371

فالظاهر أنّه أمضى ما عليه العقلاء في اللغة وإن لم يُمضِ ما عليه العقلاء في الأحكام.

وأمّا الصحّة العقلائيّة، فالصحيح أنّها أيضاً ليست مأخوذة في المعنى الموضوع له؛ وذلك لأنّ أخذ الصحّة العقلائيّة في المعنى الموضوع له لا يخلو من أحد وجهين:

الأوّل: أن يكون البيع مثلاً موضوعاً لواقع الصحيح، أي: واقع ما هو واجد لأجزاء معيّنة وشرائط مخصوصة من دون أخذ عنوان الصحّة قيداً في المسمّى، وهذا لازمه أن تكون اللغة في أسماء المعاملات متغيّرة بتبع تغيّر أحكام المعاملة، ومن المعلوم اختلاف أحكامهم باختلاف الأزمنة والأمكنة، فقد تكون أجزاء البيع مثلاً وشرائطه في عصر أربعة، وفي عصر آخر ثلاثة أو خمسة، فلو كان لفظ «البيع» موضوعاً لواقع تلك الأجزاء والقيود لزم تغيّر اللغة حينما تتغيّر المحاكم العقلائيّة، وتضيف شرطاً أو تنقص، فنحتاج عندئذ إلى وضع جديد، بينما من المعلوم وجداناً أنّ الوضع اللغويّ ثابت ومستقرّ ثباتاً واستقراراً لا يناسبه ذلك التغيّر في الأحكام.

الثاني: أن يكون المأخوذ في المسمّى عنوان الصحيح ومفهومه، لا واقعه، فلا يرد عليه الاعتراض السابق؛ لأنّ المفهوم مفهوم واحد، وإنّما الاختلاف في المصاديق، ولكن يلزم من ذلك كون مفهوم الصحّة مستفاداً من لفظ البيع، مع أنّنا ذكرنا سابقاً: أنّ مفهوم الصحّة حتّى عند الصحيحيّ لا إشكال في أنّه غير مستفاد من لفظ البيع، كما لم يكن مستفاداً من العبادات، بداهة عدم تبادر مفهوم الصحّة من الأسامي، وعدم ترادفها مع اسم الصحيح، أو المعاملة الصحيحيّة، إذن فاسم المعاملة اسم للركن الركين الذي مهما اختلفت أحكام العقلاء يبقى ثابتاً.

 

هل وضعت أسماء المعاملات للأسباب أو للمسبَّبات؟

الجهة السابعة: عرفت أنّ النزاع إنّما يتطرّق بناءً على أنّها أسماء للأسباب

372

لا المسبّبات(1)، فيقع الكلام الآن في أنّها: هل هي أسماء للأسباب أو للمسبّبات؟

ولتوضيح ذلك نتكلّم أوّلاً: في أنّه ماذا نريد بالسبب وبالمسبّب، وقد اُقتنص ذلك من البحوث السابقة، لكن نكرّره ونوضّحه هنا فنقول:

أمّا السبب فمُتكوّن من ثلاثة عناصر بمجموعها تسمّى سبباً:

1 ـ هو الإنشاء، أي: اللفظ الذي تنشأ به المعاملة، أو ما يقوم مقام اللفظ كالفعل في المعاطاة.

2 ـ المدلول التصديقيّ للإنشاء القائم في نفس المُنشئ، أعني: اعتبار مضمون المعاملة، كاعتبار البايع مثلاً ملكيّة هذا المال بإزاء الثمن.

3 ـ قصد التسبّب بهذا الاعتبار إلى المسبّب. وتوضيح ذلك: أنّ هذا الاعتبار لابدّ أن يكون له غرض، وهذا الغرض: إمّا هو التوصّل إلى السيطرة التكوينيّة الخارجيّة، وهذا الاحتمال ساقط؛ لوضوح عدم تأثير الاعتبار في السيطرة الخارجيّة، وإنّما تتمّ هذه السيطرة عن طريق التعاطي الخارجيّ، سواء اعتبر أو لم يعتبر، ومع عدم التعاطي لا تحصل السيطرة، سواء اعتبر أو لم يعتبر. وإمّا هو التسبّب والتوصّل إلى إلزامات فوقيّة ضماناً لسلامة النتيجة حتّى لو عدل أحدهما عمّا أوجده من المعاملة، وهذا الإلزام الفوقيّ هو الذي نسمّيه بالمسبّب، وهو عبارة عن جعل من قبل جاعل و مقنّن، سواء كان هو الشارع العقلائيّ أو الشارع الإلهيّ أو نفس البايع والمشتري بحيثيّة عقلائيّتهما، لا بحيثيّة متعاقديّتهما. ولو لم يحصل قصد التسبّب وبقي الاعتبار بدون هذا القصد لكان اعتباراً هزليّاً في نظر العقلاء، فلو قال: «بعت هذه الدار بفلس» وكان مقصوده الهزل، فالاعتبار سهل


(1) قد عرفت تعليقنا على ذلك.

373

المؤونة، ويحصل بسهولة، ولكن لا يرتّبون عليه الأثر؛ لفقدان العنصر الثالث. فجدّيّة المعاملة ليست بالاعتبار فحسب، بل بأن يكون الاعتبار جدّيّاً. فالسبب بحسب ما تقتضيه الاعتبارات العقلائيّة عبارة عن مجموع هذه الاُمور الثلاثة.

وأمّا المسبّب فهو ذاك المتسبّب إليه من الإلزامات الفوقيّة، أي: الجعل القانونيّ الذي تسبّبا إليه.

فإذا اتّضح السبب والمسبّب يقع الكلام في أنّها: هل هي أسماء للأسباب أو المسبّبات؟ وعلى ضوء ما بيّنّاه يتبيّن أنّه لا تقابل بين السبب والمسبّب، فهما فردان من مفهوم واحد، فكلاهما تمليك، إلاّ أنّ أحدهما في اُفق نفس المتعاملين وهو السبب، والآخر في اُفق نفس القانون والمقنّن وهو المسبّب. وبكلمة اُخرى: أنّ أحدهما وجود مباشريّ للمتعاقدين وهو السبب، والآخر وجود تسبيبيّ لهما وهو المسبّب، فبالإمكان أن يقال: إنّ البيع مثلاً اسم لمطلق مفهوم تمليك العين بعوض بغضّ النظر عن خصوصيّة أحد الفردين؛ ولذا نرى بالوجدان عدم المؤونة في إطلاقه تارة على هذا الفرد واُخرى على ذاك الفرد، بل يمكن أن يترقّى أزيد من ذلك ويقال: إنّ هذين الفردين وهما السبب والمسبّب تعدّدهما إنّما هو بالنظر الدقّيّ العقليّ، ونحن كنّا نتكلّم بهذا النظر، ففرضنا فردين وقلنا: إنّ البيع اسم للمفهوم الجامع بينهما، والآن نقول: إنّهما بحسب النظر العرفيّ حالهما حال الإيجاد والوجود، والإيجاد عين الوجود. وبكلمة اُخرى نقول: إنّه وإن كان السبب بحسب النظر الدقّيّ موجوداً في اُفق، والمسبّب موجوداً في اُفق آخر، ولكنّه يلحظ السبب عرفاً بما هو آلة للمسبّب وفان فيه، أي: بما هو إيجاد له، وإيجاد المسبّب لا يزيد على وجود المسبّب.

