433

وفهم هو من كلماتهم انّ المقصود كون عدم اشتمال الخيار لمدة معيّنة موجباً للغررولهذا عالج السنهوري نفسه الإشكال باشتراط مدة معيّنة للخيار تعيّن منذ البدء بينهما.

أقول: وقد يقصد بالغرر في المقام تعليق الخيار على أمر مجهول التحقق وهو بذل مريد الفسخ لمبلغ العربون. ولكن هذا أيضاً غير صحيح لأنّ هذا تعليق على أمر داخل تحت قدرة الفاسخ ومجهولية تحققه ليست باشدّ حالا من مجهولية تحقّق نفس الفسخ من الفاسخ. على انّ حديث الغرر في رأينا ضعيف السند فهو وارد في سنن البيهقي(1) ووارد أيضاً في كتبنا الروائية بأسانيد غير تامة(2).

هذا مضافاً إلى ان كون الغرر بمعنى مطلق الجهالة غير معلوم فمن المحتمل قوياً كونه بمعنى الخداع، أو يشمل الجهالة الفاحشة القريبة من الخداع، أما في المقام فتعليق الخيار على دفع مبلغ من المال ينفع المفسوخ عليه العقد لا انّه يوجب خداعه أو غرره.

روايات مبطليّة الجهالة:

وبهذه المناسبة لا بأس بالإشارة إلى ان لدينا روايات اُخرى قد يفترض حلولها محل حديث الغرر في بيان مبطليّة الجهالة من قبيل:

1 ـ ما عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ما كان من طعام سمّيت فيه كيلا


(1) سنن البيهقي 5: 338.

(2) راجع الوسائل 12: 330، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3، والمستدرك 2: 470، الباب 31 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1، والصفحة 461، الباب 7 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث الوحيد في الباب.

434

فلا يصلح بيعه مجازفة وهذا ممّا يكره من بيع الطعام(1) ونحوه غيره(2).

إلّا انّ الظاهر انّ هذه الروايات اجنبية عن المقام وان المقصود منها النهي عن بيع الطعام باسم كيل معيّن جزافاً ومن دون كيل لا النهي عن مطلق بيع صبرة جزافاً.

2 ـ ما عن محمد بن حمران قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) اشترينا طعاماً فزعم صاحبه انّه كاله فصدّقناه وأخذناه بكيله فقال لا بأس، فقلت: أيجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل؟ قال لا أما أنت فلا تبعه حتى تكيله(3) فقد يقال ان هذا النهي مطلق يشمل مثل بيع الصبرة جزافاً. إلّا انّ الصحيح انّ هذا الحديث أيضاً اجنبيّ عن ذلك فان المستفاد من كلمة (كما اشتريته) هو كون المقصود الاعتماد في البيع الثاني على كيل البائع الأوّل لا البيع بدون كيل، فالممنوع في هذا الحديث انّما هو هذا الاعتماد فمفاد الحديث هو انّك من حقك ان تعتمد على كيل صاحبك الذي تشتري منه ولكن لا تبعه باسم ذلك الكيل من دون أن تكيله.

3 ـ ما عن سماعة قال سألته عن شراء الطعام وما يكال ويوزن هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال امّا ان تأتي رجلا في طعام قد كيل ووزن تشتري منه مرابحة فلا بأس ان اشتريته منه ولم تكله ولم تزنه إذا كان المشتري الأوّل قد أخذه بكيل أو وزن وقلت له عند البيع انّي اربحك كذا وكذا وقد رضيت بكيلك ووزنك فلا بأس(4) فقد يقال ان مقتضى إطلاق مفهوم الحديث المنع عن شراء


(1) الوسائل 12: 254، الباب 4 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 1.

(2) راجع المصدر السابق: الحديث 2 و 3.

(3) الوسائل 12: 256، الباب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 4.

(4) الوسائل 12: 257، الباب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 7.

435

صبرة بغير كيل إذ لا بد من الكيل ولو من قبل المشتري الأوّل.

ولكن الظاهر أنّ ذكر المرابحة في الحديث قرينة، أو صالحة للقرينية على كونه اجنبياً عن المقام، فذكر المرابحة في الحديث يعني أحد أمرين: فامّا ان المقصود ذكر المرابحة في مقابل البيع المستقل تماماً عن البيع الأوّل وهذا يعني انّ البيع الجديد لو كان مستقلا تماماً عن البيع الأوّل ففي الاعتماد على الكيل نوع حزازة (وإن ثبت جوازه بمثل الحديث السابق) امّا لو كان مرابحة فلا بأس بذلك، وهذا يعني ان هذا الحديث أيضاً لا ينظر إلى مثل بيع الصبرة جزافاً وانّما ينظر إلى مدى إمكانية الاعتماد على الكيل في البيع السابق لمن أراد أن يبيع كيلا.

وإمّا أنّ المقصود ذكر المرابحة في مقابل التولية، بمعنى إبراز أخفى الإفراد في جواز الاعتماد على الكيل السابق، أي انّك ان اشتريته مرابحة جاز لكما الاعتماد على الكيل السابق فضلا عن بيع التولية الذي يحل المشتري الجديد فيه محلّ المشتري الأوّل فكأنّه لا يوجد إلّا بيع واحد، فمفاد هذا الحديث هو مفاد الحديث السابق من جواز الاعتماد في البيع الجديد على كيل المشتري الأوّل ولا علاقة له بالمقام، وهذا الاحتمال في الحديث أقوى من الاحتمال الأوّل.

4 ـ ما عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله انّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يشتري الطعام أشتريه منه بكيله وأصدّقه؟

فقال، لا بأس ولكن لا تبعه حتى تكيله(1)، الظاهر انّه أيضاً اجنبيّ عن المقام وناظر إلى مسألة الاعتماد على الكيل السابق لمن يبيع كيلا لا صبرة وجزافاً.


