167

هيئات الجمل:

المقام الثاني: في تحقيق حال هيئات الجمل، سواء كانت الجملة تامّة من قبيل «زيد عالم»، أو ناقصة من قبيل «زيد العالم».

ويوجد في مفاد هيئة الجملة مسلكان:

المسلك الأوّل: ما نسب إلى المشهور، وهو: أنّ مفاد هيئة الجملة في مثل «زيد عالم» هو النسبة بين الموضوع والمحمول، وفي مثل «زيد العالم» هو النسبة بين الوصف والموصوف ونحو ذلك، وهيئة الجملة التامّة موضوعة للنسبة التامّة، وهيئة الجملة الناقصة موضوعة للنسبة الناقصة، فكأنّ النسبة لها سنخان: تامّة وناقصة، فالجملة حينما تكون هيئتها موضوعة للتامّة، صحّ السكوت عليها، وحينما تكون هيئتها موضوعة للناقصة لم يصحّ السكوت عليها.

 


قبل العلم بها أخبار، وإنّ الجملة الوصفيّة متأخّرة رتبة عن الجملة التامّة، إذن فللنسبة الوصفيّة منبتٌ خارجيّ وإن كان خارجه هو الذهن، فنسبة الجملة الوصفيّة إلى الجملة التصادقيّة كنسبة «نار في الموقد» إلى الخارج، فهذا غير صحيح؛ لأنّ الواصف ينتزع النسبة الوصفيّة بالمعنى المعقول من الانتزاع في عرض النسبة التصادقيّة، وقد لا تخطر بباله أصلاً النسبة التصادقيّة، ولكنّه يأتي بالجملة الوصفيّة، فمن أين تأتي الطوليّة؟!

وبكلمة اُخرى: أنّ الذهن قد ينتزع من الوجود الوحدانيّ في الخارج الذي هو زيد وعالم مثلاً صورتين منفصلتين: وهما صورة زيد وصورة عالم، ويخلق بينهما النسبة التصادقيّة، فتكون النسبة عندئذ واقعيّة، واُخرى ينتزع من أوّل الأمر من ذاك الوجود الوحدانيّ صورة واحدة على شكل الحصّة، وهي صورة زيد العالم، فتكون النسبة لا محالة تحليليّة، أمّا إذا كانت النسبة خارجيّة المولد، فلا يمكن للذهن إذا أراد احتفاظ النسبة إلاّ انتزاع صورة الحصّة.

168

المسلك الثاني: ما ذهب إليه السيّد الاُستاذ دامت بركاته(1)، حيث قال: لا يعقل كون الجمل موضوعة للنسب، ولا يتمّ التقسيم إلى النسبة التامّة والنسبة الناقصة، وإنّما الجملة التامّة موضوعة لأمر نفسانيّ، وهو قصد الحكاية عن ثبوت شيء أو نفيه، والجملة الناقصة موضوعة لتحصيص المعاني الاسميّة وتضييقها، كما اختار هو ذلك في الحروف.

هذا هو البيان البدائيّ للمسلكين، وسوف يتّضح حاقّ كلا المسلكين مع ما هو الحقّ منهما من خلال بيان اعتراضات السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على مسلك المشهور مع مناقشتها، فإنّ السيّد الاُستاذ اعترض على مسلك المشهور باعتراضات أربعة، جعلها برهاناً على تماميّة مسلكه هو:

الاعتراض الأوّل: أنّه كيف تكون الجملة موضوعة للنسبة مع أنّه في بعض موارد الجملة لا تتعقّل النسبة، كما هو الحال في مثل «شريك الباري ممتنع»، أو «العنقاء ممكن»(2)؛ لأنّ تحقّق النسبة خارجاً بين طرفين فرع تحقّق طرفيها خارجاً، وشريك الباري أو العنقاء غير موجود خارجاً، فيعرف: أنّ مفاد الجملة ليس هو النسبة؛ لعدم وجودها في بعض الموارد، ويجب أن يكون مفادها ما يوجد في تمام الموارد، وإنّما هو قصد الحكاية.


(1) راجع أجود التقريرات، تحت الخطّ، ص 24 ـ 27، والمحاضرات، ج 1، ص 85 ـ 89 بحسب طبعة دار الهاديّ للمطبوعات بقم، و ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 94 ـ 99.

(2) هذا الاعتراض الأوّل مذكور في أجود التقريرات، ج 1، ص 24 تحت الخطّ، وبدلاً عن التمثيل بـ «العنقاء ممكن أو غير موجود» ورد فيه التمثيل بـ «الإنسان ممكن أو موجود». وبعض هذه الأمثلة يشتمل على الغفلة عن لوح الواقع الذي هو أوسع من لوح الخارج.

169

أقول: إنّ السيّد الاُستاذ قد نسب إلى المشهور أنّهم يقولون بوضع الجملة للنسبة الخارجيّة، وهذا شبيه بما ذكره في المقام الأوّل، حيث فسّر كلام المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) بأنّ الحرف موضوع للرابط الخارجيّ، وبناءً على كون مراد المشهور هو وضع هيئة الجملة للنسبة الخارجيّة لا ينبغي تخصيص النقض على ذلك بمثل «شريك الباري ممتنع»، بل الإشكال يأتي في كلّ القضايا الخارجيّة المبنيّة على الهوهويّة، فلا نسبة خارجيّة في مثل «زيد عالم» مثلاً بين زيد وعالم، فإنّ عالم هو وصف اشتقاقيّ متّحد مع زيد خارجاً على ما يأتي توضيحه ـ إن شاء الله ـ في المشتقّ، ولا اثنينيّة خارجيّة بينهما، والنسبة الخارجيّة فرع الاثنينيّة الخارجيّة، فقد تكون هناك نسبة خارجيّة بين زيد والعلم، ولكن لا تعقل ولا تتصوّر بين زيد وعالم أيّة نسبة خارجيّة، فتخصيصه للإشكال بمثل «شريك الباري ممتنع» في غير محلّه.

وعلى أيّ حال، فالصحيح: أنّ المشهور لا يقولون بوضع هيئة الجمل للنسبة الخارجيّة.

هذا كلّه لو كان مقصوده ـ دامت بركاته ـ من النسبة النسبة الخارجيّة، كما هو صريح كلامه، وأمّا لو كان مقصوده النسبة الذهنيّة بين المفهومين، فسوف يتّضح في الجواب على الاعتراض الرابع وجودها في مثل «شريك الباري ممتنع» كما هي موجودة أيضاً في مثل «زيد عالم».

الاعتراض الثاني(1): كأنّه بناه على مسلكه في باب الوضع، وهو التعهّد، وهو:


(1) هذا الاعتراض وارد في المحاضرات، ج 1، ص 85 ـ 86 بحسب طبعة دار الهاديّ للمطبوعات بقم. أمّا بحسب طبعة موسوعة الإمام الخوئيّ ففي ج 43 من تلك الموسوعة، ص 95.

170

أنّ التعهّد لا يتعلّق إلاّ بما يدخل تحت الاختيار، والنسبة بين زيد وعالم ليست تحت اختياري أنا الواضع أو المستعمل حتّى أكون متعهّداً بها، فلا أستطيع أن أجعل زيداً عالماً، فلا يمكنني أن أقول: إنّني متى ما قلت: «زيد عالم» فأنا متعهّد بأنّ النسبة واقعة بين زيد وعالم، وإنّما الذي يكون تحت الاختيار هو قصد الحكاية عن علم زيد. فهذا هو مفاد هيئة الجملة.

وهذا الاعتراض أغرب من الاعتراض السابق؛ وذلك لأنّنا إذا جارينا هذا الطرز من التعبير، فماذا نقول عن الحروف مثلاً التي قال السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ عنها: إنّها موضوعة لتحصيص المفاهيم الاسميّة، فإذا قال: «الإنسان في السماء ممكن» فهل تحت اختياره تحقّق «الإنسان في السماء»؟ وماذا نقول في المفردات؟ فحينما يقول: «زيد» مثلاً وهو اسم لابن خالد مثلاً، فما معنى تعهّده بابن خالد؟ وهل ابن خالد تحت اختياره؟!

