345

الفصل الرابع. الأوامر

وجوب مقدّمة الواجب

* تقسيمات المقدّمة.

شرط الوجوب.

شرط الواجب.

الشرط المتقدّم.

* تقسيمات الواجب.

المطلق والمشروط.

المعلّق والمنجّز.

النفسيّ والغيريّ.

347

إنّ موضوع هذا البحث ليست هي المقدّمة الوجوبيّة، بل هي المقدّمة الوجوديّة. والفرق بينهما من حيث عالم الجعل: أنّ الوجوب مقيّد ومشروط بالاُولى دون الثانية، ومن حيث عالم الملاك: أنّ الاُولى لها دخل في أصل كون الفعل ذا مصلحة واحتياج الإنسان إليه، بينما الثانية يكون دخلها في تحصيل المصلحة وإشباع حاجة الإنسان، فمثلا مجيء أيّام البرد مقدّمة وجوبيّة للحكم بالتدفئة بالنار؛ إذ قبلها لا مصلحة في التدفئة ولا حاجة للإنسان إليها بينما سدّ المنافذ المانعة عن الدفء مقدّمة وجوديّة للتدفئة بالنار؛ إذ به يتمّ تحصيل المصلحة وتشبع حاجة الإنسان، ووجوب التدفئة مثلا مشروط بمجيء أيّام البرد، وليس مشروطاً بسدّ المنافذ، وبما أنّ الوجوب مقيّد ومشروط بالمقدّمة الوجوبيّة فمن الواضح: أنّه لا يترشّح الوجوب على نفس المقدّمة والشرط، فإنّه لولاها لما كان العبد ملزماً بشيء، فالبحث إنّما هو حول المقدّمة الوجوديّة.

هذا حال موضوع البحث.

وأمّا محموله، فليس عبارة عن اللابدّيّة التكوينيّة للمقدّمة في مقام الحصول على ذي المقدّمة، فإنّ هذه هي معنى المقدّميّة، ولا عبارة عن اللابدّيّة العقليّة، بمعنى عدم صحّة الاعتذار عن ترك ذي المقدّمة بعدم المقدّمة، فيقول: أنا ما صلّيت لأ نّني لم أتوضّأ؛ فإنّ ذلك واضح بالضرورة، وليس فيه أيّ نقاش أو خلاف، ولا عبارة عن الوجوب المولويّ المجعول بالجعل الفعليّ؛ فإنّه موقوف على

348

الالتفات إلى المقدّمة، بينما قد يكون الآمر بشيء غير ملتفت إلى المقدّمة، وغير مطّلع أصلا على احتياج المأمور به إلى تلك المقدّمة، وإنّما هو عبارة عن الوجوب المولويّ المجعول ارتكازاً وشأ ناً، بحيث لو التفت إليه لطلبه.

هذا حال محمول البحث.

وأمّا النسبة المدّعاة بين هذا المحمول وذاك الموضوع فهي نسبة الملازمة العقليّة، لا الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة التي هي أخصّ من الملازمة العقليّة، حيث لا تكون إلّا إذا كانت الملازمة بيّنة؛ إذ لا مبرّر لقصر النزاع على هذا الأخصّ بعد أن كانت الآثار المطلوبة من الوجوب الغيريّ تترتّب ـ لو ثبت الوجوب ـ بالملازمة العقليّة ولو لم تكن بيّنة.

وبعد أن عرفت ذلك يقع البحث عن مقدّمة الواجب، وتحقيق الحال فيها في ضمن بحثين:

349

البحث الأوّل. وجوب مقدّمة الواجب

تقسيمات المقدّمة

* شرط الوجوب.

* شرط الواجب.

* الشرط المتقدّم.

351

قد قسّمت المقدّمة إلى مقدّمة وجوبيّة ومقدّمة وجوديّة، وهذا ما قد مضى في مستهلّ البحث، ولا حاجة إلى تكراره.

وقد قسّمت المقدّمة بتقسيمات اُخرى لا حاجة إليها؛ إذ لا يترتّب عليها محصول من ناحية ما هو المقصود في المقام، وهو وجوب المقدّمة، وذلك من قبيل التقسيم إلى كون المقدّمة عقليّة أو شرعيّة أو عاديّة، أو التقسيم إلى كونها مقدّمة الوجود أو مقدّمة الصحّة، أو التقسيم إلى مقدّمة داخليّة أو خارجيّة، ونحو ذلك، فمتى ما تحقّقت المقدّميّة جاء النزاع سواء كانت ذاتيّة وهي المسمّاة بالعقليّة، أو شرعيّة عرضيّة نشأت من تقييد الواجب بفعل كالوضوء، فيصبح المقيّد بما هو مقيّد متوقّفاً على القيد، وهكذا سائر التقسيمات يتّضح بالتأمّل عدم الحاجة إليها، وإنّما الذي يستحقّ التعرّض له هو آخر تلك التقسيمات التي جاءت في الكفاية، وهو تقسيم المقدّمة إلى الشرط المقارن والمتقدّم والمتأخّر، فيذكر هذا التقسيم تمهيداً للدخول في إشكال الشرط المتأخّر المعروف.