(1) الوسائل 12: 257، الباب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 8.

436

5 ـ ما عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لا يصلح للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر(1). فقد يقال: إنّ الحديث يشمل بإطلاقه ما إذا كان الصاع الجديد مجهول المقدار لدى المشتري وما إذا كان المشتري يتخيل تساويه للصاع المألوف فالثاني يشتمل على الخداع والأوّل يشتمل على بيع مجهول المقدار فكلاهما منهي عنه ومحل الكلام هو بيع مجهول المقدار وهذا في واقعه إطلاق بملاك حذف المتعلق، إذ بعد العلم بانّه لا إشكال في البيع بصاع جديد مع معرفة نسبته إلى الصاع المعروف يكون المتعلق المحذوف هو فرض الجهالة أو فرض الخداع وحذف المتعلق يقتضي الإطلاق لهما معاً أو يقال ان الإطلاق في المقام لا علاقة له بحذف المتعلق وذلك لانّ فرض معرفة نسبة الصاع الجديد إلى الصاع المألوف يرجع في واقعه إلى الكيل بالصاع المعروف، فكل كيل بصاع جديد غير مألوف يكون منهياً عنه بهذا الحديث.

ولكن لا يبعد ظهور الحديث في إرادة فرض الخداع أو إجماله على الأقل، وذلك لأنّ الاعتماد على الصاع الجديد مع فرض الجهالة لا نكتة فيه فلم لا يتعاملان على صبرة جزافاً بلا صاع جديد؟! وانّما نكتة الصاع الجديد هي مخادعة المشتري ويؤيد هذا التفسير وروده في حديث آخر لمحمد الحلبي ولعله في واقعه نفس الحديث الأوّل عن أبي عبد الله (عليه السلام) لا يحل لأحد ان يبيع بصاع سوى صاع المصر فان الرجل يستأجر الحمّال فيكيل له بمدّ في بيته لعله يكون أصغر من مدّ السوق، ولو قال هذا أصغر من مدّ السوق لم يأخذ به، ولكنه يحمله


(1) الوسائل 12: 258، الباب 6 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 2، والصفحة 280، الباب 26 منها، الحديث 1.

437

ذلك ويجعله في أمانته وقال لا يصلح إلّا مدّ واحد والأمنان بهذهِ المنزلة(1) إلّا انّ هذا الحديث ضعيف بإرسال في سنده.

6 ـ ما عن عبد الأعلى بن أعين قال نبّئت عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه كره شراء ما لم تره(2).

7 ـ ما عن محمد بن سنان قال نبّئت عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه كره بيعين:

اطرح وخذ على غير تقلّب، وشراء ما لم تر(3) وهما إضافة إلى سقوطهما سنداً لا يدلان على أكثر من الكراهة.

8 ـ ما عن محمد بن العيص قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى ما يذاق يذوقه قبل أن يشتري؟ قال نعم فليذقه ولا يذوقنّ ما لا يشتري(4) فقد يقال: ان الأمر بالذوق دليل على حرمة بيع المجهول، ولكن الحديث إضافة إلى ضعف سنده ظاهرفي الأمرفي مقام توهّم الحظرخصوصاً مع قوله: ولايذوقنّ مالا يشتري.

9 ـ روايات ضعيفة السند نهت عن جعل الثمن ديناراً غير درهم لانه لا يدري كم الدينار من الدرهم(5) وأكثرها مشتملة على (كلمة الكراهة)، وحديث واحد منها مشتمل على كلمة فاسد معللا بقوله: (فلعل الدينار يصير بدرهم) وهذا يعني الاحتراز عن فقدان الثمن نهائياً، وعلى أيّة حال فالظاهر انّ الروايات ناظرة إلى فرض النسيئة كما ورد التصريح بذلك في بعضها إذ مع عدم النسيئة لا حاجة


(1) الوسائل 12: 280، الباب 26 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 2.

(2) الوسائل 12: 279، الباب 25 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 2.

(3) الوسائل 12: 279 ـ 280، الباب 25 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 3.

(4) الوسائل 12: 279، الباب 25 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 1.

(5) الوسائل 12: 398 ـ 399، الباب 23 من أبواب أحكام العقود.

438

إلى جعل الثمن ديناراً غير درهم بل الأمر الطبيعي عندئذ جعل الدرهم جزءً من المثمن ولا يبقى عندئذ أي إشكال، فإذا كانت الروايات ناظرة إلى فرض النسيئة فمفادها انّ قيمة الدرهم بالقياس إلى الدينار وكذا العكس بما انّها كانت غير ثابتة لا يكون تعيّن واقعي لمبلغ الثمن وهذا كما ترى اجنبيّ عن المقام.

10 ـ وهناك روايات تمنع عن بيع الطعام المشترى قبل أن يكال(1) ناظرة إلى ما اشتراه على شكل الكلّي في المعيّن ثم باعه قبل أن يُميّز بالكيل فهذا من سنخ المنع عن البيع قبل القبض ولا علاقة له بالمقام، وقد ورد أيضاً ما يجوّز ذلك(2) بأسانيد غير تامّة، وورد بسند تام التفصيل بين المكيل وغيره، ففي الأوّل لا بد من القبض دون الثاني(3) وورد أيضاً بسند تام التفصيل في الطعام بين بيع التولية والبيع مع الربح فلا بد من القبض في الثاني دون الأوّل(4) وبحث ذلك موكول إلى محله.

