44

قال (رحمه الله): وهذا هو الصحيح.

وقال (قدس سره): هل المرتكز عقلائيّاً تمليك كلّ منهما ماله للآخر بملكيّة اُخرى غير الملكيّة التي كانت له، أو إعطاء ما كانت له من الملكيّة إيّاه؟ الصحيح هو الأوّل، ولذا قد تختلف طبيعة الملكيّتين كما في تمليك العمل، فإنّه كان ملكاً للعامل بالملكيّة الحقيقيّة وصار ملكاً للآخر بالملكيّة الاعتباريّة.

وقال الاُستاذ الشهيد (رحمه الله) أيضاً: كما أنّ لصاحب المال حقّ أن يملّكه بعوض كذلك له حقّ أن يملّكه مجّاناً، وذلك كما في الهبة بناءً على التفسير غير المرضي لها من التفسيرين اللذين مضى ذكرهما، وكما في شرط ملكيّة شيء بنحو شرط النتيجة، وكما في مهر الزواج(1). انتهى ما أردنا نقله عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)هنا.

 

مصاديق غامضة من الملكيّة

وعدنا منذ البدء أن ندرج في بحثنا عن الملكيّة البحث عن مصاديق من الملكيّة قد يكتنفها شيء من الغموض كملكيّة الأعمال وملكيّة الذِمم وملكيّة المنافع.

 

ملكيّة الأعمال:

أمـّا الأعمال: فقد أفاد اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): أنّ مالكيّة الإنسان لعمله ليست بمعنى الملكيّة الاعتباريّة التي جعلت بلحاظ الأموال المنفصلة عنه. نعم، الإنسان مالك لأعماله بملكيّة حقيقيّة بمعنى قدرته وسلطنته التكوينيّة عليها بحيث إن شاء


(1) من تقرير غير مطبوع لنا لبعض أبحاثه (رحمه الله).

45

فعل وإن شاء ترك. وترتّبت على هذه الملكيّة التكوينيّة ملكيّة اُخرى بمنطق العقل العملي، وهي أيضاً حقيقيّة وليست جعليّة واعتباريّة، وهي كون الإنسان أولى بأعماله من غيره، فالملكيّة بهذا المعنى لا هي أمر اعتباريّ وجعليّ كما في ملكيّة الأموال المنفصلة عن الإنسان، ولا هي أمر تكوينيّ خارجيّ كما في المعنى الأوّل لملكيّة الأعمال، وإنّما هي أمر خلقيّ وراجع إلى حكم العقل العمليّ.

وأولويّة الإنسان بعمله تارةً تكون بلحاظ الفعل والترك، واُخرى بلحاظ التصرّف الوضعي في أعماله كما في الإيجار. والأوّل يكفيه حكم العقل العمليّ بلا حاجة إلى أيّ جعل، والثاني بحاجة إلى صغرى مجعولة، وهي جعل أصل ذاك التصرّف الوضعيّ كجعل قانون الإيجار، فإذا تمّ الجعل صغرويّاً طبّقت عليها الكبرى المعلومة بالعقل العمليّ، وهي أولويّة الإنسان بعمله. فكان له هذا التصرّف لا لغيره.

وأولويّة الإنسان بأعماله إنّما هي أولويّة في مقابل سائر الناس، وليست أولويّة في مقابل الله تعالى، ولا هي مقابل منع العقل العمليّ عن بعض الأعمال، فكذب الإنسان مثلا مملوك للإنسان، بمعنى أنّه أولى بالاستفادة منه من غيره لكنّه ممنوع عليه بحكم العقل العمليّ، كما أنّ الله تبارك وتعالى له أن يمنعه من عمل مّا والله تعالى مالك لمخلوقاته بمعنى أنّه هو الذي خلقهم وكوّنهم بقدرته، وهذا يقابل القدرة والسلطنة الثابتة للإنسان على عمله، ويترتّب على هذا حقّ المولويّة، وهذا الحقّ له مظاهر أربعة:

1 ـ حقّ الطاعة، فلو نهاه عن عمل مّا لم يكن للعبد حقّ المخالفة.

2 ـ حقّ أخذ أعمال الشخص منه قهراً، كأن يجوّز لأحد أن يستوفي منه عمله جبراً، وهذا ما يقابل مالكيّة الشخص لأعماله.

46

3 ـ حقّ التصرّف الوضعيّ في أعمال الشخص، كأن يجعل عمل زيد مملوكاًلعمرو، وهذا ما يقابل مالكيّة الشخص للتصرّف الوضعيّ في عمله.

وهنا تكون الكبرى مندمجة في الصغرى وثابتة بنفس حقّ المولويّة بلا حاجة إلى جعل من قبل جاعل.

4 ـ حقّ القيمومة على شخص، بأن يتصرّف تصرّفاً وضعيّاً في عمله كما في السابق، لكن لنفس العامل بأن يعطي عمله لشخص آخر بعوض لنفس العامل، وبكلمة اُخرى أن يقف تجاه العبد موقف الوليّ تجاه الصبيّ.

أمـّا إذا تجاوزنا حقّ الله تبارك وتعالى وحكم العقل العمليّ وقسنا الإنسان إلى سائر أفراد البشر كان كلّ إنسان أولى بعمله من غيره، وهذه الملكيّة الحقيقيّة للناس لأعمالهم كأنـّها هي التي أوحت إليهم بفكرة جعل الملكيّات.

والملكيّة الاعتباريّة للأعيان المنفصلة عن الإنسان تترتّب على ملكيّته لعمله بحسب الارتكازات العقلائيّة بهمزة وصل وهي الحيازة أو العلاج(1). انتهى ما أردنا نقله عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

الأحكام المترتّبة على ملكيّة الأعمال:

وملكيّة الإنسان لأعماله بمعنى كونه أولى بها من غيره، لا يترتّب عليها جميع أحكام الملكيّة الاعتباريّة، وإنّما هذا يتبع سعة دائرة جعل تلك الأحكام وضيقها، فما جعل منها على الأعمّ من الملكيّة الاعتباريّة وهذه الملكيّة يثبت، وما لم يكن كذلك لا يثبت، والأحكام الشرعيّة التعبّديّة وردت عادة على موضوع الملكيّة الاعتباريّة، ولا تثبت في مالكيّة الإنسان لعمل نفسه، وذلك من قبيل وجوب الخمس أو ثبوت الاستطاعة الموجبة لوجوب الحجّ.


(1) من تقرير غير مطبوع لنا لبعض أبحاثه (رحمه الله).

47

وأمـّا الأحكام العقلائيّة فهي مختلفة فيما بينها، فجواز التصرّف الوضعيّيشمل عقلائيّاً ملكيّة الأعمال، ولذا يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه على عمل، وإذا آجر نفسه على عمل أصبح عمله مملوكاً للمستأجر بالملكيّة الاعتباريّة. وضمان الإتلاف لا يشمل الأعمال، فلو أنّ الظالم سجن أحداً لم يضمن عمله بضمان الإتلاف. نعم، لو استوفى عمله ضمنه بضمان الحيازة واليد، فضمان اليد عقلائيّاً يشمل العمل بخلاف ضمان الإتلاف، وحبس الشخص لا يعتبر عرفاً حيازة لعمله، وإنّما يعتبر حيازة لشخصه، أمـّا حيازة عمله فهي بالاستيفاء.