375

المقدّمة

10

 

 

 

 

 

 

الاشتراك

 

 

 

○ دعوى ضرورة وقوع الاشتراك.

○ دعوى امتناع وقوع الاشتراك.

○ استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنىً.

 

377

 

 

 

 

 

 

الأمر العاشر: في الاشتراك، وفيه جهات:

 

دعوى ضرورة وقوع الاشتراك:

الجهة الاُولى: ادُّعيَ ضرورة وقوع الاشتراك، وبُرهن على ذلك بأنّ المعاني غير متناهية، والألفاظ متناهية، فلابدّ من الاشتراك حتّى تفي بكلّ المعاني.

واُجيب على ذلك بوجوه:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّه حتّى إذا فرض إرادة استيعاب كلّ المعاني اللامتناهية بالوضع بالاستعانة بالاشتراك، فهذا غير ممكن للإنسان الاجتماعيّ، فإنّه متناه، والوضع بهذا النحو لا متناه، فلا يمكن صدوره من المتناهي(1).

ويرد عليه: أنّ الاشتراك كما قد يحصل بأوضاع تفصيليّة بعدد المعاني كذلك يحصل بوضع واحد لمعان كثيرة بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فيمكن استيعاب المعاني بهذا الطريق بالرغم من تناهي الأوضاع.


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 53 بحسب طبعة المشكينيّ.

378

اللّهمّ إلاّ إذا قيل: إنّا قصدنا بالاشتراك تعدّد الوضع تفصيلاً. إلاّ أنّ هذا يصبح عندئذ مجرّد بحث ونقاش لفظيّ.

الثاني: ما ذكره أيضاً المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّنا لو سلّمنا إمكان صدور الوضع اللامتناهي من الواضع؛ لكونه هو الله وهو لا متناه، لكنّ المستعمل هو الإنسان إشباعاً لحاجاته الاستعماليّة، ويستحيل صدور استعمالات غير متناهية منه؛ لاستحالة صدور اللامتناهي من المتناهي(1).

ويرد عليه: أنّ الحاجات الاستعماليّة وإن كانت بوجودها الفعليّ متناهية، لكنّها بوجودها التبادليّ أوسع من وجودها الفعليّ، أي: أنّ البشر سيحتاج من ضمن المعاني اللامتناهية إلى كمّيّة متناهية منها، ولكن ما هي تلك الكمّيّة المتناهية؟ هي العشرة الاُولى مثلا، أو الثانية، أو الثالثة أو عشرة ملفّقة من العشرة الاُولى والثانية وما إلى ذلك من المحتملات؟ فغير معلوم، فلعلّ دائرة ذلك تشمل كلّ المعاني اللامتناهية، فنحتاج إلى الوضع لكلّ تلك المعاني مثلاً حتّى يصحّ الاستعمال في أيّ معنىً أراده الإنسان.

نعم، لو بدّل هذا الجواب الشامخ البرهانيّ إلى جواب متواضع وجدانيّ بأن يقال: إنّ الوجدان حاكم بأنّ حاجات البشر حتّى التبادليّة منها ليست إلاّ عدداً معقولاً من المعاني وكمّيّةً متناهيةً منها، لكان جواباً صحيحاً.

الثالث: ما ذكره المحقّق الخراسانيّ أيضاً من أنّ المعاني متناهية؛ لأنّ المراد بالمعاني ليست هي الجزئيّات، كزيد وعمرو وخالد، بل الكلّيّات، وهي متناهية(2).

 


(1) راجع نفس المصدر.

(2) راجع نفس المصدر، ص 53 ـ 54.

379

وهذا الجواب أيضاً لو صيغ بصياغة برهانيّة فهو غير صحيح، فإن المعاني قد تكون بسائط، كمفهوم الوحدة والوجود والعدم وغير ذلك، واُخرى مركّبات تركيباً حقيقيّاً من جنس وفصل، كالإنسان والحيوان ونحو ذلك، وثالثة مركّبات تركيباً اعتباريّاً من أجزاء خارجيّة، كالسوق والدار ونحو ذلك. وإذا كانت المركّبات الاعتباريّة داخلة تحت الحساب، كانت المعاني لا متناهية؛ إذ يمكن التركيب الاعتباري من كلّ اثنين مثلاً، وتضاف تلك المعاني المركّبة تركيباً اعتباريّاً إلى غيرها، فيزداد العدد، ثُمّ مجموع كلّ معنيين من هذه المعاني بنفسه معنىً تركيبيّ اعتباريّ يضاف إلى باقي المعاني فتزداد المعاني، وأيضاً كلّ اثنين أو ثلاثة من مجموع هذه المعاني التي ازدادت معنىً مركّب اعتباريّ في نفسه، وهكذا، إلاّ إذا رجعنا إلى ذاك الجواب الساذج المتواضع وقلنا: الوجدان حاكم بعدم الاحتياج إلى كلّ هذه المعاني.

الرابع: ما ذكره السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من أنّ الألفاظ أيضاً لا متناهية؛ إذ كلّ حرف: إمّا مفتوح، أو مضموم، أو مكسور. وعلى التقادير: إمّا واقع في أوّل الكلمة، أو آخرها، أو وسطها. والكلمة: إمّا ثنائيّة، أو ثلاثيّة، أو رباعيّة إلى آخر هذه التقسيمات التي تولّد ألفاظاً لا متناهية(1).

 


ويوجد في الكفاية وجه رابع، راجع الصفحة 54، بحسب تلك الطبعة، وراجع جوابه في كتاب السيّد الهاشميّ (بحوث في علم الاُصول) ج 1، ص 114. وحاصله: أنّه لو فرضت المعاني الحقيقيّة متناهية، فالمجازيّة لا متناهية. وهذا يستلزم علاقات لا متناهية بينها وبين المعاني الحقيقيّة، وكلّ علاقة تمثّل حيثيّة في المعنى الحقيقيّ، فتشتمل المعاني الحقيقيّة على حيثيّات لا متناهية، وكلّ منها بحاجة إلى لفظ دالّ عليه، فعاد المحذور.