وحلّ المغالطة هو: أنّه لا إشكال في أنّ المتعهّد به أمر نفسانيّ، وهو قصد إخطار صورة زيد مثلاً في ذهن السامع، فحينما نقول: إنّ كلمة زيد مثلاً موضوعة لابن خالد نعني بذلك بناء على مسلك التعهّد أنّنا تعهّدنا قصد إخطار صورة ذاك المعنى في ذهن السامع، وكذا في الحروف تعهّدنا قصد إخطار صورة التحصيص في ذهن السامع، وعندئذ نقول في مثل «زيد عالم»: إنّ كونه مجعولاً للنسبة لا ينافي مسلك التعهّد، ومعنى التعهّد هنا التعهّد بقصد إخطار صورة النسبة، فهذا الإشكال لا يقتضي إبطال المسلك الأوّل، وتعيين المسلك الثاني، وغاية ما يقتضيه: أنّ المتعهَّد به يجب أن يكون أمراً نفسانيّاً، وهذا الأمر النفسانيّ، عند المشهور عبارة عن قصد إخطار صورة النسبة، وعند السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ عبارة عن قصد الحكاية، فهذا الاختلاف لا ربط له بمسألة التعهّد.

171

الاعتراض الثالث(1): كأنّه أيضاً مبنيّ على أصل موضوعيّ، وحاصله: أنّ جملة «زيد عالم» تختلف عن الكلمات الأفراديّة، فالكلمات الأفراديّة ليست لها دلالة تصديقيّة، وإنّما لها دلالة تصوّريّة. وأمّا «زيد عالم» فلها دلالة تصديقيّة، أي: توجب ولو اقتضاءً وشأناً التصديق بأنّ زيداً عالم. وبعد هذا الأصل الموضوعيّ نقول: إنّه إن كان مفاد الجملة هو النسبة كما يقوله المشهور لزم عدم الدلالة التصديقيّة؛ إذ مجرّد صدور هذا الكلام وكونه موضوعاً للنسبة لا يقتضي كون متكلّمه صادقاً فيما يقول؛ إذ لا يصدّق على تقدير الكذب بالنسبة. وأمّا إذا قلنا: إنّ مفاد الجملة قصد الحكاية فمقتضى الطبع الأوّليّ للكلام هو تحقّق قصد الحكاية، سواء كان صادقاً أو كاذباً، فتثبت الدلالة التصديقيّة، وحيث إنّنا فرضنا في الأصل الموضوعيّ ثبوت الدلالة التصديقيّة تعيّن كون مفاد الجملة قصد الحكاية.

وهذا الاعتراض أيضاً لا يمكن المساعدة عليه. وتوضيح ذلك: أنّنا إن قلنا في باب


(1) هذا الاعتراض موجود في أجود التقريرات، ج 1، ص 24 ـ 25 تحت الخطّ، والمحاضرات، ج 1، ص 85 بحسب طبعة دار الهاديّ للمطبوعات بقم، وكذلك في ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 95.

وهذا الأصل الموضوعيّ الذي افترضه اُستاذنا الشهيد(قدس سره) لهذا الاعتراض، وهو تخصيص الدلالة التصديقيّة بالجمل التامّة دون المفردات كأنّه مستنبط من عدم إمكان توجيه هذا الاعتراض إلاّ بتفسير الدلالة التصديقيّة بوجه لا يأتي في المفردات، وهو الوجه المذكور هنا في المتن في بيان هذا الاعتراض، لا أنّ السيّد الخوئيّ(رحمه الله)يؤمن حقّاً باختصاص الدلالة التصديقيّة بالجملة، فإنّه مضى في بحث التعهّد في مقام شرح كلام السيّد الخوئيّ أنّ مبنى التعهّد يعني اشتمال الدلالة الوضعيّة على المعنى التصديقيّ دائماً، وقد ورد التصريح من السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في المقام في مصابيح الاُصول، مباحث الألفاظ، تأليف علاء الدين بحر العلوم تقريراً لبحث السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ص 59 بثبوت الدلالة التصديقيّة في المفردات أيضاً.

172

الوضع بغير مسلك التعهّد، من قبيل مسلك الاعتبار، فقد عرفت: أنّ الدلالة الوضعيّة إنّما هي دلالة تصوّريّة تنشأ من الوضع، وإن سمع من اصطكاك حجر، ولا توجد دلالة تصديقيّة بالوضع، لا في المفرد ولا في الجملة الناقصة ولا في الجملة التامّة، فكما أنّ كلمة نار لا تدلّ بالوضع إلاّ على صورة النار كذلك «زيد عالم» لا تدلّ بالوضع إلاّ على صورة زيد عالم، ولا نتعقّل على غير مسلك التعهّد دلالة تصديقيّة بالوضع، وإنّما الدلالة التصديقيّة دائماً تنشأ من ظهورات حاليّة وسياقيّة وأمارات نوعيّة، غير باب الأوضاع على ما يأتي إن شاء الله؛ ولذا تتأثّر باختلاف الحالات، هذا إذا قلنا في باب الوضع بغير مسلك التعهّد. وأمّا إذا قلنا فيه بمسلك التعهّد فتثبت الدلالة التصديقيّة بالوضع حتّى في المفردات بالرغم من عدم وجود قصد الحكاية في المفردات، فحينما يقول: «زيد» يدلّ بالتعهّد على قصد إخطار معناه، وحينما يقول: «زيد عالم» يدلّ أيضاً بالتعهّد على قصد نفسانيّ، مع خلاف بين مقتضى مسلك المشهور ومسلك السيّد الاُستاذ في حقيقة هذا القصد النفسانيّ، هل هو قصد إخطار النسبة أو قصد الحكاية، فلا دخل للدلالة التصديقيّة في تعيين مفاد الجملة في قصد الحكاية دون النسبة.

الاعتراض الرابع: هو أوجه تلك الاعتراضات وأمتنها وإن لم يذكر في كتابات كلماته دامت بركاته، وحاصله: أنّه لو كانت الجملة موضوعة للنسبة، استحال الفرق بين الجملة التامّة والناقصة، فالمشهور وإن كانوا يفرّقون بين جملة «زيد عالم» وجملة «زيد العالم» بأنّ الاُولى موضوعة للنسبة التامّة والثانية موضوعة للنسبة الناقصة، لكن هذا الفرق لا محصّل له؛ لأنّ النسبة أمر بسيط لا يتصوّر فيها زيادة ونقصان، وليست لها أجزاء وعناصر متعدّدة حتّى تشتمل تارة على كلّ العناصر الفلانيّة مثلاً، فتسمّى بالنسبة التامّة، واُخرى تفقد بعض تلك العناصر، فتسمّى بالنسبة الناقصة، إذن فما هو معنى كون النسبة تارة تامّة واُخرى ناقصة؟

173

فالمشهور يعجزون عن إعطاء فرق معقول بين الجملة التامّة والناقصة. فالصحيح في الفرق بينهما: أنّ هيئة الجملة الناقصة موضوعة للتحصيص كالحروف، وتكون دالّة على التحصيص دلالة تصوّريّة، والجملة التامّة موضوعة للدلالة التصديقيّة التي هي في مثل «زيد عالم» عبارة عن قصد الحكاية، فبهذا يتّضح الفرق بين مثل «زيد عالم» و«زيد العالم» حيث إنّ الأوّل مشتمل على دلالة تصديقيّة وهي قصد الحكاية والثاني لا يدلّ إلاّ على دلالة تصوّريّة(1).

