60

5 ـ رأيت ذات ليلة في عالم الرؤيا أنّ نبيّاً من الأنبياء(عليهم السلام) قد حضر بحث اُستاذنا(قدس سره)، وتشرّفت بعد هذا ذات يوم بلقاء اُستاذنا الشهيد في بيته الذي كان واقعاً ـ وقتئذ ـ في شارع الخَوَرنق، وحكيت له الرؤيا، فقال(رحمه الله)لي: إنّ تعبير هذه الرؤيا هو أ نّني لن اُوفّق لتطبيق رسالتي التي نذرت نفسي لأجلها، وسيأتي تلميذ من تلاميذي يكمل الشوط من بعدي. ذكر (رضوان الله عليه) هذا الكلام في وقت لم يكن يخطر بالبال أنّه ستأتي ظروف تؤدّي إلى استشهاده.

6 ـ كان يقول (رضوان الله عليه): إنّني في أيّام طلبي للعلم كنت أعمل في ذلك كلّ يوم بقدر عمل خمسة أشخاص مجدّين.

7 ـ وقال ـ أيضاً(رحمه الله) ـ: إنّني كنت أعيش في منتهى الفقر والفاقة، ولكنّني كنت أشتغل منذ استيقاظي من النوم في كلّ يوم بطلب العلم، ناسياً كلّ شيء، وكلّ حاجة معيشيّة إلى أن كنت اُفاجأ من قبل العائلة بمطالبتي بغذاء يقتاتون به فأحتار ـ عندئذ ـ في أمري.

8 ـ أدركت الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) فيما بعد أيّام فقره وفاقته حينما كان مدرّساً معروفاً في الحوزة العلميّة في النجف الأشرف، ومع ذلك كان يعاني الضيق المالي، وكان يدرّسنا في مقبرة آل ياسين في حرِّ الصيف، ولم تكن وسيلة تبريد في تلك المقبرة، ولم يمتلكها في بيته أيضاً. وكان المتعارف ـ وقتئذ ـ في النجف الأشرف عدم وجود عطلة صيفيّة لطلاّب الحوزة العلميّة، فالطلبة كانوا يدرسون حتّى في قلب الحرّ الشديد.

61

ولا أنسى أنّ المرحوم السيّد عبدالغنيّ الأردبيليّ(رحمه الله) تشرّف ذات يوم بخدمته في بيته الواقع في محلّة العمارة فيما بعد الزقاق المسمّى بــ (عقد الإسلام)، وقال له: إنّ الحرّ شديد، وطلاّبك يعانون الحرّ في ساعة الدرس في مقبرة آل ياسين، فأذن لنا بشراء مبرّدة نضعها في المقبرة؛ لتبريد الجوّ، ولي صديق من التركمان في شمال العراق من بيّاعي المبرّدات، وهو مستعد لتزويدكم بمبرّدة بسعر التكْلِفَة، وهو سعر يسير، ويقسّط السعر عليكم أشهراً عديدة، ولايأخذ منكم في كلّ شهر عدا دينارين، فسكت اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)خجلاً وحياءً من أن يقول: إنّ وضعي الاقتصاديّ لايسمح بهذا. ولكن المرحوم السيّد عبدالغنيّ اعتقد أنّ السكوت من الرضا، فاستورد مبرّدة، ووضعها في المقبرة، ثُمَّ أخبر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)بما فعل، فرأيت وجه اُستاذنا قد تغيّر حيرة في كيفية دفع هذا المبلغ اليسير، إلاّ أنّ المرحوم السيّد عبدالغنيّ(رحمه الله) لم ينتبه إلى ذلك، وعلى أىّ حال، فقد التزم اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)بدفع المبلغ. ولاأعرف كيف كان يؤمّن ما عليه، إلاّ أ نّني كنت أعلم أنّه كان يدفع كلّ شهر دينارين إلى السيّد عبدالغنيّ(رحمه الله)؛ كي يدفعهما إلى صاحبه أداءً للدين.

9 ـ تربيته لأطفاله، كان يقول(رحمه الله): إنّ تربية الطفل بحاجة إلى شيء من الحزم والخشونة من ناحية، وإلى اللين والنعومة وإبراز العواطف من ناحية اُخرى. وقد تعارف عندنا في العوائل أنّ الأب يقوم بالدور الأوّل، والاُمّ تقوم بالدور الثاني. قال(رحمه الله): ولكنّني اتّفقت مع (اُمِّ مرام) على عكس ذلك، فطلبت منها أن تقوم بدور الحزم

62

والخشونة مع الأطفال لدى الحاجة؛ كي أتمحّض أنا معهم في اُسلوب العواطف، واللّين، وإبراز الحبّ والحنان؛ والسبب في ذلك أنّه كان يرى نفسه أقدر على تربية أطفاله على العادات والمفاهيم الإسلاميّة، فكان يريد للأطفال أن لايروا فيه عدا ظاهرة الحبّ والحنان؛ كي يقوى تأثير ما يبثّه في نفوسهم من القيم والأفكار، فلابدّ للتربية من خشونة وصلابة عن طريق الاُمّ حيث تقتضي ذلك.

كان يقول(رحمه الله): إنّي نفثت في نفس ابنتي مرام ـ وكانت وقتئذ طفلة صغيرة ـ الحقد على الصهاينة، قال: قد صادف أن حدّثتها ذات يوم عن ظلمهم للمسلمين من قتل، أو قصف، فبان عليها انكسار الخاطر، وتكدّر العيش، فأردفت ذلك بذكر قِصّة اُخرى من حكايات قصف المسلمين لإسرائيل، فاهتزّت فرحاً، وضحكت، واستبشرت لتلك القِصّة.

