414


أو عموم، بل هو منتزع عن روايات متفرّقة في موارد متفرّقة، كالثوب والبدن والفراش ونحو ذلك، وهذه الروايات كما تنسجم مع فرضيّة كون موضوع النجاسة الجسم بما هو ذو صورة جسميّة محفوظة ـ حسب الفرض ـ حتّى بعد الاستحالة كذلك تنسجم مع فرضيّة كون موضوع النجاسة هو الجسم بما هو ذو صورة نوعيّة تبدّلت بالاستحالة، ومع عدم تعيّن الاحتمال الأوّل لا يمكن التعدّي من موارد تلك الروايات إلى ما بعد الاستحالة، كما أنّ استصحاب النجاسة أيضاً لا مورد له؛ لاحتمال تبدّل الموضوع. أمّا إذا رجعت العين الاُولى كما في الماء المتنجّس الذي تبخّر ثُمّ عاد ماءً، فمقتضى هذا الوجه لمطهّريّة الاستحالة أيضاً عدم تماميّة الإطلاق لدليل النجاسة بالنسبة لما بعد رجوع العين؛ وذلك لأنّ مورد النصوص هو ما قبل الاستحالة، واحتمال الفرق موجود. وأمّا استصحاب النجاسة: فإن قلنا بعدم عود المعدوم عرفاً، فهذا ماء آخر لا يجري فيه استصحاب النجاسة، وإن قلنا بعوده فبالإمكان أن يقال: إنّ استصحاب النجاسة جار؛ لأنّ موضوع النجاسة حتّى لو كان هو الجسم بما له من صورة نوعيّة فالموضوع قد عاد. نعم، يحتمل كون الحكم مقيّداً بما قبل الاستحالة والعود، لكن هذا لا يعدّ عرفاً من مقوّمات الموضوع التي بفقدها يبطل الاستصحاب، وانقطاع الحكم في فترة الاستحالة لا يمنع عن هذا الاستصحاب؛ لأنّه لم يكن انقطاعاً للحكم عن الموضوع، وانّما كان انقطاعاً بزوال الموضوع، وهذا النحو من انقطاع لا يضرّ بصدق عنوان نقض اليقين بالشكّ على عدم ترتيب الحكم على موضوعه بعد العود.

وعلى أيّ حال، فهذا الوجه يمكن أن يجاب عليه بما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من وجود إطلاق في المقام، وهو قوله في موثّقة عمّار (الوسائل، ج 1، باب 4 من أبواب الماء المطلق، ح 1، ص 142 بحسب طبعة آل البيت): «يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»، فهنا إذا أصاب الخشب ذلك الماء ثُمّ صار فحماً وقد فرضنا انحفاظ الجسم السابق، فهذا الجسم يصدق عليه: أنّه أصابه ذلك الماء، فيكون محكوماً بالنجاسة.

415

وأمّا الدائرة الثانية وهي المشتقّات، فهل تدخل بتمامها في محلّ النزاع، أو أنّ بعضها خارج عن محلّ النزاع؟ من الواضح: أنّ بعض المشتقّات لا يدخل في محلّ


الثاني: أن يقال: إنّنا لئن بنينا على مطهّريّة الاستحالة في عين النجس، ففي المتنجّس بطريق اُولى، فإنّ المتنجّس إنّما تنجّس بالسراية من عين النجس، فهل يحتمل أنّ الكلب حينما يُحرَق فيصبح فحماً أو رماداً يطهر، لكن الخشب الذي تنجّس بملاقاة الكلب حينما يحرق فيصبح فحماً أو رماداً لا يطهر؟! وهذا الوجه ـ كما ترى ـ لا يبطل إطلاق دليل النجاسة في مورد عود العين كما لو رجع بخار الماء المتنجّس ماءً، ولا استصحابها؟!

والجواب: ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام من أنّ مطهّريّة الاستحالة لعين النجس لو كانت ثابتة بالدليل اللفظيّ، لأمكن التعدّي من عين النجس إلى المتنجّس بالأولويّة العرفيّة مثلاً، وبالملازمة العرفيّة، وذلك عملاً بلوازم الأمارات، ولكن الواقع: أنّ مطهّريّة الاستحالة لعين النجس لم تكن بدليل لفظيّ، بل كانت بقاعدة الطهارة أو بالاُصول المؤمّنة، ولوازمها غير حجّة، بل يمكن أن يعكس الأمر، وذلك بأن يتمسّك أوّلاً لإثبات عدم مطهّريّة الاستحالة للمتنجّس بإطلاق قوله في موثّقة عمّار: «يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء» ثُمّ يتعدّى من ذلك إلى عين النجس بالأولويّة، فيقال: لئن كانت الاستحالة لا تطهّر المتنجّس، فهي لا تطهّر عين النجس بطريق أولى.

الثالث: أن يقال: إنّ دليل تنجّس المتنجّس المحمول عرفاً على سراية بعض آثار وخصوصيّات النجس إليه ليس له إطلاق في نظر العرف لفرض الاستحالة التي هي في فهم العرف استحالة لتلك الآثار والخصوصيّات أيضاً، فلا يمكن التمسّك بعد تحوّل الخشب فحماً أو رماداً بإطلاق قوله: «يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»، كما أنّ السراية مقوّمة عرفاً لموضوع التنجّس، فباحتراق كلّ الآثار السارية ينقطع استصحاب النجاسة أيضاً.

وأمّا إذا عادت العين بعد الاستحالة كما في الماء المتنجّس الذي تحوّل بخاراً ثُمّ تحوّل مرّة اُخرى ماءً، وافترضنا موافقة العرف على عود المعدوم، فشمول هذا الوجه للعين المعادة لإثبات الطهارة وعدمه مبنيّ على معرفة أنّ ما يعود هل هو الماء الزلال المصفّى عن كلّ الآثار التي سرى إليها بملاقاة النجاسة، أو أنّه يعود بما كان معه من التلوّثات؟

416

النزاع، كالمصادر وأسماء المصادر والأفعال؛ لفقدان الركن الاُوّل، وهو الجري على الذات، فيختصّ النزاع بخصوص الأوصاف الاشتقاقيّة، كأسماء الفاعلين والمفعولين والزمان والمكان والآلة والصفة المشبّهة.

وأمّا الدائرة الثالثة وهي الأوصاف الاشتقاقيّة، فقد ادّعي خروج بعضها عن محلّ النزاع، فمثلاً ادّعي في بعض كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) أنّ اسم الآلة خارج عن محلّ النزاع؛ إذ لا إشكال في عدم اشتراط بقاء التلبّس؛ بدليل: أنّه يصحّ الإطلاق حقيقة حتّى قبل التلبّس، فما ظنّك به بعد التلبّس، فالمفتاح قبل الفتح به يسمّى مفتاحاً.

وهذا الكلام جوابه واضح؛ وذلك لأنّ التلبّس إنّما هو باعتبار مبدئه، ومبدأ المفتاح إن كان هو الفتح لم نقبل صدق المفتاح حقيقة قبل الفتح، ولا نقبل خروجه عن محلّ النزاع. وإن كان هو شأنيّة الفتح، فأيضاً يكون داخلاً في محلّ النزاع؛ إذ قد يخرج المفتاح عن الشأنيّة كما إذا حصل تآكلٌ فيه، وتناقص في أسنانه بحيث خرج عن شأنيّة الفتح.

ومن جملة ما توهّم خروجه: أسماء الزمان؛ إذ بانقضاء المبدأ ينقضي الزمان، فلا معنى للتكلّم في أنّه بعد الانقضاء يصدق العنوان، أو لا؟

وقد تُخلِّص عن الإشكال بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره في الكفاية(2) من أ نّا نسلّم أنّ الذات يستحيل بقاؤها بعد


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 83 ـ 84 بحسب الطبعة التي عليها تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) ج 1، ص 60 بحسب طبعة المشكينيّ.