نعم، لو كان الإنسان كسوباً فحبس فقد يقال بضمان الحابس لعمله، إلّا أنّ هذا ليس ضمان اليد أو الإتلاف، بل هذا ضمان بنكتة دفع الضرر، ولذا لا يحسّ بمثل هذا الضمان في غير الكسوب، ولو ثبت هذا الضمان في الكسوب عقلائيّاً ثبت شرعاً بقاعدة نفي الضرر وبعدم الردع. أمـّا لو لم يثبت عقلائيّاً فلا يثبت شرعاً لا بعدم الردع كما هو واضح، ولا بقاعدة نفي الضرر، لما حقّق في محلّه من أنّ مفادها نفي الضرر الناشيء من الإسلام، فلو كان الضمان ثابتاً عرفاً ونفاه الإسلام عدّ هذا النفي ضرراً ناشئاً من الإسلام، فهو منفيّ، وإلّا فلا، و مجرّد نشوء ضرر من قِبل هذا الظالم لا يعني وجوب حكم الإسلام بالضمان عليه.

وبما ذكرناه ظهر الفرق بين منافع الحرّ ومنافع العبد، حيث إنّ منافع الحرّ غير المستوفاة لا تضمن، ومنافع العبد غير المستوفاة قد يقال: إنـّها تضمن. والفرق بينهما: أنّ منافع الحرّ ليست مملوكة له ملكيّة اعتباريّة، فلا تضمن بالإتلاف كما قدّمناه، ولكن منافع العبد مملوكة للمولى ملكيّة اعتباريّة ولو بملكيّة مندكّة في ملكيّة العين، فقد يقال: إنّ مثل هذه الملكيّة المندكّة كافية في ضمان الإتلاف.

48

وبما ذكرناه ظهر الفرق أيضاً بين منفعة الحرّ غير الأجير ومنفعة الأجير، فغير الأجير لا تضمن منفعته في غير الكسوب أو مطلقاً، لأنّها لم تكن مملوكة بالملك الاعتباريّ، أمـّا الأجير فمنفعته كانت مملوكة بالملك الاعتباريّ للمستأجر، فإن فرضنا أنّ هذا الحبس لا يوجب انفساخ الإيجار فالحابس ضامن للمستأجر، لأنّ عمل الأجير كان ملكاً له ملكيّة اعتباريّة، فقد ضمنه بالإتلاف، فإذا فسخ المستأجر العقد لعدم القبض رجع البدل الذي ضمنه الحابس إلى الأجير، ورجعت الاُجرة إلى المستأجر. وإن فرضنا أنّ هذا الحبس يوجب انفساخ الإيجار ضمن الحابس الاُجرة المسمّـاة للأجير بنكتة دفع الضرر، وعقلائيّة الضمان هنا أوضح من الضمان في الكسوب الذي لم يؤجر نفسه.

وهناك تفسير آخر لما يفهم عقلائيّاً من الفرق بين منفعة الأجير أو الكسوب وغيرهما بالضمان في الأوّل أو في الأوّلين دون غيرهما، وهو أن يقال: إنّ ضمان الإتلاف ثابت عقلائيّاً في باب الأعمال كما هو ثابت في الأعيان، إلّا أنّ إتلاف الأعمال ليس كإتلاف الأعيان بمعنى هدم ما هو موجود وكسره مثلا، وإنّما هو بمعنى الحيلولة بين الشخص وعمله، وهذه إنّما تكون في الأجير والكسوب. أمـّا الذي لا يوجد فيه دافع نفسيّ للعمل فعدم صدور العمل منه لا ينسب عرفاً إلى منع الحابس، بل ينسب إلى عدم المقتضي، فلا إتلاف في المقام.

إلّا أنّ هذا التفسير ـ لو تمّ ـ لا يفسّر لنا الفرق بين عمل الحرّ وعمل العبد، فلا بدّ من التفصيل في عمل العبد أيضاً، بينما لو كان المالك مقبلا على استثماره وما إذا كان المالك مُهمِلا له لا ينتفع به حتى لو لم يسجنه الساجن. وكذلك الحال في منفعة الدار غير المستوفاة من قبل الغاصب، فيجب أن يفصّل بين ما إذا كان صاحب الدار يستفيد منها لولا الغصب و ما إذا كان مُهملا لها.

49

ولعلّه من الواضح أنّ هذه التفاصيل ليست عقلائيّة، فالصحيح أنّ إتلاف الأعمال الذي يترقّب أن يكون موضوعاً للضمان هو بمعنى هدر القابليّة للعمل، وقد حصل ذلك بالسجن سواء كان العامل أجيراً أو كسوباً أوْ لا، فلعلّ الأولى هو التفسير الأوّل الذي ذكرناه بعد فرض تسليم الفرق عقلائيّاً بين الأجير وغيره، والكسوب وغيره، والحرّ والعبد.

ولو قتل شخص حرّاً فلا إشكال في أنّه لا يضمن عقلائيّاً عمله، وإنّما يصار إلى القصاص أو الدية، ولا يكفي في تفسير عدم الضمان هنا ما ذكرناه في حبس الحرّ، إذ لو كان هذا هو التفسير الوحيد لذلك لزم ضمان العمل في الأجير أو الكسوب لدى القتل بناءً على ثبوت الضمان فيهما في الحبس.

وبالإمكان تفسير ذلك بأنّ عدم ضمان عمل الحرّ لدى قتله يكون من قبيل عدم ثبوت ضمان لمنفعة العين في مقابل ضمان العين لدى إتلافها، فكما أنّ ضمان منفعة العين مندكّ في ضمان العين كذلك ضمان عمل الحرّ مندكّ في ضمان الحرّ المتمثّل في القصاص أو الدية، بفرق أنّ ضمان منفعة العين المندكّ في ضمان العين يؤثّر في مقدار الضمان قيميّاً، فالعين المضمونة بالقيمة تكثر وتقلّ قيمتها المضمونة على أثر عوامل أحدها كثرة وقلّة منافعها، لكنّ العقلاء حدّدوا الضمان في قتل الحرّ بمبلغ معيّن من الدية أو القصاص أيّاً كانت منفعته، أو لم تكن له منفعة أصلا، وذلك تغليباً لأصل حرمة الإنسان كإنسان على منافعه التي تعتبر لا شيء بالنسبة إليه.

وقد يقال: إنّ ضمان منافع الحرّ في الحبس أولى من ضمان منافع العين، لأنّ منفعة العين مندكّة قيمةً وملكيّة في العين، فلا يملك صاحب العين ـ إضافة إلى العين ـ شيئاً اسمه المنفعة، وليست للمنفعة قيمة إضافة إلى قيمة العين، وإنّما المنفعة

50

حيثيّة تعليليّة لتقييم العين، وهذا بخلاف عمل الحرّ، فإنّ الحرّ غير مملوكولا يقيّم، فيقيّم عمله مستقلاًّ عنه، ويملك مستقلاًّ عنه.