وكثيراً ما كان يصل إليه(رحمه الله) من الحقوق الشرعيّة ما يصل عادة إلى يد المراجع، ولكنّه(رحمه الله)قال: إنّي فهّمت ابنتي مرام أنّ هذه الأموال الموجودة لدينا ليست ملكاً لنا، فكانت هذه الطفلة البريئة تقول أحياناً: إنّ لدى والدي الأموال الكثيرة، ولكنّها ليست له؛ ذلك لكي لاتتربّى على توقّع الصرف الكثير في البيت، بل تتربّى على القناعة، وعدم النظر إلى هذه الأموال كأملاك شخصيّة.

10 ـ في الفترة التي عيّنت حكومة البعث الغاشم ستّة أيّام لتسفير الإيرانيين بما فيهم طلاّب الحوزة العلميّة من النجف إلى إيران رأيت أحد طلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف مودّعاً لاُستاذنا

63

الشهيد(قدس سره)، فرأيت الاُستاذ يبكي في حالة وداعه إيّاه بكاء الثكلى على رغم من أنّه كان يعرف أن هذا الرجل يعدّ في صفوف المناوئين له.

11 ـ وبعد تلك الأيّام حدّثني الاُستاذ(رحمه الله) ذات يوم، فقال: إنّني أتصوّر أنّ الاُمّة مبتلاة اليوم بالمرض الذي كانت مبتلاة به في زمن الحسين(عليه السلام)، وهو مرض فقدان الإرادة، فالاُمّة تعرف حزب البعث والرجال الحاكمين في العراق، ولاتشكّ في فسقهم، وفجورهم، وطغيانهم، وكفرهم، وظلمهم للعباد، ولكنّها فقدت قوّة الإرادة التي بها يجب أن تصول وتجاهد في سبيل الله إلى أن تسقط هذه الزمرة الكافرة عن منصب الحكم، وترفع جاثوم هذا الظلم عن نفسها. وعلينا أن نعالج هذا المرض؛ كي تدبَّ حياة الإرادة في عروق هذه الاُمّة الميّتة؛ وذلك بما عالج به الإمام الحسين(عليه السلام) مرض فقدان الإرادة في نفوس الاُمّة وقتئذ، وهو التضحية الكبيرة التي هزّ بها المشاعر، وأعاد بها الحياة إلى الاُمّة إلى أن انتهى الأمر بهذا السبب إلى سقوط دولة بني اُميّة.

فعلينا أن نضحّي بنفوسنا في سبيل الله، ونبذل دماءنا بكلّ سخاء في سبيل نصرة الدين الحنيف، والخطّة التي أرى ضرورة تطبيقها اليوم هي: أن أجمع ثلّة من طلاّبي ومن صفوة أصحابي الذين يؤمنون بما أقول، ويستعدّون للفداء، ونذهب جميعاً إلى الصحن الشريف متحالفين فيما بيننا على أن لانخرج من الصحن أحياء، وأنا أقوم خطيباً فيما بينهم ضدّ الحكم القائم، ويدعمني الثلّة الطيّبة الملتفّة حولي، ونثور بوجه الظلم والطغيان، فسيجابهنا جمع من

64

الزمرة الطاغية، ونحن نعارضهم (ولعلّه قال: ونحمل السلاح) إلى أن يضطرّوا إلى قتلنا جميعاً في الصحن الشريف. وسأستثني ثلّة من أصحابي عن الاشتراك في هذه المعركة؛ كي يبقوا أحياءً من بعدي، ويستثمروا الجوّ الذي سيحصل نتيجة هذه التضحية والفداء.

قال(رحمه الله): إنّ هذا العمل مشروط في رأيي بشرطين:

الشرط الأوّل: أن يوجد في الحوزة العلميّة مستوىً من التقبّل لعمل من هذا القبيل. أمّا لو أطبقت الحوزة العلميّة على بطلان هذا العمل، وكونه عملاً جنونيّاً، أو مخالفاً لتقيّة واجبة، فسوف يفقد هذا العمل أثره في نفوس الاُمّة، ولايعطي ثماره المطلوبة.

والشرط الثاني: أن يوافق أحد المراجع الكبار مسبقاً على هذا العمل؛ كي يكتسب العمل في ذهن الاُمّة الشرعيّة الكاملة.

فلابدّ من الفحص عن مدى تواجد هذين الشرطين:

أمّا عن الشرط الأوّل، فصمَّم الاُستاذ(رحمه الله) على أن يبعث رسولاً إلى أحد علماء الحوزة العلميّة؛ لجسّ النبض، ليعرض عليه هذه الفكرة، ويستفسره عن مدى صحّتها، وبهذا الاُسلوب سيعرف رأي عالم من العلماء كنموذج لرأي يوجد في الحوزة العلميّة. وقد اختار(رحمه الله) بهذا الصدد إرسال سماحة الشيخ محمّد مهدي الآصفي (حفظه الله) إلى أحد العلماء، وأرسله بالفعل إلى أحدهم؛ كي يعرض الفكرة عليه، ويعرف رأيه، ثُمَّ عاد الشيخ إلى بيت اُستاذنا الشهيد، وأخبر الاُستاذ بأنّه ذهب إلى ذاك العالم في مجلسه، ولكنّه لم يعرض عليه الفكرة؛ وكان السبب في ذلك أنّه حينما دخل المجلس رأى أنّ هذا الشخص

65

مع الملتفّين حوله قد سادهم جوّ من الرعب والانهيار الكامل نتيجة قيام الحكومة البعثيّة بتسفير طلبة الحوزة العلميّة، ولاتوجد أرضيّة لعرض مثل هذه الفكرة عليه إطلاقاً.