وأمتن صيغ ذاك الإشكال أن يقال: إنّ الشرط المتأخّر: إمّا أن يؤثّر في مشروطه، أو لا، والثاني خلف؛ إذ لا نتعقّل للشرطيّة معنىً إلّا التأثير الضمنيّ في المشروط، وكونه جزءاً من أجزاء العلّة المولّدة للمشروط.

وعلى الأوّل: فهل ظرف التأثير هو ظرف المشروط، أو ظرف الشرط؟

فعلى الأوّل، يلزم تأثير المعدوم لعدم الشرط وقتئذ، وهو باطل بالبداهة، وعلى

352

الثاني، يلزم التأثير في الماضي مع أنّ الماضي قد وقع، والواقع لا ينقلب عمّا وقع عليه.

والكلام في كيفيّة التخلّص عن إشكال الشرط المتأخّر يقع في عدّة مقامات:

1 ـ في شرط الحكم والوجوب.

2 ـ في شرط الواجب.

3 ـ فيما ألحقه صاحب الكفاية بالشرط المتأخّر، وهو الشرط المتقدّم.

شرط الوجوب:

أمّا المقام الأوّل: وهو شرط الوجوب، كما لو أوجب المولى الصيام في النهار على من سوف يفعل عملا معيّناً في الليلة الآتية مثلا، فقد ذكر صاحب الكفاية (رحمه الله): أنّ الشرط ـ في الحقيقة ـ هو الوجود اللحاظيّ المقارن، لا الوجود الخارجيّ للشرط، فإنّ الحكم حقيقة قائمة في نفس المولى، فهو يحكم مثلا بأنّ من سوف يفعل الفعل الفلانيّ في الليلة الآتية يجب عليه الصوم في هذا اليوم، وهذا الحكم من قبله لا يكون متوقّفاً على أن يفعل أحد ذلك الفعل في الليلة الآتية، وإنّما يكون متوقّفاً على تصوّر المولى ولحاظه لهذا الشرط حتّى يستطيع أن يحكم بحكم مقيّد به، وهذا التصوّر واللحاظ مقارن لزمان الحكم(1).

وأوردت على ذلك مدرسة المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بأنّ هذا خلط بين الجعل والمجعول، فهذا الكلام إنّما يناسب عالم الجعل، فإنّ الجعل مرجعه إلى قضيّة شرطيّة وتقديريّة تجعل ولو لم يوجد الشرط خارجاً، فجعلها لا يتوقّف على أزيد



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 146 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليق المشكينيّ.

353

من التصوّر واللحاظ، وأمّا في المجعول، وهو ثبوت الحكم والوجوب على شخص معيّن بالذات، وخروج الجزاء بشأنه من التقديريّة إلى الفعليّة، فهو ـ لا محالة ـ متوقّف على فعليّة الشرط في حقّه، والمؤثّر هنا إنّما هو الشرط الخارجيّ، فالوجوب وليد أمر لم يولد، وهذا هو إشكال الشرط المتأخّر(1).

وتحقيق الكلام في هذا المقام: أنّ الإشكال في الشرط المتأخّر للوجوب يكون في ثلاثة مواقع:

الأوّل: في مقام الجعل وتشريع الحكم على موضوعه بنحو القضيّة الحقيقيّة، والإشكال فيه يكون بأحد تقريبين:

1 ـ ما مضى، وحاصله: لزوم تأثير المتأخّر في المتقدّم، وتأثير المعدوم، وهو محال.

وهذا جوابه ما ذكره صاحب الكفاية: من أنّ الجعل والتشريع يكفي فيه لحاظ ذلك الشرط، وهو مقارن للجعل، ولا يكون للشرط بوجوده الخارجيّ أثر في ذلك.

2 ـ ما يظهر من كلمات المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في الإشكال في الشرط المتأخّر ـ على ما في تقرير بحثه(2) ـ من لزوم التهافت في عالم لحاظ المولى.

وتوضيحه: أنّ المولى إذا أراد أن يوجب على العبد مثلا صوم يوم السبت على



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 224 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 278 ـ 279 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، والمحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 312 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 226 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 280 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

354

تقدير أن يصلّي صلاة الليل في ليلة الأحد، فلابدّ له من تقدير ولحاظ صدور صلاة الليل منه في ليلة الأحد، بينما هذا التقدير هو تقدير انتهاء يوم السبت، فكيف يمكنه أن يوجب على هذا التقدير صوم يوم السبت؟!

والجواب: أنّ تقدير صلاة الليل في ليلة الأحد لا ينحصر في تقديرها ماضيةً وفي الزمان السابق، بل قد تقدّر صلاة الليل مستقبلة، أي: أنّ المولى يقدّر أنّ هذا العبد سوف يصلّي صلاة الليل في ليلة الأحد، ويوجب عليه الصوم على هذا التقدير، لا أنّه يقدّر أنّه قد صلّى صلاة الليل في ليلة الأحد، ويوجب عليه الصوم على هذا التقدير.