417

انقضاء المبدأ، لكن مع هذا لا بأس بالوضع للأعمّ، غاية ما هناك: أنّ أحد فردي هذا المعنى الأعمّ مستحيل، وأيّ مانع للوضع للجامع بين الممكن والمستحيل؟! بل لا مانع للوضع لخصوص المستحيل، فإنّ المقصود من وراء وضع اللفظ لمعنىً ما ليس وجوده، بل تصوّره، وتصوّر المستحيل ممكن. فكأنّ صاحب الجواب يريد أن يبيّن بياناً قريباً للبيان الذي بيّنّاه من أنّ الاستحالة الفلسفيّة لا تمنع عن الوضع للأعمّ، فيقول: إنّ المقصود من الوضع: الاستعمال لا الإيجاد خارجاً، والاستعمال يتوقّف على التصوّر وهو ثابت.

ولكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ الاستحالة هنا بالدقّة ليست استحالة فلسفيّة


وقد ذكر الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) تعليقاً على هذا الجواب: أنّ هذا وإن كان يحلّ الإشكال، إلاّ أنّ تحرير النزاع في الزمان لا تترتّب عليه ثمرة البحث؛ لأنّ ثمرة البحث تظهر فيما انقضى عنه المبدأ، والمفروض أنّه لا مصداق لذلك في اسم الزمان. نعم، إذا قلنا: إنّ اسم الزمان واسم المكان واحد، وإنّ المقتل مثلاً يدلّ على وعاء القتل من دون ملاحظة خصوصيّة الزمان أو المكان، فعدم المصداق بلحاظ الزمان لا يوجب لغويّة النزاع؛ لكفاية المصداق بلحاظ المكان (راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 100 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائي بقم).

أقول: إن كان المقصود بهذا الكلام بطلان النزاع، وعدم إمكانه في اسم الزمان (لو لم نقل باتّحاده مع اسم المكان) لانحصار المصداق عندئذ في المتلبّس، فمن الواضح: أنّ فقدان الثمرة لا يوجب بطلان النزاع وعدم إمكانه. وإن كان المقصود الاعتراض على تعميم النزاع بنكتة لغويّته، وأنّ مجرّد إمكانه لا يبرّر تعميم النزاع بعد أن كان ذلك لغواً وبلا فائدة، فمن الواضح: أنّ النزاع لا يجعل في خصوص اسم الزمان كي يرد عليه اللغويّة، وإنّما يكون النزاع في المشتقّ، وأنّه: هل هو حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ، أو لا؟ ويكفي في صحّة هذا النزاع وعدم لغويّته ثبوت الثمرة في بعض أقسامه، ولا يضرّ بإطلاق النزاع انعدام الثمرة في بعض الأقسام؛ فإنّ الإطلاق لم يكن مشتملاً على مؤونة زائدة حتّى يجب الفحص لها عن الثمرة.

418

فحسب، بل ترجع إلى الاستحالة المنطقيّة؛ للاشتمال على التناقض؛ إذ إنّ انقضاء المبدأ يشتمل على التجدّد الذي هو الزمان، وانقضاء الزمانيّ إنّما هو بانقضاء الزمان، فالانقضاء أوّلاً وبالذات للزمان، وثانياً وبالعرض للزمانيّ، فانقضاء المبدأ هو عبارة عن تجدّد زمان آخر، وانتهاء زمانه، وإلاّ ففي لوح غير زمانيّ الحوادث غير منقضية، وبنظرة لا زمانيّة الحوادث كلّها موجودة، فإذا كان انقضاء المبدأ هو عين انقضاء الزمان، ففرض انقضاء المبدأ مع بقاء الزمان تناقض.

الوجه الثاني: ما ذكره جماعة من المحقّقين، كالمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) وغيرهما: من أنّ اسم الزمان بنفسه هو اسم المكان، أي: أنّ لفظاً واحداً وضع لظرف الفعل سواء كان زماناً أو مكاناً، ويكفي في جريان النزاع فيه تعقّل انقضاء المبدأ، وانحفاظ الذات ولو في بعض المصاديق.

وهذا الجواب ممّا لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّ أسماء الزمان والمكان إنّما هي متداخلة في اللفظ فقط، من دون أن يعني هذا التداخل: أنّ كلمة (مقتل) مثلاً لها معنىً واحد بوضع واحد، بل هنا معنيان. وتوضيح ذلك: أنّ كلمة «مقتل» مثلاً لابدّ أن توضع لذات ملحوظة ظرفاً للقتل، فإذا فرض أنّ المأخوذ في المعنى الموضوع له لذلك هو عنوان الظرفيّة بما هو معنىً اسمي أمكن تصوير معنىً جامع ينطبق على ظرف الزمان وظرف المكان؛ لأنّ عنوان ظرف القتل ينطبق على كليهما، ولكن من الواضح: عدم أخذ المفهوم الاسمي للظرفيّة في ذلك؛ لوضوح: أنّ مفهوم الظرفيّة كمفهوم الفاعليّة والمفعوليّة والآليّة تنتزع من الصورة التي نفهمها من المشتقّ، لا أنّها تدخل في مفهومه، فلا ينتقل


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 100 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

(2) راجع المحاضرات، ج 1، ص 232 ـ 233 بحسب طبعة مطبعة النجف، وراجع أيضاً أجود التقريرات، ج 1، ص 56 ـ 57 تحت الخطّ.

419

ذهننا ابتداءً من كلمة «مقتل» إلى مفهوم الظرفيّة، وإنّما كلمة «مقتل» تدلّ على ذات ونسبة ومبدأ، وننتزع من صورة ذلك المفهوم الظرفيّة، كما أنّ اسم الفاعل يدلّ على ذات ونسبة ومبدأ، وبعد هذا ننتزع منه مفهوم الفاعليّة، وعندئذ فإذا كانت نسبة المكان إلى المكين مع نسبة الزمان إلى الزمانيّ من سنخ واحد، أمكن أن يقال: إنّ لفظ «مقتل» موضوع للذات الجامع بين الزمان والمكان مع نسبته إلى القتل، ولكن الصحيح: أنّهما نسبتان متباينتان فلسفيّاً وعرفاً، وليستا من سنخ واحد، أمّا فلسفيّاً فلأنّ نسبة الشيء إلى مكانه عبارة عن مقولة الأين، أو مقوّم مقولة الأين، ونسبة الشيء إلى زمانه عبارة عن مقولة المتى، أو مقوّم مقولة المتى، ومن المعلوم: أنّ هاتين المقولتين من المقولات العالية التي اعتبروها ماهيات متباينة سنخاً وذاتاً، وليس حالهما حال فردين من ماهية. وأمّا عرفاً فلأنّه لا إشكال في التباين الوجدانيّ بينهما، فحينما نتصوّر واقع احتواء يوم عاشوراء للقتل، واُخرى نتصوّر واقع احتواء كربلاء له، نرى أنّ سنخ أحد الاحتواءين غير سنخ الآخر، ولا جامع بينهما، فلابدّ من الوضع لكلتا النسبتين بأن يكون للمقتل مدلولان: أحدهما للزمان، والآخر للمكان، فيبقى الإشكال في اسم الزمان على حاله.

وصفوة القول: إنّ هنا خلطاً بين مفهوم الظرفيّة وواقعها، فلو كان اُخذ فيه مفهوم الظرفيّة، وكان موضوعاً للذات التي هي ظرف (بهذا المفهوم الاسميّ) لأمكن الوضع للجامع، لكن هذا غير صحيح، وإنّما المأخوذ واقع النسبة الظرفيّة، والنسبتان متباينتان.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(1) وهو: أنّ الزمان الذي ينقضي


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 179 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 129 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

420

بانقضاء المبدأ إنّما هو تلك اللحظة التي وقع فيها القتل، وتلك القطعة الخاصّة من الزمان، ولكن تلك القطعة من الزمان باعتبار اتّصالها مع باقي القطعات تكون موجودة بوجود وحدانيّ؛ فإنّ الاتّصال يساوق الوحدة، وهذا الوجود الوحدانيّ الطويل له بقاء بعد انقضاء المبدأ.