وأمّا عن الشرط الثاني، فرأى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أنّ المرجع الوحيد الذي يترقّب بشأنه أن يوافق على فكرة من هذا القبيل هو الإمام الخمينيّ ـ دام ظلّه ـ الذي كان يعيش ـ وقتئذ ـ في النجف الأشرف، فلايصحّ أن يكون هذا العمل من دون استشارته، فذهب هو(رحمه الله) إلى بيت السيّد الإمام، وعرض عليه الفكرة مستفسراً عن مدى صحّتها، فبدا على وجه الإمام ـ دام ظلّه ـ التألّم، وأجاب عن السؤال بكلمة (لا أدري). وكانت هذه الكلمة تعني: أنّ السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ كان يحتمل أن تكون الخسارة التي ستوجّه إلى الاُمّة من جرّاء فَقْدِ هذا الوجود العظيم أكبر ممّا قد يترتّب على هذا العمل من فائدة.

وبهذا وذاك تبيّن أنّ الشرطين مفقودان، فعدل اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)عن فكرته، وكان تأريخ هذه القِصّة بحدود سنة (1390 أو 1391 هـ ).

12 ـ كان الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) يصلّي في الحسينيّة الشوشتريّة صلاة الجماعة إماماً، فاتّفق ذات يوم أنّه غاب عن صلاة الجماعة؛ لعذر له، فطلب جمع من المؤمنين من السيّد محمّد الصدر ابن المرحوم السيّد محمّد صادق الصدر أن يؤمّ الناس في ذاك اليوم بدلاً عن الاُستاذ، فاستجاب السيّد محمّد الصدر لطلب المؤمنين (وهو من حفدة عمّ الشهيد الصدر(رحمه الله) ومن تلامذته، وكان معروفاً بالزهد، والورع، والتقوى)، فصلّى الناس خلفه جماعة، ثُمَّ اطّلع اُستاذنا

66

الشهيد(رحمه الله) على ذلك، فبان عليه الأذى، ومنع السيّد محمّد الصدر عن أن يتكرّر منه هذا العمل. وكان السبب في ذلك ـ على رغم علمه بأنّ حفيد عمّه أهلٌ، ومحلّ لإمامة الجماعة ـ أنّه تعارف لدى قسم من أئمّة الجماعة الاستعانة في غيابهم بنائب عنهم يختار من أقربائهم أو أصحابهم، لالنكتة موضوعيّة، بل لأنّه من أقربائه أو أصحابه، فقد يُحمل ما وقع من صلاة حفيد العمّ في نظر الناس غير المطّلعين على حقيقة الأمر على هذا المحمل، في حين أنّه لابدّ من كسر هذه العادة، وحصر إمامة الجماعة في إطار موضوعىّ صحيح، وتحت مقياس دقيق تلحظ فيه مصالح الإسلام والمسلمين، زائداً على الشرائط الأوّليّة الفقهيّة لإمامة الجماعة، فلهذا منع حفيد العمّ عن هذا العمل مادام قابلاً في نظر الناس لتفسير غير صحيح على رغم علمه بتحقيق الشرائط والمصالح فيه.

13 ـ حدّثني الاُستاذ(رحمه الله) أنّه كان في فترة من الزمن أيّام طلبه للعلم يتشرّف بالذهاب يوميّاً ساعة في اليوم إلى الحرم الشريف بغرض أن يفكّر في تلك الساعة في المطالب العلميّة، ويستلهم من بركات الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، ثُمَّ قطع هذه العادة، ولم يكن أحد مطّلعاً عليها، وإذا بامرأة في بيت الاُستاذ، ولعلّها والدته الكريمة ـ والشكّ والترديد منّي، وليس من الاُستاذ(رحمه الله) ـ رأت في عالم الرؤيا أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول لها ما مضمونه: قولي لباقر: لماذا ترك درسه الذي كان يتتلمذ به لدينا؟!

14 ـ رأى أحد طلاّبه ذات يوم في عالم الرؤيا أنّه يمشي هو

67

وزميل آخر له من طلاّب السيّد الشهيد بخدمة الاُستاذ في طريقهم إلى مقصد ما، وإذا بحيوانات مفترسة هجمت على السيّد الشهيد كي تفترسه، ففرّ الزميلان من بين يديه، وجاء ناس آخرون التفّوا حول الاُستاذ؛ كي يحموه من تلك السباع. فحدّث هذا الطالب بعد ذلك اُستاذنا الشهيد برؤياه، فقال له الاُستاذ(رحمه الله): إنّ تعبير رؤياك أنّكما ستنفصلان، وتبتعدان عنّي، ويأتي ناس آخرون يلتفّون حولي، ويكونون رفاقي في الطريق. وكان هذا الكلام غريباً على مسامع ذاك الطالب؛ لأنّه وزميله كانا آنذاك من أشدّ المعتقدين بالاُستاذ وأكثر صحبة له، ولكن ما مضت الأيّام والليالي إلاّ وابتعدا عن الاُستاذ: (أحدهما بالسفر، والآخر بترك الدرس على رغم وجوده في النجف).

15 ـ سألت الاُستاذ(رحمه الله) ذات يوم عن أنّه هل قلّد في حياته عالماً من العلماء، أو لا؟ فأجاب (رضوان الله عليه) بأ نّي قلّدت قبل بلوغي سنّ التكليف المرحوم الشيخ محمّدرضا آل ياسين، أمّا من حين البلوغ فلم اُقلّد أحداً. ولاأذكر أنّه قال: كنت من حين البلوغ أعمل برأيي، أو قال: كنت بين العمل بالاحتياط والعمل بالرأي.