والجواب: أنّ اندكاك قيمة المنفعة وملكيّتها في العين صحيح، ولذا لا يضمن منفعتها إضافة إلى ضمان العين لدى إتلافها، ولكن هذا لا ينافي ضمانها مستقلاًّ حينما لا يوجد ضمان للعين كما لو حبس العين ولم يتلفها، وكما لو استوفى منفعتها ولم يتلفها. ولهذا أيضاً في باب الإيجار تتصوّر ملكيّة المنفعة رغم عدم ملكيّة العين. وفي الحرّ أيضاً يتبلور اندكاك ضمان المنفعة في العين لدى القتل كما مضى، فإنّ عين الحرّ وإن لم تكن مملوكة بالملكيّة الاعتباريّة لكنّ عمله أيضاً لم يكن مملوكاً بالملكيّة الاعتباريّة، وملكيّة عمله لنفسه من سنخ مالكيّة الإنسان لنفسه، أي أنّه هو أولى من غيره بنفسه وبعمله. وأمـّا في مورد الحبس فقد مضى بيان نكتة الفرق بين الحرّ وغيره.

 

ملكيّة الذمم:

وأمـّا الذمم: فالذمّة ـ في الحقيقة ـ وعاء اعتباريّ افترضه العقلاء للأموال الرمزيّة التي لا وجود لها في الخارج كي يكون موطناً لتلك الأموال التي تتّخذ كرمز للأموال الخارجيّة، وتطبّق حين التنفيذ والأداء على الخارج تطبيقاً للرمز على ذي الرمز.

وقد كان هذا الاعتبار من قبل العقلاء تسييراً للمعاملات وتكييفاً عقلائيّاً لها، وتسهيلا لتمشية الاُمور. فقد يحتاج الشخص إلى إيقاع المعاملة على شيء لا يمتلكه خارجاً، فيبيع عيناً غير مملوكة له، أو يشتري بثمن لا يمتلكه، فيكون طريق حلّ الإشكال في هذه المعاملة هو البيع في الذمّة أو الشراء بالذمّة. وقد يمتلك المال خارجاً لكنّه لا يريد أن يفقده، وفي نفس الوقت هو بحاجة إلى إيقاع

51

المعاملة على سنخ ما يمتلكه، فيوقع المعاملة على الذمّة. وقد يقتضي القانونتغريم شخص مّا من دون غرض في التحجير على ماله و تحجيم ممتلكاته، وذلك كمن أتلف مال غيره فيفترض تعلّق ملك المغرم له بما في ذمّة هذا الشخص جمعاً بين بقاء الأموال الخارجيّة للمتلف على حرّيّتها وقدرة التصرّف المعامليّ لمن تلف ماله في ما يكون له في ذمّة المتلف، وكذلك في القرض مثلا تصبح عين المال ملكاً للمقترض ولكن تستقرّ ماليّته أو مثليّته في ذمّته، ويمكن إيقاع بعض المعاملات عليها.

اختلاف الذمّة عن العهدة:

والذمّة تختلف عن العهدة، ويظهر من الكلمات المنقولة عن المحقّق النائيني (رحمه الله): أنّ الفرق الجوهري بينهما هو أنّ الأموال الخارجيّة أو أداءها تكون في العهدة لا في الذمّة، والذمّة وعاء للأموال الكلّية فحسب(1).

والواقع أنّ كون العهدة وعاءً لأداء الأموال الخارجيّة صحيح فإنـّها وعاءٌ للتكاليف وما يلزم على الإنسان من أعمال ومنها أداء الأموال الخارجيّة. وأمـّا كون الذمّة وعاءً للأموال الكلّية فايضاً صحيح على أن يكون المقصود به ما جاء في تعابير اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من كونها وعاءً للأموال الرمزية.

هذا وربّما يكون في العهدة أداء مال مّا من دون تعيّن خارجيّ لذاك المال، ولا يكون ذاك المال رغم كلّيّته شاغلا للذمّة كما في نفقة الأقارب الواجبة على الإنسان، فعهدة الإنسان مشغولة بنفقة الأقارب بينما ذمّته غير مشغولة بها، ولا


(1) راجع كتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 352، وكتاب منية الطالب للشيخ موسى النجفي 1: 141 السطر 7 و ص 145 س 12 و ص 147 س 15.

52

ضمان عليه لو ترك، فلو مات مثلا لم تؤخذ النفقة الماضية التي لم يؤدّها من التركة، وربّما يكون المال الكلّي مرتبطاً بالعهدة والذمّة معاً، كما في من أتلف مال غيره فقد انشغلت ذمّته بالمال وانشغلت عهدته بوجوب إفراغ الذمّة وأداء المال، بينما الطفل الصغير الذي أتلف مال غيره مثلا انشغلت ذمّته بالمال لكن ليس على عهدته شيء، ولو استدان مالا من كافر حربيّ انشغلت ذمّته ولكن ليس على عهدته الأداء، وبإمكانه أن يمتلك ما في ذمّته فيسقط عنه وتفرغ ذمّته، وطبيعيّ أنّ المال الخارجيّ لا يشغل الذمّة لأنّ الذمّة وعاء اعتباريّ فرض كمحلٍّ لاستيعاب الأموال التي لم يستوعبها الظرف الخارجيّ. أمـّا المال الموجود في ظرف الخارج فليس بحاجة إلى ظرف اعتباريّ من هذا القبيل.

هذا، والذي يبيع كلّيّاً في ذمّته وإن كان لا يوجد قبل البيع مال في ذمّته يمتلكه كي يبيعه لكن يكفي إشباعاً للقانون العقلائيّ الذي يقول: لا بيع إلّا في ملك، مالكيّة الإنسان لنفس الذمّة التي هي من سنخ مالكيّته لنفسه ولأعماله، فهو أولى بإشغال ذمّته من غيره أو إبقائها على الفراغ.

المفهوم الفقهي للدَين مقارناً للقانون الوضعي:

والدَين في مفهومه الفقهيّ لدينا هو المال الكلّي الاعتباريّ الرمزي الذي أشغل وعاء الذمّة الذي يفترض لصيقاً بالإنسان، ولكنّه في مفاهيم الفقه الغربيّ ليس عدا مجرّد التزام شخص لشخص، فهو أقرب شيء إلى مفهوم انشغال العهدة لدينا، ورابطة بين إنسان وإنسان، لا بين إنسان ومال، وكان هذا هو الفرق عندهم بين ما يسمّونه بالحقّ الشخصيّ وما يسمّونه بالحقّ العينيّ، فالحقّ العينيّ هو الذي يربط الإنسان بعين خارجيّة، والحقّ الشخصيّ هو الذي يربط الإنسان بإنسان آخر. وقال الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوريّ متحدّثاً عن الرابط بين الدائن والمدين:

53

ولم تثبت هذه الرابطة على حال واحدة، بل إنّها تطوّرت، فكانت في أوّل أمرها سلطة تعطى للدائن على جسم المدين لا على ماله، وكان هذا هو الذي يميّز بين الحقّ العينيّ والحقّ الشخصيّ، فالأوّل سلطة تعطى للشخص على شيء، والثاني سلطة تعطى للشخص على شخص آخر، وكانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها حقّ الإعدام وحقّ الاسترقاق وحقّ التصرّف، ثمّ تلطّفت هذه السلطة فصارت مقصورة على التنفيذ البدني بحبس المدين مثلا، ولم يصل الدائن إلى التنفيذ على مال المدين إلّا بعد تطوّر طويل، فأصبح للالتزام منذ عهد الرومان مظهران: مظهر باعتباره رابطة شخصيّة فيما بين الدائن والمدين، ومظهر باعتباره عنصراً ماليّاً يقوم حقّاً لذمّة الدائن ويترتّب دَيناً في ذمّة المدين. ولا يزال الالتزام محتفظاً بهذين المظهرين إلى الوقت الحاضر وإن اختلفت المذاهب فيه، فمذهب يغلّب الناحية الشخصيّة وهو المذهب الفرنسيّ التقليديّ الموروث عن القانون الرومانيّ، ومذهب يغلّب الناحية الماليّة وهو المذهب الألمانيّ الحديث....