وهذا لا يرد عليه ما أورده المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) من دعوى: أنّ المتّصف حقيقة بالحدث إنّما هو تلك القطعة، لا هذا الواحد الاتّصاليّ كما هو الحال أيضاً في الأجسام الخارجيّة، فلو وقعت حمرة على جزء من الفراش مثلاً، فخصوص ذلك الجزء يتّصف بالاحمرار، لا الجسم بتمامه، وكذلك الأمر في المقام.

فإنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ هناك فرقاً بين الواحد المتّصل العرْضيّ الأجزاء والواحد المتّصل التدريجيّ الأجزاء، ففي الأوّل ليست حمرة الجزء حمرة لذلك الوجود الاتّصاليّ؛ لأنّ هذا الجزء ليس هو تمام وجوده الآن، بل جزء وجوده. وأمّا الواحد المتّصل التدريجيّ كعمود الزمان، فتمام وجوده في ذلك الحال هو ذلك الجزء، ودائماً يكون وجوده بوجود جزئه، فإذا اتّصف هذا الجزء الزمانيّ بالمقتليّة فقد اتّصف الواحد الطويل بالمقتليّة؛ لأنّ وجود هذا الواحد الطويل في هذا الحال بوجود هذا الجزء، بينما وجود الواحد العرضيّ ليس بوجود هذا الجزء، فكلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) باق على وجاهته.

نعم، قد تأتي هنا شبهة اُخرى، وهي: أنّه يلزم من هذا الكلام كون القائل بالأعمّ ملتزماً بصحّة إطلاق اسم الزمان على الزمان إلى يوم القيامة، فنقول عن هذا الوقت: إنّه مقتل زكريّا(عليه السلام)؛ لأنّه متّصل بزمان قتله، بينما لا يكون الأمر هكذا.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 98 ـ 99 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

421

والجواب: أنّ المناط هو النظر العرفيّ، والعرف يقطّع الزمان إلى قطع: من الشهور والأسابيع والأيّام والساعات والسنوات وغير ذلك، ويرى أنّ كلّ قطعة لها وجود مستقلّ، فيرى العرف أنّ الذات تزول بزوال قطعة، فالمقتليّة ليست وصفاً للدهر؛ لأنّ العرف يجزّء الدهر، ولا يفرضه وجوداً واحداً، وليست وصفاً لقطعة متأخّرة عن لحظة القتل؛ لأنّها بالتقطيع ترى عرفاً وجوداً مستقلاّ، وإنّما هي وصف لقطعة تدخل فيها لحظة القتل، كساعة القتل أو يومه أو اُسبوعه أو سنته، وهكذا. فبهذا يتحصّل وجه صحيح لحلّ الإشكال في جريان النزاع في اسم الزمان(1).

 


(1) لا يخفى: أنّ فكرة وحدة الزمان التي يفترض أنّها تحلّ الإشكال في اسم الزمان يمكن أن تفسّر بأحد تفسيرين:

الأوّل: أن يكون المقصود بذلك أخذ مقطع من الزمان مشتمل على الفترة المشتملة على المبدأ، كالقتل في مثال المقتل، من قبيل أن يقال: إنّ هذا القرن مثلاً كان مقتلاً للحسين(عليه السلام)، وقد انقضى عنه المبدأ، أو يؤخذ عنوان الدهر والزمان وما شابه ذلك، ويقال: إنّه كان مقتلاً للحسين(عليه السلام) وقد انقضى عنه المبدأ.

إلاّ أنّ هذا ليس مقصوداً للمحقّق العراقيّ(رحمه الله)؛ لأنّه قد ذكر هو ذلك على ما ورد في نهاية الأفكار (ج 1، ص 128 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم) بعنوان ما كان ينبغي للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أن يذكره كحلٍّ لمشكلة تصوير انقضاء المبدأ عن اسم الزمان، فقال: إنّ صاحب الكفاية الذي حلّ مشكلة الاستصحاب في باب الزمان بتصوير الحركة التوسّطيّة، أو ما بين المبدأ والمنتهى كان بإمكانه أن يأتي بهذا الحلّ في المقام أيضاً، فيقول مثلاً: إنّ هذا القرن كان مقتلاً وقد انقضى عنه القتل. ثُمّ قال(رحمه الله): إنّ هذا الجواب من قبل صاحب الكفاية غير صحيح، لا في بحث استصحاب الزمان ولا في المقام؛ وذلك لأنّ الوحدة المنتزعة عمّا بين المبدأ والمنتهى إنّما هي وحدة اعتباريّة منتزعة عن تعاقب الأفراد وتلاحقها، وفي الخارج لا يكون إلاّ أشخاص تلك الحصص المتبادلة المتعاقبة. نعم، إذا كان عنوان انتزاعيّ كالسنة أو الشهر أو اليوم أو الساعة ونحوها موضوعاً للأثر في

422


لسان الدليل، فعندئذ لابدّ من ملاحظة ذاك العنوان.

وكذلك أشار الشيخ العراقيّ(رحمه الله) في مقالاته (ج 1، ص 179 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم) إلى بطلان الجواب بوحدة الحركة التوسّطيّة بنفس النكتة التي ذكرها في نهاية الأفكار من أنّ هذه الوحدة ليست إلاّ أمراً انتزاعيّاً، لا واقعيّاً حقيقيّاً.

أقول: إنّ هذا الجواب ـ على تقدير تماميّته في بحث الاستصحاب ـ لا يتمّ في بحث المشتقّ؛ وذلك لأنّ ما بين المبدأ والمنتهى المسمّى بالسنة أو الشهر أو القرن أو غير ذلك المشتمل على فترة المبدأ لا ينقضي عنه المبدأ إلاّ بانقضائه هو، فسنة القتل هي سنة القتل إلى الأخير، وقرن القتل هو قرن القتل إلى الأخير وهكذا، كما أشار إلى ذلك نفس المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقالات (ص 180 بحسب الطبعة المشار إليها آنفاً)، وأشار إليه الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) في نهاية الدراية (ج 1، ص 99).

والثاني: ما هو المقصود للشيخ العراقيّ(رحمه الله) في المقام من أنّ الاتّصال يساوق الوحدة، وذلك بقطع النظر عن لحاظ أيّ عنوان انتزاعيّ لمقطع زمنيّ.

وأمّا ما اختاره اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فيما أوردناه في المتن، فهو ـ في الحقيقة ـ أمر بين الأمرين، فهو من ناحية فرض موضوع الأثر قطعةً منتزعة من الزمن مشتملة على المقطع الذي وقع فيه المبدأ، ومن ناحية اُخرى افترض الوحدة عبارة عن الوحدة الفلسفيّة التي يساوقها الاتّصال.

وهذا البيان يكون من ناحية بعيداً عن الاعتراض عليه بعدم تقبّل العرف لتوصيف يومنا هذا مثلاً بكونه مقتل زكريّا(عليه السلام) ولو مجازاً وبعنوان استعمال المشتقّ فيما انقضى عنه المبدأ؛ لأنّه يجاب على هذا الإشكال بما أفاده(رحمه الله)من أنّ العرف ملتزم بالتقطيع في الزمن، ويرى القطعة غير المشتملة على المقطع الذي وقع فيه المبدأ غير متلبّس بالمبدأ أصلاً.