أقول: التحقيق: أنّ التماميّة والنقصان من شؤون النسبة بما هي هي في المرتبة السابقة على طروّ التصديق أو النفي، أو أيّ حالة نفسانيّة عليها، وممّا يشهد لذلك: أنّنا لو أدخلنا أداة الاستفهام على جملة «زيد عالم» فقلنا: «هل زيد عالم؟»، فمن المعلوم أنّ مدخول أداة الاستفهام هنا ليست له دلالة تصديقيّة على قصد الحكاية؛ لأنّه بصدد الاستفهام عن ذلك، فكيف يقصد الحكاية؟ ولا يعقل الاستفهام عن المطلب التصديقيّ، وإنّما يعقل عن المطلب التصوّريّ، فالمستفهم عنه ليس إلاّ أمراً تصوّريّاً محضاً، بينما نحن نرى في هذا المثال بالذات أنّه لو بدّلنا جملة «زيد عالم» التي هي جملة تامّة إلى جملة «زيد العالم» التي هي ناقصة، وقلنا: «هل زيد العالم»، أصبح الاستفهام ناقصاً، ويحتاج إلى تتمّة، كَأن يقال: «هل زيد العالم موجود؟» أو «هل زيد العالم نائم؟» ونحو ذلك مع أنّ كلا المدخولين متمحّض في المطلب التصوّريّ» وليس في أحدهما قصد الحكاية، فهذا شاهد على وجود فرق في حاقّ النسبة التامّة والناقصة في عالم التصوّر المحض قبل أن نصل إلى مرحلة


(1) هذا التعبير لا ينسجم مع ما مضى عن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في حقيقة الدلالة الوضعيّة، من أنّها دلالة تصديقيّة، وكان بالإمكان تتميم المطلب مع حذف فرضيّة كون دلالة المركّب الناقص تصوّريّة.

174

التصديق.

وأمّا تصوير هذا الفرق فهو وإن لم تف بذلك كلمات المشهور فيما أعلم، إلاّ أنّ التحقيق في ذلك هو: أنّ النسبة الناقصة في مثل «زيد العالم» نسبة تحليليّة، كما هو الحال في بعض الحروف، من قبيل: «في»، وليست موجودة في صقع الوجود الذهنيّ، وإنّما الموجود في صقع الذهن وجود ذهنيّ واحد، وليس هناك وجودان مع حبل بينهما. نعم، هذا الوجود الواحد وجود لمركّب تحليليّ يكون له بالتحليل أجزاء، وأحد أجزائه هو النسبة، فهذه النسبة طبعاً ناقصة لا يصحّ السكوت عليها؛ لأنّها لا ترى في عالم الذهن، وإنّما هي تحليليّة، فلا يُرى إفادةً واستفادةً إلاّ شيء واحد، فكأنّه ألقيت كلمة مفردة، فكما لا يصحّ السكوت على المفرد كذلك لا يصحّ السكوت على «زيد العالم». وأمّا النسبة التامّة في «زيد عالم» فهي من قبيل القسم الآخر من النسب الحرفيّة، كالنسبة الإضرابيّة، أعني: أنّها نسبة واقعيّة موجودة في صقع الذهن، فتوجد في الذهن صورتان مستقلّتان لزيد ولعالم، وبينهما نسبة التصادق. ولأجل التشبيه والتوضيح نقول: إنّ حال الذهن هو حال المرآة، فقد ينعكس شيء واحد في مرآتين، فتوجد في عالم المرايا صورتان مستقلّتان وبينهما نسبة أشدّ من نسبة التماثل الموجود فيما لو كانت الصورتان لشيئين متماثلين، وهي نسبة التصادق، أي: أنّهما انعكاسان لشيء واحد، وحكايتان عن شيء واحد، فعلى رغم أنّه توجد في عالم المرايا صورتان مستقلّتان بينهما نسبة لا يوجد في عالم المحكيّ والخارج إلاّ شيء واحد، فنحن نشبّه الرؤية الذهنيّة بالمرايا، حيث إنّها تأخذ من عالم الخارج أو أيّ عالم آخر صوراً، وقد تأخذ صورتين عن شيء واحد، فمثلاً تأخذ من عالم الخارج صورة زيد وصورة عالم بما هما حاكيان عن موجود واحد في الخارج، وتكون بينهما نسبة التصادق،

175

وعلى هذا الأساس صحّ السكوت على هذه النسبة، فإنّه يُرى في عالم الذهن شيئان وبينهما حبل، بينما في موارد النسبة الناقصة لم يكن يُرى إلاّ شيء واحد، وبهذا ظهر السرّ في أنّه: لماذا يصحّ «هل زيد عالم؟»، ولا يصحّ «هل زيد العالم؟»، فإنّ الاستفهام يكون دائماً عن النسبة، وفي قولنا: «هل زيد عالم» توجد في مدخول «هل» نسبة واقعيّة موجودة في صقع النفس، ويستفهم عنها، أي: عن مدى تطابقها لما في الخارج. وأمّا في قولنا: «هل زيد العالم» فالنسبة تحليليّة، لا واقعيّة، ففي عالم الذهن لا يرى شيئان مع نسبة حتّى يستفهم عنها، وإنّما يرى شيء واحد، فقولنا: «هل زيد العالم» يكون من قبيل قولنا: «هل زيد»، فكما لا يصحّ هذا لا يصحّ ذلك.

فإن قلت: إذا كان السرّ في التماميّة وصحّة السكوت عليه في مثل «زيد عالم» هو كون النسبة واقعيّة، فلماذا لا يصحّ السكوت على مثل النسبة الإضرابيّة، مع أنّها أيضاً نسبة واقعيّة، ففي مثل قولنا: «جاء زيد، بل عمرو» لو حذفنا كلمة جاء، وقلنا: «زيد بل عمرو» كان الكلام ناقصاً كما هو واضح.

قلت: السرّ في نقصان ذلك هو: أنّ النسبة الإضرابيّة وإن كانت نسبة واقعيّة، لكنّها نسبة بين ثلاثة اُمور، لا بين أمرين، فإذا حذف أحد الاُمور الثلاثة كان من الطبيعيّ أن يصبح الكلام ناقصاً، فإنّ النسبة الإضرابيّة تحتاج إلى مضرب عنه وهو زيد، ومضرب إليه وهو عمرو، ومضرب فيه وهو الحكم بالمجيء بقوله: جاء؛ فإنّ الإضراب من زيد إلى عمرو لا معنى له إلاّ في حكم من الأحكام، كالحكم بالمجيء.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ الاعتراضات الأربعة غير واردة على المسلك المشهور، وأنّ مسلك المشهور مطلب معقول متصوّر في نفسه، بل نقول: إنّ

176

المسلك الثاني في نفسه غير صحيح؛ لأنّه مورد لإشكالين: إشكال مبنائيّ وإشكال آخر:

أمّا الإشكال الأوّل: فهو أنّه ماذا يقصد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ بقوله: إنّ «زيد عالم» يدلّ على قصد الحكاية؟ فإن أراد أنّه يدلّ على قصد الحكاية دلالة تصوّريّة، أي ينقش في ذهن السامع تصوّراً صورة مفهوم (قصد الحكاية) فهذا بديهيّ البطلان؛ إذ معنى ذلك كون «زيد عالم» مرادفاً لقصد الحكاية، وهذا واضح البطلان، وإن أراد ـ وهو صريح كلامه ـ أنّه يدلّ على قصد الحكاية دلالة تصديقيّة، بمعنى الكشف عن قصد نفسانيّ جزئيّ في نفس المتكلّم، فهذه الدلالة مسلّمة، والمشهور لا ينكرونها، إلاّ أنّها ليست بالوضع، بل بقرائن حاليّة كما أشرنا إلى ذلك، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ في تنبيه تبعيّة الدلالة للإرادة. والبرهان على عدم كونها بالوضع: أنّنا بيّنّا في بحث الوضع: أنّ مبنى السيّد الاُستاذ وهو كون الوضع عبارة عن التعهّد غير صحيح، وأنّ من ثمرات الخلاف في حقيقة الوضع: أنّ الدلالة الوضعيّة على مبنى التعهّد تصديقيّة، وعلى سائر المباني تصوّريّة، ولا يمكن أن تكون تصديقيّة.