وقد يخطر بالبال إثبات صحة مثل بيع الصبرة جزافاً بما عن جميل عن زرارة قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى تبن بيدر قبل ان يداس تبن كل بيدر بشيء معلوم يأخذ التبن ويبيعه قبل أن يكال الطعام؟ قال: لا بأس. هكذا ورد في التهذيب(5) ولكن ورد في الكافي بدلا عن «تبن كل بيدر» قوله: «تبن


(1) الوسائل 12: 388 ـ 390، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث 5 و 11 و 13 و 14 و 17.

(2) الوسائل 12: 388، 391، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث 3 و 6 و 19.

(3) الوسائل 12: 389، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث 10.

(4) الوسائل 12: 389، الباب 16 من أبواب أحكام العقود، الحديث 9.

(5) التهذيب 7: 125، الحديث 547.

439

كل كرّ»(1) ورواه الصدوق بإسناده عن جميل انّه سأل أبا عبد الله وجاء فيه «تبن كل بيدر»(2) وكذلك ما رواه الصدوق بإسناده عن جميل عن زرارة انّه سأل أبا جعفر (عليه السلام)(3) والتبن ما قطّع من سنابل الزرع كالبُرّ ونحوه والبيدر الموضع الذي يجمع فيه الحصيد، والظاهر ان الحديث اجنبيّ عن المقام وذلك بقرينة قوله: (يبيعه قبل ان يكال الطعام) فهذا يعني ان الشراء الأوّل كان مقدّراً بالكيل إلّا انه لم يتم بعدُ الكيل والقبض، فالسؤال إذن راجع إلى البيع قبل الكيل والقبض وهذا يعني ان نسخة الكافي وهي قوله «تبن كل كرّ بشيء معلوم» اصحّ من نسخة «تبن كل بيدر» وإن كان هذا التضارب في النسخ اختص بحديث زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام)، أمّا حديث زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)وحديث جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام)فلم يرد فيهما إلّا «تبن كل بيدر» وممّا يشهد كون التعبير الأصح هو ما في الكافي انّه لم تفرض في صدر الحديث شراء عدة بيادر حتى يقال: «تبن كل بيدر بشيء معلوم».

نعم لا بأس بالاستدلال على عدم اشتراط معلومية المقدار بمثل روايات بيع السمك في الآجام واللبن في الضرع بضميمة بعد فرض إلغاء خصوصية المورد، كما لا بأس بالتمسك بالإطلاقات.

هذا تمام كلامنا في البحث الأوّل من أبحاثنا في الإرادة.

 


(1) الكافي 5: 180، الحديث 8.

(2) من لا يحضره الفقيه 3: 210، الحديث 3784.

(3) من لا يحضره الفقيه 3: 226، الحديث 3835.

441

 

 

 

 

المقارنة بين فقدان الإرادة ووجودها المعيب

 

 

وأمّا البحث الثاني ـ وهو في المقارنة بين انعدام الإرادة وقيامها على أساس الغلط:

 

تقسيم البحث في الفقه الغربي والفقه الإسلامي:

فقد جاء في الفقه الغربي(1) أنّ الإرادة قد تصاب بالانعدام كما إذا اختلف القبول عن الإيجاب، فما ذكره الموجب لا توجد وفقه إرادة من القابل وما قبله القابل لا توجد وفقه إرادة من الموجب، وقد تصاب بالعيب فهي موجودة ولكنّها معيبة، كما هو الحال فيما إذا اتفق الإيجاب والقبول على عنوان واحد ولكن وقع في التطبيق غلط واشتباه، كما لو باع أحدهما سيّارة وقبلها القابل بتخيّل كونها ذات مواصفات خاصّة ثم تبيّن خلاف ذلك. وجزاء فقدان الإرادة هو بطلان العقد، أمّا جزاء كون الإرادة معيبة فهو خيار الفسخ أو قابلية العقد للإبطال.

وهذا المصطلح ـ أعني مصطلح أنّ الإرادة قد تكون معدومة فيبطل العقد


(1) راجع: الوسيط 1: 232 ـ 235، الفقرة 111، والصفحة 311 ـ 331، الفقرة 162 ـ 174، ومصادر الحق 2: 48 و 98 ـ 104.

442

واُخرى معيبة فيثبت الخيار ـ غير وارد في فقهنا الإسلامي، وسوف يتضح في ثنايا البحث أنّ كون الإرادة معيبة بمعنى كونها مبنيّة على الغلط ليس هو بعنوانه ما يقتضي الخيار في فقهنا الإسلامي، وان الخيار الثابت في موارد من الغلط انّما يثبت بنكات اُخرى، وعلى أيّة حال فالفقه الغربي جعل الغلط سبباً لكون الإرادة معيبة، وعدم تطابق الإيجاب والقبول سبباً لفقدان الإرادة، وقد بحث فقهاؤنا الإسلاميون ـ رضوان الله عليهم ـ مسألة تطابق الإيجاب والقبول ضمن شرائط الإيجاب والقبول ومسألة الغلط الذي يوجب الخيار ضمن البحث عن خيار الرؤية وخيار تخلف الوصف وضمن البحث عن أحكام الشرط، وفي المقارنة بين مسألة فقدان الإرادة ومسألة الغلط يبدو هنا فرق بين الفقه الغربي والفقه الإسلامي، ففي الفقه الغربي توجد مساحتان للبحث:

أوّلاً ـ مساحة التطابق بين الإيجاب والقبول حيث يذكر انّهما لو لم يتطابقا بطل العقد لفقدان الإرادة.

ثانياً ـ مساحة وقوع الغلط والاشتباه في انطباق العنوان المقصود بعد تطابق الإيجاب والقبول تطابقاً كاملاً، وقالوا انّ جزاء ذلك قابلية العقد للإبطال.