16 ـ حدّثني (رضوان الله عليه) بعد رجوع المرحوم آية الله العظمى السيّد الحكيم(قدس سره)من لندن، إذ كان ذاهباً إلى لندن في أواخر حياته للعلاج: أنّه رأى ذات يوم آية الله الحكيم قبل مرضه في حرم الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، فاُلهِم اُستاذُنا(رحمه الله)أنّ هذه آخر رؤية له للسيّد الحكيم، ولن يتوفّق لرؤيته مرّة اُخرى إلى أن يُتوفّى السيّد

68

الحكيم(قدس سره). وبعد ذلك بأيّام قلائل تمرّض السيّد(رحمه الله)، واستمرّ به المرض إلى أن ذهبوا به إلى لندن للعلاج، ولم يشف من مرضه، وحينما رجع السيّد من لندن إلى مطار بغداد، وفي أثناء نزوله من سلّم الطائرة حاول اُستاذنا(رحمه الله) أن يلقي نظرةً على السيّد الحكيم؛ ليثبت بذلك أنّ ما اُلهم به كان وهماً لاقيمة له، فيأمل أن يشفى السيّد من مرضه، ويعيش صحيحاً سالماً، إلاّ أنّه لم يوفّق الاُستاذ لرؤية السيّد إلى أن توفّي بنفس المرض، قدّس الله روحه الزكيّة.

17 ـ زار (زيد حيدر) عضو القيادة القوميّة في حزب البعث السيّد الشهيد(رحمه الله)ذات يوم بصحبة (عبدالرزّاق الحبّوبيّ)(1)، وتكلّم الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) معه في جملة من المؤاخذات على الدولة بالقدر الذي كانت الظروف تسمح بالكلام معه فيها، وكان يعتبر هذا في تلك الأحوال موقفاً جريئاً من الاُستاذ(قدس سره)، وقد حضر المجلس ثلّة من طلاّب السيّد الشهيد وأصحابه، وكنت أنا أحد الحضّار، ولكن بما أنّ طول الزمان أنساني أكثر مضامين ما دار في تلك الجلسة أكتب هنا ما كتبه أبو محمّد(الشيخ عبد الحليم) حفظه الله، ولم يكن ـ وقتئذ ـ حاضراً في المجلس، ولكنّ الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) قصّ عليه القِصّة. قال الشيخ عبد الحليم:

«تحدّث السيّد الشهيد قبالي عن طبيعة الحديث الذي دار بينه وبين زيد حيدر وكان الحبّوبيّ حاضراً، قال(رحمه الله): دخلت الغرفة وكان


(1)كان عبدالرزّاق الحبّوبىّ ـ وقتئذ ـ محافظ كربلاء، أو قائمّقام النجف.

69

فيها زيد حيدر، وبعد دقائق دخل الحبّوبيّ الغرفة، فسلّم علىّ، وابتسم كأنّه كان مستحياً؛ لأنّه كان يصلّي في الغرفة الثانية، ويتظاهر بالخجل من تأخيرها إلى ذلك الوقت عصراً. وبدأت الحديث مع زيد بحضور الحبّوبيّ، وشرحت دور الحوزة العلميّة والعلماء في تحريك الاُمّة، وفي تربية الاُمّة، فعلماء الدين الشيعة يختلفون عن علماء المسيحيّة مثلاً؛ إذ إنّ الاُمّة مرتبطة بالعالم الشيعيّ، وبدأتُ بسرد الأحداث التأريخيّة التي تدلّ على دور العلماء، فثورة العشرين اختلط فيها دم العالم بدم العامل والفلاّح ودم الاُمّة والشعب حيث قاد العلماء الثورة. والسيّد شرف الدين(رحمه الله)قاوم الاستعمار الفرنسيّ في لبنان، وبعد ذلك تعرّض لحرق مكتبته وكتبه المخطوطة وغيرها، وكانت عصارة جهده، وعصارة حياته، وأعزّ شيء عنده (وكذلك على ما أتذكر أنّه ذكر قِصّة التنباك)، ثُمَّ عرَّجت على دور الحوزة العلميّة في الوقت الحاضر، وذكرت له أنّ كثيراً من أبناء الشعب يراجعونني في جواز أو حرمة التأخّر عن الدوام الرسمىّ، فإذا أفتيت لهم بالجواز أو الحرمة، فإنّه يؤثّر بالدولة، وكذلك يسألني الكثير من المقلّدين في مسألة جواز سرقة أموال الدولة؟ فإذا أفتيت بالجواز، فسوف يؤثّر بالدولة، و... ثُمَّ بيّنت أنّ الدولة حاليّاً لا تتعاون مع العلماء حتّى في المسائل الشرعيّة؛ فإنّ مذبحاً كبيراً في بغداد غير موجّه إلى القبلة، وماذا يضرّ الدولة إذا كان المذبح على القبلة؟! في حين أنّه إذا كان الذبح غير شرعيّ فلن يشترى كثيرٌ من اللحوم.

70

يقول الشهيد(رحمه الله): وفي هذا المقطع من الحديث التفت الحبّوبيّ قائلاً: إنّي أتعجّب أن يكون الذبح هنا غير شرعيّ! علماً بأ نّي عند ما اُسافر إلى الخارج اُحاول الحصول على لحم مذبوح على الطريقة الإسلاميّة، فكيف يكون ذبح العراق غير شرعيّ؟! وبعد ذلك تحدّثت عن محاولة الدولة لشقّ طريق يقتضي بموجبه أو اقتضى تهديم مقام عليّ بن محمّد السمريّ أحد نواب الإمام المهدي(عليه السلام)، وللشيعة ارتباط تأريخي بهذا المكان، والآن بعض أجزاء مقامه محلاّت ودكاكين.

هذا مضمون ما أتذكّر، والله العالم».

انتهى ما كتبه الشيخ عبدالحليم (حفظه الله) مع تغيير يسير في العبارة.

ومن جملة ما قاله الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) في حديثه مع زيد حيدر: إنّ الدولة لو أرادت أن تعرف آراء الشعب ونظريّاته، يجب أن تراجع العلماء؛ فإنّهم هم معدن أسرار الاُمّة، ومحطّ ثقتهم، وهم لسان الاُمّة.