والحاصل: أنّ تحديد ظرف المقدَّر من حيث فرضه مستقبلا أو ماضياً يكون بيد نفس المقدِّر، وليس معنى تقدير شيء في زمان لكي يرتّب على ذلك التقدير الحكم تقدير تحقّقه ومضيّه، بل قد يقدّر أنّه سوف يتحقّق، وهذا اللحاظ لا ينافي لحاظ يوم سابق لإيجاب الصوم فيه، فلا تهافت في اللحاظ.

الثاني: في مقام المجعول.

وتقريب الإشكال هو التقريب الأوّل الذي مضى، وجوابه؛ إنكار وجود شيء وحكم حقيقةً اسمُه المجعول وراء الجعل، وإنّما هو أمر خياليّ، وسيأتي توضيح ذلك ـ إن شاء الله ـ في بحث الواجب المطلق والمشروط، وحاصله: أنّ المجعول الذي يفرض تحقّقه بعد الجعل حين فعليّة الموضوع هل نسبته إلى الجعل هي أنّه مجعولُ ذلك الجعل، أو هي نسبة المسبّب إلى السبب، والمقتضى إلى المقتضي؟

فإن قيل بالأوّل، فهو غير معقول؛ لأنّ المجعول والجعل حالهما حال الإيجاد والوجود، فإنّ الجعل إيجاد، والمجعول وجود، والتغاير بين الإيجاد والوجود اعتباريّ لا حقيقيّ، وإن قيل بالثاني بدعوى: أنّ المقتضى كثيراً ما يتأخّر عن مقتضيه إلى أن يستكمل شروطه، قلنا: إنّ هذا المجعول الذي هو المسبّب

355

والمقتضى هل يحدث خارج نفس المولى والجاعل، أو يحدث في عالم نفس الجاعل؟

أمّا الأوّل فباطل؛ لوضوح: أنّ الحكم ليس من الاُمور الخارجيّة كالسواد والبياض، والحرارة والبرودة، وأمّا الثاني فأيضاً باطل؛ لوضوح: أنّه يكفي في فعليّة الحكم تحقّق موضوعه خارجاً سواء التفت إلى ذلك المولى أو لم يلتفت إليه، أو اعتقد خطأً عدمه.

إذن فالمجعول إنّما هو مجرّد خيال وتصوّر للجاعل، فهو حينما يتصوّر المستطيع مثلا ويجعل له وجوب الحجّ، فهو بنظره التصوّريّ يرى كأنّه قذف هذا الوجوب إلى البعيد، وإلى مستطيع قد يكون غير مولود بعدُ الآن، نعم فاعليّة الحكم ومحركيّته عقلا إنّما تكون مع انطباق عنوان الموضوع على شخص في الخارج، فإذا انطبق على هذا الشخص عنوان: أنّه سيصلّي في ليلة الأحد صلاة الليل، حكم العقل عليه بلزوم إطاعة الأمر بصوم السبت، لكن انطباق هذا العنوان عليه ليس بابه باب التأثير والتأثّر، وإنّما بابه باب الانتزاع، وحتّى لو لم يكن حكم من الأحكام مجعول من قبل المولى قد يقال: زيد سيصلّي صلاة الليل، فينتزع من هذا الشخص عنوان (سيصلّي صلاة الليل)، أفهل هذا معناه: تأثير المتأخّر في المتقدّم، بينما لا حكم و لا شرط متأخّر للحكم؟!

ففي مورد الحكم أيضاً لا يكون شيء أزيد من ذلك، أعني: انتزاع عنوان (أنّه سيصلّي صلاة الليل).

الثالث: في مقام الملاك، حيث قلنا: إنّ المقدّمة الوجوبيّة دخيلة في كون الفعل ذا ملاك، واحتياج الإنسان إلى ذلك الفعل، فنقول مثلا: إنّ هذا الإنسان الذي سيصلّي صلاة الليل في ليلة الأحد هل هو محتاج في نهار السبت إلى الصوم، أو لا؟ فإن قيل: لا، فلا معنى لإيجاب الصوم عليه في نهار السبت، وإن قيل: نعم، هو

356

محتاج، قلنا: هل هذا الاحتياج متولّد ممّا سوف يقوم به من صلاة الليل، ومرتبط بذلك، أو لا؟ فإن قيل: لا، لزم وجوب الصوم على كلّ أحد؛ إذ صلاة الليل لا دخل لها في ملاك الحكم حسب الفرض، وإن قيل: نعم، قلنا: هذا معناه تأثير المتأخّر في المتقدّم؛ إذ معنى ذلك: أنّه أثّرت صلاة الليل التي هي في ليلة الأحد في الاحتياج يوم السبت إلى الصوم، والاحتياج إلى الصوم أمر تكوينيّ خارجيّ ثابت بقطع النظر عن الحكم، وفي المرتبة السابقة عليه ـ على ما هو مذهب العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ فقد أثّرت صلاة الليل في أمر خارجيّ سابق عليها زماناً، وهو محال.