(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 199 ـ 200 بحسب طبعة مطبعة النجف.

380

وهذا الجواب أيضاً لو اُريد به البرهان فهو غير تامّ، وأقصر كلام يظهر به بطلانه أن يقال: إنّ أيّ عدد يفرض من الكلمات لأداء المعاني فهي بنفسها معان؛ فانّ كلّ كلمة بنفسها معنىً من المعاني يضاف إلى تلك المعاني، فبالتالي سوف يكون المعنى أكثر من اللفظ حتماً، إلاّ أن نرجع إلى ذاك الجواب الساذج المتواضع من عدم الحاجة وجداناً إلى تمام هذه المعاني، وإنّما نحتاج إلى عدد معقول من المعاني، وأكثر هذه المعاني اللامتناهية خارجة عن المعرضيّة العرفيّة للاحتياج.

 

دعوى امتناع وقوع الاشتراك:

الجهة الثانية: في دعوى امتناع الاشتراك. فقد يدّعى ذلك على أساس كونه خلاف الحكمة؛ إذ حكمة الوضع التفهيم والتفاهم، والاشتراك يوجب الإجمال، وينافي التفهيم.

والجواب عن ذلك بصيغتين:

1 ـ أن يقال: بأنّ الفرض من الوضع ليس هو خصوص التفهيم التفصيليّ، بل جامع التفهيم. والمشترك وإن كان لا يعطي التفهيم التفصيليّ لكنّه يعطي التفهيم الإجماليّ، وهو مرتبة من التفهيم، فحينما يقول مثلاً: «جاءني المولى» يفهم المخاطب أنّ هذا الجائي: إمّا عبد، أو سيّد مثلاً، فقد ضيّق دائرة محتملات الجائي، فلو كان يقول: «جاءني شخص» لم يعلم أنّ هذا الجائي: هل هو عبد، أو سيّد، أو شخص آخر؟ ولكن حينما عبّر بالمولى علم إجمالاً بأنّه: إمّا سيّد، أو عبد. وهذا مرتبة من التفهيم.

2 ـ لو سلّمنا أنّ الفرض دائماً هو التفهيم التفصيلي، قلنا: إنّ المشترك يساعد على تحقيق هذا الغرض، لكنّه بنحو جزء العلّة لا تمامها؛ فإنّ العلّة عندئذ تتركّب

381

من لفظ المشترك والقرينة، كما لو قال: «جاءني مولاي فقبّلت يده»، فتقبيل اليد قرينة على تعيين السيّد من بين المعنيين. إذن فهذا البرهان على امتناع الاشتراك غير صحيح.

نعم، وقع أصحاب مبنى التعهّد كالسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في شبكة برهان آخر على استحالة الاشتراك(1).

وتحقيق الكلام في ذلك أن يقال: إنّ التعهّد في باب الوضع تعهّد بقضيّة شرطيّة، ولها صيغتان متعاكستان في الشرط والجزاء:

الاُولى: أن يقول: تعهّدت بأ نّني متى ما أتلفّظ بلفظ المولى أقصد تفهيم السيّد مثلاً.

والثانية: أن يقول: تعهّدت بأ نّني متى ما أقصد تفهيم السيّد أتلفّظ بلفظ المولى.

فإن فرضت الصيغة الاُولى، لزم التهافت والتدافع بين التعهّدين في باب الاشتراك؛ لأنّه تارةً يتعهّد مثلاً بأنّه متى ما تلفّظ بلفظ المولى قصد السيّد، واُخرى بأنّه متى ما تلفّظ به قصد العبد وهاتان قضيّتان شرطيّتان تعهّد بهما، وهما متّحدتان شرطاً ومختلفتان جزاءً، فلا محالة يقع التدافع بينهما؛ إذ لو أراد الوفاء بكلا التعهّدين لزمه أن يلتزم بإرادة كلا المعنيين حينما يتلفّظ بلفظ المولى، بينما لا يلتزم بذلك حتماً.

وإن فرضت الصيغة الثانية ارتفع التهافت في باب الاشتراك؛ لأنّ الشرط في القضيّتين متعدّد والجزاء واحد، فهو يتعهّد بأنّه متى ما أراد معنى السيّد تلفّظ بالمولى، وبأنّه متى ما أراد معنى العبد تلفّظ بالمولى، ولا منافاة بين الأمرين، ولكن يقع التهافت والتدافع بين التعهّدين عندئذ في باب الترادف؛ حيث إنّه يتّحد


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 202 ـ 203 بحسب طبعة مطبعة النجف.

382

الشرطان هناك ويتعدّد الجزاء، فهو يتعهّد مثلاً بأنّه متى ما أراد الحيوان المفترس أتى بلفظ الأسد، ويتعهّد أيضاً مثلاً بأنّه متى ما أراد الحيوان المفترس أتى بلفظ السبع، ومعنى ذلك أن يلتزم بأنّه متى ما أراد الحيوان المفترس أتى بكلا اللفظين، بينما لا يلتزم بذلك حتماً.

إلاّ أنّ الصحيح: أنّ التدافع بين التعهّدين في كلا البابين تدافع إطلاقيّ لا تدافع ذاتيّ، أيّ: أنّ كلاًّ من التعهّدين يزاحم إطلاق التعهّد الآخر لا أصله؛ فإنّ أصل التعهّدين يمكن أن يجتمعا بأن يتعهّد في باب الاشتراك مثلاً بأنّه متى ما أتى بلفظ المولى قصد السيّد، ثُمّ يتعهّد مرّة ثانية بإرادة العبد، ويجعل ذلك ناسخاً لإطلاق الوضع الأوّل، ويقول: إنّ تعهّدي بإرادة السيّد اُقيّده بما إذا لم أكن قد أردت العبد، أو إذا أقمت قرينة صارفة عن إرادة العبد، أي: أنّه يقيّد بتقييد من التقييدات التي وقع الكلام عنها في بحث الوضع، وتعهّده الثاني حين يُنشئه يُنشئه مقيّداً، ولا يبقى أيّ تهافت بين التعهّدين؛ إذ هو بالنتيجة متعهّد مثلاً بأن يقصد هذا المعنى إن لم يقصد ذاك المعنى وبالعكس، سنخ ما يقال في الواجب التخييريّ بناءً على إرجاعه إلى واجبين مشروطين(1).