وأشهر من قال بالمذهب الشخصيّ من فقهاء الألمان (سافيني) فقد كان يرى الالتزام رابطة شخصيّة تخضع المدين للدائن، وهي صورة مصغّرة من الرقّ، فالسلطة التي تمنح لشخص على شخص آخر قد تستغرق حرّيّة من يخضع لهذه السلطة، وهذا هو الرقّ الكامل والملكيّة التامّة، وقد لا تتناول السلطة إلّا بعض هذه الحرّيّة، ولا تمتدّ إلّا إلى جزء من نشاط المدين، فيترتّب من ذلك حقّ للدائن قريب من حقّ الملكيّة ولكنّه ليس إيّاها، فهو حقّ خاصّ بعمل معيّن من أعمال المدين....

هذه النظريّة قام في وجهها فقهاء الألمان وعلى رأسهم (چييريك) وأبوا أن

54

تستقرّ في الفقه الألمانيّ بعد أن عملوا على تحرير قانونهم من النظريّات الرومانيّة وغلّبوا النظريّات الجرمانيّة الأصل عليها، وقد بيّن چييريك أنّ الفكرة الجرمانيّة في الالتزام لا تقف عند الرابطة الشخصيّة كما كان الأمر في القانون الروماني، بل تنظر إلى محلّ الالتزام وهو العنصر الأساسيّ وتجرّده من الرابطة الشخصيّة حتّى يصبح الالتزام عنصراً ماليّاً أكثر منه علاقة شخصيّة، فينفصل الالتزام بذلك عن شخص الدائن وعن شخص المدين، ويختلط بمحلّه فيصبح شيئاً مادّيّاً العبرة فيه بقيمته الماليّة(1).

ومن هنا دخلت فكرة الذمّة في الفقه الغربي، إلّا أنّها اختلفت عن فكرة الذمّة عندنا، فبينما الذمّة عندنا وعاء اعتباريّ لصيق بالإنسان لا علاقة له بأمواله الخارجيّة كانت لديهم عبارة عمّا يسمّى بالثروة أو بالذمّة الماليّة، وهي وعاء تستوعب كلّ أموال الإنسان الخارجيّة وغيرها إيجابيّة وسلبيّة. ففي الذمّة الماليّة عندهم عنصران: عنصر إيجابيّ هو الحقوق، وعنصر سلبيّ هو التكليفات، والذمّة تتكوّن من العنصرين معاً. وحاصل الفرق بين العنصرين يسمّى الصافي، وقد تكون الذمّه خالية ليس فيها حقوق ولا تكليفات كذمّة الوليد الذي ليس له مال(2).

هذا، والتصوير القديم للفقه الغربي لمعنى الدَين وفهمهم لحقيقة الالتزام الشخصيّ أدّى إلى عدم تصويرهم لحوالة المدين إلى شخص آخر في دَينه، وهذه هي الحوالة في فقهنا وهي حوالة الدَين في فقههم، أو تغيير الدائن من شخص إلى


(1) الوسيط 1: 118 - 120 الفقرة 7 - 9 بحسب الطبعة الثانية.

(2) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للاُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء 3: 233 الفقرة 128 بحسب الطبعة الخامسة.

55

آخر، وهذا ما يتصوّر في فقهنا ضمن بيع الدَين أو هبته، ويسمّى في فقههم بحوالة الحقّ. قال الدكتور السنهوري:

قد كانت فكرة الرابطة الشخصيّة هي الفكرة السائدة في القانون الرومانيّ، ثمّ سادت بعد ذلك عصوراً طويلة في القوانين اللاتينيّة، فلم يكن يمكن معها تصوّر انتقال الالتزام لا من دائن إلى دائن آخر، ولا من مدين إلى مدين آخر، على أنّ استعصاء الالتزام على الانتقال لم يثبت في هذه القوانين القديمة إلّا في انتقاله فيما بين الأحياء. أمـّا انتقال الالتزام إلى الوارث بسبب الموت فإنّ هذه القوانين لم تلبث أن استساغته منذ عهد طويل... فينتقل الالتزام من الدائن عند موته إلى ورثته من بعده، ويصبح هؤلاء هم الدائنون مكانه، وكذلك ينتقل الالتزام من المدين عند موته إلى ورثته من بعده، ويصبح هؤلاء هم المدينون مكانه... وتعتبر شخصيّة الوارث إنّما هي استمرار لشخصيّة المورّث، فكأنّ الالتزام لم ينتقل إلى شخص جديد بموت صاحبه، بل بقي عند صاحبه ممثّلا في شخص الوارث...

وقد يبدو أنّ الالتزام يتحوّر في الشرائع الغربيّة إذا هو انتقل من المدين إلى وارثه وقَبِل الوارث الميراث محتفظاً بحقّ التجريد، فيفصل أموال التركة عن أمواله الشخصيّة ولا يكون مسؤولا عن ديون التركة إلّا في المال الذي ورثه، فيصبح الالتزام بعد أن انتقل إلى الوارث لا يمكن التنفيذ به إلّا على أموال التركة التي انتقلت إلى هذا الوارث، ولكن هذا التحوير ليس تحويراً حقيقيّاً، فالواقع من الأمر أنّ الالتزام بقي ـ من ناحية المال الذي يجوز التنفيذ عليه ـ كما كان في حياة المورّث، فقد كان عندئذ لا يمكن التنفيذ به إلّا على ماله فبقي كما كان....

وإذا كان قد أمكن في انتقال الالتزام بسبب الموت جعل الوارث خلفاً عامّاً

56

للمورّث، وتصوير هذه الخلافة العامّة كأنـّها استمرار لشخصيّة المورّث، ففي انتقال الالتزام ما بين الأحياء حيث الخلافة خاصّة لا يمكن تصوير هذه الخلافة الخاصّة حال الحياة كما أمكن تصوير الخلافة العامّة بعد الموت استمراراً لشخصيّة السلف، ذلك أنّه إذا أمكن القول بأنّ المورّث ـ وقد زالت شخصيّته بالموت ـ يتصوّر استمرارها في شخص الوارث فإنـّه يتعذّر القول بأنّ السلف وهو لا يزال حيّاً تستمرّ شخصيّته في شخصيّة خلفه الخاصّ.

من أجل ذلك لم يكن ممكناً أن ينتقل الالتزام حال الحياة في القانون الروماني من دائن إلى دائن آخر، أو من مدين إلى مدين آخر عن طريق حوالة الحقّ أو عن طريق حوالة الدَين، ولم يكن ممكناً إذا اُريد تغيير شخص الدائن إلّا تجديد الالتزام بتغيير الدائن، أو اُريد تغيير شخص المدين إلّا بتجديد الالتزام بتغيير المدين، وفي الحالتين لم يكن الالتزام ذاته بمقوّماته وخصائصه هو الذي ينتقل من شخص إلى شخص آخر، بل كان الالتزام الأصليّ ينقضي بالتجديد، وينشأ مكانه التزام جديد بمقوّمات وخصائص غير المقوّمات والخصائص التي كانت للالتزام الأصليّ، وفي هذا الالتزام الجديد كان يتغيّر شخص الدائن، أو يتغيّر شخص المدين.