أمّا في الفقه الإسلامي فالمساحة الاُولى موجودة ومبحوث عنها وقد افتوا ببطلان العقد لدى عدم تطابق الإيجاب والقبول من دون فرق في ذلك بين ما إذا كان الإيجاب والقبول واقعين على جزئي خارجي كما لو أوجب البائع بيع سيّارة معينة وقبل المشتري السيّارة الاُخرى، أو كانا واقعين على الكليّ كما لو باع أحدهما عبداً متصفاً بالكتابة وقبِل المشتري عبداً غير كاتب.

وأمّا المساحة الثانية وهي مساحة الغلط في التطبيق فقد قسّمت في فقهنا الإسلامي إلى مساحتين.

443

وطبعاً المقصود بمساحة الغلط في التطبيق هو الاشتباه في تشخيص المصداق مع فرض تطابق الإيجاب والقبول على مصداق جزئي كما لو باعه عبداً معينا بقيد الكتابة وقبله الآخر ثم تبين انّه غير كاتب، أمّا لو تطابق الإيجاب والقبول على عنوان كلّي ووقع الاشتباه في التطبيق لدى التسليم كما لو باعه عبداً كاتباً وقبِل المشتري ثم طبّقاه لدى التسليم تطبيقاً خطأً على عبد غير كاتب فهذا لا علاقة له بعيوب الإرادة ولا يوجب الخيار ولا البطلان إذ لم يكن هذا الفرد هو متعلق العقد فغاية الأمر لزوم تبديل هذا الفرد بفرد آخر واجد للمواصفات المطلوبة، أمّا إذا كان المبيع كليّاً في المعين بقيد وصف فرض تواجده في كل مصاديقه ثم تبين عدم وجوده في شيء من تلك المصاديق فهذا حاله حال بيع الجزئي.

وبالإمكان تصوير العيب في الإرادة الموجب للخيار لو صحّ التعبير في فرض كليّة متعلق العقد فيما إذا فرض القيد شرطاً في ضمن العقد لا محصّصاً لذاك الكليّ ثم انكشف عدم القدرة على تحقيق الشرط أو فساد الشرط شرعاً أمّا إذا كان محصصاً للكليّ ثم انكشف عدم القدرة على تحصيل فرد واجد لذاك القيد دخل ذلك في العجز عن تطبيق الكليّ المبيع على مصداق خارجي يقدر على تسليمه وأوجب ذلك الخيار، كما انّه لو قدر على ذلك وامتنع عنه دخل تحت الامتناع عن التسليم الموجب للخيار، ولو امتنع عن تحقيق الشرط أوجب ذلك أيضاً الخيار على أساس تخلف الشرط.

وعلى أيّة حال فمساحة الغلط في التطبيق لدى وقوع العقد على مصداق جزئي قد قسّمت لدى فقهائنا الأبرار ـ رضوان الله عليهم ـ إلى مساحتين لأنّ الغلط قد يكون جوهرياً وقد مثّل له الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بانّه باعه عبداً حبشياً

444

فتبيّن حماراً وحشياً(1)، وقد يكون جانبياً كما في ما إذا وصف العبد بالكتابة فتبيّن انّه غير كاتب فقد افتوا في القسم الأوّل ببطلان العقد لفقدان الإرادة وفي القسم الثاني بالخيار، وقد أفاد الشيخ الأنصاري (رحمه الله) ما يستحصل منه: ان جوهرية الفرق وجانبيته ليستا بلحاظ الحقائق الفلسفية بقدر ما هما بلحاظ أهداف العقلاء فالذكورة والانوثة بلحاظ المماليك تعدّان من الفوارق الجوهرية، وبلحاظ الغنم تعدّان من الفوارق الجانبية، بينما لا فرق من الناحية الفلسفية في ذلك بين المملوك والغنم والرومي والزنجي حقيقتان عرفاً رغم اتحادهما في الجوهر فلسفياً، وكون الخلّ من الزبيب أو العنب فرق جانبيّ عرفاً بينما هو فرق جوهري فلسفياً(2).

والفقه الغربي لم يقسّم مساحة الغلط إلى هاتين المساحتين نعم جاء في الفقه الغربي التفريق بين الغلط الذي يعيب الإرادة والغلط الذي اسموه بالغلط المانع وهو يعدم الإرادة ومثّلوا له بما إذا وقع الإيجاب على مصداق جزئيّ معيّن والقبول على مصداق آخر كمَن كان يمتلك سيّارتين باع إحداهما والمشتري اشترى الاُخرى فهذا في الحقيقة رجوع إلى المساحة الاُولى وهي مساحة عدم تطابق الإيجاب والقبول فيبطل به العقد، ولا علاقة له بالمساحة الثانية وهي مساحة الغلط والاشتباه في التطبيق بعد فرض تطابق الإيجاب والقبول.

وهنا نشير إلى خطأ الاستاذ مصطفى الزرقاء في المقام حيث ذكر: انّه «يلحظ في المقام ان اختلاف الجنس الذي يعتبر في الفقه الإسلامي من قبيل


(1) راجع مكاسب الشيخ الأنصاري 2: 250، بحسب طبعة الشهيدي.

(2) راجع نفس المصدر.