وفي نهاية المجلس خاطب الحبّوبيّ زيد حيدر، وقال له: انظر إلى هذا الرجل (يشير إلى السيّد الشهيد الصدر(رحمه الله)) كيف يتكلّم بكلام لطيف، فلنجعله عالماً للبعثيّين. وهنا ضحك الحضّار، فقال لهم الحبّوبيّ: لماذا تضحكون؟ فقال الاُستاذ الشهيد(رحمه الله): أنا عالم المسلمين، ولست عالم البعثيّين.

 

71

 

 

المقام العلميّ الشامخ لاُستاذنا الشهيد (قدس سره)

 

 

 

 

 

 

73

 

 

 

 

تتميّز الأبحاث العلميّة لاُستاذنا الشهيد من سائر الأبحاث العلميّة المألوفة بالدقّة الفائقة، والعمق الذي يقلّ نظيره من ناحية، وبالسعة والشمول لكلّ جوانب المسألة المبحوث عنها من ناحية اُخرى، حتّى إنّ الباحث الجديد لها قلّما يحصل على مَنفذ للتوسيع أوالتعميق الزائدين على ما أتى به الاُستاذ.

إضافةً إلى كلّ هذا نرى من مميّزات اُستاذنا العلميّة أنّ أبحاثه لم تقتصر على ما تعارفت عليه أبحاث العلماء في النجف الأشرف ـ وقتئذ ـ من الفقه والاُصول، بل شملت سائر المرافق الفكريّة الإسلاميّة: كالفلسفة، والاقتصاد، والمنطق، والأخلاق، والتفسير، والتأريخ، وفي كلّ مجال من هذه المجالات ترى بحثه مشتملاً على نفس الامتيازين الملحوظين في أبحاثه الاُصوليّة والفقهيّة: من العمق والشمول.

ففي علم الاُصولنستطيع أن نعتبر المرحلة التي وصل إليها مستوى البحث الاُصوليّ على يد الاُستاذ عصراً رابعاً من العلم وتطوّراته التي مرّ بها علم الاُصول على وفق مصطلحات اُستاذنا في كتاب (المعالم الجديدة للاُصول) حيث قسّم (رضوان الله عليه) الأعصر التي مرّ بها علم الاُصول من المراحل التي بلغ التمايز

74

النوعيّ فيما بينها إلى ما ينبغي جعله حدّاً فاصلاً بين عصرين، قسّمها إلى ثلاثة أعصر:

الأوّل: ما أسماه بالعصر التمهيديّ، قال: «وهو عصر وضع البذور الأساسيّة لعلم الاُصول، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل، وابن الجنيد، وينتهي بظهور الشيخ(رحمه الله)».

والثاني:ما أسماه بعصر العلم، قال: «وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور وأثمرت، وتحدّدت معالم الفكر الاُصوليّ، وانعكست على مجالات البحث الفقهيّ في نطاق واسع. ورائد هذا العصر: هو الشيخ الطوسيّ، ومن رجالاته الكبار: ابن إدريس، والمحقّق الحلّي، والعلاّمة، والشهيد الأوّل، وغيرهم من النوابغ».

والثالث: ما أسماه بعصر الكمال العلميّ، قال: «وهو العصر الذي افتتحته في تأريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الاُستاذ الوحيد البهبهانيّ، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدّمته من جهود متظافرة في الميدانين: الاُصوليّ والفقهيّ».

ثُمَّ قسّم (رضوان الله عليه) العصر الثالث من عصور علم الاُصول إلى ثلاث مراحل، بإمكانك أن تراجع تفصيل ذلك في المعالم الجديدة، قال(قدس سره): «ولا يمنع تقسيمنا هذا لتأريخ العلم إلى عصور ثلاثة إمكانيّة تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النمو، ولكلّ مرحلة رائدها وموجّهها، وعلى هذا الأساس نعتبر الشيخ الأنصاريّ(قدس سره)ـ المتوفّى سنة (1281 هـ ق) ـ

75

رائداً لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث، وهي المرحلة التي يتمثّل فيها الفكر العلميّ منذ أكثر من مئة سنة حتّى اليوم».

وقد بيّن(رحمه الله) كلّ هذا بعد توضيح أنّ بذرة التفكير الاُصوليّ وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) منذ أيّام الصادقين(عليهما السلام).

أقول: إنْ كان الفارق الكيفيّ بين بعض المراحل وبعض حينما يعتبر طفرة وامتيازاً نوعيّاً في هويّة البحث يجعلنا نصطلح على ذلك بالأعصر المختلفة للعلم، فالحقّ إنّ علم الاُصول قد مرّ على يد اُستاذنا الشهيد بعصر جديد، فلو أضفناه إلى الأعصر التي قسّم إليها فترات العلم في المعالم الجديدة، لكان هذا عصراً رابعاً هو عصر ذروة الكمال، ترى فيه من الأبحاث القيّمة والجواهر الثمينة والدرر المضيئة ما يبهر العقول، وهي تشتمل على مباحث فريدة في نوعها، وفيها ما تكون تارةً جديدة على الفكر الاُصوليّ تماماً، أي: إنّها لم تبحث من قبل.

واُخرى تكون مغيّرة لما اختاره الأصحاب في أبحاثهم السابقة ببرهان قاطع واُسلوب فائق.

وثالثة تكون معدّلةً لنفس ما اختاره الأصحاب، ومُصلحةً له ببيان لم يسبق له نظير.

فمن القسم الأوّل: ما جاء به من البحث الرائع لسيرة العقلاء، وسيرة المتشرّعة، فقد تكرّر لدى أصحابنا المتأخّرين (رضوان الله عليهم) التمسّك بالسيرة لإثبات حكم ما، ولكن لم يسبق أحد اُستاذنا(رحمه الله) ـ فيما أعلم ـ في بحثه للسيرة، وإبراز أسس كشفها،

76

والقوانين التي تتحكّم فيها، والنكات التي ينبني الاستدلال بها على أساسها، باُسلوب بديع، ومنهج رفيع، وبيان متين.