على أنّ الرومان كانوا يلجأون إلى طريقة اُخرى لتحويل الالتزام من دائن إلى دائن آخر دون تدخّل من المدين، فكان الدائن الأصليّ يوكّل من يريد تحويل الالتزام إليه في قبض الدَين باسمه من المدين، وكان هذا التوكيل وسيلة يستطيع بها الوكيل أن يقبض الدَين من المدين دون حاجة إلى رضائه بتحويل الدَين، ولكن هذه الطريقة لم تكن مأمونة، فإنّ الدائن الأصليّ كان يستطيع أن يعزل الوكيل قبل أن يقبض الدَين.

57

وبقي القانون الرومانيّ على هذه الحال دون أن يعرف لا حوالة الحقّ ولا حوالة الدَين، وبقيت الحوالة مجهولة مدةً طويلة في القانون الفرنسيّ القديم يتحايلون عليها عن طريق التوكيل بقبض الدَين الذي كان القانون الروماني يلجأ إليه حتى أصبح هذا الطريق مألوفاً، ومنه دخلت حوالة الحقّ في القانون الفرنسيّ القديم، وأصبح مسلّماً في هذا القانون أنّه يجوز للدائن أن يحوّل حقّه إلى دائن آخر دون حاجة إلى الحصول على رضاء المدين بالحوالة، على غرار التوكيل بالقبض الذي أصبح مفترضاً دون نصّ. وهذا بالرغم من أنّ التحليل القانونيّ الدقيق... يستعصي على أن ينتقل الالتزام وهو رابطة شخصيّة من دائن إلى دائن آخر.

وساعد على إمكان انتقال الالتزام من دائن إلى دائن آخر أنّ فكرة الالتزام باعتباره رابطة شخصية أخذت تتطوّر، وأخذ العنصر المادّيّ في الالتزام يبرز شيئاً فشيئاً، فأصبح من السهل أن نتصوّر أنّ الالتزام باعتباره قيمة ماليّة لا باعتباره رابطة شخصيّة، وبالنسبة إلى موضوعه لا بالنسبة إلى أطرافه ينتقل من دائن إلى دائن آخر.

ولكنّ التطوّر في القوانين اللاتينيّة وقف عند هذا الحدّ، ولم يصل القانون الفرنسيّ حتى اليوم إلى تنظيم حوالة الدَين، أي انتقال الالتزام من مدين إلى مدين آخر، وليس هناك سبيل إلى تغيير المدين في الالتزام إلّا عن طريق التجديد أو الإنابة في الوفاء، ذلك أنّ شخصيّة المدين في الالتزام أكبر خطراً من شخصيّة الدائن، فعلى شخصيّة المدين ومقدار يساره وحُسن استعداده للوفاء بدَينه تتوقّف قيمة الدَين، فلم يكن من السهل التسليم بتحويل الالتزام من مدين إلى مدين آخر دون أن يكون الدائن طرفاً في هذا التحويل عن طريق التجديد، لأنّ الدائن يأبى

58

أن يتغيّر عليه المدين من دون رضائه، ويعنيه من تغيير مدينه ما لا يعني المدين من تغيير دائنه، فبقيت القوانين اللاتينيّة عند هذه المرحلة من التطوّر لم تستكمله إلى غايته، وذلك مع استثناء التقنين المدني الإيطالي الجديد، فقد أقرّ حوالة الدَين عند الكلام في الإنابة في الوفاء....

أمـّا التقنينات الجرمانيّة فقد سارت في التطوّر إلى نهاية الطريق، وما دامت فكرة الالتزام قد تطوّرت فأصبح الالتزام قيمة مادّيّة أكثر منه رابطة شخصيّة، وما دام قد أمكن تصوّر انتقال الالتزام من دائن إلى دائن آخر فما الذي يحول دون التسليم بانتقاله من مدين إلى مدين آخر ومن ثمّ يعرف كلّ من التقنين المدنيّ الألمانيّ (م 1414 - 1419) وتقنين الالتزامات السويسريّ (م 175 - 183) إلى جانب حوالة الحقّ حوالة الدَين(1). هذا ما أردنا نقله هنا من مقاطع من عبائر السنهوريّ بنصّها.

حوالة الدَين مقارناً للقانون الوضعي:

وفي فقهنا الإسلاميّ يوجد باب باسم باب الحوالة، ويقصدون بالحوالة حوالة الدَين. أمـّا اصطلاح حوالة الحقّ فلم يرد في فقهنا، فقد يتراءى في النظر ـ على هذا الأساسـ أنّ الفقه الإسلاميّ عرف حوالة الدين بين الأحياء ولم يعرف حوالة الحقّ خاصّة إذا نظرنا إلى الفقه السنّي الذي لا يعترف ـ في غالب مذاهبه ـ ببيع الدَين أو هبته، إلّا في المذهب المالكيّ في الجملة(2).

وهذا شيء غير ممكن أن يقع في فقه مّا على رأي الدكتور السنهوريّ، وإلّا


(1) الوسيط 3: 414 - 419 الفقرة 237 ـ 239.

(2) راجع الوسيط 3: 421 و 434 ـ 437 الفقرة 240.

59

كان هذا بدعاً في تطوّر القانون ـ على حدّ تعبيره ـ وذلك لأمرين:

أحدهما: أنّه من غير الطبيعي أن يعرف نظام قانونيّ حوالة الدَين قبل أن يعرف حوالة الحقّ، لما مضى من أنّ رابطة الالتزام بالمدين أشدّ وأقوى منها بالدائن، وشخصيّة المدين أخطر في هذه الرابطة من شخصيّة الدائن.

وثانيهما: أنّه من غير الطبيعي أن يسلّم نظام قانونيّ بانتقال الدَين بين الأحياء من مدين إلى آخر وهو لم يعترف بانتقاله بسبب الموت، لأنّ تصوّر قيام الوارث مقام الميّت أسهل من تصوّر قيام شخص مقام من هو حيّ يرزق ـ كما مضى ـ والإسلام لا يعترف بانتقال ديون الميّت إلى الوارث.

وهنا يواجه الدكتور السنهوري فتاوى الفقهاء الاسلاميّين الذين أفتوا بحوالة الدَين فيما بين الأحياء، بينما لم يفتوا بانتقال الدَين بالموت إلى الوارث، ولا بحوالة الحقّ إلّا في المذهب المالكيّ الذي اعترف به في الجملة ـ على حدّ تعبيره ـ وطبعاً هو ينظر إلى فتاوى فقهاء العامّة وليس على اطّلاع من فتاوى فقهاء الشيعة.

ويتصدّى لتوجيه هذه الفتاوى وتفسيرها بالنحو الذي لا يعارض ما ذكره من عدم إمكان معرفة حوالة الدَين قبل معرفة حوالة الحقّ، وعدم إمكان معرفة انتقال الدَين بين الأحياء قبل معرفة انتقاله بالموت، ويقيم بعض الشواهد على تفسيره، وهو يأخذ الرأي الإسلاميّ من كتب السنّة كما قلنا، ويستخلص من كلامه حول الموضوع ما يلي:

إنّ حوالة الحقّ بين الأحياء لم يعترف بها أحد من المذاهب الأربعة عدا المذهب المالكيّ،حيث أقرّهافيمايسمّيه بهبة الدَين وببيع الدَين ضمن بعض الشروط. أمـّا المذاهب الثلاثة الاُخرى فلا تجيز بيع الدَين أو هبته من غير من هو عليه.