 


(1) وهذا البيان يبطل ما اختاره السيّد الخوئيّ(رحمه الله) من أن الاشتراك بالمعنى المألوف الراجع إلى تعدّد الوضع باطل، وأنّه لابدّ من تفسير ما قد يتراءى من اللغات من الاشتراك بتفسير آخر يحمل نفس آثار الاشتراك، وهو دعوى: وضع اللفظ بوضع واحد لتلك المعاني المتعدّدة على شكل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فالواضع يتعهّد بأنّه متى تكلّم باللفظ الفلانيّ قصد أحد المعنيين أو أحد تلك المعاني، ويكون الموضوع له نفس تلك المعاني بخصوصيّاتها. وهذا يفي بكلا أثري الاشتراك: من كون اللفظ حقيقة في كلّ واحد من تلك المعاني بخصوصه، ومن الحاجة إلى القرينة.

383

استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنىً:

الجهة الثالثة: في أنّه: هل يمكن استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنىً واحد، أو لا؟

وهذا البحث يتطرّق أيضاً في استعمال اللفظ في معنىً حقيقيّ مع معنىً مجازيّ، أو في معنيين مجازيين.

وينبغي أن يعلم أنّ المقصود باستعمال المشترك في معنيين: استعماله فيهما بما هما معنيان بحيث يكون هناك استعمالان، لا استعماله فيهما بعد إلباسهما ثوب الوحدة وجعلهما معنىً واحداً مركّباً تركيباً اعتباريّاً؛ فإنّ هذا استعمال واحد للفظ في معنىً واحد، وهو خارج عمّا نحن فيه.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه ادّعى جماعة من المحقّقين استحالة استعمال اللفظ في معنيين، وقرّب ذلك بثلاثة أوجه:

الوجه الأوّل: ما نسب إلى المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1)، وحاصله: أنّ استعمال اللفظ في معنيين يتوقّف على تصوّر المعنى ولحاظه، فإذا أراد استعماله فيهما في وقت واحد لزم أن يلحظ في وقت واحد كليهما، وعندئذ نتساءل: هل يلحظهما بلحاظ واحد، أو بلحاظين؟ فإن فرض أنّه يلحظهما بلحاظ واحد، أي: أنّه يركّب منهما تركيباً اعتباريّاً وحدانيّاً، ويلبسهما ثوب الوحدة، ويلحظ هذا الواحد، فهذا خلف


وجواب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ذلك هو: أنّ بالإمكان الاحتفاظ بتعدّد الوضع أيضاً، وذلك بالالتزام بعدّة تعهّدات مشروطة ومقيّدة لا مطلقة، فوزان ذلك وزان الوجوب التخييريّ بناءً على رجوعه إلى عدّة وجوبات مشروطة، لا إلى وجوب أحدها.

(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 51 ـ 52.

384

وخروج عن محلّ الكلام. وإن فرض أنّه يلحظهما بلحاظين، فهذا غير معقول؛ لأنّ النفس بقطع النظر عن ضمّ ضمائم إليها لا يصدر عنها لحاظان في وقت واحد لبساطتها. نعم، يمكن ذلك بضمّ الضمائم من قبيل: أنّ النفس مع ضمّ جهاز البصر تلحظ المبصر، ومع ضمّ جهاز اللمس تلحظ الملموس، ففي وقت واحد تلحظ شكل التفّاحة ونعومتها، لكن بتوسّط الحيثيّات والقوى(1).

وهذا البرهان غير تامّ؛ لأنّنا نختار الشقّ الثاني، أعني: أنّه يلحظهما لحاظين استقلاليّين. ودعوى استحالة صدور لحاظين من النفس باطلة نقضاً وحلاًّ:

أمّا النقض، فيمكن أن ننقض بأمرين:

الأوّل: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) يعترف بأنّ النفس يمكن أن تلحظ مركّباً اعتباريّاً. ومن الواضح: أنّ المركّب الاعتباري تلبسه النفس ثوب الوحدة، والنفس حينما تعطي ثوب الوحدة لابدّ لها أن تلحظ ما تعطيها إيّاه، وهو في المرتبة السابقة على هذه الوحدة شيئان مستقلاّن، أو أشياء، إذن فالنفس تلحظ هذه الأشياء بما هي كثيرة ثُمّ تلبسها الوحدة.

الثاني: أنّه عند تشكيل قضيّة تصديقيّة لها موضوع ومحمول لابدّ أن يكون الموضوع ملحوظاً والمحمول ملحوظاً، وإلاّ لاستحال صدور الحكم، وعندئذ نسأل: هل يلحظهما بلحاظ واحد أو بلحاظين مستقلّين؟ فان فرض لحاظهما بلحاظ واحد، صار شيئاً مركّباً واستحال انعقاد جملة تامّة منهما. وإن فرض لحاظهما بلحاظين مستقلّين فقد ثبت إمكان تعدّد اللحاظ في آن صدور الحكم من


(1) هذا الذيل، وهو بيان إمكان تعدّد اللحاظ بتوسّط ضمّ الحيثيّات والقوى غير موجود في أجود التقريرات.

385

قبل النفس(1).

وأمّا الحلّ، فمجاله في الفلسفة لا هنا، ولكنّنا نقول إجمالاً: إنّ النفس ليست بسيطة بذاك المعنى الذي تطبّق على تصويراتها قاعدة (أنّ الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد)، بل يمكن صدور متعدّد منها بقطع النظر عن القوى.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(2)، وهو مبنيّ على أساس أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ وجود اللفظ وجود لماهيتين دائماً، فهو وجود حقيقيّ لماهية اللفظ، ووجود تنزيليّ لماهية المعنى؛ لأنّ اللفظ اعتبر وجوداً للمعنى، وعندئذ نقول: إنّ الوجود التنزيليّ لماهية المعنى مع الوجود الحقيقيّ لماهية اللفظ أحدهما عين الآخر، فتعدّد أحدهما يساوق تعدّد الآخر، ووحدة أحدهما يساوق وحدة الآخر؛ لأنّهما شيء واحد.

والأمر الثاني: أنّ الوجود والإيجاد شيء واحد أيضاً، إذن فتعدّد الإيجاد يساوق تعدّد الوجود، ووحدته تساوق وحدة الوجود.

وعلى ضوء هذين الأمرين نقول: إنّ الاستعمال عبارة عن إيجاد الوجود التنزيلي للمعنى، فإذا اُريد استعماله في معنيين، فهناك استعمالان، أي: هناك إيجادان تنزيليّان، وقد قلنا: إن الإيجاد عين الوجود.

فإذا تعدّد إيجاد المعنى إيجاداً تنزيليّاً كان هناك وجودان تنزيليّان بحكم الأمر الثاني، وإذا كان هناك وجودان تنزيليّان فهناك وجودان حقيقيّان للّفظ بحكم الأمر الأوّل، فنحتاج إلى وجودين حقيقيّين للّفظ، بينما لا يوجد ذلك، إذن


(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 1، ص 206 بحسب طبعة مطبعة النجف.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 88 ـ 89 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم. وراجع أيضاً بحوث في علم الاُصول للشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله)، ص 42 ـ 43.