ومن ناحية اُخرى لا يرد عليه الإشكال بعدم كون القطعة الانتزاعيّة هي موضوع الأثر؛ وذلك لأنّه بعد ما فرضنا من التزام العرف بتقطيع الزمن، ولا يجعل المقتليّة وصفاً

423

كلمة «الحال» في عنوان المسألة:

المقدّمة الثانية: ذكر في عنوان المسألة: (أنّ المشتقّ هل هو حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال أو الأعمّ؟) فاُخذ في ذلك كلمة «الحال»، وكلمة «الحال» كلمة تدلّ على الزمان، فكأنّه تُوُهِّم أنّ القائل بالوضع لخصوص المتلبّس يقول: إنّ الزمان مأخوذ في المشتقّ. ولكن المحقّقين المتأخّرين أوضحوا: أنّه لا ينبغي توهّم أخذ الزمان فيه، ولا يكون هذا مقصود القائل بالوضع للمتلبّس، بل حال المشتقّ حال الجوامد: كالإنسان والمصادر كالضرب التي لا دلالة لها على الزمان، بمعنى: أنّه لم يؤخذ الزمان في مفهومها. وإذا أردنا أن نحلِّل كلمة «عالِم» فسوف نصل إلى هذا المدلول التركيبي: (شيء له التلبّس بالعلم)، فهو مركّب من جوامد ومصادر وحروف، ومن المعلوم أنّ الزمان غير مأخوذ في شيء منها، ومدلول كلمة «عالم» ليس إلاّ مفاد هذه الجملة بنحو اللفّ والاندماج. نعم، مفهوم كلمة «عالم» سنخ مفهوم لا ينطبق على الذات إلاّ حين وجدانه للمبدأ، كما أنّ الإنسان لا يصدق إلاّ حين تصبح النُطفة واجدة للجنس والفصل. وهذا غير أخذ


للدهر مثلاً، بل يجعلها وصفاً للسنة أو لليوم أو للساعة أو نحو ذلك تكون النتيجة: أنّ موضوع الأثر لدى العرف دائماً هي قطعة انتزاعيّة.

ومن ناحية ثالثة لو فرضنا أنّ الوحدة الانتزاعيّة غير كافية في المقام (وهي كافية مادام الموضوع هي قطعة انتزاعيّة) فالوحدة الحقيقيّة موجودة في المقام؛ لأنّ الاتّصال يساوق الوحدة.

إلاّ أنّك ترى أنّ هذا التصوير لا يخلو ممّا مضى من الإيراد عليه بأنّ القطعة المشتملة على المقطع الذي هو زمان المبدأ لا ينقضي عنها المبدأ إلاّ بانقضائها، فالإشكال في دخول اسم الزمان في مورد النزاع باق على قوّته.

424

الزمان في مفهوم المشتقّ.

وبعد الفراغ عن أنّ المشتقّ يدلّ على المتلبّس من دون دلالة له على الزمان يقع كلام آخر في أنّه: هل المشتقّ موضوع للمتلبّس بلا أيّ قيد للتلبّس، أو موضوع للذات المتلبّسة بالمبدأ تلبّساً مقارناً للنطق؟ وهذا لا يعني أخذ زمان النطق في مفهوم المشتقّ، بل أخذ نفس النطق الذي هو زمانيّ، أي: أنّ التلبّس بالمبدأ يقيّد بالمقارنة مع النطق، فالذات المتلبّسة بالعلم مثلاً تلبّساً مقارناً للنطق مدلول لكلمة «عالم» أو موضوع للذات المتلبّسة بالمبدأ تلبّساً مقارناً للحكم والجري؛ إذ قد يختلف الحكم مع النطق، فحينما أقول: «زيد قائم بالأمس» يكون نطقي اليوم وحكمي بلحاظ الأمس.

وهذه الاحتمالات الثلاثة يظهر بينها فارق في اُسلوب الاستظهار، فمثلاً حينما يقال: «زيد عالم» و«زيد حيّ يرزق» يفهم منه: أنّه عالم الآن، أي: في زمان النطق. فإن قلنا بالاحتمال الثاني إذن فكلمة «عالم» تدلّ على ذلك بالظهور الوضعيّ. وإن قلنا بالاحتمال الثالث فكلمة «عالم» إنّما تدلّ بالظهور الوضعيّ على كونه عالماً حين الحكم والجري، ولكن يفهم بالإطلاق وانصراف الكلام أنّ زمان الحكم والجري هو زمان النطق، فعن هذا الطريق يصبح الكلام ظاهراً في كونه عالماً في زمان النطق. وإن قلنا بالاحتمال الأوّل، فكلمة «عالم» لا تدلّ إلاّ على أصل التلبّس، وظهور الجملة في الهوهويّة والاتّحاد بين الموضوع والمحمول يدلّ على أنّ زيداً هو عين العالم (والعالم هو الذات التي لها التلبّس)، فهذا لا يصدق إلاّ إذا كان في ظرف الجري والحكم متلبّساً، فيكون إثبات التلبّس في زمان الجري بظهور القضيّة، لا ظهور المشتقّ، ثُمّ نثبت بالإطلاق والانصراف أنّ زمان الجري هو زمان النطق، فبالتالي يصبح الكلام ظاهراً في كونه عالماً في زمان النطق.

425

فعندنا ثلاثة دوالّ: دالٌّ على التلبّس بنحو مهمل مجمل وهو المشتقّ، ودالّ على أنّ التلبّس في ظرف الجري وهو ظهور الجملة في الهوهويّة، ودالّ على أنّ ظرف الجري هو ظرف النطق وهو الإطلاق. فهذه هي الفوارق الاستظهاريّة بين الاحتمالات الثلاثة. والصحيح منها هو الاحتمال الأوّل.

أمّا إبطال الاحتمال الثاني، فيكون بأمرين:

الأوّل: هو أنّ التلبّس لو كان مقيّداً بالنطق، لزم كون قولنا: «زيد ضارب بالأمس» أو «زيد ضارب غداً» مجازاً، مع أنّه لا إشكال في كونه حقيقة حينما يكون قد صدر عنه الضرب بالأمس، أو سيصدر منه غداً.

والثاني: أنّه إن اُريد بأخذ النطق قيداً: أخذ مفهوم النطق، فهذا باطل؛ إذ لا يخطر على البال حينما نسمع كلمة «عالم» نفس ما يخطر على البال من كلمة «نطق». وإن اُريد أخذ واقع النطق، لزم أن تكون كلمة «عالم» في حال عدم النطق لا معنى لها؛ لأنّ واقع النطق لا يتحصّل إلاّ حينما يوجد خارجاً، بينما ليس الأمر كذلك.

وأمّا إبطال الاحتمال الثالث، فأيضاً يكون بأمرين:

الأوّل: سنخ الإشكال الثاني على الاحتمال الثاني. وحاصله: أنّ المأخوذ: هل هو مفهوم الجري أو واقعه؟ فإن قيل بالأوّل، فهو باطل بالضرورة؛ لأنّ هذا المفهوم بما هو مفهوم لا نلتفت إليه حينما نسمع كلمة «عالم» مثلاً. وإن قيل بالثاني، فإذا أتى بكلمة «عالم» لا في جملة تامّة، فقيل: «عالم» لزم أن لا يكون لها معنىً؛ إذ لا حكم ولا جري، بينما ليس الأمر كذلك.

الثاني: أنّ الجري في طول المحمول والموضوع، فإنّ معناه إثبات هذا لذاك، فكيف يؤخذ في المحمول؟! فإذن الصحيح: هو الاحتمال الأوّل، وهو أنّه بناءً على كون المشتقّ موضوعاً للمتلبّس يكون موضوعاً للمتلبّس بلا قيد.