وأمّا الإشكال الثاني: فهو أنّ الوجدان يشهد بأنّ جملة «زيد عالم» ينبغي أن يكون لها سنخ معنىً واحد محفوظ في تمام موارد استعمالاتها، وهذا الشيء ثابت بناءً على رأي المشهور من كون هذه الجملة موضوعة للنسبة التامّة. فنقول: إنّ «زيد عالم» تفيد بالدلالة التصوّريّة النسبة التصادقيّة، وهذه النسبة في مرحلة الدلالة التصديقيّة تارة تُحكى كما في قولنا: «زيد عالم» واُخرى يستفهم عنها كما إذا دخلت عليها أداة الاستفهام، فقلنا: «هل زيد عالم؟» وثالثة يتمنّى كما في قولنا: «ليت زيداً عالم» ورابعة يترجّى كما في قولنا: «لعلّ زيداً عالم» وما إلى ذلك.

177

وأمّا على مسلكه ـ دامت بركاته ـ من دلالة «زيد عالم» على قصد الحكاية، فمن الواضح: أنّ هذه الجملة حينما تصبح مدخولة لمثل الاستفهام لا تدلّ على قصد الحكاية؛ فإنّ المتكلّم لا يستفهم عن قصد الحكاية، وإنّما يستفهم عن الواقع، إذن فيتّضح: أنّ مسلك المشهور هو الصحيح دون هذا المسلك. ولو أنكرنا شهادة الوجدان بوحدة المعنى في «زيد عالم» في تمام موارد استعمالاتها، فلا أقلّ من وجوب الاعتراف بمسلك المشهور في مثل هذه الموارد التي أصبحت هذه الجملة مدخولة لأمثال هذه الحروف لعدم إمكان الالتزام بقصد الحكاية في ذلك، أي: يجب على السيّد الاُستاذ أن يعترف بمسلك المشهور ولو في الجملة.

وقد أوردتُ عليه ـ دامت بركاته ـ النقض بـ «هل زيد عالم؟» فأجاب عن الإشكال بأنّنا نلتزم بأنّ «هل» مع مدخوله قد وضع مجموعاً لقصد الاستفهام عن شيء.

فأوردتُ عليه بأمرين:

أحدهما: أنّنا نبدّل مثال: «هل زيد عالم؟» بقولنا: «أحكي لك: أنّ زيداً عالم»، حيث إنّ جملة الفعل مع مفعولها لها وضع نوعيّ مطّرد في سائر الموارد، ويبعد افتراض وضع خصوص مثل «أحكي لك: أنّ زيداً عالم» لمعنىً خاصّ.

وثانيهما: أنّه حينما يقول المتكلّم: «هل زيد عالم؟» يصحّ للمخاطب أن يجيب بقوله: نعم. وكلمة «نعم» تكون بمنزلة تكرار الكلام الذي استفهم عنه، لكي تكون دلالته التصديقيّة هي التصديق بوقوعه، ولو كانت جملة «هل زيد عالم؟» بمجموعها موضوعة لمعنىً، ومدخول «هل» ليس له معنىً، فلا معنى لتصديقه بنعم.

فأجاب ـ دامت بركاته ـ عن ذلك بأنّ كلمة «نعم» تكون بمنزلة التكرار للّفظ المدخول دون معناه، ولا ضير في أن يكون المدخول حينما يستعمل مع «هل»

178

لا معنى له مستقلّ، وحينما يكرّر بكلمة «نعم» يفيد قصد الحكاية.

فقلت له: إنّ كلمة «نعم» تكون بحكم تكرار المعنى، وليست بحكم تكرار اللفظ فقط، ولهذا ترى: أنّه لو سأل سائل مثلاً: هل جاء المولى؟ وقصد بكلمة المولى العبد، لا يصحّ أن يقال في جوابه: نعم، ويقصد بذلك: أنّه نعم جاء السيّد(1).

 

هيئة الجملة الفعليّة:

ثُمّ إنّنا إلى هنا وضّحنا مفاد هيئة الجملة الخبريّة التي حمل فيها اسم على اسم، من قبيل «زيد عالم». وأمّا الجملة الخبريّة التي اسند فيها فعل إلى اسم، من قبيل «ضرب زيد» فالصحيح: أنّها أيضاً تدلّ على النسبة التصادقيّة تماماً كالنسبة التصادقيّة في «زيد عالم»، أو على ما يشبهها.

وتوضيح ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ جملة «ضرب زيد» تدلّ على نسبة تامّة، ولهذا يصحّ السكوت عليها، كما لا إشكال في أنّها تدلّ على النسبة الصدوريّة، ولهذا نعرف: أنّ الضرب قد صدر من زيد، والنسبة الصدوريّة نسبة تحليليّة ناقصة، لا واقعيّة؛ لأنّ النسبة الصدوريّة موطنها الأصليّ هو الخارج، وليست صورة الضرب تصدر في عالم الذهن من صورة اُخرى، وقد عرفت فيما سبق: أنّ كلّ نسبة يكون موطنها الأصليّ هو الخارج لا الذهن يستحيل أن تكون في الذهن واقعيّة، بل لابدّ أن تكون تحليليّة وناقصة، ومن هنا يعرف: أنّ جملة «ضرب زيد» مشتملة على نسبتين: نسبة صدوريّة ونسبة تامّة، ولا يمكن افتراض كون النسبة


(1) كان بإمكان السيّد الخوئيّ(رحمه الله) أن يجيب على ذلك بأنّ كلمة «نعم» بمنزلة تكرار المعنى الذي كان يقصده المتكلّم من مدخول الاستفهام لولا دخول الاستفهام عليه.

179

التامّة هي نفس النسبة الصدوريّة، فيتبرهن بهذا وجود نسبتين في هذه الجملة: إحداهما: نسبة مستفادة من هيئة الفعل التي هي خارجة عن محلّ الكلام؛ لأنّنا نتكلّم في هيئات الجملة، والاُخرى: نسبة مستفادة من هيئة الجملة. وإذا كان الأمر هكذا، فلابدّ أن تكون النسبة الصدوريّة هي المستفادة من الفعل، والنسبة التامّة هي المستفادة من الجملة، ببرهان: أنّه من نفس كلمة «ضرب» يستفاد معنى صدور الضرب، إذن فهيئة «ضرب» تدلّ على النسبة الصدوريّة بين الضرب وبين فاعل ما، وبالتالي تدلّ كلمة «ضرب» بالتبع على فاعل ما، فكان المستفاد من كلمة «ضرب» مركّباً بالتحليل العقليّ من الضرب وذات ما والنسبة الصدوريّة بينهما، وذلك: إمّا بأن يفرض الركن الأصليّ هو الذات، فكأنّما قال: «ذات له الضرب»، أو يفرض الركن الأصليّ هو الضرب، فكأنّما قال: «ضَرْبُ ذات»، والظاهر: أنّ كلمة «ضرب» تنسجم مع كلا الفرضين، أي: افتراض كون الركن الأصليّ هو الذات، وافتراض كونه هو الضرب. ثُمّ يأتي دور هيئة الجملة المتحقّقة بضمّ الفاعل إلى الفعل، حيث يقال: «ضرب زيد» وهذه الهيئة تدلّ على النسبة التامّة بين ضرب وزيد، وهذه النسبة التامّة يمكن تفسيرها بأحد شكلين: فإمّا أن يفرض أنّها تماماً كالنسبة التصادقيّة بين زيد وعالم في قولنا: «زيد عالم». وإذا كان الأمر كذلك تعيّن بعد ذكر كلمة زيد: أنّ مقصود المتكلّم من «ضرب» كان هو المعنى الأوّل، أعني: أنّ الركن الأصليّ في تلك الماهية التي ترجع بالتحليل العقليّ إلى الضرب وذات ما ونسبة صدوريّة هو الذات، فكأنّما قال: «ذات له الضرب زيد» ومن الواضح عندئذ وجود النسبة التصادقيّة (بمعنى تصادق عنوانين على معنون واحد) بين تلك الذات وزيد.

