة مستقلاًّ، وعندئذ تخرج نظرته عن كونها مرآتيّة، وكذلك في المقام يكون المفروض أن ينظر المتكلّم إلى المعنى الحرفيّ نظرة مرآتيّة، أي: يكون نظره الحقيقيّ إلى غيره، وإنّما ينظر إليه كمرآة إلى غيره لا أكثر، فهو غافل عن المعنى الحرفيّ بما هو معنىً حرفيّ، فهذا باطل؛ إذ لا برهان على لزوم كون

392

النظر إلى المعنى الحرفيّ نظرة مرآتيّة واستطراقاً إلى النظر إلى شيء آخر، بل قد يكون الهدف متعلّقاً بالنظر إلى نفس المعنى الحرفيّ، كما لو سُئل: «أين زيد؟» فقيل: «زيد في المسجد»، فهنا من الواضح: أنّ النسبة الظرفيّة بذاتها يقصد النظر إليها، لا للاستطراق إلى النظر إلى زيد والمسجد، أو إلى كون زيد والمسجد بناءً على تقدير فعل من أفعال العموم.

وإن اُريد بالآليّة: أنّ المعنى الحرفيّ بطبيعته مندكّ في غيره؛ لأنّه ليس إلّا عبارة عن النسبة المتقوّمة بطرفيها، فالنظر إليه ـ لا محالة ـ نظر اندكاكيّ وتبعيّ، لا نظر استقلاليّ.

فحينئذ نقول: لئن سلّمنا أنّ الإطلاق والتقييد لشيء يحتاج إلى توجّه استقلاليّ للنفس نحو ذلك الشيء، وسلّمنا أنّ التوجّه الاستقلاليّ للنفس نحو المعنى الحرفيّ الذي لا يوجد في الذهن إلّا بوجود اندكاكيّ لا يمكن تعقّله بافتراض: أنّ هذا التوجّه غير ذاك الوجود، وأنّه يمكن تعلّقه به مستقلاًّ وإن كان وجوده اندكاكيّاً، لئن سلّمنا كلّ هذا فبالإمكان أن يجاب عن الإشكال بأنّه يكفي في إمكانيّة الحكم عليه بالإطلاق أو التقييد الالتفات الاستقلاليّ إليه بتوسّط معنىً اسميّ مشير إليه، كما يصنعه الواضع في وضعه للحروف، فإنّ الوضع أيضاً كالإطلاق والتقييد حكم من الأحكام يحتاج إلى تصوّر الموضوع له، فيتصوّره بتصوّر معنىً اسميّ مشير إليه، ويضع اللفظ لواقع النسبة المشار إليها بهذا المفهوم الاسميّ(1) الذي تصوّره، فليكن التقييد أيضاً من هذا القبيل.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّه لا إشكال في تقييد الوجوب، لا في مرحلة الثبوت، ولا في مرحلة الإثبات.



(1) هذا الكلام ناظر إلى مقالة المشهور في الوضع التي ترى أنّ الوضع نوع جعل واعتبار وحكم، لا إلى مقالة اُستاذنا (رحمه الله) التي ترى أنّ الوضع هو القرن الأكيد.

393

وهنا كلام مذكور في الكفاية(1): تارةً يقرّب بلحاظ مقام الثبوت، فيقال: إنّ الوجوب المشروط يلزمه التفكيك بين الاعتبار والمعتبر، واُخرى بلحاظ مقام الإثبات بناءً على ما هو المشهور: من أنّ الإنشاء إيجاد للمعنى، فيقال: إنّ الوجوب المشروط يلزمه التفكيك بين الإنشاء والمنشأ.

وعلى أيّ حال، فقد اتّضح ممّا مضى: أنّه لا يرجع إلى محصّل؛ لما ظهر من عدم لزوم التفكيك بين الاعتبار والمعتبر بالذات، أو بين الإنشاء والمنشأ بالذات. وأمّا التفكيك بين الاعتبار والمعتبر بالعرض أو الإنشاء والمنشأ بالعرض؛ فلا بأس؛ لأنّه ليس المُنشأ والمعتبر حقيقةً.



(1) وهو قوله: «فإن قلت: على ذلك ينشأ تفكيك الإنشاء من المنشأ...». راجع الكفاية، ج 1، ص 154 بحسب الطبعة المشتملة في الحاشية على تعليقات الشيخ المشكينيّ.