445

الغلط المانع لا يعتبر في النظر القانوني غلطاً مانعاً بل هو من الغلط الذي يعيب الرضا فقط فينعقد معه العقد قابلاً للإبطال. وعكس ذلك يلحظ في الغلط في ذاتية المبيع كما لو باع إحدى فرسيه والمشتري يظنّ انه قد اشترى الاُخرى فانّه في الفقه القانوني غلط مانع لا ينعقد معه العقد، وفي الفقه الإسلامي هو غلط غير مؤثّر أصلاً فينعقد معه العقد لازماً لا خيار فيه لانّ الإرادة الظاهرة بالإيجاب والقبول لما وردت في العقد على واحدة معيّنة من الفرسين انصرف العقد إليها وبقى الغلط في حيّز الخفاء ليس عليه دليل قائم فلا يؤثّر حرصا على استقرار التعامل بخلاف مسألة اختلاف الجنس فان تسمية الجنس المقصود في صلب العقد تجعل الغلط في الجنس المخالف غلطاً واضحاً فيؤثّر في العقد، وبما ان اختلاف الجنس في حكم فقدان العين لا ينعقد العقد لعدم المحلّ»(1).

أقول: إنّ اختلاف الفقه الإسلامي عن الفقه الغربي في اختلاف الجنس صحيح كما ذكره فالفقه الغربي جعل ذلك موجباً لقابلية العقد للإبطال بينما الفقه الإسلامي جعل ذلك مبطلاً للعقد، أمّا العكس الذي ذكره في الغلط في ذاتية المبيع فهو غير صحيح فالفقه الغربي انّما ذكر بطلان العقد فيما إذا اختلف المتعاقدان في صبّ الإيجاب والقبول على الذات فانصبّ الإيجاب على إحدى الفرسين والقبول على الاُخرى لا فيما إذا انصبّا على مصداق واحد مع الاشتباه في أوصاف ذاك المصداق، وإذا انصبّ الإيجاب والقبول على مصداقين فلا إشكال في انّ الفقه الإسلامي أيضاً يفتي بالبطلان غاية ما هناك ان الإرادة الظاهرة إذا


(1) الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 1: 426 ـ 427، في التعليق تحت الخط على الفقرة 191/4 بحسب الطبعة الثامنة.

446

انصبّت فيهما معاً على مصداق واحد فقد تجعل هذه امارة ظاهرية على وحدة المصبّ في الإرادة الباطنة، بل وحتى لو آمنّا بان المقياس الواقعي انّما هي الإرادة الظاهرة فهنا انّما يفتي بصحة العقد لوحدة مصبّ الإيجاب والقبول الظاهريين، وهذا ما يقول به من يؤمن من الغربيين بالإرادة الظاهرة معترفين جميعاً «الإسلاميون أيضاً والغربيون» بانّه متى ما انصبّ الإيجاب على مصداق والقبول على مصداق آخر بطل العقد، وعلى أيّة حال فقد مضى منّا في بحث الإرادة الظاهرة والباطنة ان المقياس في الفقه الإسلامي انّما هو الإرادة الباطنة وان ما يسمّى بالإرادة الظاهرة يجعل امارة على الإرادة الباطنة وان هذا كاف لتأمين الاستقرار بالقدر المطلوب للعقود.

 

صعوبة يواجهها الفقه الإسلامي:

وإذا اتضح لك الفرق بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي في تحديد المساحات التابعة لبطلان العقد أو لقابليته للإبطال قلنا: إنّ هنا سؤالاً يواجهه الفقه الإسلامي وهو انّه لماذا الفرق بين الغلط الجوهري والغلط الجانبي بكون الأوّل مبطلاً للعقد وتابعاً لفقدان الإرادة، والثاني موجباً للخيار؟! وهذا السؤال طرح نفسه في فقهنا الإسلامي بصياغتين:

الاُولى ـ انّ العقد قد وقع على ما هو مقيّد بوصف معين «يعني الوصف الجانبي» ففاقد الوصف لم يقع عليه العقد فما وقع عليه العقد غير موجود وما هو موجود لم يقع عليه العقد، وهذا يوجب البطلان لا الخيار وهذا ما نقله الشيخ الأنصاري (رحمه الله)(1) عن مجمع البرهان للمحقق الاردبيلي (رحمه الله).


(1) راجع المكاسب للشيخ الأنصاري (رحمه الله) 2: 250، بحسب طبعة الشهيدي.

447

وبإمكانك أن تقول: إنّ الوصف إن كان يجعل مصبّ العقد مغايراً لفاقده لزمبطلان العقد سواء كان جوهرياً أو غير جوهري وإن لم يكن يجعل مصبّ العقد مغايراً لفاقده لتقدم الإشارة على الوصف مثلاً لزم عدم بطلانه سواء كان جوهرياً أو غير جوهري. وبإمكانك أيضاً أن تقول: إنّ الوصف إن كان يوجب التغاير بين متعلق العقد وفاقد الوصف فلماذا يحكم بالصحة؟! وإلّا فلماذا يحكم بالخيار؟ !

الثانية ـ انّ صحّة العقد مشروطة بالرضا والرضا مقيّد بالوصف المقصود فمع فقدانه ينفقد الرضا، وهذا يوجب بطلان العقد وهذا ما ذكره الشيخ الانصاري (رحمه الله)(1) في مقام ذكر توجيه لما جعله المحقق الاردبيلي (رحمه الله) موافقاً للقاعدة وهو البطلان وبإمكانك أن تقول: إنّ تقيد الرضا بالقيد المفقود إن كان يوجب البطلان فليوجبه مطلقاً وإلّا فلنحكم بالصحّة مطلقاً فما هو الوجه في التفصيل بين الوصف الجوهري وغيره؟

وبإمكانك أيضاً أن تقول: إنّ تخلف الوصف إن كان موجباً لانعدام فعلية الرضا وجب بطلان العقد وإن لم يكن موجباً لانعدامه فلا وجه للخيار.

امّا ان شئت أن تصوغ الإشكال وفق المصطلحات التي نقلناها عن الفقه الغربي فلك أن تقول: ما معنى انّ الإرادة قد تكون معدومة واُخرى معيبة؟! فإن كان القيد المفقود دخيلاً في فعلية الإرادة فبانتفائه قد اصبحت الإرادة معدومة وإن لم يكن دخيلاً في فعليتها إذن فالإرادة غير معيبة.