والإشكال في هذا المقام أقوى متانةً من الإشكال في عالم الجعل أو المجعول، وهو الإشكال المركّز في شرائط الوجوب.

وجوابه: أنّنا نفترض: أنّ صلاة الليل دخيلة في احتياجه إلى الصوم، لكن لا في احتياجه يوم السبت الذي انتهى إلى الصوم حتّى يلزم تأثير المتأخّر في المتقدّم، بل في احتياجه حين الصلاة، وفي ليلة الأحد إلى الصوم، واحتياجه حين الصلاة إلى الصوم يتصوّر بأحد أنحاء ثلاثة:

1 ـ احتياجه في ذلك الحين إلى الصوم في ذلك الحين، أو في وقت متأخّر، وهذا يناسب الشرط المقارن أو المتقدّم.

2 ـ احتياجه في ذلك الحين إلى الصوم في اليوم السابق، إلّا أنّه حين الاحتياج يكون عاجزاً عن تحصيل ما يحتاجه إليه، فلا محالة يوجب المولى عليه تحصيل ذلك في اليوم السابق، فيتمّ الشرط المتأخّر بلا إشكال، سنخ ما لو رأى المولى أنّ عبده سيحتاج في الشتاء إلى شراء الفحم بشرط بقائه حيّاً إلى ذلك الوقت، إلّا أنّه لا يمكنه شراء الفحم إذا جاء الشتاء، فيوجب عليه شراء الفحم في الصيف شريطة حياته في الشتاء.

357

3 ـ احتياجه إلى جامع الصوم، سواء وقع سابقاً أو لاحقاً، وفي هذا الفرض يجعل المولى وجوبه بلحاظ اليوم السابق فما بعد، فأيضاً يصبح الشرط شرطاً متأخّراً بلحاظ أوّل أزمنة الإيجاب. هذا.

ويمكن في المقام فرض آخر، وهو أن يفترض: أنّ الاحتياج حاصل من زمان الواجب، وليس الشرط المتأخّر هو الذي يولّد الاحتياج، إلّا أنّ ذلك الواجب المُشبع لتلك الحاجة إذا اُتي به، يكون له مفعول، لو ضمّ بعد ذلك إلى شيء معيّن، انتج مفاسد أشدّ، فيشترط خلاف ذلك الشيء المعيّن، وهذا في القضايا العرفيّة يكثر اتّفاقه في الشروط العدميّة، فمثلا قد يكون المريض محتاجاً إلى دواء معيّن في النهار، لكنّه لو استعمل ذلك الدواء كان له مفعول، لو اقترن صدفة في الليل بحدوث الحمّى، يولّد مفاسد أشدّ من إشباع تلك الحاجة، فيكون من شرط شربه لهذا الدواء أن لا يكون سوف يبتلي بالحمّى في الليل.

شرط الواجب:

وأمّا المقام الثاني: وهو في شرط الواجب، من قبيل فرض اشتراط صوم المستحاضة في النهار بغسلها بعد الغروب للصلاة مثلا، فالإشكال هنا تارة يبيّن بلحاظ ذات الواجب، واُخرى بلحاظ ملاكه:

أمّا الأوّل: فبأن يقال: إنّ الغسل في الليل كيف يكون شرطاً لصومها في النهار الماضي، مع أنّ الشرط له أثر في المشروط، ويستحيل أن يؤثّر المتأخّر في المتقدّم؟!

والجواب: أنّ الشرط هنا ليس بالمعنى الذي يكون من مكمّلات علّة الشيء، من قبيل الملاقاة، أو الجفاف الذي هو شرط للإحراق، وإنّما الشرط هنا بمعنى المحصّصيّة للمفهوم، أي: أنّ المولى لاحظ عندما أراد إيجاب الصوم حصّة معيّنة من مفهوم الصوم، وهي الصوم الذي يعقبه الغسل، فهذا الشرط ليس بابه باب

358

التأثير والتأثّر، وتحصيص المفهوم كما قد يكون بالشيء المقارن كذلك قد يكونبالمتأخّر، وكذا المتقدّم، فيقال: الإنسان الذي هو عالم، أو يقال: الإنسان الذي سيكون عالماً، أو يقال: الإنسان الذي كان عالماً، وهذا ليس معناه افتراض تأثير للعلم في الإنسان حتّى يقال: لا يمكن فرضه متأخّراً عن وقت التأثير فيه.

وأمّا الثاني: فالشرط بلحاظ الملاك يكون شرطاً بالمعنى الأوّل، أي: أنّه من مكمّلات العلّة، ويكون مؤثّراً في مقام حصول الملاك، كما قلنا فيما سبق: إنّ مقدّمة الواجب لها دخل في تحصيل المصلحة، بخلاف مقدّمة الوجوب التي لها دخل في كون الشيء ذا مصلحة، وعندئذ يقال: إنّ نسبة هذا الشرط وهو الغسل في الليل إلى الملاك تكون من قبيل نسبة الملاقاة أو الجفاف إلى الإحراق، ونسبة الصوم إلى الملاك تكون من قبيل نسبة النار إلى الإحراق، أي: أنّ دور الصوم دور المقتضي، ودور الغسل دور شرائط تأثير المقتضي.