386

فاستعمال اللفظ في معنيين محال.

وهذا الكلام أيضاً لا يتحصّل لنا منه إلاّ الألفاظ والمصطلحات، فلنفرض: أنّ الاستعمال إيجاد تنزيليّ للمعنى، لكنّ الإيجاد التنزيليّ معناه إيجاد التنزيل، غاية الأمر: أنّه ينسب بالمسامحة وبالعرض إلى الشيء، فالإيجادان التنزيليّان بمعنى إيجادين لتنزيلين، وهنا تنزيلان متعدّدان، غاية الأمر أنّهما تنزيلان لشيء واحد، وأيّ محذور في ذلك؟ فهذا من قبيل ما لو نزّل زيد منزلة الشيخ المفيد ومنزلة السيّد المرتضى، فهو وجود تنزيليّ لكلّ واحد منهما، أفهل يفترض: أنّ اجتماع هذين التنزيلين محال، أو يفترض: أنّ زيداً شخصان؛ لأنّ الوجود الحقيقيّ لزيد عين الوجود التنزيليّ للشيخ المفيد أو السيّد المرتضى، فتعدّد الوجود التنزيليّ يستلزم تعدّد الوجود الحقيقيّ؟!

الوجه الثالث: ما ذكره صاحب الكفاية من أنّ الاستعمال عبارة عن أن يرى المعنى باللفظ، ويكون اللفظ فانياً في المعنى كفناء المرآة في ذي المرآة، فاللفظ لوحظ لحاظاً آليّاً كما أنّ من يرى وجهه في المرآة تكون رؤيته للمرآة آليّة ولوجهه استقلاليّة، وإذا فنى اللفظ في المعنى، فمعنى ذلك: أنّه استهلك في عالم التصوّر واللحاظ في جنب المعنى، فكيف يمكن أن يستهلك في نفس الوقت في جنب معنىً آخر؟!(1).

 


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 54 ـ 55 بحسب طبعة المشكينيّ.

ثُمّ إنّ الشيخ العراقيّ(رحمه الله) حاول إقامة برهان على عدم إمكان لحاظ اللفظ فانياً في معنيين مستقلّين، ومرآةً لكلّ واحد منهما على استقلاله (كما يظهر من مراجعة المقالات، ج 1، ص 161 ـ 162 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم)، وهو: أنّ الاستعمال إذا

387


كان من باب العلاميّة، فغاية ما يلزم من استعمال اللفظ في معنيين مستقلّين تعدّد لحاظ المعنى، ولا محذور في ذلك؛ فإنّ اللحاظين رغم كونهما مثلين يشفع لإمكانيّة اجتماعهما أنّهما مختلفان في المتعلّق، فأحدهما لحاظ لهذا المعنى، والآخر لحاظ للمعنى الثاني. وهذا حاله حال اجتماع الحبّ والبغض مثلاً في النفس بالنسبة لمتعلّقين رغم أنّ الحبّ والبغض متضادّان، فتضادّهما لم يمنع عن اجتماعهما في النفس؛ لأنّ تعدّد المتعلّق كان شفيعاً لإمكانيّة اجتماعهما، حيث تعلّق الحب بشخص والبغض بشخص آخر مثلاً، وتعدّد اللحاظ في جانب المعنى لا يوجب تعدّد اللحاظ في جانب اللفظ؛ لأنّ اللفظ لم يفرض إلاّ علامة للمعنى، أي: كون الانتقال إليه سبباً للانتقال إلى المعنى، وقد يكون شيء ما علامة لشيئين أو أكثر، ويوجب الانتقال إليهما أو إليها رغم أنّ العلامة لم تلحظ إلاّ مرّة واحدة، والانتقال إلى المعنى أو لحاظه ليس من خلال لحاظ اللفظ، بل هو أمر مستقلّ عن لحاظ اللفظ، وغاية الأمر: أنّ لحاظ اللفظ كان سبباً للانتقال إلى المعنى، لا أنّ الإنتقال إلى المعنى كان من خلاله. وأمّا إذا فرض: أنّ الاستعمال يستبطن لحاظ اللفظ فانياً في المعنى ومرآةً له، فهذا يعني: أنّ لحاظ المعنى لم يكن إلاّ من خلال لحاظ اللفظ، ولحاظ المعنى هو يعني مرآتيّة لحاظ اللفظ، فتعدّد اللحاظ في جانب المعنى يعني ـ لا محالة ـ تعدّد اللحاظ في جانب اللفظ، ولئن كان تعدّد اللحاظ في جانب المعنى معقولاً؛ لأنّ تعدّد المتعلّق ـ وهو المعنى كان ـ كفيلاً بحلّ مشكلة استحالة اجتماع المثلين، فتعدّد اللحاظ في جانب اللفظ خال عن هذا الحلّ؛ لأنّ المتعلّق واحد وهو اللفظ الواحد، فيلزم من ذلك اجتماع المثلين في صفحة النفس، وهو محال.

أقول: لو انتهى البحث إلى هذا المستوى من الحديث، أمكن أن يقال: إنّ تعدّد المفنيّ فيه كفيل بحلّ إشكال استحالة الاجتماع؛ فإنّ الفناء هو عين اللحاظ الفنائيّ، فتعدّد المفنيّ فيه يكون نوعاً من تعدّد متعلّق اللحاظ الفنائيّ؛ لأنّ اللحاظ الفنائيّ له متعلّقان: أحدهما الفاني، والثاني المفنيّ فيه، فتعدّد المفنيّ فيه يكون تعدّداً لمتعلّق اللحاظ، ورافعاً لمشكلة

388


استحالة اجتماع لحاظين فنائيّين كما كان تعدّد المتعلّق في طرف لحاظ المعنى رافعاً لمشكلة استحالة اجتماع لحاظين.

ثُمّ نقل المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في مقالاته برهاناً آخر على استحالة استعمال اللفظ في معنيين لو تمّ جرى حتّى بناءً على مبنى العلاميّة والأماريّة، ولا يختصّ بمعنى المرآتيّة والفناء، وهو: أنّ الانتقال إلى المعنى مسبّب عن تصوّر اللفظ ومعلول له فإذا فرض انتقالان إلى معنيين مستقلّين بسبب لفظ واحد كان هذا يعني توارد معلولين على علّة واحدة، وهذا مستحيل.

وأجاب عليه المحقّق العراقيّ(رحمه الله) بأنّ اللفظ يكون بضمّ القرينة علّة للانتقال إلى معنىً من المعاني المتعددة التي فرض اللفظ مشتركاً بينها. والانتقال إلى معنيين يتوقّف على تعدّد القرينة، فيكون اللفظ بضمّ إحدى القرينتين سبباً للانتقال إلى أحد المعنيين، وبضمّ القرينة الاُخرى سبباً للانتقال إلى المعنى الآخر، ولا محذور في ذلك (راجع المقالات، ج 1، ص 162 ـ 163 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم).