ومن هذا القسم ـ أيضاً ـ بحثه القيّم عمّا أسماه بنظريّة التعويض، وقد بحثه في ضمن مباحث حجّيّة خبر الواحد وإن كان أقرب إلى فن البحوث الرجاليّة منه إلى الاُصول، ووضّح فيه كيف أنّنا نعوّض أحياناً المقطع السنديّ المشتمل على الضعف البارز في سند الحديث بمقطع آخر غير بارز لدى الناظر بالنظرة الأوّليّة. وهذا الأمر وإن وجدت بذوره لدى من تقدّم على الاُستاذ(رحمه الله) لم أر أحداً قبله يتعرّض له على مستوى البحث العلميّ، ويدقّق في اُسس هذا التعويض وأقسامه.

ومن القسم الثاني: بحثه البديع في حجّيّة القطع الذي أثبت فيه أنّ رأس الخيط في البحث إنّما هو مولويّة المولى وحدودها، وانحدر من هذا المبدأ إلى الآثار التي تترتّب على ذلك، وانتهى إلى إبطال ما بنى عليه المحقّقون جيلاً بعد جيل من (قاعدة قبح العقاب بلا بيان)، وآمن بمنجزيّة الاحتمال، وأنّ البراءة التي نؤمن بها هي البراءة الشرعيّة، أمّا البراءة العقليّة، فلا.

ومن هذا القبيل إبطاله لحكومة الاُصول بعضها على بعض حينما تكون متوافقة في النتيجة، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة، أو الأصل السببيّ على الأصل المسبّبيّ الموافق له، وكذلك إبطاله لحكومة الأمارة على الأصل لدى توافقهما في النتيجة.

ومنه ـ أيضاً ـ إبطاله لما اشتهر من جريان أصالة الطهارة في

77

ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله.

ومنه ـ أيضاً ـ بحثه البديع في الوضع، وإبرازه لنظريّة القرن الأكيد.

ومن القسم الثالث: بحثه الرائع عن حقيقة المعاني الحرفيّة، حيث يوافق فيه على أصل ما اختاره المحقّقون المتأخّرون: من كون المعاني الحرفيّة هي المعاني النسبيّة، والمغايرة هويّة للمعاني الاسميّة، ولكن مع إدخال تعديل وإصلاح جوهريّين على ما أفاده الأصحاب رضوان الله عليهم.

ومن هذا القبيل بحثه الذي لم يسبق له نظير في الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة، حيث اختار نفس ما أثبته المحقّقون من إمكانيّة الجمع بينهما، وعدم التنافي والتعارض فيما بينهما، ولكن مع التعديل الجوهريّ لطريقة الاستدلال، وكيفيّة الجمع.

وقبل أن أترك هذه النقطة لايفوتني أن اُشير إلى أنّ من أبحاثه البديعة ـ أيضاً ـ أبحاثه عن الترتّب، وعن التزاحم، وعن قاعدة لاضرر التي تعارف البحث عنها في الاُصول على رغم أنّها قاعدة فقهيّة.

وهو (رضوان الله عليه) إضافة إلى ما لديه من تحقيقات جديدة، ومطالب فريدة في نوعها في علم الاُصول من أوّله إلى آخره، كانت له محاولتان جديدتان في اُسلوب عرض علم الاُصول على الحوزة العلميّة، وتربية الطلاّب عليها:

78

الاُولى: التغيير في ترتيب مباحث الاُصول، وتبويبها، والتقديم والتأخير فيما بينها، وطريقة تقسيم الأبحاث، وهذا ما انعكس عملاً في كتبه الموسومة بــ (دروس في علم الاُصول)، وفيما كتبه تلميذه السيّد محمود الهاشميّ تقريراً لبحث الاُستاذ، وهو الكتاب المسمّى بــ (تعارض الأدلّة الشرعيّة)، وذلك إيماناً منه(رحمه الله) بأنّ الترتيب الذي تعارف لدى السابقين لمباحث علم الاُصول ليس ترتيباً فنّياً قائماً على أساس نكات طبيعيّة لتقديم وتأخير الأبحاث، فانتهج هو(رحمه الله)منهجاً جديداً في ترتيب علم الاُصول راعى فيه نكات فنيّةً للتقديم والتأخير.

والثانية: صياغة علم الاُصول فيما يسمّى بالسطح العالي في حلقات مترتّبة على وفق المراحل التي ينبغي أن يمرّ بها الطالب؛ إذ كان يعتقد (رضوان الله عليه) أنّ ما درجت عليه الحوزات العلميّة من دراسة عدّة من الكتب الاُصوليّة كتمهيد للوصول إلى ما يسمّى ببحث الخارج كان صحيحاً، ولكن ما تعارفوا عليه من انتخاب كتب متعدّدة تمثّل مراحل مختلفة من العصور الماضية لعلم الاُصول ليس على ما ينبغي، والطريقة الفضلى هي: أن يصاغ آخر التطوّرات العلميّة في ضمن مراحل متدرّجة؛ لتنمية الطالب وتعليمه، كما هو الاُسلوب المتعارف في المناهج الحديثة لسائر العلوم، وهذا ما جسّده (رضوان الله عليه) في كتبه المسمّاة بــ (دروس في علم الاُصول) الممنهجة على ثلاث مراحل تحت عنوان الحلقات.

وفي علم الفقهترى إبداعاته (رضوان الله عليه) لاتقلّ عن

79

إبداعاته في علم الاُصول، وقد طبع من أبحاثه الفقهيّة أربعة مجلّدات باسم (بحوث في شرح العروة الوثقى) فيها من التحقيقات الرشيقة ما لاتحصى ممّا لم يسبقه بها أحد، واُشير هنا كمثال إلى بحثين من أبحاثه التي ينبهر بها الفقيه الألمعيّ:

أحدهما: بحثه الرائع في تحقيق نكات قاعدة الطهارة الوارد في المجلّد الثاني من البحوث المشتمل على عمق وشمول لاتراهما في أبحاث اُخرى عن تلك القاعدة.