وعليه فنقول: هل الغسل يؤثّر في حصول الملاك على حدّ تأثير الشرط في المشروط في وقت الغسل وهو الليل، أو يؤثّر في ذلك في وقت الصوم وهو النهار؟

فإن فرض الثاني، لزم تأثير المتأخّر في المتقدّم، وهو محال، وإن فرض الأوّل، لزم حصول المشروط والمقتضى بعد انعدام المقتضي، فإنّ الموجد الرئيس للملاك والمقتضي له إنّما هو الصوم، وهو قد انتهى، فكيف يمكن افتراض إيجاده للمقتضى بعد الغروب، وليس هذا إلّا من قبيل افتراض: أنّ النار التي لم تحرق حين وجودها لعدم جفاف الشيء تحرق بعد انعدامها عندما يجفّ ذلك الشيء.

وقد أجاب صاحب الكفاية (رحمه الله)(1) على هذا الإشكال بما يكون توضيحه بتقديم أمرين:



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 147 ـ 148 بحسب الطبعة المشتملة في الحاشية على تعليقات المشكينيّ.

359

الأوّل: أنّ الأشياء على ثلاثة أقسام:

1 ـ أشياء واقعيّة خارجاً كالماء والهواء ونحو ذلك، وهي الأشياء الموجودة خارجاً بغضّ النظر عن اعتبار أيّ معتبر، وليس للعقل أيّ تحكّم فيها إيجاداً أو إعداماً.

2 ـ أشياء اعتباريّة صرفة، ليس لها وجود إلّا بنفس الاعتبار، ودور العقل بالنسبة إليه دور المتحكّم فيه بما يشاء من إيجاد أو إعدام، من قبيل اعتبار العقل بحراً من زئبق، أو جبلاً من ذهب، فالعقل يرى دوره بالنسبة لهذه الأشياء دور الفاعل، لا دور المنفعل والقابل، فهذه هي الاعتبارات المحضة في مقابل الاُمور الواقعيّة الخارجيّة.

3 ـ ما يسمّيه الحكماء بالاعتباريات الواقعيّة، وهي أمر بين الأمرين، فمن ناحية ليست هي من الموجودات الحقيقيّة خارجاً، وإنّما العقل يعتبرها، ومن ناحية اُخرى ليس للعقل أن يتحكّم فيها كيف ما يشاء، بل يرى نفسه مرغماً على التصديق بأمر معيّن شاء أو أبى، وذلك من قبيل الإضافات، من قبيل قولنا: «إنّ المسيح(عليه السلام) قبل نبيّنا محمد(صلى الله عليه وآله)»، أو قولنا: «إنّ السماء فوقنا والأرض تحتنا»، فالقبليّة والبعديّة والفوقيّة والتحتيّة والاقتران ونحو ذلك ليست من الاُمور الخارجيّة الحقيقيّة، وإلّا لكان لها أيضاً قبليّة أو بعديّة أو تقارن ونحو ذلك إلى أن يتسلسل، وإنّما هي اُمور ينتزعها العقل عند المقارنة بين نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله)والمسيح(عليه السلام)، أو بيننا وبين السماء ونحو ذلك، ولكن في نفس الوقت يرى العقل نفسه مرغماً على انتزاع هذه الاُمور عند مقارنته بين الأشياء، فالمسيح(عليه السلام) هو الذي يكون قبل محمد(صلى الله عليه وآله)دون العكس، شاء العقل أم أبى، فكأنّما العقل يرى دوره دور القابل والمنفعل بشيء ثابت خارج دوره، بينما القبليّة والبعديّة شيء ينتزعه العقل، وليس له وجود خارجاً؛ لما عرفت من برهان لزوم التسلسل.

360

وهذا القسم هو الذي نحن سمّيناه في مبحث المعنى الحرفيّ بموجودات لوح الواقع في مقابل القسم الثاني الذي هو من موجودات لوح الاعتبار، والقسم الأوّل الذي هو من موجودات لوح الخارج، ولكنّنا هنا لا نريد أن ندخل في بيان ذلك الذي نحن نتبنّاه، فإنّ المقصود من ذكر هذا الحديث إنّما هو الاستطراق إلى بيان مرام صاحب الكفاية في مقام الجواب على إشكال الشرط المتأخّر للواجب.