أقول: إنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أورد على هذا البرهان (على ما ورد في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله، ج 1، ص 151):

أوّلاً بأنّ اللفظ ليس علّة تامّة بوحده لإيجاد معنىً خاصّ في الذهن، بل هناك جزء آخر للعلّة، وهو القرن الأكيد الحاصل بالوضع، أو الاُلفة الذهنيّة الحاصلة بالقرن الأكيد. وهذا متعدّد بتعدّد المعاني، فيمكن افتراض أنّه بضمّ ذلك تعدّد المعلول، وهو وجود المعنى في الذهن، فلم يلزم صدور الكثير عن الواحد بلا حاجة إلى ما ذكره المحقّق العراقيّ(رحمه الله)من التخلّص عن ذلك بفرض ضمّ القرينة.

وثانياً: أنّ هذا البرهان فيه خلط بين الاستعمال وتفهيم المعنى، فإنّ حديثنا في إمكانيّة وعدم إمكانيّة استعمال اللفظ في المعنى. واستعمال اللفظ في المعنى لا يلازم التفهيم، بل قد يقصد المستعمل الإجمال، ومسألة لزوم تعدّد المعلول ـ وهو ما ينسبق إلى الذهن من

389


المعنى لعلّة واحدة ـ راجعة إلى جانب التفهيم، لا إلى جانب الاستعمال.

ثُمّ إنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) قد اختار في مقالاته استحالة استعمال اللفظ في معنيين بحجّة: أنّ الاستعمال يستبطن اللحاظ الفنائيّ للّفظ في المعنى. ففرض تعدّد المعنى مع استقلال أحد المعنيين عن الآخر يستدعي تعدّد لحاظ اللفظ، وهذا يعني اجتماع المثلين. ولكن الذي ورد اختياره في نهاية الأفكار هو إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وذلك (على ما ورد في نهاية الأفكار، ج 1، ص 105 ـ 110 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم) لأجل أنّ الاستحالة إنّما تتمّ فيما لو فرض المعنيان مستقلّين في عالم اللحاظ، فيلزم تعدّد اللحاظ المنتهي إلى اجتماع المثلين بالبيان الذي عرفت. أمّا لو فرض المعنيان مستقلّين في ذاتهما لا في عالم اللحاظ، فلا يلزم هذا المحذور؛ إذ بالإمكان تعلّق لحاظ واحد بكلا المعنيين برغم استقلال أحدهما عن الآخر في ذاتهما. وقد جمع(رحمه الله)عدّة قرائن على أنّ القائلين بالاستحالة إنّما قصدوا بذلك الاستحالة في فرض استقلال المعنيين أحدهما عن الآخر حتّى في عالم اللحاظ، وقال: لا يظنّ بهم إرادة دعوى الامتناع في هذه الصورة، فإنّ تمام همّهم في المنع عقلاً إنّما هو صورة استقلال المعنيين بوصف الملحوظيّة.

وعلى أيّ حال، فبعد إمكان هذا القسم من الاستعمال في نفسه، أي: الاستعمال بلا تعدّد اللحاظ لا يوجد لدينا برهان عقليّ على استحالة استعمال اللفظ في معنيين.

أقول: إن تعدّد المعنى في عالم الوضع مثلاً، أو في عالم وجوده الخارجيّ، أو عالم تقرّره الماهويّ، أو عالم تصوّر ذهنيّ غير اللحاظ الاستعماليّ، أو نحو ذلك لا أثر له في البحث؛ إذ كلّ ذلك لا يجعل المستعمل فيه ـ بما هو مستعمل فيه ـ متعدّداً، وإنّما الكلام في تعدّده في عالم اللحاظ الاستعماليّ، وتعدّده في عالم اللحاظ الاستعماليّ هو عين تعدّد اللحاظ، ويكون مرجع وحدة اللحاظ الاستعماليّ ـ لا محالة ـ إلى وحدة المعنى المستعمل فيه، وإرادة المجموع من حيث المجموع، والذي هو استعمال للّفظ في معنىً

390

واعترض السيّدالاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على ذلك بأنّ هذا مبنيّ على مسلك المشهور: من أنّ الوضع عبارة عن الاعتبار والتنزيل، إذن فكأنّه اُفني في المعنى. وأمّا إذا كان الوضع عبارة عن التعهّد، فقد جعل اللفظ علامة على إرادة المعنى، وليس بابه باب الفناء(1).

والتحقيق: أنّ كلام المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) غير مربوط بباب الوضع، بل مربوط بتشخيص الاستعمال؛ فإنّ هناك بابين: الأوّل: باب الوضع، ونتكلّم فيه فيما يضعه الواضع لتكوّن الدلالة، والثاني: باب الاستعمال، فيتكلّم فيه في أنّه بعد تماميّة الوضع كيف يستعمل المستعمل؟ فهل الاستعمال عبارة عن المرآتيّة والفناء في ذي المرآة، أو بابه باب العلامة وذي العلامة، من قبيل: العمود الذي يوضع على رأس الفرسخ؟ وكلّ واحد من الاحتمالين معقول على جميع المباني في باب الوضع، ولا برهان على تعيّن المرآتيّة كما لا برهان على تعيّن العلاميّة. ومن هنا يبطل كلام صاحب الكفاية، فإنّ قوله: إنّ اللفظ إذا اندكّ في جنب معنىً لا يعقل اندكاكه في نفس الوقت في جنب معنىً آخر مبنيّ على المرآتيّة والفناء، بينما يمكن للمستعمل أن يتّبع طريقة الاستعمال العلاميّ دون الاستعمال المرآتيّ، فيتعقّل عندئذ استعمال اللفظ في معنيين، سواء فرضنا أنّ الوضع عبارة عن الاعتبار والتنزيل أو فرضنا أنّه عبارة عن التعهّد(2).

 


واحد مجازيّ، وهو خروج عن موضع البحث.

(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 207 ـ 208 بحسب طبعة مطبعة النجف.

(2) جعل السيّد الخوئيّ(رحمه الله) كون الاستعمال إفناءً للّفظ في المعنى أو مجرّد إيجاد العلامة تابعاً لكون الوضع تنزيلاً للّفظ منزلة المعنى أو تعهّداً والتزاماً نفسانيّاً، في حين أنّه

لا يوجد أيّ مبرّر لفرض هذه التبعيّة.

391

نعم، حيث إنّ المرآتيّة في الاستعمال هي الغالب، وهي المنصرف من الاستعمالات العرفيّة تكون هذه نكتة في استظهار عدم كون الاستعمال في معنيين.