426

تعقّل جامع على القولين:

المقدّمة الثالثة: لابدّ من تحقيق الكلام في تعقّل جامع على القولين، فعلى القول بكونه حقيقة في المتلبّس نريد جامعاً ينطبق على كلّ متلبّس، ولا ينطبق على المنقضي عنه المبدأ. وعلى القول بكونه حقيقة في الأعمّ نريد جامعاً ينطبق على المنقضي عنه المبدأ أيضاً انطباقاً حقيقيّاً. وأمّا إذا لم يمكن تصوير الجامع على أحد القولين، فقد بطل ذلك القول ثبوتاً، ولم نحتج بعد ذلك إلى البحث الإثباتيّ؛ ولأجل ذلك كان هذا من مقدّمات المطلب، فنقول:

أمّا الجامع على القول بكون المشتقّ حقيقة في المتلبّس، فلا إشكال في ثبوته كما ظهر من المقدّمة الثانية؛ فإنّ الذات المتلبّسة بالمبدأ مفهوم ينطبق على المتلبّس دون المنقضي، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ المشتقّ مفهوم تركيبيّ أو مفهوم بسيط، أي: أنّه نفس المبدأ، غاية الأمر: أنّه اُخذ لا بشرط، فصحّ فيه الحمل. أمّا على التركيب(1) من ذات ونسبة ومبدأ، فالجامع هو ما قلناه، أي: ذات لها التلبّس بالعلم مثلاً في كلمة «عالم» فينطبق على المتلبّس دون المنقضي عنه المبدأ. وأمّا على البساطة وأنّ مفاد «عالم» هو مفاد علم، وإنّما الفرق بينهما من ناحية أنّ أحدهما اُخذ بشرط لا، والآخر لا بشرط على ما يأتي تفسيره إن شاء الله،


(1) لا يخفى: أنّه ليس المقصود بالتركيب التركيب الحقيقيّ؛ إذ لا ريب أنّ مفهوم المشتقّ ليس مركّباً من مفاهيم تفصيليّة، وهي مفهوم ذات ثبت لها المبدأ، وإنّما المقصود: التركيب والبساطة بحسب التحليل العقليّ، فالقائل بالبساطة يقول مثلاً: إنّ مفاده نفس المبدأ، لكنّه يحمل على الذات باعتباره اُخذ لا بشرط، والقائل بالتركيب يقول مثلاً: إنّ المشتقّ موضوع للذات، لكن لا على إطلاقها، بل للحصّة المنتسبة إلى المبدأ، وهذه الحصّة بالتحليل ترجع إلى ذات ومبدأ ونسبة بينهما.

427

فالجامع نفس العلم، فإنّه محفوظ في تمام موارد ثبوت التلبّس، وليس محفوظاً بعد الانقضاء.

وأمّا على الأعمّ فتصوير الجامع لا يخلو من إشكال. وتوضيحه: أنّه إن بنينا على بساطة المفهوم الاشتقاقيّ، وأنّه نفس الحدث، فتصوير الجامع غير معقول أصلاً؛ لأنّ مدلول كلمة «عالم» ليست الذات دخيلة فيه وإنّما مدلوله العلم، إلاّ أنّه اُخذ لا بشرط، ومن المعلوم: أنّ العلم غير محفوظ في المنقضي عنه المبدأ، ولا يعقل تطبيقه حقيقة عليه، فإنّه على أساس ثبوت نوع اتّحاد بينهما، ومع الانقضاء لا اتّحاد بينهما.

وأمّا إن بنينا على التركيب، فيمكن تصوير الجامع بأحد وجوه:

الأوّل: أن يقال: إنّ الجامع هو الذات في أحد الزمانين، أي: زمان التلبّس وزمان الانقضاء في مقابل زمان ما قبل التلبّس.

وهذا الجامع وإن كان في نفسه أمراً معقولاً، إلاّ أنّه يستلزم أخذ الجامع بين الزمانين في مفهوم المشتقّ، وقد فرغنا فيما سبق عن أنّ الزمان غير مأخوذ في مفهوم المشتقّ، إذن فهذا الوجه باطل.

الثاني: أنّ الجامع هو الذات المتلبّسة بتلبّس قبل الجري أو بعده، أي: الذات المتلبّسة بتلبّس ليس بعد الجري. وهذا الجامع أيضاً غير صحيح؛ إذ اُخذت فيه المقارنة بين التلبّس والجري، فلوحظ فيه التلبّس غير المتأخّر عن الجري، أي: الجامع بين المقارن والسابق عليه. وقد فرغنا سابقاً عن أنّ التلبّس المأخوذ في المشتقّ غير مأخوذ فيه الجري، وإنّما المأخوذ فيه نفس التلبّس مطلقاً، والمشتقّ قد يستعمل ولا جري أصلاً: لا قبله ولا حينه ولا بعده، كما لو استعمل لفظ «عالم» وحده لا في جملة تامّة؛ فإنّ الجري من شؤون الجملة التامّة.

428

الثالث: أن يقال بأنّ المشتقّ مركّب من ذات وفعل ماض، فالعالم يعني: من علم، والضارب يعني: من ضرب، والقائم يعني: من قام وهكذا. ومن الواضح: أنّ من قام يصدق على من استمرّ قيامه إلى الحال، وعلى من تلبّس بالقيام وانقضى عنه، وبذلك نحصل على جامع ينطبق على المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ دون ما لم يتلبّس بعدُ بالمبدأ، من دون أخذ قيد الجري ولا مفهوم الزمان بناءً على عدم اشتمال الفعل على مفهوم الزمان. وهذا جامع معقول عرفيّ صحيح، ولا يرد عليه لزوم دخول الفعل الماضي في المشتقّ، وهو بديهيّ البطلان كما ذكر بعض المستشكلين؛ فإنّه إن اُريد بذلك: أنّ الفعل الماضي بما هو محصّل لنسبة تامّة، يصحّ السكوت عليها غير مأخوذ في مفهوم المشتقّ، فهو صحيح، وإلاّ لكان «قائم» جملة تامّة، ولكن المقصود: أخذ الفعل قيداً كما يجعل قيداً لأداة الشرط أو الموصول، فكما أنّ الفعل في «من قام» اُخذ قيداً، وتحوّلت نسبة الجملة إلى النسبة الناقصة كذلك في المقام. وإن اُريد دعوى: بداهة بطلان دخول الفعل فيه ولو بنحو القيديّة وقلب نسبة الجملة إلى النقصان، فهي ممنوعة.

ولا يرد عليه أيضاً: أنّه بناءً على ذلك يلزم أن يكون معنى «زيد قائم غداً»: زيد من قام غداً بينما هذا غير صحيح؛ فإنّ معنى الفعل الماضي لا ينسجم مع كلمة «غد» مع أ نّا نرى أنّ «زيد قائم غداً» صحيح.

والجواب: أنّ «غداً» في «زيد قائم غداً» ليس قيداً للقيام، وإنّما هو قيد وتوقيت للنسبة الحمليّة بين الموضوع والمحمول. وان شئت فقل: إنّ زيداً قائم بمعنى: زيد من قام، فهناك نسبة اتّحاديّة حمليّة بين زيد واسم الموصول، وهناك نسبة للقيام إلى اسم الموصول، وكلمة «غد» ترجع للاُولى دون الثانية. وأحياناً تكون كلمة «غد» قيداً لنسبة ناقصة قائمة في نفس المشتقّ كما في قولنا: «الشفيع

429

محمّد(صلى الله عليه وآله) في يوم القيامة»، فيوم القيامة ليس قيداً لمادّة شفع، بل للنسبة الناقصة بين لام الموصول والذات الاشتقاقيّة.

الرابع: ما ذكره السيّد الاُستاذ دامت بركاته(1)، وهو أنّ الجامع هو انتقاض عدم المبدأ بالوجود، فإنّ هذا ثابت في المتلبّس بالفعل والمنقضي عنه المبدأ. أمّا غير المتلبّس إلى الآن، فعدم المبدأ لم ينقضِ فيه بالوجود.