وإمّا أن يفرض أنّها عبارة عن النسبة التصادقيّة بين الضرب وزيد، فكأنّما

180

جعل الركن الأصليّ في مفاد «ضرب» هو الضرب، إلاّ أنّ المقصود من النسبة التصادقيّة هنا هو التصادق على مركز واحد، حيث إنّ هناك فرقاً بين أن يفرض الضرب منسوباً بنسبة تحليليّة إلى ذات، ويفرض زيد متّحداً مع ذات اُخرى، أو يفرض الضرب منسوباً بنسبة تحليليّة إلى ذات، ويفرض زيد متّحداً مع تلك الذات؛ فإنّه توجد في الفرض الثاني نسبة والتصاقٌ بين الضرب وزيد غير موجودين بينهما في الفرض الأوّل، وهي نسبة تصادق المنتزعين على مركز واحد، لا التصادق على معنون واحد، فيقال: إنّ هيئة «ضرب زيد» تدلّ على هذه النسبة والالتصاق، أو التصادق في المركز، لا في المعنون(1).

 


(1) هذا البحث الذي أفاده اُستاذنا الشهيد(قدس سره) هنا يتّضح به الجواب على إشكال ينجم قهراً عن الطريقة التي اتّبعها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في فهم معنى هيئة الجملة التامّة، وهيئة الجملة الناقصة، وحقيقة النسبة التامّة والناقصة، والإشكال ما يلي:

بعد أن ساقنا البرهان إلى أنّ النسبة متى ما كان الذهن فيها طفيليّاً على الخارج فهي تحليليّة، ومتى ما كانت تحليليّة فمرجع الأمر إلى التحصيص، ومتى ما رجع الأمر إلى التحصيص كانت النسبة ناقصة، ولم يصحّ السكوت عليه، أمّا في جملة المبتدأ والخبر مثل: «زيد قائم» فالنسبة غير مأخوذة من الخارج؛ إذ لا اثنينيّة في الخارج بين زيد وقائم حتّى تكون بينهما نسبة في الخارج، فهي نسبة ذهنيّة واقعيّة يصحّ السكوت عليها، نرى: أنّ هذا الأمر الذي انتهينا إليه يخلق لنا مشكلةً في الجملة الفعليّة مثل «ضرب زيد» وهي: أنّه لا شكّ في أنّ جملة «ضرب زيد» جملة تامّة يصحّ السكوت عليها، في حين أنّه لا شكّ في أنّ النسبة بين ضرب وزيد، وهي ـ على ما اشتهر ـ نسبة صدوريّة موطنها الأصليّ هو الخارج، والذهن فيها متطفّل على الخارج، فإنّ الضرب لا يصدر عن زيد في الذهن، وإنّما يصدر عنه في الخارج، إذن فالبرهان السابق يجرّنا إلى القول بأنّ هذه النسبة تحليليّة تحصيصيّة ناقصة. وهذا البرهان يناقض الوجدان القائل بأنّ النسبة في «ضرب

181


زيد» نسبة تامّة يصحّ السكوت عليها.

والجواب يكون من أحد وجهين:

الوجه الأوّل: ما جاء في المتن، من أنّ هذا الإشكال نتج من تخيّل وجود حرف واحد دالّ على النسبة في «ضرب زيد»، في حين أنّ هذا البرهان مع ذاك الوجدان يبرهنان لنا وجود نسبتين مفهومتين بهيئتين: إحداهما: نسبة ناقصة مفهومة من هيئة الفعل؛ وذلك قضاءً لحقّ النسبة الصدوريّة المفهومة من كلمة «ضَرَب»، والاُخرى: نسبة تامّة مفهومة من هيئة الجملة الفعليّة، وهي «ضرب زيد»، وذلك قضاءً لحقّ كون «ضرب زيد» جملة تامّة.

ولهذه النسبة أحد تفسيرين تبعاً لمحتملي معنى «ضرب»:

التفسير الأوّل: كونها نسبة تصادقيّة بين الموضوع والمحمول، تماماً من سنخ النسبة في «زيد قائم»، وهذا بتبع فرض الركن الأصليّ في الماهية التحليليّة لـ «ضَرَب» هو الذات، فكأنّما قال: «ذات ضاربة زيد».

والتفسير الثاني: كونها نسبة تصادقيّة بلحاظ المركز، وهذا بتبع فرض الركن الأصليّ في الماهية التحليليّة لـ «ضَرَب» هو الضرب، فيكون المقصود بالنسبة التصادقيّة هنا هو التصادق بلحاظ المركز، باعتبار أنّ مركز عنوان الضرب متّحد خارجاً مع مركز عنوان زيد في مجموع مركّب من عرض ومحلّ.

الوجه الثاني: ما جاء نقله عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في كتاب السيّد الهاشميّ ـ حفظه الله ـ في الجزء الأوّل ص 310 ـ 311 بعنوان فرضيّة ثانية لتشخيص مدلول الفعل، وكأنّه من إضافته(رحمه الله) في وقت طبع الكتاب، وهو: أن يفترض في المقام وجود حرف واحد، وهو هيئة الفعل، لا وجود حرفين، وأنّ هيئة الفعل تدلّ على تلك النسبة التصادقيّة (ويقصد بها التفسير الثاني من التفسيرين الماضيين، أعني: التصادق بلحاظ المركز). وأمّا النسبة الصدوريّة فهي مأخوذة ضمن مادّة الفعل دون هيئة، ولا دلالة لهيئة الجملة الفعليّة في

182


«ضرب زيد» على نسبة من النسب، وإنّما كان ذكر الفاعل وهو زيد لتشخيص الفاعل في شخص معيّن.

أمّا لماذا نفترض أنّ النسبة الصدوريّة مأخوذة ضمن المادّة، لا ضمن هيئة الفعل؟ فله وجهان:

الأوّل: أن يكون هذا مجرّد فرض في مقابل الفرض الأوّل؛ وذلك لأنّ المتيقّن هو وجود نسبتين في مثل «ضرب زيد»: نسبة صدوريّة، كما هو مفهوم بوضوح من هذا الكلام، ونسبة تامّة، بدليل أنّ هذا الكلام تامّ، في حين أنّ النسبة الصدوريّة ناقصة، وهذا المتيقّن كما يمكن فرض تفسيره بإرجاع النسبة الصدوريّة إلى هيئة الفعل، وإرجاع النسبة التامّة إلى هيئة الجملة، كذلك يمكن فرض تفسيره بإرجاع النسبة الصدوريّة إلى مادّة الفعل(1) وإرجاع النسبة التامّة إلى هيئته.

والثاني: أن نثبت ذلك بالبرهان، وهذا البرهان موقوف على الإيمان بما يقال من أنّ وضع الهيئات وضع نوعيّ، فمبنيّاً على ذلك نقول: إنّ النسبة المفهومة من الفعل ليست دائماً هي الصدوريّة، بل يختلف ذلك باختلاف الموادّ، ففي بعضها تفهم النسبة الصدوريّة، وفي بعضها الآخر تفهم النسبة الحلوليّة، أو غير ذلك، فلو اُوعزت هذه النسب إلى الهيئة كان هذا خلف فرض كون وضع الهيئة وضعاً نوعيّاً، إذن فينحصر الأمر في إيعازها إلى المادّة.

أقول: بناءً على كلّ ما مضى تحصّلت لنا حتّى الآن وجوه ثلاثة لحلّ مشكلة تصادم البرهان والوجدان في مثل «ضرب زيد»:

1 ـ فرض هيئتين ونسبتين حرفيّتين: إحداهما ناقصة مستفادة من هيئة الفعل، والاُخرى تامّة مستفادة من هيئة الجملة، وهي عين النسبة التصادقيّة المفهومة من مثل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ودمج النسبة الناقصة في المعنى الاسميّ لاعيب فيه؛ لأنّها نسبة تحليليّة لا واقعيّة.