وطبعاً ليس المقصود من هذا الكلام الإشكال على الفقه الغربي لانّه فقه موضوع من قبل انفسهم لا يتبع دليلاً كاشفاً عن حكم ثابت قبلهم، وإذا كان الوضع بيدهم فمن حقهم ان يفصّلوا بين ما اسموه بالغلط المانع ويضعوا القول فيه بالبطلان


(1) راجع نفس المصدر.

448

وما جعلوه عيباً في الإرادة ويضعوا القول فيه بقبول العقد للإبطال إذ يكفي مناسبةلذلك ان الإيجاب والقبول لم يتطابقا في الأوّل فهذا أوجب البطلان، وتطابقا في الثاني فهذا أوجب الصحة مع إمكانية الإبطال وانّما المقصود انّنا لو أردنا أن نفتي بما افتوا به ولم نفرّق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي وقلنا في الجميع بالخيار دون البطلان لانّ الإرادة ليست معدومة وانّما هي معيبة فنحن بحاجة إلى فرق حقيقي بين انعدام الإرادة وكونها معيبة نفترض انّ الأوّل منهما موضوع لدليل البطلان والثاني منهما موضوع لدليل الخيار، ولا تكفينا مجرد المناسبة التي ذكرناها فإذا كان حال الإرادة دائراً بين الوجود والعدم، ولا معنى لكونها معيبة فلدى تخلف الوصف ان انعدمت الإرادة بطل العقد وإلّا فلا موجب للخيار فما معنى كونها موجودة ولذا لم يبطل العقد ومعيبة ولذا ثبت الخيار؟ !

مرجع الصعوبة إلى إشكالين:

وعلى أيّة حال فقد عرفت انّه وردت في فقهنا صياغتان للإشكال: احداهما انّ ما تعلق به العقد غير موجود، وما هو موجود لم يتعلق به العقد، والثانية انّ الرضا مقيد بالوصف المفقود ومعه لا يكون الرضا فعليا لعدم فعلية ذاك الوصف، والسؤال الآن هو انّ الإشكال الحقيقي في المقام هل هو إشكال واحد يبرز بصياغتين فالفرق بينهما لا يعدو أن يكون فرقا في عالم الألفاظ والصياغات؟ أو انّ هناك فارقاً جوهرياً بين الصياغتين فنحن أمام إشكالين مختلفين ونكون بحاجة إلى الحلّ لكل واحد منهما؟

قد توحي عبارة الشيخ الانصاري (رحمه الله) في المكاسب(1) إلى انهما تشيران


(1) المكاسب 2: 250.

449

إلى إشكال واحد، وكأنّ الصياغة الثانية لا تعدو ان تكون تعميقاً للصياغة الاُولىفي مقام إبراز نفس الإشكال وذلك لانه (رحمه الله) نقل أوّلاً عن المحقق الاردبيلي (رحمه الله)الصياغة الاُولى للإشكال ثم أجاب عليه بجواب ثم ذكر كتوجيه لما مال إليه المحقق الاردبيلي الصياغة الثانية، ثم نقل جواباً على وجه البطلان الذي جعله المحقق الاردبيلي موافقاً للقاعدة وهو (انه اشتباه ناش عن عدم الفرق بين الوصف المعيّن للكليات والوصف المعيّن في الشخصيات وبين الوصف الذاتي والعرضي).

وذكر (رحمه الله) انّه ظهر من هنا (يعني ما بيّنه من الصياغة الثانية) انّ هذا الجواب مجازفة لا محصّل لها في حين انّ صاحب هذا الجواب انّما كان يقصد الرد على المحقق الاردبيلي وهذا يعني انّه كان يردّ على الصياغة الاُولى وهي التي ذكرها المحقق الاردبيلي فكيف تكون الصياغة الثانية موضّحة لمجازفة هذا الجواب وضعفه إن لم تكن تلك الصياغة تعميقاً لنفس الصياغة الاُولى؟! بل انّ قوله: (وبين الوصف الذاتي والعرضي) يكون في أحد محتمليه إشارة إلى عين أو ما يقارب الجواب الذي ذكر الشيخ بنفسه أوّلاً على الصياغة الاُولى قبل ذكره لتوجيه ما مال إليه الاردبيلي بالصياغة الثانية فانّ أحد محتمليه هو أن يكون المقصود بالوصف الذاتي الوصف الجوهري، والمقصود بالوصف العرضي ما لم يكن جوهرياً ويكون هذا إشارة إلى الجواب بانّنا لا نتكلم في الفارق الجوهري الذي يجعل الموجود خارجاً مغايراً لما وقع عليه العقد وانّما نتكلم في الفارق غير الجوهري الذي لا يوجب المغايرة وهذا عين الجواب الذي ذكره الشيخ أوّلاً عن الصياغة الاُولى أو يقاربه.

نعم احتماله الآخر لا علاقة له بجواب الشيخ وهو أن يكون المقصود: ان الوصف إذا كان قيداً للكلّي أصبح ذاتياً لانّه يحصّص الكلّي إلى الواجد والفاقد، ويختص العقد بالواجد، وإذا كان وصفاً للعين الخارجية فلا يعدو ان يكون أمراً

450

عرضياً لانّ ذات المبيع انّما هي العين الخارجية.