وأمـّا حوالة الدَين فإن فرضت حوالة على البريء فهي ممّا لا تعترف به

60

المذاهب الثلاثة، أي غير المذهب الحنفي، فالذي يبقى مورداً للبحث عن أنّه هل يخالف سلّم التطوّر المفروض في الفقه أوْ لا؟ إنّما هي الحوالة على البريء في الفقه الحنفيّ، والحوالة على المدين في كلّ المذاهب الأربعة.

على أنّ المعترفين بالحوالة منهم من يُرجع ـ في الحقيقة ـ الحوالة إلى باب الضمان(1) كزفر من الحنفيّين، حيث يفسّرها بضمّ ذمّة المحال عليه إلى ذمّة المدين في المطالبة، فهذا أيضاً يخرج من موضوع البحث، لأنّ الدَين لم ينتقل في الحقيقة إلى المحال عليه، وغاية الأمر أنّ الدائن له حقّ مطالبة المحال عليه كما له حقّ مطالبة المدين كما هو الحال في باب الضمان(2).

ومنهم من يفسّر الحوالة بمعنى انتقال المطالبة وحدها دون الدَين من المدين إلى المحال عليه، كما قال به محمّد من الحنفيّين، وهذا أيضاً خروج عن موضع البحث، لأنّ الدَين لم ينتقل، فلو أراد المدين أن يقضي الدَين لا يكون متبرّعاً، لأنّه لا زال مديناً وليس من حقّ الدائن الامتناع من الاستيفاء. ولو أبرأ الدائن المحال عليه لا يسقط بهذا دَينه، ولا يرجع المحال عليه على المدين ولو كانت الحوالة بأمره، لأنّ الدائن لم يبرئ المحال عليه من الدَين، بل من مجرّد المطالبة ولو توى الدَين عند المحال عليه بمثل الموت أو الفلس أو الإنكار مع


(1) عبّر السنهوري هنا بالكفالة، ومقصوده هو ما نسمّيه بالضمان.

(2) هذا جريٌ على ما هو المنسوب إلى المشهور في فقه السنّة من أنّ الضمان ضمّ ذمّة إلى ذمّة، خلافاً لما عند الشيعة من أنـّه نقل من الذمّة إلى ذمّة اُخرى.

وأظنّ أنّ واقع مقصودهم هو ضمّ عهدة إلى عهدة لا الذمّة بمعناها الدقيق الذي شرحناها في ما سبق، فلا يرد عليهم ما جاء في الجواهر من الاستشكال في تصوّر شغل ذمّتين فصاعداً بمال واحد. راجع الجواهر 26: 113، أوّل كتاب الضمان.

61

عدم البيّنة عادت المطالبة إلى المدين، فيرجع عليه الدائن بالدَين نفسه لا بالضمان، بينما لو كان الدَين قد انتقل إلى المحال عليه لما كان للدائن الرجوع بنفس الدَين، وإنّما كان يرجع عليه بعنوان ضمان الدَين التالف.

والخلاصة: أنّ الحوالة على هذا المسلك راجعة أيضاً إلى الضمان(1)، إلّا أنّه ضمان محوّر يختلف عن الضمان العادي، لأنّ الضمان العادي يكون الدائن فيه بالخيار إن شاء طالب المدين الأصليّ، وإن شاء طالب الضامن، بينما في المقام يطالب أوّلا المحال عليه، فإن توى الدين عنده طالب المدين.

فالذي يبقى مورداً للبحث إنّما هو ما جاء في مثل رأي أبي حنيفة وأبي يوسف من تفسير الحوالة بانتقال الدَين من ذمّة المدين إلى ذمّة المحال عليه، وهذا أيضاً يجب صرفه عن معنى الحوالة. بمحتواها الدقيق إلى طريقة التجديد، ولا يصحّ حمله على حوالة الدَين كما يشهد لذلك أمران ـ والاستشهاد بثاني الأمرين على المطلوب هو صريح كلام السنهوري، والاستشهاد بالأمر الأوّل يظهر من بعض عبائره ـ وهما ما يلي:

1 ـ في غير المذهب الحنفيّ لم يعترف بالحوالة على البريء، وإنّما الموجود فيها بالنسبة للبريء هو الضمان(2). أفلا يعني هذا أنّ ما اعترفوا به من الحوالة على المدين إنّما قصدوا بذلك أنّ المدين يوفي عن طريق ما يسمّى بالحوالة الدَين الذي عليه للدائن بالحقّ الذي له في ذمّة المحال عليه؟ فهو بدلا من أن يستوفي حقّه من المحال عليه ثمّ يوفي بهذا الحقّ الذي استوفاه الدَين الذي


(1) عبّر السنهوري بالكفالة.

(2) عبّر السنهوري بالكفالة.

62

عليه للدائن يختصر هاتين العمليّتين في عمليّة واحدة، فيقضي الدَين الذي عليه بالحقّ الذي له دون أن يستوفي شيئاً من مدينه أو يوفي شيئاً لدائنه، بل يقتصر على أن يحيل دائنه على مدينه، وذلك لا يعني الاعتراف بفكرة الحوالة بمعناها الدقيق، وإلّا لاعترفوا بها في الحوالة على البريء، ففيها تتجلّى الحوالة بالمعنى الدقيق لا في الحوالة على دَين المدين الراجعة إلى لون من الوفاء يفسّر على أساس التجديد بتغيير المدين.

2 ـ أنّه سواء تكلّمنا على المذهب الحنفي أو غيره فالتأمينات التي كانت على الدَين المحال به من قِبل المدين المحيل تنقضي، بينما لو كان هذا انتقالا للدَين نفسه لا تجديداً بتغيير المدين لانتقل مع الاحتفاظ بما لَه من تأمينات(1).

ويستبعد أيضاً السنهوري إرجاع الحوالة على المدين إلى حوالة الحقّ بأن يفترض أنّ المحيل ـ في الحقيقة ـ قد نقل الحقّ الذي كان له على المحال عليه إلى دائنه، ويستشهد لهذا الاستبعاد بوجوه، وبحثه في هذا الجانب وإن كان في فرض المذاهب الثلاثة الاُخرى غير المذهب الحنفي ولكن بعض تلك الشواهد ـ على الأقلّ ـ مشترك في الحقيقة بين المذاهب الأربعة، وهي كما يلي:

1 ـ أنّ تأمينات دَين المحال عليه التي كانت للمحيل لا تنتقل إلى دائن المحيل.

2 ـ لو كان للمحال عليه عذر به يمتنع عن أداء الدَين إلى المحيل ولم يكن ذاك العذر راجعاً إلى مجرّد علاقة الدائنيّة والمديونيّة لم ينتقل في صريح بعض الفتاوى العذر مع انتقال الدَين إلى المحال. وجاء في الوسيط في التعليق الموجود تحت الخطّ مثال ذلك كما يلي:


(1) راجع الوسيط 3: 421 - 433 الفقرة 240.