والثاني: بحثه القيّم في مسألة اعتصام ماء البئر عن كيفيّة التخلّص من الروايات الدالّة على الانفعال. وهو وارد ـ أيضاً ـ في المجلّد الثاني من البحوث، حيث ساق البحث باُسلوب فائق لم أره لدى باحثي المسألة قبله.

ولم يوفّق (رضوان الله عليه) لكتابة الكثير عن الفقه المستدلِّ ما عدا المجلّدات الأربعة في الطهارة، وما درّسه من الفقه المستدلِّ أكثر ممّا كتبه، كما قد درّس قسماً من أبحاث الخمس وغير ذلك.

والذي كان يصبو إليه(رحمه الله) هو تطوير بحث الفقه من عدّة جوانب، وفّق لبعضها بمقدار ما كتب أو درّس، ولم يوفّق للبعض الآخر. وتلك الجوانب هي ما يلي:

1 ـ تعميق دراسته بنحو لم يسبق له مثيل، وقد وفّق لذلك بمقدار ما كتب أو درّس.

2 ـ تبديل النزعة الفرديّة والنظرة الموضعيّة إلى النزعة الاجتماعيّة والنظرة العالميّة في البحوث التي تتطلّب ذلك. وهاتان

80

النظرتان أو النزعتان لهما الأثر البالغ في كيفيّة فهم القضايا الفقهيّة.

فمثلاً: أخبار التقيّة والجهاد تُفهم بإحدى النظرتين بشكل، وبالنظرة الاُخرى بشكل آخر، وأدلّة حرمة الربا قد تفهم بإحدى النظرتين بشكل يمكن معه تحليل نتيجة الربا ببعض الحيل، وتفهم بالنظرة الاُخرى بشكل آخر لايؤدّي إلى هذه النتيجة. وما إلى ذلك من الأمثلة الواسعة في الفقه.

3 ـ توسيع اُفق البحث الفقهيّ لشتّى أبواب الحياة بالشكل الملائم لمتطلّبات اليوم، وباُسلوب يتجلّى به أنّ الفقه يعالج كلّ مناحي الحياة، ويواكب الوضع البشريّ الفرديّ والاجتماعيّ حتّى النهاية، وبشكل يتّضح أنّ البحث الفقهيّ متحرّك يواكب حركة الحياة. وقد شرع(رحمه الله) في رسالته العمليّة المسمّاة بــ (الفتاوى الواضحة) لتجسيد هذا الجانب، إلاّ أنّ استشهاده قد حال بينه وبين إكمال الكتاب.

4 ـ تطوير منهجة عرض المسائل، وتبويبها بالشكل المنعكس في مقدّمة الفتاوى الواضحة.

5 ـ وكان (رحمه الله) عازماً على أن يبحث فقه المعاملات بشكل مقارن بين فقه الإسلام والفقه الوضعيّ؛ كي يتجلّى أنّ الفقه الإسلاميّ هو الجدير بإدارة الحياة، وإسعادها دون غيره، وقد حالت جريمة البعث الكبرى بينه وبين إتحافنا بهذا البحث القيّم.

وفي الفلسفةألّف الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) كتاب (فلسفتنا) الذي قارع فيه الفلسفات المادّيّة والمدارس الفلسفيّة الحديثة الملحدة، بالأخصّ الديالكتيكيّة الماركسيّة، باُسلوب بديع، وببراهين قويمة،

81

ومناهج رائعة، وهذا الكتاب قد أصدره بجهود تظافرت مدّة عشرة أشهر فحسب.

والرأي الذي اعتنقه(رحمه الله) في (فلسفتنا) في نظريّة المعرفة قد عدل عنه إلى رأي آخر في كتابه المسمّى بــ (الاُسس المنطقيّة للاستقراء) يختلف عن رأيه الأوّل في عدد مهمٍّ من أقسام المعرفة البشريّة.

وقد بدأ أخيراً بتأليف كتاب فلسفيّ معمّق، ومقارن بين آراء الفلاسفة القدامى والفلاسفة الجدد، وبدأ ببحث تحليل الذهن البشريّ، ولم يوفّق لإتمامه، ولانعلم مصير ما كتبه في ذلك، ولعلّه صودر من قبل البعث العميل الكافر مع ما صودر من كتبه وممتلكاته.

وفي المنطققد تعرّض الاُستاذ الشهيد(قدس سره) في ضمن أبحاثه الاُصوليّة لدى مناقشته للأخباريِّين في مدى حجّيّة البراهين العقليّة لنمط التفكير المنطقيّ الأرسطيّ، ونقده بما لم يسبقه به أحد، وبعد ذلك طوّر تلك الأبحاث وأكملها، وأضاف إليها ما لم يكن يناسب ذكره في ضمن الأبحاث الاُصوليّة، فأخرجها بأروع صياغة باسم كتاب (الاُسس المنطقيّة للاستقراء). ومن جملة ما أوضحه في هذا الكتاب: عدم بداهة قسم من العلوم التي يقول المنطق الأرسطيّ ببداهتها، كالمحسوسات بالحسِّ الظاهريّ، والمتواترات، والتجريبيّات، والحدسيّات، وأنّ هذه العلوم إنّما تبتني على أساس حساب الاحتمالات، وليس على أساس البداهة والضرورة.

وفي الأخلاقتعرّض الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) لأرقى بحث أخلاقيّ علمىّ في ضمن أبحاثه الاُصوليّة لدى البحث عن الحسن والقبح

82

العقليّين بمنهج لم يسبق له نظير.