ولا إشكال في أنّ إرادة أكثر من معنىً خلاف الظاهر، فما هي النكتة في ذلك؟


توضيح ذلك: أنّه إذا فرضنا أنّ الوضع عبارة عن التنزيل، أو اعتبار اللفظ معنىً ونحو ذلك، فالواضع شخص والمستعمل شخص آخر، وعمل الواضع شيء وهو تنزيل اللفظ منزلة المعنى أو اعتباره معنىً، وعمل المستعمل شيء آخر وهو: إمّا استعمال اللفظ في المعنى على شكل مجرّد لحاظ العلاميّة، أو استعماله فيه على شكل اللحاظ المرآتيّ والفناء. وعمل الواضع من التنزيل أو الاعتبار لا يعيّن أحد الأمرين على المستعمل؛ إذ لا نكتة لهذا التعيين.

وإذا فرضنا أنّ الوضع عبارة عن التعهّد فالواضع والمستعمل واحد. والاستعمال ـ في الحقيقة ـ يكون وفاءً بذاك التعهّد، فعندئذ لو فرض أنّ التعهّد تعلّق بالجامع بين لحاظ العلاميّة واللحاظ المرآتيّ أو الفنائيّ، أي: أنّه تعهّد مثلا بأنّه متى ما أتى باللفظ قصد المعنى بأحد الشكلين، فهذا التعهّد لا يعيّن شكل الوفاء به لدى الاستعمال، فهو لدى الاستعمال بإمكانه أن يلحظ اللفظ كعلامة، وبإمكانه أن يحلظه لحاظاً فنائيّاً ومرآتيّاً للمعنى، ولو فرض أنّ التعهّد تعلّق بأحد الأمرين بالخصوص، أي: أنّه تعهّد مثلاً بأنّه متى ما أتى باللفظ لاحظه لحاظاً فنائيّاً في ذاك المعنى، أو تعهّد بأنّه متى ما أتى باللفظ استعمله استعمال العلامة لذاك المعنى، فهنا يجب أن يكون الاستعمال تبعاً للوضع؛ لأنّ الوضع هو التعهّد، والاستعمال وفاءٌ بذلك التعهّد، ولكن عندئذ لا يوجد دليل على أنّه يجب أن يكون التعهّد تعهّداً باللحاظ العلاميّ لا الفنائيّ كي يقال: إنّه إذن تعيّن أن يكون الاستعمال علاميّاً، بل التعهّد معقول بكلا الشكلين، وبالجامع بينهما، وبالتالي لا دليل على ضرورة كون الاستعمال على شكل العلاميّة.

392

فذهب من ذهب إلى أنّ النكتة هي أخذ قيد الوحدة في المعنى الموضوع له إلى آخر ما قرأناه في الكتب(1)، بينما ليس الأمر كذلك، وإنّما النكتة ما عرفت. فتحصّل: أنّ الاستعمال في معنيين معقول، لكنّه خلاف ظاهر الدليل(2).

 


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 209 بحسب طبعة مطبعة النجف، ونهاية الأفكار، ج 1، ص 111 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وغير ذلك من الكتب.

(2) ولو تنزّلنا عن ذلك، وافترضنا: أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنىً معقول ومألوف كاستعماله في معنىً واحد، فهل يمكن إثبات ذلك بالإطلاق؟ الجواب: لا؛ وذلك لأنّه لو قصد بالإطلاق الإطلاق الحكمي، فهو إنّما يجري فيما إذا اُحرزت إرادة الجامع وشكّ في قيد لم يبيّن، في حين أنّه لو كان المقصود في المقام من إجراء الإطلاق احراز إرادة الجامع بين المعاني، فأوّلاً: إحراز إرادة الجامع ليس بالإطلاق، بل ـ كما قلنا ـ لابدّ من إحرازها سابقاً ثُمّ نفي طروّ القيد عليه بالإطلاق. وثانياً: أنّ فرض إرادة الجامع لا يعني استعمال اللفظ في أكثر من معنىً، بل يعني استعماله في معنىً واحد مجازيّ، وهو الجامع. وهذا خلف بحثنا.

ولو كان المقصود إحراز إرادة الجميع فليس هذا هو دأب الإطلاق؛ فإنّ دأبه رفض القيود لا جمع الحصص المحتملة.

ولو قصد بالإطلاق الإطلاق بملاك ترك التفصيل، فلو صحّ هذا أثبت أيضاً إرادة الجامع، وهذا يعني أيضاً استعمال اللفظ في معنىً واحد مجازيّ، وهو الجامع، وليس هذا هو المقصود في المقام.

بقي الكلام فيما قد يقال من أنّ المحذور الموجود في استعمال اللفظ في أكثر من معنىً ـ سواء كان عبارة عن محذور الاستحالة، أو محذور مخالفة الظاهر؛ لأجل ظهور الاستعمال في النظر الفنائيّ، أو أيّ محذور آخر ـ غير موجود في مورد التثنية والجمع.

وكأنّ الأصل في ذلك ما ورد في كلام صاحب المعالم(رحمه الله) من أنّ التثنية أو الجمع في قوّة تكرار اللفظ، فلو قال: «جئني بعينين»، فكأنّما قال: «جئني بعين وعين»، فلا مانع من أن يريد بإحداهما الذهب مثلاً، وبالآخر الفضّة، فإنّ المعتبر في تصحيح التثنية أو الجمع إنّما

393


هو الاتّفاق في اللفظ لا الاتّفاق في المعنى، وبهذا صحّت التثنية والجمع في الأعلام (راجع كتاب المعالم، ص 61 بحسب طبعة مؤسّسة عبد الرحيم العلميّ التوأم بترجمة وشرح المترجم هادي المازندرانيّ).

أقول: لو قصد بالعينين فردين من الذهب وفردين من الفضّة ـ مثلاً ـ رجع ذلك إلى أصل الاستعمال في معنيين من دون خصوصيّة لعلامة التثنية، إلاّ أنّ هذا غير مقصود لصاحب المعالم ومن يحذو حذوه حتماً.