63

جاء في كتاب المهذّب: وإن أحال البائع رجلا على المشتري بالألف ثمّ ردّ المشتري المبيع بعيب لم تبطل الحوالة وجهاً واحداً، لأنّه تعلّق بالحوالة حقّ غير المتعاقدين وهو الاجنبيّ المحتال، فلم يجز إبطالها.

3 ـ لو كان هذا الحقّ قد انتقل إلى الدائن المحال وكان المحال عليه معسراً وقت الحوالة أو أعسر بعد ذلك فقد كان ينبغي أن يضمن المدين المحيل الدَين لدائنه، بينما الذي يظهر من الفتاوى أنّ المدين لا يضمن إعسار المحال عليه.

4 ـ ولو كان مقدّراً لهذا الحقّ أن ينتقل إلى الدائن ولكن لم يتمكّن المدين من نقله كأن كان الحقّ ثمناً لمبيع استحقّ أو كان وديعة فهلكت فقد كان ينبغي أن يعتبر الدائن غير مستوف لدينه، أو أنّ الحقّ لم ينتقل إليه، فيبقي الدائن دَينه في ذمّة المدين، ولكن هذا الحكم لا يظهر في وضوح من النصوص(1).

أقول: الشاهد الرابع نقلته بنصّه، وكأنّ مقصوده بكون الحقّ ثمناً لمبيع استحقّ هو أنّ المحال عليه كان قد اشترى من المحيل شيئاً بثمن ولم يكن قد أدّى الثمن فحوّل البائع دائنه على هذا الثمن ولكن تبيّن أنّ الثمن قد استحقّه المحال عليه بسبب من أسباب انفساخ البيع كالتلف قبل القبض مثلا، فلو كان هذا عبارة عن حوالة الحقّ بالمعنى الدقيق للكلمة للزم أن تكون الحوالة باطلة، إذ ظهر أنّها حوالة على ثمن خياليّ لا واقع له، أفلا يعني فرض عدم بطلانها أنّه لم يحوّل في المقام نفس الحقّ وإنّما اُحدث حقّ جديد بين الدائن والمحال عليه.

أمـّا مثال الحوالة على الوديعة التي تلفت فخروج عن المقام، لأنّها حوالة على عين خارجيّة لا على إنسان كي نبحث عن أنّ هذا هل هو حوالة حقّ بالمعنى


(1) راجع الوسيط 3: 430 - 431 الفقرة 240.

64

الدقيق للكلمة أو إنهاءٌ لحقّ وتجديد لحقّ آخر؟ فواقع الأمر ليس هذا ولا ذاك، بل هو محاولة لأداء الدَين بعين خارجيّة انكشف تلفها، فالمفروض كون الأداء باطلا على كلّ تقدير.

بل أنّ مسألة عدم اعتبار الدائن غير مستوف لدَينه في مثال حوالته على ثمن المبيع أيضاً لا تصلح شاهداً على عدم حوالة الحقّ، فإنّه حتّى لو لم يفرض إرجاع الثمن إلى الشخص الثالث حوالة للحقّ بالمعنى الدقيق للكلمة وفرض أنّ واقع المطلب إنهاء دَين المحيل ودَين المحال عليه وإيجاد دَين جديد لصالح المحال فلا شك في أنّ إنهاء دَين المحيل كان مشروطاً بإيجاد الدَين الجديد في صالح المحال المشروط بدوره بثبوت الثمن على المحال عليه، فعدم إمكان نقل ذلك إلى المحال يؤدّي ـ لا محالة ـ إلى رجوع المحال إلى المحيل. إذن فالإفتاء بعدم رجوعه اليه ـ لو تمّ ـ يكون ذلك حياديّاً تجاه مسألتنا، وهي كون المقام من حوالة الحقّ وعدمه.

وبهذا يظهر أنّ الشاهد الثالث أيضاً حياديّ تجاه بحثنا، فإنّ المفروض أن يضمن المحيل الدَين لدائنه عند إعسار المحال عليه على كلّ حال، أي سواء تصوّرنا في المقام حوالة الحقّ أو لا فإنّ الرضا بسقوط دَين المحيل ـ على أيّ حال ـ كان مشروطاً بعدم إعسار المحال عليه. أمـّا إذا لم يكن مشروطاً بذلك فالمفروض سقوط دَينه وعدم الضمان على كلّ حال، فهذه المسألة حياديّة تجاه مسألتنا.

والشاهد الثاني أيضاً لا يكفي في نفي حوالة الحقّ في المقام، لأنّ العذر المانع عن أداء الدَين ليس ارتباطه بالدَين فقط بل له نسبة إلى الدائن أيضاً، إذ قد صار عذراً عن أداء الدَين لهذا الدائن، وعندئذ يجب أن يرى أن نسبته إلى كلا

65

الدائنَين هل هي على حدّ سواء أو أنّ هناك فرقاً بين الدائنَين جعله عذراً تجاه أحدهما دون الآخر؟ فلو أفتى أحد بأنّ المشتري لو ردّ المبيع بعيب لم تبطل الحوالة فلعلّه يعتقد أنّ العيب إنّما يؤثّر في الامتناع تجاه البائع، ولا يؤثّر في الامتناع تجاه إنسان أجنبيّ تعلّق حقّه بسبب الحوالة بالثمن.

ومن هنا يظهر أنّ الشاهد الأوّل أيضاً لا أثر له في المقام، فإنّ التأمينات لها علاقة بالدائن كما لها علاقة بالدَين، فقد يقال: إنّ التأمينات إنّما وضعت لدَين مّا تجاه دائن مّا، فإذا تبدّل الدائن لم يكن من الضروري تحوّل التأمينات إلى الدائن الجديد.

وأمـّا ما استدلّ به على نفي كون ما تعارف ذكره في الفقه الإسلاميّ من الحوالة عبارة عن حوالة الدَين بدقيق معنى الكلمة وهو أيضاً عبارة عن التأمينات بدعوى أنّ التأمينات لا تبقى على حالها لدى تبدّل المدين، وهذا يعني أنّ الدَين السابق انتفى ووجد دَين جديد، إذ لو كان نفس الدَين السابق قد انتقل إلى شخص آخر لكان يحتفظ الدَين بتأميناته.

فالجواب على ذلك: ما أفاده اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من أنّ التأمينات تجعل عادةً على دَين مّا وبلحاظ مدين مّا. أمـّا لو تبدّل المدين إلى شخص آخر فقد لا يرى الدائن حاجة إلى فرض تأمينات بالقياس له. نعم، لا مانع من افتراض النصّ منذ البدء على أنّ هذه التأمينات هي تأمينات على ذات هذا الدَين أينما حلّ، ومع هذا النصّ لا نتحاشى من ثبوت التأمينات على حالها، ولا يشترط في الرهن مثلا أن يكون ملكاً للمدين.