وفي التفسيرتعرّض (رضوان الله عليه) في أواخر حياته لأبحاث تفسيريّة قيّمة تختلف في اُسلوبها عن نمط التفاسير التجزيئيّة المتعارفة، أعطاها عنوان (التفسير الموضوعيّ)، وتلك أبحاث ألقاها في محفل عام للبحث، ولم يكن الحضور فيه خاصّاً بفضلاء طلاّبه أو المحقّقين العلماء؛ ولذا لم يكن من المتوقّع أن يلقي هذه الأبحاث بما هو المأمول منه من مستوى العمق والدقّة؛ إذ ذلك يناسب الحضور الخاصّ، وليس الحضور العامّ، ومع ذلك ترى في تلك الأبحاث من العمق والتحليل الدقيق ما يبهر العقول، ويدلّ على مدى شموخ المستوى الفكريّ لهذا المفكّر العظيم.

وفي الاقتصادألّف اُستاذنا الشهيد(قدس سره) كتاب (اقتصادنا)؛ لنقد المذاهب الاقتصاديّة الماركسيّة والرأسماليّة، وتوضيح خطوط تفصيليّة عن الاقتصاد الإسلاميّ. ولاأقول: إنّه لم يوجد قبله كتاب في الاقتصاد الإسلاميّ بهذا المستوى فحسب، بل أقول: لم يوجد حتّى يومنا هذا الذي مضى على تأليف كتاب (اقتصادنا) نحو ربع قرن مَنْ كتب بمستواه.

وفي التأريخكتب(رحمه الله) تأريخاً تحليليّاً عن قِصّة (فدك)، وكان عمره ـ وقتئذ ـ نحو سبع عشرة سنة، وترى في هذا الكتاب ـ الذي يمثّل السنين الاُولى من بلوغه سنّ التكليف ـ ما يعجبك من روعة التأليف، وعمق التحقيق والتدقيق، وممّا يزيدك إعجاباً بهذا الكتاب أنّه جاء فيه بالمناسبة بعض المناقشات الفقهيّة الدقيقة لما ورد في

83

كلمات أكابر الفقهاء، وهذا ما لا يصدر عادة إلاّ عن العلماء المحقّقين الكبار في سنين متأخّرة من أعمارهم الشريفة.

فلقد ناقش(رحمه الله) في كتاب (فدك) ما وقع من بعض أكابر العلماء كصاحب الجواهر (رضوان الله عليه) من الاستدلال على نفوذ علم القاضي بكون العلم أقوى من البيّنة المعلوم إرادة الكشف منها، ناقش ذلك بقوله:

«واُلاحظ أنّ في هذا الدليل ضعفاً ماديّاً؛ لأنّ المقارنة لم تقم فيه بين البيّنة وعلم الحاكم بالإضافة إلى صلب الواقع، وإنّما لوحظ مدى تأثير كلٍّ منهما في نفس الحاكم، وكانت النتيجة ـ حينئذ ـ أنّ العلم أقوى من البيّنة؛ لأنّ اليقين أشدّ من الظنّ، وكان من حقّ المقارنة أن يلاحظ الأقرب منهما إلى الحقيقة المطلوب مبدئيّاً الأخذ بها في كلّ مخاصمة، ولايفضّل علم الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البينة؛ لأنّ الحاكم قد يخطأ كما أنّ البيّنة قد تخطأ، فهما في شرع الواقع سواء، كلاهما مظنّة للزلل والاشتباه».

وأيضاً ذكر المرحوم الشيخ آقا ضياء العراقيّ ـ الذي يعتبر من أكابر المحقّقين في العصر المتأخر ـ ذكر في كتابه ردّاً على من استدلّ لنفوذ علم القاضي بأدلّة القضاء بالحقّ والعدل: «أنّه قد يكون المراد بالحقّ والعدل هو الحقّ والعدل وفق مقاييس القضاء، لاالحقّ والعدل وفق الواقع، وكون علم القاضي من مقاييس القضاء أوّل الكلام» واستشهد(رحمه الله) على ذلك بالرواية الدالّة على عقاب رجل قضى بالحقّ وهو لايعلم، ببيان: أنّه لو كان موضوع القضاء هو الحقّ

84

الواقعيّ لاالحقّ وفق مقاييس القضاء، لكان قضاء من قضى بالحقّ ـ وهو لايعلم ـ صحيحاً وضعاً وتكليفاً، ولاعقاب عليه إلاّ بملاك التجرّي.

وأورد عليه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في كتاب (فدك) أنّ هذه الرواية لاتدلّ على عدم موضوعيّة الواقع للحكم، غاية ما هناك أن نقيّد الأدلّة التي ظاهرها كون موضوع الحكم هو الحقّ والعدل الواقعيين بالعلم، بمقتضى دلالة هذه الرواية على عقاب من قضى من دون علم، فيصبح الواقع جزءَ موضوع، والعلم به جزءاً آخر للموضوع، ولابأس بذلك.

وعلى أيّة حال، فهذا كتاب تاريخيّ تحليليّ بديع عن قِصّة واحدة من التأريخ، وهي قِصّة (فدك).

هذا، وبعد رَدح من الزمن جاءت لاُستاذنا الشهيد أبحاث في منتهى الروعة في تحليل تأريخ حياة أئمّتنا الأطهار(عليهم السلام) من زاوية عملهم لإعلاء كلمة الله على وجه الأرض، كان يلقيها على طلاّبه في أيّام وفيات الأئمّة(عليهم السلام) كاُطروحة شاملة متناسقة لكلِّ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في المنهج الذي نهجوه لخدمة الإسلام الحنيف.

وجميع أبحاثه (رضوان الله عليه) ترى فيها إضافةً إلى الدقّة والعمق مع السعة والشمول منهجيّةً فنيّةً رائعةً في طريقة العرض.