الثاني: أنّ ملاكات الأحكام كما قد تكون هي المصالح والمفاسد كذلك قد تكون هي الحسن والقبح، وباب الحسن والقبح غير باب المصلحة والمفسدة، ولذا قد يحسن ما فيه أشدّ المفاسد، أو يقبح ما فيه أشدّ المصالح، فالتجرّي قبيح في حين أنّه قد يتجرّى بترك قتل من تخيّله واجب القتل وكان في الواقع نبيّاً من الأنبياء، والانقياد حسن في حين أنّه قد ينقاد بقتل من تخيّله واجب القتل وهو في الواقع نبيّ من الأنبياء، والمصالح والمفاسد اُمور واقعيّة خارجيّة من قبيل صحّة المزاج، وقوّة النفس، وشدّة الصبر، وكمال الإيمان ونحو ذلك، وأمّا الحسن والقبح فهو من القسم الثالث، أعني: الاعتباريّات الواقعيّة، فالعقل هو الذي ينتزع الحسن والقبح، ويعتبرهما، لكن لا من قبيل اعتبار بحر من زئبق الذي للعقل أن يتحكّم فيه كما يشاء، بل من قبيل القبليّة والبعديّة، فهو يرى التجرّي قبيحاً، والانقياد حسناً شاء أم أبى.

إذا عرفت ذلك قلنا: كأنّ صاحب الكفاية (رحمه الله) يقول ـ وإن كان في عبارته لفّ ودوران ـ: إنّه لو كان ملاك الصوم عبا رة عن المصلحة، استحكم الإشكال؛ لأنّ المصلحة أمر واقعيّ ومن القسم الأوّل، ويستحيل أن يستند إلى شيء من القسم الثالث فضلا عن القسم الثاني، فإذا كان الغسل شرطاً في المصلحة، فمعنى ذلك كون المصلحة مستندة إلى نفس الغسل الذي هو أيضاً من القسم الأوّل، وهذا معناه: تأثير المتأخّر في المتقدّم، وهو محال، ولكن بالإمكان افتراض كون ملاك الصوم حُسناً أدركه المولى، والحسن من اُمور القسم الثالث، فبالإمكان استناده

361

إلى أمر من اُمور القسم الثالث، وهو القبليّة، فيفرض: أنّ حسن الصوم مشروط بكونه واقعاً قبل الغسل، والقبليّة تنشأ من مقايسة العقل بين الصوم والغسل التي هي حاضرة دائماً لدى العقل، وثابتة بالفعل، فيصبح الشرط مقارناً في الحقيقة(1).

والصحيح: أنّ الشرط المتأخّر في باب المصالح والمفاسد أيضاً معقول، ولا يختصّ بأحكام المولى تعالى، بل يوجد أيضاً في أحكام أشخاص لا يهتمّون بالحسن والقبح أصلا، فالطبيب مثلا يأمر المريض بشرب الدواء الفلانيّ، ويقول له: إنّ شرط تأثيره أن تمشي بعد ذلك، أو تمتنع عن الطعام بعد ذلك أو نحو ذلك، ونحن بعد أن نفترض الموافقة على الاُصول الموضوعيّة لكلام المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله)، أو الاُصول الموضوعيّة التي افترضناها لكلامه، فغاية ما ينتج ذلك حلّ الإشكال في الأحكام القائمة على أساس الحسن والقبح، وهذا لا يكفي في حل إشكال الشرط المتأخّر كظاهرة معاشة في كثير من الأحكام التي لا ريب في قيامها على أساس المصالح والمفاسد.

والتحقيق: أنّ الإشكال يمكن حلّه في الأحكام القائمة على أساس المصالح والمفاسد؛ وذلك لأنّ الإشكال نشأ من افتراض: أنّ المأمور به هو المقتضي للمصلحة المتوخّاة، وهي صحّة المزاج مثلا في مثال المريض الذي يؤمر بشرب



(1) بل الظاهر من عبارة الكفاية أنّه ينظر إلى الأمر الأوّل فحسب المفهوم من تقسيم الحكماء الأشياء إلى ثلاثة أقسام، فلا يخصّص الجواب بفرض كون ملاك الحكم هو الحسن والقبح، بل يجعله شاملاً لما إذا كان الملاك هو المصلحة والمفسدة ويقول: إنّها من القسم الثالث فهي من الاعتباريّات الواقعيّة، وهي أمر بين الأمرين، أي: ليست من الموجودات الحقيقيّة خارجاً، بل هي من الإضافات من قبيل القبليّة والبعديّة، وليس بابها باب التأثير والتأثّر الخارجيّين حتّى يلزم الإشكال.