183


«زيد قائم» أو «زيد ضارب» ونحو ذلك.

2 ـ عين الأوّل مع الفرق بأنّ النسبة التصادقيّة المستفادة من هيئة الجملة تكون بلحاظ المركز، لا بلحاظ اتّحاد الطرفين في الخارج تماماً.

3 ـ فرض نسبة حرفيّة واحدة تامّة، وهي النسبة التصادقيّة بالمعنى الثاني، وأمّا النسبة الصدوريّة فهي مندكّة ضمن معنى المادّة.

والقاسم المشترك بين الأوّل والثاني هو فرض معنيين حرفيّين، والقاسم المشترك بين الثاني والثالث هو فرض النسبة التصادقيّة بلحاظ المركز، لا بلحاظ ذات المعنون الذي يفنى فيه العنوانان.

وما جاء في كتاب السيّد الهاشميّ ـ ج 1، ص 272 ـ في تفسير الجملة الخبريّة الفعليّة منحصر في فرض النسبة التصادقيّة بلحاظ انطباقهما على مركز واحد مركّب من العرض ومحلّه، دون التصادق بمعنى انطباقهما على واقع واحد. وهذا يعني حصر حلّ الإشكال في المقام بالوجه الثاني والثالث، دون الأوّل.

أمّا السبب في حذف النسبة التصادقيّة بمعنى التصادق على واقع واحد في المقام، فالظاهر أنّه يعود إلى نكتة جاء ذكرها في نفس المجلّد، ص 307 ـ 308، وهي عبارة عن إيراد إشكال على فرض نسبتين وهيئتين، وهما هيئة الفعل وهيئة الجملة الفعليّة، مع حلّ الإشكال:

أمّا الإشكال فهو: أنّه كيف يُفترض فهم النسبة الصدوريّة الناقصة من هيئة الفعل في حين أنّها بحاجة إلى طرفين: أحدهما: مادّة الفعل، وهي موجودة في الكلام، والآخر: فاعل مّا، وهذا غير موجود في الكلام؛ لأنّ الذي فرض في الكلام فاعلاً قد جعل حسب الفرض طرفاً للنسبة التامّة(1) لا الناقصة، وهذا يعني وجود نسبة ناقصة ذات طرف واحد وهو غير معقول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ومعه لا يمكن أن يكون طرفاً لنسبة ناقصة أيضاً؛ لأنّ ما يكون طرفاً لنسبة ناقصة يكون

184


وأمّا الحلّ، فهو: أنّنا لا نفترض أنّ هيئة الفعل دلّت على النسبة بمعناها التضايفيّ الذي هو بحاجة إلى طرفين، بل نقول: إنّها دلّت على حالة وخصوصيّة في الضرب، فإنّ الضرب تارة يلحظ بما هو حالّ، وهو الضرب الذي يضاف إلى المفعول، واُخرى يلحظ بما هو صادر، وهو الضرب الذي يضاف إلى الفاعل، فالهيئة في المقام دلّت على النحو الثاني، لا بمعنى أخذ مفهوم الصدور الذي هو معنىً اسميّ واستقلاليّ، بل بما هي حالة فانية ومندكّة في المادّة، سنخ فناء بعض الحروف التي لا تدلّ على النسبة بين طرفين، بل تتقوّم بطرف واحد، من قبيل لام التعريف بأقسامه الذي يدخل على الاسم.

أقول: بناءً على هذا، إذن لا يمكن إرجاع «ضرب» إلى ذات لها الضرب؛ لأنّ الذات الفاعلة غير مأخوذة في الكلام، فينحصر الأمر في إرادة ما يرجع إلى معنى «ضرب صادر»، فتتعيّن النسبة التصادقيّة بين الفعل والفاعل في التصادق بلحاظ المركز.

أمّا الذي كان يقصده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في وقت البحث، فهو لم يكن عبارة عن دعوى دلالة هيئة «ضَرَبَ» على مجرّد النسبة الصدوريّة من دون التفات إلى طرفها الثاني، حتّى يقال: كيف يتعقّل قيام النسبة بطرف واحد؟ أو كيف يتعقّل أن يكون «زيد» المذكور في الكلام طرفاً لكلتا النسبتين: التامّة والناقصة؟ ويجاب على ذلك بأنّ معنى الهيئة هنا شبيهة بلام التعريف، بل كان عبارة عن دعوى دلالة الهيئة على تلك النسبة الناقصة، وعلى ذات مّا، لا بمعنى: أنّ الهيئة اشتملت على معنىً اسميّ باستقلاله، وهو معنى الذات، بل بمعنى: أنّ الهيئة دلّت على النسبة الصدوريّة المقيّدة بالذات. ←

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قد انصهر بحكم النسبة الناقصة مع الطرف الآخر في حصّة، فكيف يمكن أن يكون بوحده طرفاً لنسبة اُخرى؟! فلا يقاس هذا بمثل «زيد عالم عادل» مثلاً الذي لو فرض فيه كلّ من عالم وعادل خبراً مستقلاّ، لا بمجموعهما خبراً واحداً، لكان زيد طرفاً لنسبتين تامّتين.

185


إلاّ أنّه لا يخفى أنّ هذا أيضاً لا ينسجم مع تأويل «ضَرَب» إلى ذات لها الضرب؛ لأنّ الذات الذي هو المعنى الاسميّ يصبح عندئذ هو الركن الأساس في معنى الهيئة، وذلك غير محتمل في باب الهيئات.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه لو دار الأمر في حلّ مشكلة التصادم بين الوجدان والبرهان في الجملة الفعليّة من قبيل «ضرب زيد» بين الوجه الأوّل والثاني من الوجوه الثلاثة الماضية، فالثاني أولى؛ وذلك لأنّ الأوّل، وهو فرض النسبة التامّة نسبة تصادقيّة بين عنوان الذات الضاربة وزيد على معنون واحد يستدعي كون مفاد «ضَرَب» نسبة ناقصة بين الضرب وذات مّا، وهذا لا يكون إلاّ بأحد شكلين:

الأوّل: أن نفترض أنّ الركن الأساس المستفاد من الهيئة هو الذات الذي هو معنىً اسميّ، وهذا غير محتمل.

والثاني: أن نفترض مؤونة الحذف أو ما أشبهه في المقام، بأن نقدّر كلمة الذات مثلاً؛ لأنّ كلمة زيد الموجودة في الكلام قد فرضت طرفاً للنسبة التامّة، فلا يعقل أن تكون في نفس الوقت طرفاً للنسبة الاُخرى أيضاً، في حين أنّنا لا نحسّ في جملة «ضرب زيد» بمؤونة من هذا القبيل.

فينحصر الأمر: إمّا بافتراض أنّ الهيئة الناقصة في الفعل دلّت على حالة في الضرب الملحوظ، وهي الضرب بما هو صادر، لا بما هو حالّ، فليس المعنى الحرفيّ هنا بحاجة إلى طرف ثان، وهو الذات، أو بافتراض أنّ تلك الهيئة دلّت على النسبة الصدوريّة إلى الذات، من دون أن تكون الذات هي الركن الأساس في مفاد الهيئة، فيصبح مفاد «ضَرَب» أيضاً هي الضرب المتحصّص بالصدور عن ذات، وعلى كلا الافتراضين يبطل الوجه الأوّل، وينحصر الأمر بالوجه الثاني، وهو كون مفاد «ضَرَبَ» ضرب ذات، أو ضرب ملحوظ بما هو حالّ، وكون مفاد هيئة الجملة عبارة عن نسبة تصادقيّة بمعنى التصادق في المركز، لا في المعنون.