وهذا الوجه يحتاج إلى تمحيص، فنقول: نحن إنّما نتكلّم بناءً على كون المشتقّ مفهوماً تركيبيّاً؛ إذ عرفت: أنّه بناءً على البساطة لا معنى لافتراض الجامع في الأعمّ، وعليه نقول: إنّه بناءً على هذا الوجه يكون مفهوم المشتقّ عبارة عن ذات لها هذه الصفة، وهي صفة انتقاض عدم المبدأ فيها بالوجود، وعندئذ نتساءل: أنّه كيف نصف الذات بهذه الصفة؟ فإن كان ذلك بالوصف الاشتقاقيّ، فقلنا: الجامع هو الذات المنتقض عدم المبدأ فيه بالوجود، فإذن يعود الإشكال مرّة اُخرى، فإنّنا ننقل الكلام إلى كلمة «المنتقض» في هذه الجملة التي هي مشتقّ، فإن اُريد بها الأعمّ من المنتقض فعلاً والمنتقض فيما مضى، تساءلنا عن الجامع لذلك. وإن اُريد بها خصوص المنتقض فعلاً، فإذن لم يصبح المشتقّ موضوعاً للأعمّ. وإن كان ذلك بالوصف بالماضي، أي: قلنا: إنّ الجامع هو ذات انتقض عدم المبدأ فيها بالوجود، فالضارب مثلاً معناه: ذات انتقض عدم الضرب فيها بالضرب، إذن فرأساً قولوا في مقام التوصيف بالماضي: إنّ الضارب هو ذات ضربت بلا حاجة إلى هذا اللفّ والدوران. وهذا رجوع إلى الوجه الثالث، وإن كان ذلك بإضافة كلمة «ذو» أو «له» أو نحو ذلك بأن يقال: إنّ الضارب هو ذو الضرب أو له ضرب مثلاً، فظاهر ذلك


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 250 ـ 251 بحسب طبعة مطبعة النجف.

430

الفعليّة(1)، أي أنّ حاله أيضاً حال المشتقّ، إلاّ أن يقال: إنّ الضارب هو ذو ضرب في أحد الزمانين، أو إنّ الضارب هو ذات لها الضرب في أحد الزمانين، فرجع إلى بعض الأوجه السابقة.

الخامس: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) أيضاً، وهو: أنّه إن أعوزنا الجامع فليكن عنوان (أحدهما) وهو جامع انتزاعيّ، ولا بأس به.

ويرد عليه: أنّ عنوان (أحدهما) إطلاقه بدليّ، ويستحيل أن يكون شموليّاً،


(1) التعبير الوارد في المحاضرات هو: أنّ الجامع بين المتلبّس والمنقضي اتّصاف الذات بالمبدأ في الجملة في مقابل الذات التي لم تتّصف به بعد. فقد يورد عليه بناءً على كون مقصوده بذلك: أنّ المشتقّ يدلّ على من هو ذو اتّصاف بالمبدأ، فكلمة «ذو اتّصاف» ككلمة المتّصف تعني معنىً اشتقاقيّاً لا زلنا محلّ كلامنا في أنّها: هل تعطي معنى التلبّس، أو الأعمّ؟ وإذا كانت تعطي معنى الأعمّ، فما هو الجامع المفترض في الأعمّ حتّى تعطي معناه؟ إذن فتبديل كلمة «المتّصف بالمبدأ» والتي هي مشتقّ داخل في محلّ البحث بمثل (ذو الاتّصاف) لا يحلّ لنا مشكلاً.

أقول: أظنّ أنّ مقصود السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ سواء صحّ تعبيره أو خانه التعبير ـ هو: أنّ المشتقّ يدلّ على من انتسب إليه تحقّق المبدأ بالمعنى المقابل لترقّب المبدأ، فالترقّب يكون للمستقبل، والتحقّق يكون للحال والماضي، فالجامع بين المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ لا نشير إليه بكلمة «ذو» حتّى يقال: إنّ حالها حال المشتقّ، بل نشير إليه بكلمة ذو التحقّق باعتبار أنّ ما اُضيف إليه ذو وهو تحقّق المبدأ موجود في المتلبّس بالمبدأ والمنقضي عنه المبدأ، أو قل: إنّ الضارب يعني المتحقّق منه الضرب، والجامعيّة لم تأتِ من قبل الاشتقاق حتّى يقال: هذا هو أوّل الكلام، بل من قبل المادّة وهي التحقّق، فقول: «الضارب» يعني: الذات المتحقّق منها الضرب، ونقصد به التحقّق الحاليّ، لكن التحقّق الحاليّ نقصد به ما يقابل الترقّب، فمن تحقّق منه الضرب في الماضي يكون في الحال متحقّقاً منه الضرب في مقابل أن يترقّب منه الضرب.

(2) راجع المحاضرات، ج 1، ص 251 بحسب طبعة مطبعة النجف.

431

فإذن يلزم أن لا يتصوّر الإطلاق الشموليّ الشامل للمتلبّس والمنقضي عنه المبدأ في المشتقّ بأن يقال: «أكرم العالم» ويقصد ـ بناءً على الأعمّ ـ وجوب إكرام العالم بنحو الشمول، سواء كان متلبّساً بالفعل أو منقضياً عنه المبدأ، بينما ليس الأمر هكذا(1).

السادس: أنّ الجامع هو الذات غير المتلبّسة فعلاً بالعدم الأزليّ للمبدأ. وهذا جامع معقول في نفسه كالجامع الثالث الذي اخترناه، ويشمل المتلبّس بالفعل والذي تلبّس به المبدأ وانقضى عنه، فإنّه في كليهما لا تكون الذات متلبّسة بالعدم الأزليّ للمبدأ، ولا يشمل ما لم يتلبّس بعدُ بالمبدأ؛ لأنّه متلبّس فعلاً بالعدم الأزليّ، إلاّ أنّ هذا الجامع عيبه عدم عرفيّته، فإنّ هذا الجامع يفترض: أنّ (العالم) مثلاً معناه: الذات غير المتلبّسة بالعدم الأزليّ فعلاً للعلم، فكأنّه ابتداءً يفهم العدم، وعن طريقه ينتقل إلى الوجود. وبتعبير آخر: يفهم معنى المشتقّ عن طريق العدم، بينما العرف لا يحسّ بهذا التعقيد. وعين هذا الإشكال يرد على الوجه الرابع أيضاً(2).

وقد تحصّل: أنّ الصحيح من هذه الجوامع هو الجامع الثالث، فهو جامع معقول


(1) لا يخفى: أنّ كلمة أحدهما إذا كانت قد اُخذ فيها لغةً معنى البدليّة، فبإمكاننا أن نشير إلى الجامع الانتزاعيّ بين المتلبّس بالفعل والمنقضي عنه المبدأ بكلمة غير مشتملة على البدليّة من قبيل: (الفرد منهما)، فيكون معنى «أكرم العالم»: أكرم من يكون فرداً للمتلبّس أو المنقضي عنه المبدأ مثلاً. وبكلمة اُخرى: ليس الواضع مجبوراً بالضرورة على وضع المشتقّ ـ حينما فرض وضعه للجامع الانتزاعيّ ـ أن يلحظ عنوان (أحدهما) بما فرض له من معنى البدليّة، بل بإمكانه تجريد ذاك الجامع عن قيد البدليّة. فهذا الإشكال من قبل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أشبه بالإشكال اللفظيّ.

(2) بناءً على كون المقصود منه انتقاض العدم. وهذا ما لا تُساعد عليه عبائر المحاضرات ما عدا عبارة واحدة.

432

وعرفيّ.