وأمـّا ما يظهر من بعض عبائر الوسيط كشاهد آخر على نفي كون ما سمّي بالحوالة في الفقه الإسلامي حوالة للدَين بالمعنى الدقيق للكلمة، وذلك في غير الفقه الحنفي من أنّهم لم يعترفوا بالحوالة على البريء، وخصّوا الحوالة بالحوالة على المدين، وهذا يعني أنّهم يقصدون بالحوالة الوفاء، وبما أنّه لا معنى للوفاء

66

في البريء ولذا خصّت الحوالة بالحوالة على المدين، والحوالة بالمعنى الحقيقي لا تكون إلّا في الحوالة المطلقة، أي غير المقيّدة بالدَين، وتخريج الحوالة التي ذكروها إنّما هو تجديد الدَين لا المعنى الدقيق لحوالة الدَين، فهذا كلام لا محصّل له، فإنّ فرض كون الحوالة على المدين وفاءً حياديّ تجاه تفسيرها بالمعنى الدقيق للحوالة وتفسيرها بمعنى تجديد الدين، ولئن كان تفسيرها بمعنى الحوالة يؤدّي إلى الاستفهام عن أنّها لماذا تخصّ بالمدين؟ كذلك تفسيرها بتجديد الدَين يؤدّي إلى نفس الاستفهام، وهو أنّه لماذا تخصّ بالمدين؟

نعم، لو كان عنوان الوفاء عنواناً مستقلاًّ بنفسه لا يفسّر على أساس الحوالة ولا على أساس تجديد الدَين لكان لاختصاص ذلك بالمدين دون البريء وجـه بأن يقال: إنّ المدين إنّما يوفي دَينه بما يملكه لا بمال إنسان بريء مثلا، ولكن السنهوري نفسه لم يفترض أنّ عنوان الوفاء بنفسه عنوان مستقلّ غير محتاج إلى تكييف، بل فرضه محتاجاً إلى تكييف، وذكر أنّ تكييفه يكون بمعنى تجديد الدَين لا الحوالة بمعناها الدقيق، وإذا كان عنوان الوفاء ليس هو التفسير والتكييف الكافيين للمسألة فلا أدري لماذا تكون الحوالة بمعناها الدقيق غير متصوّرة إلّا في الحوالة المطلقة دون الحوالة على الدَين؟ !

الحوالة على البريء في الفقه الشيعي:

وعلى أيّة حال، فلئن كان أغلب مذاهب السنّة غير معترف بالحوالة على البريء فالمشهور لدى الشيعة ـ على ما جاء في الجواهر(1) ـ هو الاعتراف بها.

وذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بالنسبة لمن ينكر منهم الحوالة على البريء: أنّهذا الإنكار ليس لأجل الصعوبة في تصوير أصل الحوالة، بل لدعوى أنّ الحوالة على البريء ترجع إلى الضمان، فباب الضمان يختلف عن باب الحوالة بأنّ الحوالة


(1) راجع الجواهر 26: 165.

67

تصدر من المدين إلى من يقع عليه الدَين بعد الحوالة، والضمان بالعكس، فهو شيء يصدر من نفس من يقع عليه الدَين، ويقال: إنّ الحوالة على البريء يرجع روحها إلى الضمان، فإنـّه ـ في الحقيقة ـ يصدر من الذي يقع عليه الدَين بهذه المعاملة التقبّل للدَين، وهذا عبارة عن الضمان، فلا تتصوّر الحوالة على البريء بنحو يفترق عن الضمان، هذا ما يذكر في المقام. وهذا ـ كما ترى ـ غير مربوط بصعوبة أصل تصوير الحوالة. والحقّ: أنّ الحوالة على البريء أيضاً صحيحة ولا ترجع إلى باب الضمان على تحقيق موكول إلى محلّه(1). انتهى ما أردنا نقله من اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

ولعلّه ينظر (رحمه الله) في تصحيحه للحوالة على البريء من دون رجوع إلى باب الضمان إلى ما ذكره في الجواهر من أنّ إنشاء الضمان يكون في باب الضمان من الضامن، وفي باب الحوالة من المحيل، غاية الأمر أنّه يفرض اشتراط رضا المحال عليه بما أنشأ المحيل من الحوالة، وهذا غير إنشاء الضمان منه مباشرة.

اختلاط التصوّرات عند (السنهوري) في باب الحوالة:

وأمّا أصل ما ذكره السنهوري من كون تصوير حوالة الدَين أصعب من تصوير حوالة الحقّ وتحميله لهذا الأمر على الفقه الإسلامي وأنّه لا يمكن للفقه الإسلامي معرفة حوالة الدَين قبل معرفة حوالة الحقّ فهذا ـ كما ذكره اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ـ خلط بين تصوّرات الفقه الغربي وتصوّرات الفقه الإسلامي فلئن واجه الفقه الغربي مشكلة من هذا القبيل على أساس أنّه يرى الدَين عبارة عن الالتزام ـ وهو خيط بين الدائن والمدين ـ لا مالا موجوداً في ذمّة المدين وعندئذ يصعب عليه تصوّر تبديل أحد طرفي الالتزام لأنّ الالتزام متقوّم بطرفيه فالفقه الإسلامي من أساسه لا يواجه مشكلة كهذه، لأنّه يرى أنّ الدَين مالٌ موجود في ذمّة المدين يتصوّر النقل والانتقال فيه على حدّ تصوّرهما في المال الخارجيّ.


(1) من تقرير غير مطبوع لنا لبعض أبحاثه (رحمه الله).

68

فحوالة الدَين عبارة عن نقل المال من مكان إلى مكان، أي من ذمّة إلى ذمّة. وحوالة الحقّ عبارة عن تبديل مالك هذا المال الموجود في الذمّة. وهذان أمران لا يرتبط أحدهما بالآخر، ويجوز للفقه أن يتصوّر أحدهما دون الآخر، سواء كان ما تصوّره عبارة عن حوالة الحقّ دون حوالة الدَين، أو بالعكس.

أمّا عدم اعتراف الإسلام بانتقال الدَين في باب الموت إلى الورثة مع اعترافه بانتقال الحقّ إليهم فليس بسبب ما يقوله السنهوري من أنّ تصوّر انتقال الدَين أصعب من تصوّر انتقال الحقّ، وإنّما هو بسبب ما قاله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)وهو:

أنّ الإسلام يرى أنّ الدَين عبارة عن مال موجود في الذمّة، وليس عبارة عن الالتزام كما جاء في الفقه الغربي، ويرى أنّ ذمّة الشخص لا تموت بموت الشخص، فإنـّها وعاء اعتباري قابل للبقاء حتّى بعد الموت، ولذا لا حاجة إلى قيام المورّث مقام الوارث في الدَين، فإنّ الوارث إنّما يقوم مقام المورّث في ما يكون المورّث ميّتاً بلحاظه، وهذا هو الحال بلحاظ أمواله الخارجيّة وبلحاظ ما كان يطلبه من غيره، ولذا عرف الفقه الإسلامي انتقال الحقّ في باب الإرث.

وأمّا بلحاظ الديون الثابتة على الميّت فذمّة الميّت باقية على حالها ما لم يوفّ دينه، ولا مجال لقيام الوارث مقامه، ويوفّى دينه من تركته ثمّ يورّث المال كما قال تعالى: ﴿من بعد وصيّة يوصى بها أو دين﴾(1)، وعلى هذا الأساس لا يقول الإسلام بما جاء في الفقه الغربي من انتقال ديون الميّت إلى الورثة وأدائهم إيّاها بمقدار ما ورثوه من التركة، بل يقول: إنّ دَين الميّت لا علاقة له بالورثة.

والصحيح أنّ التركة تبقى ملكاً للميّت، ويوفّى دينه الثابت في ذمّته بها لا أنّ الدَين يتعلّق بالتركة، وإن لم تفِ تركته بمقدار دَينه بقيت ذمّته مشغولة إلى أن يتبرع عنه متبرع. انتهى كلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).


(1) النساء: 12.