186


يبقى الكلام في أنّه لو دار الأمر بين هذا الوجه والوجه الثالث، فأ يّهما أولى؟ أي: هل الأصحّ: كون النسبة الناقصة مفهومة من هيئة الفعل، والنسبة التامّة مفهومة من هيئة الجملة؟ أو الأصحّ: أنّ نفس هيئة الفعل دلّت على النسبة التامّة، وأمّا تحصيص الضرب بالنسبة الصدوريّة الناقصة فمندمج في نفس مفهوم مادّة الفعل؟

قد يقال: إنّ الأخير هو الأصحّ؛ وذلك لأنّ النسبة الناقصة الكامنة في الفعل ليست دائماً صدوريّة، فقد تكون حلوليّة، فهناك فرق واضح مثلاً بين «ضَرَبَ» و«مات»، حيث إنّ الأوّل يدلّ على نسبة صدوريّة، والثاني يدلّ على نسبة حلوليّة. وهذا الفرق لا يمكن إيعازه إلى الهيئة؛ لأنّ الهيئة فيهما واحدة، إذن فلابدّ من إيعازه إلى المادّة؛ لأنّها متعدّدة.

وفي مقابل هذا البيان يمكن أن يعكس الأمر، ويقال: إيعاز الفرق إلى الهيئة أولى منه إلى المادّة؛ وذلك لأنّ هناك فرقاً واضحاً بين «ضَرَب» بصيغة المبنيّ للفاعل و«ضُرِب» بصيغة المبنيّ للمفعول، فالأوّل يدلّ على نسبة صدوريّة، والثاني يدلّ على نسبة حلوليّة، أو وقوعيّة. وهذا الفرق لا يمكن إيعازه إلى المادّة؛ لأنّ المادّة فيهما واحدة، فلابدّ من إيعازه إلى الهيئة؛ لأنّها في أحدهما عبارة عن هيئة المبنيّ للفاعل، وفي الآخر عبارة عن هيئة المبنيّ للمفعول، فهي فيهما متعدّدة، فلابدّ من أن يكون الفرق مستنداً إليها، لا إلى المادّة.

وحاصل الكلام: أنّ اختلاف «ضَرَب» المبنيّ للفاعل، و«مات» في الصدوريّة والحلوليّة يبرهن على أنّ الصدوريّة والحلوليّة منتسبتان إلى المادّة، لا الهيئة؛ لأنّ المادّة هي التي اختلفت في المثالين دون الهيئة، ولكن اختلاف «ضَرَب» المبنيّ للفاعل و«ضُرِب» المبنيّ للمفعول في الصدوريّة والحلوليّة، أو في الصدوريّة والوقوعيّة يبرهن على أنّ ذلك منتسب إلى الهيئة، لا المادّة؛ لأنّ الهيئة هي التي اختلفت في المثالين، دون المادّة.

وهذا التضادّ المشاهَد بين البرهانين هنا موجود بعينه في المشتقّات، كاسم الفاعل

187


واسم المفعول، فمن ناحية نرى أنّ النسبة الناقصة الكامنة في كلمة «ضارِب» نسبة صدوريّة، ولكنّها في كلمة «نائم» نسبة حلوليّة. وهذا يشهد لكون النسبتين مفهومتين من المادّة، لا من هيئة اسم الفاعل؛ لأنّ المادّة هي التي اختلفت من مثال إلى مثال، دون الهيئة، ومن ناحية اُخرى نرى أنّ النسبة الناقصة الكامنة في كلمة «ضارِب» نسبة صدوريّة، ولكنّها في كلمة «مضروب» نسبة حلوليّة، أو وقوعيّة. وهذا يبرهن على أنّ مردّ الفرق يكون إلى الفرق في الهيئة؛ لأنّ المادّة فيهما واحدة.

ولا أظنّ أنّ هناك حلاًّ لهذا التضادّ، إلاّ أحد أمرين:

الأوّل: أن تنكر فرضيّة كون الهيئة موضوعة بوضع نوعيّ، ويقال: إنّ كلّ كلمة بمادّتها وهيئتها موضوعة لمعنىً، فـ«ضَرَب» المبنيّة للفاعل بمادّتها وهيئتها موضوعة للمعنى المشتمل على جانب الصدور، و«ضُرِب» المبنيّة للمفعول بمادّتها وهيئتها موضوعة للمعنى المشتمل على جانب الحلول أو الوقوع عليه، و«نام» أو «مات» أو نحو ذلك أيضاً موضوعة بمادّتها وهيئتها للمعنى المشتمل على جانب الحلول، وكلمة «ضارِبٌ» موضوعة بمادّتها وهيئتها على معنى اسم الفاعل الصدوريّ، وكلمة «نائم» موضوعة بمادّتها وهيئتها على معنى اسم الفاعل الحلوليّ، وكلمة «مضروب» بمادتّها وهيئتها موضوعة على معنى اسم المفعول الحلوليّ، أو الوقوعيّ، وكلمة «الميّت» موضوعة بمادّتها وهيئتها على معنى اسم الفاعل الحلوليّ، وكلمة «المُمِيت» موضوعة بمادّتها وهيئتها على معنى اسم الفاعل الصدوريّ ... وما إلى ذلك. وعليه، ففي «ضرب زيد» نقول: إنّ النسبة الصدوريّة مستندة إلى الفعل بمادّته وهيئته، والنسبة التامّة مستفادة من هيئة الجملة الفعليّة، لا من هيئة الفعل، وتلك نسبة تصادقيّة بمعنى التصادق على مركز واحد، لا على معنون واحد.

والثاني: أن يحتفظ على ما قد يقتضيه الذوق من فرض معنىً موحّد للمادّة التي تتقلّب ضمن الهيئات المختلفة، وفرض معنىً موحّد أيضاً للهيئة التي تتقلّب ضمن الموادّ


188


المختلفة، ويحلّ التضادّ الذي شاهدناه بين البرهانين بالفرضيّة التالية، وهي: أنّ الموادّ في معناها الأصليّ تختلف من الصدوريّة إلى الحلوليّة، فالضرب في معناه الأصليّ معنىً صدوريّ، وحتّى في المصدر المضاف إلى المفعول به كما في قولنا: «قتل المؤمن جريمة لا تغتفر» نرى المصدر محتفظاً بمعناه الصدوريّ، ولولا احتفاظه بمعناه الصدوريّ لما كان يعتبر جريمة، إلاّ أنّه نسب إلى المفعول به بنسبة تحصيصيّة إضافيّة، فالقتل الذي هو مشتمل على جانب الصدور له حصّتان:

إحداهما: قتل يكون مفعوله المؤمن.

والثانية: قتل يكون مفعوله الكافر مثلاً. والموت في معناه الأصليّ حلوليّ، وهذه الصدوريّة والحلوليّة الأصليّتان راجعتان إلى المادّة، لا الهيئة، ولكن ربما يريد المتكلّم تحويل الصدوريّة إلى الحلوليّة أو العكس، وعندئذ يستعين في وصوله إلى هذا الهدف بتغيير الهيئة من المعلوم إلى المجهول، أو من اللازم إلى هيئة التعدية، فكلمة «ضَرَب» التي كانت بمادّتها صدوريّة يحوّلها إلى الهيئة المبنيّة للمفعول بقوله: «ضُرِب» بضمّ الضاد وكسر الراء، فيصبح معناه حلوليّاً، أو وقوعيّاً، وهذا التبدّل مستند إلى الهيئة، وكذلك يبدّل صيغة اسم الفاعل، وهو «ضارب» إلى صيغة اسم المفعول، وهو مضروب، فيتحوّل المعنى من الصدوريّة إلى الحلوليّة، أو الوقوعيّة، وهذا التحوّل مستند إلى الهيئة. وكلمة «مات» التي كانت بمادّتها حلوليّة يحوّلها إلى هيئة باب الإفعال بقوله: «أمات»، فيتحوّل إلى المعنى الصدوريّ، وهذا التحوّل مستند إلى الهيئة.