إذا عرفت هذه المقدّمات، قلنا: إنّ الكلام في أصل النزاع في المشتقّ يقع في مقامين: الأوّل: في الأصل العمليّ حيث لم يوجد دليل. والثاني: في أدلّة الطرفين:

 

مقتضى الأصل العمليّ في المشتقّات

 

أمّا المقام الأوّل: فتارة نتكلّم في الأصل بلحاظ المسألة الاُصوليّة لإثبات ما هو موضوع النزاع من كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ، أو المتلبّس بالفعل، واُخرى نتكلّم في الأصل بلحاظ المسألة الفقهيّة، أي: تعيين الوظيفة الشرعيّة بعد أن لم يتعيّن لنا حتّى بالأصل كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ أو في خصوص المتلبّس بالفعل:

 

الأصل العمليّ بلحاظ المسألة الاُصوليّة:

أمّا الأصل بلحاظ المسألة الاُصوليّة، فقد يتخيّل أنّ الأصل في صالح الأعمّ، وذلك بلحاظ أصالة عدم أخذ الخصوصيّة حيث إنّ أصل أخذ الجامع في المعنى الموضوع له معلوم، وإنّما الكلام في أنّه: هل لوحظت معه خصوصيّة المتلبّس بالفعل، أو لا؟ فمقتضى الاستصحاب هو عدم لحاظها.

إلاّ أنّ هذا الجواب باطل لوجوه:

الأوّل: أنّه إن تمّ هذا فإنّما يتمّ فيما لو علم وضع اللفظ لمفهوم واحد مردّد بين مطلقه ومقيّده، كما لو شككنا في أنّ لفظ «الإنسان» هل وضع لمطلق الحيوان الناطق، أو للحيوان الناطق العادل؟ ولكن فيما نحن فيه ليس الأمر كذلك؛ لأنّ

433

الجامع بناءً على كون المشتقّ موضوعاً لخصوص المتلبّس بالفعل مع الجامع بناءً على الأعمّ مفهومان متباينان بلحاظ عالم المفاهيم(1) وإن كان بينهما عموم مطلق بلحاظ عالم الصدق، فهذا حاله حال ما لو شككنا في أنّ الإنسان موضوع لمفهوم الحيوان الناطق، أو موضوع لمفهوم الشاعر، وعندئذ لا معنى لتعيين الأعمّ بالأصل؛ فإنّ الأمر بلحاظ عالم الوضع دائر بين متباينين، وليس هناك أقلّ متيقّن وزائد مشكوك ينفى بالاستصحاب؛ فإنّ المشتقّ معناه بناءً على كونه حقيقة في خصوص المتلبّس هو المتلبّس بالمبدأ، وبناءً على الأعمّ هو الذات المقيّدة بمفاد الفعل الماضي على ما مضى. ومن المعلوم أنّ الذات المقيّدة بمفاد الفعل الماضي مع الذات المقيّدة بالتلبّس بالمبدأ مفهومان متباينان، من قبيل: الناطق والشاعر، فلا معنى لجريان الاستصحاب وإن كان بينهما عموم مطلقاً في عالم الصدق.

الثاني: إشكال يرد على بعض المباني دون بعض، وتوضيحه: أنّ في التقابل بين الإطلاق والتقييد ثلاثة مبان:

1 ـ ما هو الحقّ من تقابل السلب والإيجاب، وعليه فلا موضوع لهذا الإشكال، فقد يتصوّر أنّه باستصحاب عدم التقييد يثبت الإطلاق، فيثبت فيما نحن فيه أنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ؛ لأنّ التقييد رفعناه بالاستصحاب، وليس الإطلاق إلاّ عبارة عن عدم التقييد.

2 ـ ما هو ظاهر كلام السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من تقابل التضادّ، وعليه فيسجّل هذا الإشكال، وهو: أنّ استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق حتّى


(1) كأنّ هذا مبنيّ على ما اختاره(رحمه الله) من أنّ الجامع ـ بناءً على الأعمّ ـ هو قيد الفعل الماضي، فمن الواضح: أنّ هذا يباين مفهوم التلبّس، أو فعليّة المبدأ.

434

يثبت كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ؛ فإنّ التقييد والإطلاق كلاهما أمر وجوديّ مسبوق بالعدم، فكما يجري استصحاب عدم لحاظ القيد كذلك يجري استصحاب عدم لحاظ الإطلاق، وكلّ من الأصلين النافيين لأحد الضدّين لا يثبت الآخر، إلاّ بناءً على الأصل المثبت.

3 ـ ما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من تقابل العدم والملكة، فالإطلاق أمر عدميّ مطعّم بالملكة، فأيضاً يأتي إشكال: أنّ استصحاب عدم التقييد لا يثبت الإطلاق؛ وذلك لأنّه عدم خاصّ مطعّم بالملكة لا مطلق العدم الذي يثبت باستصحاب عدم شيء، فلا يمكن إثباته باستصحاب العدم، كما أنّ استصحاب عدم البصر في الجسم القابل لا يثبت العمى.

الثالث: مبنيّ على أنّ الإطلاق أمر عدميّ صرف، فيندفع الإشكال السابق لكن يرد هذا الإشكال وهو: أنّ استصحاب عدم أخذ الخصوصيّة لا يجري، لعدم أثر شرعيّ، فإنّ عدم أخذ القيد ليس موضوعاً لحكم شرعيّ وإنّما هو سبب للظهور الذي هو موضوع الحكم الشرعيّ بالحجّيّة، فيكون الأصل مثبتاً من هذه الناحية. إذن فلا يوجد أصل عمليّ منقّح للمدّعى في المسألة الاُصوليّة.

 

الأصل العمليّ بلحاظ المسألة الفقهيّة:

وأمّا الأصل بلحاظ المسألة الفقهيّة: فتارة يقع الكلام بلحاظ الأصل الموضوعيّ، وهو استصحاب بقاء كونه عالماً مثلاً بعد زوال المبدأ، وهو العلم عنه، واُخرى بلحاظ الأصل الحكميّ:

أمّا الكلام بلحاظ الأصل الموضوعيّ، فقد يقال بجريان استصحاب عنوان العالم بعد انقضاء المبدأ عنه، ويسمّى ذلك بالاستصحاب في الشبهة المفهوميّة.

435

والتحقيق: عدم جريانه كما بيّنّاه مفصّلاً في بحث الاستصحاب، وبيانه إجمالاً بمقدار ما ينطبق على محلّ الكلام: أنّ لدينا في المقام ثلاثة اُمور:

1 ـ فعليّة التلبّس بالمبدأ، وهي مقطوعة الارتفاع، فلا معنى لاستصحابها.

2 ـ الجامع بين التلبّس والانقضاء، وهو مقطوع البقاء، فلا معنى لاستصحابه.

3 ـ عنوان مدلول كلمة «العالم»، وهو مشكوك البقاء؛ إذ لا ندري: هل أنّ مدلولها هو خصوص المتلبّس بالفعل الذي هو مرتفع قطعاً، أو الأعمّ الذي ثابت قطعاً، فبالتالي لا ندري أنّ مدلول كلمة «العالم» هل هو ثابت أو لا؟ فقد يتخيّل جريان الاستصحاب بلحاظه، إلاّ أنّه غير صحيح أيضاً؛ لأنّ مدلول اللفظ بهذا العنوان ليس موضوعاً لحكم شرعيّ بحيث لولا وضع لفظة «عالم» مثلاً لما ثبت هذا الحكم للعالم، وإنّما موضوع الحكم الشرعيّ هو واقع مدلول اللفظ، أي: ما يكون مدلولاً له بالحمل الشائع فإنّ الأحكام الشرعيّة تابعة لموضوعاتها الواقعيّة، ودلالة اللفظ إنّما هي طريق إلى الموضوع لا قيد للموضوع، فالموضوع للحكم: إمّا هو ما نقطع ببقائه، وعليه لا مجال للاستصحاب، أو ما نقطع بارتفاعه، وعليه أيضاً لا مجال للاستصحاب.