أمّا المحقق الاصفهاني (رحمه الله) فكلامه صريح في الفراغ عن كون الصياغتين إشكالين متغايرين حتى انّه حمل قول الشيخ (رحمه الله) (ومن هنا يظهر ..) على معنى اعترف انّه خلاف ظاهر العبارة وهو أنّه ظهر من الصياغة الثانية ان هذا الجواب لا يكفي لإثبات المقصود من صحّة العقد لانّ هذا الجواب وإن كان كافياً لإبطال الصياغة الاُولى التي ذكرها المحقّق الاردبيلي لكن يبقى علينا بعدئذ لإثبات الصحّة ان نذكر جواباً على الصياغة الثانية(1).

وعلى أيّة حال فالذي يمكن أن يذكر كتوجيه لإرجاع الصياغتين إلى إشكال واحد هو ان يقال: إنّ ما يذكر في الصياغة الاُولى من انّ المعقود عليه غير الموجود والموجود غير المعقود عليه لا يقصد بذلك الحديث عن عالم الألفاظ فلسنا نحن أمام إشكال لفظي كما لو كانت صيغة العقد فارسية وكنّا قد اشترطنا العربية مثلاً، او مستقبلية وكنا قد اشترطنا الماضوية وانّما نحن أمام إشكال معنوي وهو ان ما دلّ عليه العقد قد وقع على أمر غير موجود وما هو موجود لم يقع عليه مفاد العقد، وليس مفاد العقد عدا الرضا بالمعاملة وإرادة المعاملة فقولنا: إنّ العقد وقع على ما لم يوجد وما وجد لم يقع عليه العقد يعني انّ الرضا وقع على ما لم يوجد وأنّ ما وجد لم يقع الرضا عليه وهذه هي الصياغة الثانية.

إلّا أنّ التحقيق ان هذا البيان لإرجاع الصياغتين إلى روح واحدة انّما يتم بناء على المسلك الغربي من الفقه دون المسلك الإسلامي وتوضيح ذلك: ان المسلك الغربي يرى العقد انشاء للالتزام بذلك الأمر الاعتباري كالملكية في البيع بل كان يرى قديما انّ البيع التزام لنقل العين إلى حيازة المشتري، وأخيراً تطوّر


(1) راجع تعليقة الشيخ الاصفهاني (رحمه الله) على المكاسب 2: 89.

451

الفقه لديهم فأصبح البيع التزاماً بنقل الملكية، ولكن الإسلام يرى انّ العقود المعاملية هي عادةً انشاء لنفس تلك الاُمور الاعتبارية، فالبيع مثلاً انشاء للتمليك فان تكلمنا على المسلك الغربي فالبائع مثلاً لم ينشئ إلّا الالتزام وهو الرضا بالتمليك أو نقل الحيازة، فإن كان مصبّه العبد الكاتب مثلاً فهو عبارة اُخرى عن كون مصب الرضا العبد الكاتب فرجعت الصياغتان إلى روح واحدة.

أمّا في نظر الفقه الإسلامي فالبيع مثلاً انشاء للتمليك ونفوذ ذلك شرعاً مشروط بالرضا فلدينا أمران: أحدهما ما ينشأ بالبيع وهو التمليك والثاني شرط نفوذ ذلك وهو الرضا إذن فيوجد مصبّان للإشكال في المقام أحدهما التمليك الذي اُنشئ بالعقد حيث يقال: انّه اُنشئ على العبد الموصوف بالكتابة مثلاً فغير الكاتب ليس مصباً للعقد وثانيهما ما هو شرط لنفوذ هذا التمليك شرعاً وهو الرضا حيث يقال انّ الرضا مقيّد بقيد الكتابة فينتفي بانتفائها إذن فكل من الصياغتين إشكال مستقل عن الاُخرى.

ولعلّ هذا أيضاً هو السبب في الخلاف بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي في انّ الغلط الذي يعيب الإرادة ويوجب الخيار لا البطلان يشمل الغلط الجوهري والغلط الجانبي في وقت واحد، والفقه الإسلامي يقسّم ذلك إلى مساحتين، مساحة الغلط الجوهري ويقول فيه ببطلان العقد، ومساحة الغلط الجانبي ويقول فيه بالخيار، فلعلّ السرّ في ذلك هو ان الفقه الغربي لا يواجه في المقام إلّا سؤالاً واحداً وهو ان الوصف إذا كان دخيلاً في المطلوب فهو قيد في الرضا والإرادة فبانتفائهِ تنتفي الإرادة والرضا فكيف يصح البيع مثلاً؟ فإذا اجيب على ذلك مثلا بانّ فعلية الرضا والإرادة تتبع الوجود العلمي للقيد المطلوب لا الوجود الواقعي، فإذا اعتقد كون العبد كاتباً واشترى العبد الكاتب كانت الإرادة فعلية ولكنها في نفس الوقت معيبة لانّها قامت على أساس الغلط، فقد صحّ بهذا البيع رغم فقدان

452

الوصف المطلوب من دون فرق بين كون الوصف جانبياً أو جوهرياً.

وأمّا الفقه الإسلامي فهو يواجه سؤالين لا سؤالاً واحداً أحدهما انّ الرضا أو الإرادة مقيد بقيد الكتابة فكيف يصحّ البيع عند فقد الكتابة؟! ولنفترض انّ الجواب هو انّ فعلية الرضا أو الإرادة تتبع الوجود العلمي لا الواقعي وهذا الجواب نسبته إلى الوصف الجوهري والجانبي سيّان، والثاني انّ التمليك الاعتباري انّما تعلق بالعبد الموصوف بوصف كذا فبانتفائه ينتفي متعلق العقد، ولنفترض انّ هذا جوابه هو انّ الوصف إذا كان جانبياً لم يكن الموجود مغايراً عرفاً للمعقود عليه، نعم إذا كان الوصف جوهرياً استحكم الإشكال وبطل البيع لانّ الموجود مغاير عرفاً للمعقود عليه فهنا انتهينا إلى الفرق بين مساحة الغلط الجوهري ومساحة الغلط الجانبي ولكن على الفقه الغربي لم يكن موضوع لهذا الفرق لانّ أصل هذا الإشكال لم يكن له مجال على الفقه الغربي ومن هنا اختلف الفقهان في هذا الأمر.