362

الدواء، وأنّ الشيء المتأخّر هو الشرط في تحقّق تلك المصلحة، فيقال: لو فرض تحقّق المصلحة حين المقتضي، لزم تأثير المتأخّر في المتقدم، ولو فرض تحقّقها حين الشرط، لزم تأثير المقتضي بعد انقضائه، وكلاهما محال، في حين أنّ هنا فرضاً آخر به ينحلّ الإشكال، وهو افتراض: أنّ ما فرض مقتضياً للمصلحة المتوخّاة ليس مقتضياً لذلك بالمباشرة، بل هو يوجد أثراً معيّناً، تلك هي الحلقة المفقودة بين هذا المأمور به والمصلحة المتوخّاة، وذلك الأثر يبقى إلى زمان الشرط المتأخّر، فبمجموعهما تكتمل أجزاء علّة المصلحة المتوخّاة، فتحصل المصلحة، فشرب الدواء مثلا يولّد حرارة معيّنة في الجسم، وتلك الحرارة تبقى إلى زمان المشي والامتناع عن الطعام، فتؤثّر الصحّة المزاجيّة المطلوبة، وهذا شيء مطّرد في كلّ المقتضيات التي يظهر أثرها بعد انضمام شرط متأخّر يحدث عند فقدان ذلك المقتضي، فنعرف عن هذا الطريق وجود حلقة مفقودة، هي المقتضي في الحقيقة للأثر المطلوب، لا هذا الذي يسمّى بالمقتضي، وإنّما هذا موجد لذلك المقتضي، والمفروض هو الفراغ عن إمكانيّة بقاء الأثر بعد زوال المؤثّر، وذلك بواسطة حافظات اُخرى لذلك الأثر، فإنّه لم يستشكل أحد في بقاء البناء على وضعه الذي بني عليه مدّة مديدة من الزمن بعد زوال البنّاء ولو بحافظيّة قوّة التجاذب مثلا، وإنّما الإشكال في المقام من ناحية الشرط المتأخّر، فيظهر بهذا البيان أنّ الشرط في الحقيقة ليس متأخّراً، وإنّما الدواء أوجد مثلا حرارة معيّنة انحفظت بعد انتهاء الدواء مثلا بجاذبيّة البدن، أو أيّ عامل آخر، فبقيت إلى زمان الشرط المتأخّر، فأثّرت أثرها، والآمر إنّما أمر بشرب الدواء طبعاً لا بتلك الحلقة المفقودة غير المحدّدة بحسب عالم الإثبات، وغير الداخلة بالمباشرة في اختيار المكلّف.

هذا تصوير للمطلب معقول ومطابق للواقع الخارجيّ في القضايا المادّيّة المحسوسة، فليكن الأمر التعبّديّ المولويّ بالصوم مع اشتراط الغسل في الليل من هذا القبيل.

363

الشرط المتقدّم:

وأمّا المقام الثالث: وهو في الشرط المتقدّم. فذكر صاحب الكفاية (رحمه الله): أنّ حاله حال الشرط المتأخّر، فإنّ العلّة بتمام أجزائها يجب أن تكون مقارنة للمعلول، لا متأخّرة ولا متقدّمة، فلو تقدّم بعض أجزاء العلّة ثُمّ أثّر بعد انقضائه، كان معنى ذلك: تأثير المعدوم في الموجود(1).

أقول: إنّ حلّ المطلب هو ما عرفته: من أنّه إذا تكلّمنا بلحاظ ذات الواجب، فالشرط إنّما هو بمعنى تحصيص المفهوم، وإذا تكلّمنا بلحاظ الملاك، فهناك حلقة مفقودة يوجدها الشرط وتبقى لكي تكمّل التأثير عند اقترانه بالواجب. هذا.

والأصحاب لم يلتزموا باستحالة الشرط المتقدّم حتّى من التزم منهم باستحالة الشرط المتأخّر؛ وذلك لأوضحيّة الوجدان العرفيّ هنا في الإمكان، وكثرة أمثلته العرفيّة، ولكن في نفس الوقت يُرى: أنّ كلام المحقّق الخراسانيّ (رحمه الله) كلام برهانيّ متين، وهو: أنّ العلّة بكلّ أجزائها كما لا يجوز تأخّرها عن المعلول كذلك لا يجوز تقدّمها عليه، ولهذا صار المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) وتبعه السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بصدد الجمع بين هذا الوجدان وذاك البرهان بدعوى: أنّ الشرط ليس دائماً مؤثّراً، فهو على قسمين: شرط مؤثّر، وشرط غير مؤثّر، وهي المقدّمات الإعداديّة، والمستحيل تقدّمه إنّما هو الأوّل دون الثاني، فقد ذكر المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله): أنّ الشرط قد يكون متمّماً لفاعليّة الفاعل، أو قابليّة القابل، وهذا ما يسمّى بالشرط المؤثّر، ولا يجوز تقدّمه، وقد لا يكون متمّماً لفاعليّة الفاعل،



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 145 بحسب الطبعة المشتملة في الحاشية على تعليقات المشكينيّ.

364

ولا لقابليّة القابل، وإنّما دوره هو تقريب الشيء من الامتناع نحو الإمكان، فإذا صار ممكناً ووجدت بعد ذلك علّته، صار موجوداً، وهذا ما يسمّى بالمقدّمات الإعداديّة، فمن يريد أن يجلس على كرسيّ بعيد عنه يخطو خطوات إلى أن يصل إلى الكرسيّ، فيجلس عليه، فهذه الخطوات شرط متقدّم في تحقّق الجلوس على الكرسيّ، لا بمعنى إضفاء قوّة على الإنسان، وتكميل لفاعليّته، بل هو صحيح قويّ قادر على الجلوس، ولا بمعنى جعل الكرسيّ قابلا للجلوس عليه وتتميمه من هذه الناحية، فإنّ الكرسيّ قد صنعه النجّار بالشكل الكامل والتامّ في قابليّته، بل بمعنى: أنّ جلوسه على الكرسيّ مستحيل في حالة بعده عنه، فهذه الخطوات تقرّب الجلوس من الاستحالة إلى الإمكان، فيجلس(1).