ولو أنّ أحداً قصد هذا المعنى، فلو كان يرى المادّة والهيئة في التثنية بمجموعهما موضوعاً بوضع موحّد، فهذا من استعمال اللفظ في معنيين بما فيه من المحذور الماضي، ولو كان يرى أنّ المادّة موضوعة لأصل المعنى والهيئة موضوعة للتعدّد، فقد ذكر السيّد الخوئيّ(رحمه الله): أنّ هذا داخل في استعمال المادّة في معنيين، وهو مشتمل على نفس المحذور المفترض في أصل استعمال اللفظ في معنيين. أمّا الهيئة فلم تستعمل في معنيين برغم أنّه فهم منها أربعة أفراد من طبيعتي الفضّة والذهب، فإنّ هذا إنّما كان بتبع أنّ التثنية تُعدِّد نفس المعنى المقصود من المادّة، والمفروض: أنّه قصد بالمادّة الذهب والفضّة معاً، فلا محالة تصبح الافراد ببركة التثنية أربعة، وذلك من قبيل: ما لو ثُنّيت العشرة فقيل: عشرتان، أو ثُنّيت الطائفة فقيل: طائفتان، فمن الواضح أنّ الأعداد الشخصيّة ستكون أكثر من اثنين؛ لأنّ المفرد لهاتين التثنيتين كان مشتملاً على أكثر من فرد شخصيّ، وقد ثنّي ذاك المفرد حسب الفرض (راجع المحاضرات للفيّاض، ج 1، ص 211 ـ 212).

وأورد على ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) (على ما ورد في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله،ج 1، ص 156) بأنّ مادّة العين إذا كانت مستعملة في المجموع من الذهب والفضّة، صحّ هذا الكلام، إلاّ أنّ هذا خروج عن استعمال المادّة في معنيين، ورجوع إلى استعمالها في معنىً واحد مجازيّ، وهو خلف فرض البحث. أمّا إذا كانت مستعملة في معنيين مستقلّين فالهيئة أيضاً استعملت في تثنيتين، وهذا يعني تورّط الهيئة كالمادّة في مشكلة الاستعمال

394


في معنيين.

وعلى أ يّة حال، فأصل هذا الحديث خروج عمّا قصده القائل بجواز استعمال التثنية في معنيين، أو عرفيّته وعدم اشتماله على المحذور المفترض في استعمال المفرد في معنيين.

وأمّا ما أفاده صاحب المعالم(رحمه الله) من أنّ التثنية بمنزلة تكرار اللفظ فلا مانع من إرادة معنيين في مقابل اللفظين، فقد أورد عليه صاحب الكفاية بأنّ التثنية إنّما هي بمنزلة تكرار اللفظ بما قصد به من المعنى، لا تكراره محضاً مع فرض إرادة معنيين منه. وأمّا تثنية الأعلام فقد أوّلها بإرادة المسمّى (راجع الكفاية، ج 1، ص 56 بحسب طبعة المشكينيّ).

وذكر الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله): أنّ فرض كون مفاد الهيئة تكرار ذات اللفظ لا معنى له؛ فإنّ الهيئة تطرأ على المادّة لكي يطرأ مفادها وهو التعدّد على مفاد المادّة؛ لأنّ مفاد المادّة وهي الطبيعة يمكن تكرارها، بمعنى تجسّدها في فردين منها. أمّا طروء مفاد الهيئة على لفظ المادّة بما هو لفظ فممّا لا معنى له؛ لأنّ اللفظ والمعنى مقولتان متباينتان (راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 92 ـ 93 بحسب طبعة مكتبة الطباطبائيّ بقم).

وأمّا المحقّق العراقيّ(رحمه الله) فهو يرى أنّ فرض كون هيئة التثنية بمنزلة تكرار اللفظ لا ينفع شيئاً في حلّ مشكلة استعمال اللفظ في معنيين؛ لأنّ مشكلة استعمال اللفظ في معنيين في نظره عبارة عن لزوم اجتماع لحاظين على لفظ واحد، واللفظ في المقام واحد على أيّ حال، فإنّ فرض كون الهيئة تعطي معنى تكرار اللفظ، لم يوجب تكرّر اللفظ حقيقة. هذا مضافاً إلى بيان آخر موجود في المقالات مقتضب يمكن توجيهه بهذا التقريب، وهو: أنّنا إن فسّرنا التثنية بمعنى كونها في قوّة تكرار لفظ المادّة مع حمل كلّ من المادّتين المفترضتين على معنى فرد من أفراد الطبيعة، فيكون (رجل) في مثل (رجلان) مستعملاً بمعنى الفرد من الرجل كان هذا مجازاً، ومن الواضح بطلان تفسير التثنية بهذا التفسير. وإن فسّرناها بمعنى كونها في قوّة تكرار لفظ المادّة مع حمل كلّ من المادّتين المفترضتين

395


على معنى الطبيعة، فتكرار ذكر الطبيعة لا يعني الدلالة على فردين، بينما لا إشكال في أنّ التثنية تدلّ على إرادة فردين، إذن ينحصر الأمر في تفسير ثالث، وهو: أنّ المادّة تدلّ على الطبيعة، والهيئة تدلّ على تمثّل الطبيعة في فرد، لا على تكرار المادّة. وبهذا يبطل تفسير مثل كلمة (عينين) بمعنى معنيين من العين كالذهب والفضّة، أو الباكية والجارية؛ لأنّ المادّة مستعملة في إحدى تلك الطبائع، والهيئة تدلّ على تجسّد تلك الطبيعة في فردين (راجع المقالات، ج 1، ص 167 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم).

أقول: لعلّ الجذر الوجدانيّ الذي أدّى إلى توهّم كون استعمال اللفظ في التثنية في معنيين ممكنأ، أو سليماً ـ بخلاف استعمال المفرد في ذلك ـ هو: إمكانيّة حمل المادّة ولو مجازاً على إرادة المسمّى، ودلالة الهيئة عندئذ على إرادة مسمّيين كما يقال في الأعلام.

وعلى أيّة حال، فقد اتّضح بكلّ ما عرضناه: أنّه لا فرق في استعمال اللفظ في معنيين بطلاناً أو مخالفةً للظاهر بين المفرد والتثنية و الجمع.

بقي الكلام في أنّه: لئن كانت هيئة التثنية تدلّ على تجسّد مفاد المادّة في فردين مثلاً فكيف نفسّر تثنية الأعلام باعتبار أنّ العلم معناه جزئيّ غير قابل للتكثّر، فلا يمكن فرض تجسّد مفاده في فردين؟! فهل ننكر على هذا الأساس فرض الوضع النوعيّ لهيئة التثنية في مقابل وضع المادّة، ونفترض أنّ كلّ تثنية وضعت بمادّتها وهيئتها للمعنى المناسب لموردها، أو يمكن تفسير هيئة التثنية في مورد الأعلام بالتفسير العامّ المنسجم مع تثنية أسماء الأجناس؟

لعلّ أشهر جواب وأسهله على ذلك هو تأويل المادّة في التثنية والجمع بمعنى المسمّى، فزيدان يعني مسمّيان بزيد.

واكتفى صاحب المعالم في الإيراد على ذلك باستبداه بطلانه حيث قال: «وتأويل بعضهم له بالمسمّى تعسّف بعيد» (راجع المعالم، ص 61 بحسب الطبعة المشتملة على ترجمة وشرح هادي المازندرانيّ).