وأمّا الكلام بلحاظ الأصل الحكميّ، فتارة نفرض أنّ التكليف تعلّق بصرف الوجود، كما إذا قال: «أكرم عالماً» واُخرى نفرض أنّه تعلّق بمطلق الوجود، كما إذا قال: «أكرم كلّ عالم»:

فإن تعلّق التكليف بصرف الوجود، فالشكّ يكون في إجزاء الامتثال بإكرام المنقضي عنه المبدأ، وبحسب الحقيقة يكون الشكّ من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الشبهات الحكميّة، وفي مثل ذلك يتعيّن القول بالبراءة على ما بيّنّاه في بحث البراءة والاشتغال مفصّلاً، وبيانه إجمالاً بمقدار ما ينطبق على

436

محلّ الكلام: أنّنا تارة نفرض أنّ الجامع الأعمّيّ محفوظ في ضمن المتلبّس والمنقضي عنه المبدأ، إلاّ أنّ المتلبّس يزيد عليه بزيادة، فالنسبة بينهما كالنسبة بين الرقبة والرقبة المؤمنة، واُخرى يفرض أنّهما مفهومان متباينان في عالم المفهوميّة وإن كانت النسبة بينهما في مقام الصدق والانطباق العموم المطلق. فإن فرضنا الأوّل، كان من الأقلّ والأكثر في نفس عالم عروض الوجوب؛ لأنّ الجامع محطّ للوجوب على أيّ حال، وتقيّده مشكوك، فتجري البراءة عن الزائد. وإن فرضنا الثاني، فبلحاظ عالم الوجوب والواجب يكون الأمر دائراً بين المتباينين، ولكن بحسب عالم الكلفة التي هي نتيجة الوجوب يكون الأمر دائراً بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ كلفة وجوب الجامع الأعمّيّ أقلّ من كلفة الآخر؛ لأنّ دائرة صدقه أوسع. وقد بيّنّا في محلّه أنّه مع دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بلحاظ عالم الكلفة تجري البراءة عن ذي الكلفة الزائدة، فتجري في المقام البراءة عن وجوب إكرام خصوص المتلبّس بالفعل.

وإن تعلّق التكليف بمطلق الوجود كما لو قال: «أكرم العالم» وانقضى المبدأ عن بعض الأفراد، فهنا فصّل صاحب الكفاية بين ما إذا كان الحكم قد حدث بعد انقضاء المبدأ، فيكون الشكّ شكّاً في حدوث الوجوب، فتجري البراءة أو استصحاب عدم الوجوب، وما إذا كان الحكم قد حدث قبل انقضاء المبدأ، فيجري استصحاب الوجوب(1).

أقول: إنّه فيما إذا كان حدوث الحكم بعد انقضاء المبدأ: فتارةً يكون ذلك من باب: أنّ أصل جعل المولى للحكم كان بعد انقضاء المبدأ، فهنا يتمّ ما ذكره صاحب


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 68 بحسب طبعة المشكينيّ.

437

الكفاية(رحمه الله) من الرجوع إلى الاُصول المؤمّنة، واُخرى يكون من باب: أنّ الحكم وإن ثبت جعله قبل انقضاء المبدأ، لكنّه كان مشروطاً بشرط لم يتحقّق بلحاظ هذا الشخص إلاّ بعد انقضاء المبدأ، فليس التأخّر في أصل جعل الحكم، وإنّما التأخّر في فعليّته، كما لو أوجب قبل عيد الفطر إكرام العلماء إذا جاء عيد الفطر، ثُمّ زال المبدأ من بعض العلماء بعد أصل الجعل وقبل تحقّق الشرط وهو مجيء عيد الفطر، فالحكم هنا متأخّر عن انقضاء المبدأ، بمعنى: تأخّر فعليّته عنه، وفي مثل هذا المورد بالإمكان أن يجري الاستصحاب التعليقيّ الحاكم على البراءة، فيقال: هذا الشخص الذي زال علمه كان قبل هذا لو جاء عيد الفطر لوجب إكرامه، والآن كما كان بحكم استصحاب هذه القضيّة الشرطيّة. والاستصحاب التعليقيّ قد التزم به صاحب الكفاية(رحمه الله) في محلّه، ونحن أيضاً أيّدناه في الجملة.

وأمّا إذا كان الحكم ثابتاً قبل انقضاء المبدأ بجعله وفعليّته، فهنا يجري استصحاب الحكم استصحاباً تنجيزيّاً، إلاّ أنّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ ناقش في هذا الاستصحاب بأمرين(1):

الأوّل: أنّه استصحاب في الشبهة الحكميّة، وهو ـ دامت بركاته ـ لا يبني على الاستصحاب في الشبهات الحكمية. إلاّ أنّ التحقيق في محله وفاقاً للمشهور بين المحقّقين المتأخّرين: جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة، فلا إشكال من هذه الناحية.

الثاني: أنّه لو سلّمنا الاستصحاب في باب الشبهات الحكميّة في الجملة، فلا نسلّمه في الشبهات الحكميّة المفهوميّة؛ لعدم العلم فيها بوحدة الموضوع. وما نحن


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 243 ـ 245 بحسب طبعة مطبعة النجف.

438

فيه من هذا القبيل؛ لأنّ المفروض أنّ مفهوم «عالم» مثلاً في قوله: «اكرم العالم» مردّد بين المتلبّس بالفعل والأعمّ، فإذا كان هو المتلبّس بالفعل، فقد تعدّد الموضوع، وارتفع موضوع القضيّة المتيقّنة، وإذا كان هو الأعمّ فالموضوع باق، فنحن لم نحرز بقاء الموضوع حتّى نجري الاستصحاب.

أقول: هذا الإشكال لو تمّ، لما اختصّ بالشبهات الحكميّة المفهوميّة، بل يجري في كلّ الشبهات الحكميّة ولو لم تكن مفهوميّة، كما لو قال: «الماء إذا تغيّر بعين النجس تنجّس» ثُمّ زال التغيّر، وشككنا في بقاء النجاسة لا لإجمال مفهوم الدليل، بل لسكوت الدليل عن حكم ما بعد زوال النجاسة، وعدم بيانه له لا منطوقاً ولا مفهوماً، فأيضاً نقول: إنّ موضوع الحكم مردّد بين المتغيّر بالفعل الذي قد ارتفع، ومطلق ما حصل فيه التغيّر ولو زال التغيّر عنه بعد ذلك، وهذا موجود؛ فأيضاً لا نجزم بوحدة الموضوع. والذي يجيب به السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ وغيره على هذا الإشكال في الشبهات الحكميّة: أنّ الاستصحاب إنّما نجريه عند تغيّر ما لم يكن بحسب النظر العرفيّ حيثيّة تقييديّة وركناً في الموضوع على تقدير دخله، وإنّما كان على تقدير دخله حيثيّة تعليليّة. وأنت ترى أنّ نفس هذا الجواب بعينه يأتي في المقام، فيقال: إنّ فعليّة العلم إن كانت دخيلة، فهي حيثيّة تعليليّة للحكم، وليست ركناً وحيثيّة تقييديّة.

والخلاصة: أنّ الميزان في جريان الاستصحاب وعدمه ليس هو كون الشبهة الحكميّة مفهوميّة أو غير مفهوميّة، وإنّما الميزان: أنّ الحيثيّة المفقودة هل هي ركن في الموضوع عرفاً على تقدير دخلها، أو لا؟ فإن كانت ركناً في الموضوع على تقدير الدخل، لم نحرز وحدة الموضوع ولو لم تكن الشبهة مفهوميّة. وإن كانت مجرّد حيثيّة تعليليّة، فالموضوع لم يتعدّد ولو كانت الشبهة مفهوميّة، فالصحيح ما