أقول: إنّ هذا الكلام وإن كان مشتهراً عند الحكماء، لكنّه لا يرجع إلى محصّل ما لم يُرجع إلى كلامنا، فإنّه: إن اُريد بتقريب الشيء من الامتناع إلى الإمكان التقريب من الامتناع الذاتيّ إلى الإمكان الذاتيّ، فمن الواضح: أنّ الممتنع بالذات كاجتماع النقيضين يستحيل أن يصبح ممكنناً، فإنّه خلف كون امتناعه ذاتيّاً، وإن اُريد به تقريبه من الامتناع الغيريّ، أي: امتناعه بعدم علّته إلى الإمكان الذي هو في مقابل الامتناع الغيريّ، فمن المعلوم: أنّ هذا لا يعقل إلّا بتقريبه إلى علّته، وذلك بأن يكون هذا الشرط دخيلا في علّته، فبوجوده يقترب الشيء إلى الإمكان



(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 32 ـ 36 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، وراجع المحاضرات، ج 2، ص 305 ـ 306 بحسب طبعة مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

ولا يخفى: أنّهما لم يجعلا المقدّمة الإعداديّة قسيماً لمتمّم فاعليّة الفاعل، ومتمّم قابليّة القابل، بل التقسيم إلى المؤثّر والمقدّمة الإعداديّة في كلامهما تقسيم في عرض التقسيم إلى متمّم فاعليّة الفاعل ومتمّم قابليّة القابل.

365

الذي هو في مقابل الامتناع بالغير، أي: الامتناع بعدم العلّة، إلّا أنّ الكلام في معرفة كيفيّة هذا الدخل، وأنّه كيف لا يرد عليه إشكال الشرط المتقدّم، وكيف يكون دخيلا في علّة شيء متأخّر وجزءاً من تلك العلّة مثلا، مع أنّه قد انعدم وانصرم قبل ذلك الشيء المتأخّر، فقد أصبح الشرط في المقام مؤثّراً، وإن اُريد به ما يسمّونه بالإمكان الاستعداديّ، حيث يقال مثلا: إنّ البيضة يمكن أن تصبح فرخ دجاجة، لكن ذلك بحاجة إلى وجود استعداد خاصّ في البيضة، وإمكان استعداديّ، وهذا الإمكان الاستعداديّ والتهيّؤ يخلق في البيضة بإعطاء درجة من الحرارة والدفء لها ونحو ذلك، ففيما نحن فيه يفترض: أنّ الشرط المتقدّم يعطي للشيء الإمكان الاستعداديّ لإيجاد المصلحة خارجاً، قلنا: إنّ هذا الاستعداد والتهيّؤ: إن فرض مجرّد أمر اعتباريّ يعتبره العقل، فمن الواضح: أنّ الأمر الاعتباريّ لا يمكن أن يكون دخيلا حقيقةً في إيجاد شيء خارجيّ وهو المصلحة، وإن فرض أمراً حقيقيّاً وحالة خارجيّة تنشأ في البيضة مثلا، وتبقى إلى أن يأتي باقي أجزاء العلّة، فهذا ـ في الحقيقة ـ شرط مقارن، وهذا هو الحلقة المفقودة التي بيّنّاها، سمّيت بالإمكان الاستعداديّ، فرجع ذلك إلى كلامنا، ولا نزاع في التسمية.

367

البحث الثاني. وجوب مقدّمة الواجب

تقسيمات الواجب

* المطلق والمشروط.

* المعلّق والمنجّز.

* النفسيّ والغيريّ.

369

الواجب المطلق والمشروط

من تقسيمات الواجب: تقسيمه إلى مطلق ومشروط، فالحجّ مثلا مشروط بالاستطاعة، ومطلق بلحاظ زوال الشمس، وصلاة الظهر بالعكس.

وقد وقع النزاع في إمكان الواجب المشروط عقلا: تارةً بلحاظ عالم الثبوت، أي: بلحاظ الوجوب، وهو في ذهن المولى بقطع النظر عن كيفيّةإبرازه وإنشائه، واُخرى بلحاظ عالم الإثبات، أي: بلحاظ إبراز الحكم وإنشائه، حيث يقال: إنّه لا يمكن رجوع القيد إلى الهيئة، بل لابدّ من رجوعه إلى المادّة.

فيقع الكلام في مقامين:

الإشكال بلحاظ عالم الثبوت:

المقام الأوّل: في تتبّع الوجوب في عالم نفس المولى قبل أن يحرّك به لسانه؛ لنرى أنّه هل يعقل الواجب المشروط في هذا المقام، أو لا؟

وفي هذا المقام توجد عندنا ثلاث مراحل:

1 ـ مرحلة الملاك.

2 ـ مرحلة الإرادة والشوق القائم في نفس المولى.

3 ـ مرحلة الجعل والتشريع.