والخلاصة: أنّ الصدوريّة والحلوليّة الأصليّتين مستندتان إلى الموادّ، بمعنى: أنّ بعض الموادّ بخميرتها الأصليّة تقتضي الصدوريّة، وبعضها بخميرتها الأصليّة تقتضي الحلوليّة، أو ما شابهها، والهيئة هي التي تعيّن وصول تلك الخميرة الصدوريّة أو الحلوليّة إلى الفعليّة، أو انقلابها في عالم الفعليّة إلى ما يخالف ذلك، فمثلاً هيئة المبنيّ للفاعل وضعت لإبقاء الخميرة الأصليّة على حالها، وكذلك هيئة اسم الفاعل، في حين أنّ هيئة المبنيّ

189

فإن قلت: هناك احتمال آخر، وهو أن تكون النسبة التامّة في «ضرب زيد» بين الضرب وصادر، والنسبة الناقصة بين الضرب وزيد، فكأنّما قال: «ضربُ زيد صادر».

قلت: هذا إنّما يكون معقولاً لو فرض أنّ مجموع «ضرب زيد» وضع لهذا المعنى، أي: معنى «ضرب زيد صادر». وأمّا بناء على النظرة التجزيئيّة، واستفادة الصدور من «ضرب» وإن لم يذكر الفاعل، كما يشهد لذلك الوجدان، فلابدّ من افتراض: أنّ استفادة الصدور من «ضرب» ليست إلاّ بمعنى دلالته على النسبة الصدوريّة الناقصة، فلابدّ أن تكون النسبة التامّة مستفادة من الجملة بالنحو الذي بيّنّاه. وأمّا إذا أردنا أن نفرض النسبة الناقصة بين الضرب وزيد، بأن يكون زيد في قولنا: «ضرب زيد» طرفاً للنسبة الناقصة، فالنسبة التامّة يجب أن تفترض استفادتها من هيئة «ضرب» بأن تكون هيئتها دالّة على النسبة التامّة للضرب المقيّدة بكون طرفها الآخر صادر، فيفهم بالتبع معنى «صادر». وهذا معناه أن يكون «ضرب» جملة تامّة يصحّ السكوت عليها، كما يصحّ السكوت على جملة «الضرب صادر»، بينما من الواضح: أنّه لا يصحّ السكوت على «ضرب»، بل يأتي السؤال عن باقي الكلام، وهو الفاعل، بخلاف مثل «الضرب صادر».

فخلاصة المقصود من تمام ما ذكرناه: أنّ جملة «ضرب زيد» مشتملة على


للمفعول، أو هيئة اسم المفعول موضوعة لتبديل الخميرة الأصليّة الصدوريّة إلى الحلوليّة، أو ما أشبهها، وهيئة باب الإفعال موضوعة لتبديل الحلوليّة إلى الصدوريّة مثلاً ... وهكذا. وعليه، فالنسبة الفعليّة الصدوريّة أو الحلوليّة تفهم بتعاون بين المادّة والهيئة، إذن فالنسبة التامّة في «ضرب زيد» مستفادة من هيئة الجملة لا من هيئة الفعل، وتلك نسبة تصادقيّة، بمعنى التصادق على مركز واحد لا على معنون واحد.

190

نسبتين: إحداهما: نسبة تامّة مستفادة من هيئة الجملة، وهي نسبة بين ذات مّا وزيد، أو بين الضرب وزيد، على ما عرفت تفصيله، والاُخرى: نسبة ناقصة دلّت عليها هيئة الفعل، فهيئة الفعل تدلّ على نسبة ناقصة للمبدأ، وهو الضرب مثلاً مقيّدة بكون طرفها الآخر عبارة عن ذات مّا، فتدلّ بالتبع على ذات مّا من باب دلالة المقيّد على قيده. وهذا التعبير منّا مجاراة مع ما يقال عادة في مثل الحروف الدالّة على النسب الناقصة من أنّها موضوعة بإزاء نفس النسبة، فكلمة «في» في مثل: «نار في الموقد» موضوع للنسبة الظرفيّة الناقصة. وأمّا بعد أن عرفت من أنّ النسبة الناقصة هي جزء تحليليّ من ماهية وجود ذهنيّ واحد، وليست نسبة واقعيّة، فالتعبير الدقيق هو أن يقال: إنّ «نار في الموقد» بتمامه موضوع لإفهام ذاك المعنى الواحد، وإنّ «ضرب» موضوع بمادّته وهيئته لإفهام معنىً واحد، وهو معنىً يرجع بالتحليل الماهويّ إلى الضرب، وذات مّا، ونسبة ناقصة بينهما، لا أنّ المادّة تدلّ على الضرب، والهيئة تدلّ بالمطابقة على النسبة المقيّدة، وبالتبع على قيدها، وهو ذات مّا.

ثُمّ إنّ ما ذكرناه ليس تمام الكلام في مفاد هيئة الفعل، بل هناك نكات اُخرى لعلّنا نذكرها في بحث المشتقّ(1).

 

هيئة الجملة الإنشائيّة:

بقي الكلام في الجملة التامّة الإنشائيّة، فنقول:

إنّ حال الجملة الإنشائيّة عند السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ هو حال الجملة


(1) الظاهر: أنّه لم يرد في بحث المشتقّ حديث عن هيئة الفعل، ولكن يوجد في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله (ج 1، ص 306 ـ 314) حديث مفصّل عن هيئة الفعل، فراجع.

191

الخبريّة عنده من حيث إنّها موضوعة لأمر نفسانيّ تدلّ عليه دلالة تصديقيّة، وإنّما الفرق في ذلك الأمر النفسانيّ. فالجملة الخبريّة موضوعة لإبراز قصد الحكاية، والجملة الاستفهاميّة كـ «هل زيد عالم» موضوعة لإبراز أمر نفسانيّ آخر، وهو طلب الفهم، أي: أنّها تكشف عن فرد جزئيّ من طلب الفهم قائم في نفس المتكلّم، وجملة التمنّي مثل «ليت النبيّ(صلى الله عليه وآله) حيّاً» موضوعة لإبراز أمر نفسانيّ ثالث، وهو التمنّي، فتدلّ على وجود تمنّ جزئيّ في نفس المتكلّم ... وهكذا.

وهذه الدلالات التصديقيّة من إبراز قصد الحكاية في الخبر، وطلب الفهم، أو التمنّي، أو غير ذلك في الإنشاء كلّها مقبولة عندنا وعند المشهور، لكنّها ليست وضعيّة، بل ناشئة من قرائن سياقيّة، وظهور حال المتكلّم، وما يكشفه من ملابسات؛ لما عرفت بالبرهان من أنّه لا يمكن أن يكون الوضع وافياً بالدلالات التصديقيّة، فلابدّ في مرتبة سابقة على هذه الدلالات التصديقيّة من تصوّر دلالة تصوّريّة لتكون هي المدلول الوضعيّ، وهي محفوظة حتّى لو سمع اللفظ من اصطكاك حجرين، فبهذا تعيّن المصير إلى مسلك المشهور.

وتحقيق الحال في المقام: أنّ الجمل الإنشائيّة تنقسم إلى قسمين:

إحداهما: ما تكون مشتركة بين الإخبار والإنشاء، فقد تستعمل في الإخبار، واُخرى في الإنشاء، من قبيل: «أنت طالق» أو «بعتك هذا الكتاب بدينار».

والاُخرى: ما تكون متمحّضة في الإنشاء كـ «هل زيد قائم؟».

أمّا القسم الأوّل: فمدلوله التصوّريّ الوضعيّ هو عين ما شخّصناه سابقاً في الجملة الخبريّة، ولا فرق عند المشهور في المدلول التصوّريّ الوضعيّ بين «أنت طالق» الإنشائيّ و«أنت طالق» الأخباريّ. وقد حقّقنا في الإخبار أنّ مدلوله هو النسبة التامّة التصادقيّة، وأمّا الإنشائيّة والإخباريّة فهي من الدلالات التصديقيّة،