وعلى أيّة حال فقد ظهر ان أمام الفقه الإسلامي إشكالين لا بد له من حلّهما: (أولاً) انّ متعلق العقد غير الواقع الخارجي (وثانياً) انّ الرضا مقيّد بقيد منتف ولنأخذ الآن الإشكال الأوّل بالبحث مع عرض الحلول المقترحة في المقام وننظر انّ تلك الحلول لو تمّت هل تختص بالإشكال الأوّل؟ أو تحلّ حتّى الإشكال الثاني؟ حتى إذا فرغنا عن هذا البحث ورأينا ان الحلّ المختار له لا يحل الإشكال الثاني ننتقل إلى البحث عن حلّ الإشكال الثاني فنقول:

 

إشكال عدم تطابق الموجود للمعقود عليه:

الإشكال الأول ـ انّ تخلف الوصف يوجب عدم تطابق الموجود للمعقود عليه فكيف يمكن أن يصحّ العقد؟! وقد ذكر في مقابل هذا الإشكال عدّة حلول:

453

1 ـ الإشارة أقوى من الوصف:

الحلّ الأوّل ـ ما جاء في المكاسب للشيخ الانصاري (رحمه الله) نقلاً عمّن لم يسمّه من أن غاية ما يمكن ان يفترض هو فرض تعارض الإشارة والوصف والإشارة أقوى من الوصف.

وقد جاء هذا الحل في ذيل ما أشرنا إليه من كلام نقله الشيخ وهو: «انّ هذا الإشكال اشتباه ناشئ عن عدم الفرق بين الوصف المعيّن للكليات والوصف المعين في الشخصيات وبين الوصف الذاتي والعرضي وان أقصى ما هناك كونه من باب تعارض الإشارة والوصف والإشارة أقوى(1)» وقد حمل الشيخ الاصفهاني (رحمه الله)(2) ذلك على نقل كلام صاحب الجواهر معترفاً بانّ ما رآه في الجواهر يختلف عن هذا الكلام فقد جاء في الجواهر بعد نقل التامّل في صحّة البيع عن الاردبيلي ما يلي: «وإن كان هو ضعيفاً كالأوّل(3) أيضاً ضرورة ابتنائه على عدم الفرق بين وصف المعيّن والوصف المعيّن وبين الذاتي والعرضي» هذا ما ورد في الطبعة الجديدة للجواهر(4) ولكن الموجود في تعليقة الشيخ الاصفهاني على المكاسب نقلاً عن الجواهر التعبير بعبارة «أو بين الذاتي والعرضي» أي انّ العطف يكون بـ «أو» لا بالواو ونسخة الطبعة الجديدة من الجواهر تطابق نسخة المكاسب الموجودة عندي وهي طبعة الشهيدي فان العطف فيها أيضاً بالواو، وعلى أيّة حال


(1) المكاسب 2: 250.

(2) راجع تعليقته على المكاسب 2: 89.

(3) إشارة إلى مطلب آخر نقله أوّلاً عن بعض وضعفه.

(4) جواهر الكلام 23: 94.

454

فالمهم من الفرق بين ما في المكاسب وما في الجواهر هو زيادة ما ورد في المكاسب من عبارة: «وان أقصى ما هناك كونه من باب تعارض الإشارة والوصف والإشارة أقوى» فانّ هذه الزيادة غير موجودة في عبارة الجواهر في بحث خيار الرؤية، وقال الشيخ الاصفهاني «ولم أظفر بما ذكره في سائر المباحث المناسبة للمقام (يعني في الجواهر)».

ولعل هذا يوجب احتمال ان الشيخ (رحمه الله) لم يكن يقصد ما فهمه الاصفهاني من الإشارة إلى عبارة الجواهر بل ينقل من مكان آخر لم نظفر به.

وعلى أيّة حال فخلاصة هذا الجواب انّنا لو سلّمنا ان الوصف يفيد تقييد متعلق العقد فالإشارة تفيد عدم التقييد بهذا الوصف المفقود والإشارة أقوى من الوصف.

وهذا الوجه لو تم لا يحلّ الصياغة الثانية من الإشكال إذ أن صاحب الصياغة الثانية يقول: فليكن متعلق العقد هو ذات المشار إليه بحكم الإشارة لكن رضاي القلبي على أي حال مشروط بكتابة العبد مثلاً لانّ العبد الذي لا يكتب لا يحقق تمام أهدافي التي اشتريته لأجلها.

وبالإمكان ان يقال: إنّ هذا الوجه لو تمّ فهو وإن كان يحل إشكال عدم مطابقة المعقود عليه للموجود خارجاً لأنّ أقوائية الإشارة تثبت ان العقد وقع على نفس ما هو موجود في الخارج، لكنه لا يفسّر الفرق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي، فإذا كانت الإشارة أقوى من الوصف فلم لا يصح العقد في الوصف الجوهري أيضاً؟! إلّا ان يقصد انّ الإشارة أقوى من الوصف الجانبي، أمّا الوصف الجوهري فلا يقلّ تأثيراً عن الإشارة ومع التعارض والتساقط أو اقوائية الوصف يبطل العقد.

455

وعلى أيّة حال فهذا الوجه لا يحل إشكال الخيار حيث قد يقال: إنّ الوصفإن كان قيداً فلم لا يبطل العقد لعدم تطابق المعقود عليه لما في الخارج؟! وإن لم يكن قيداً فلماذا يثبت الخيار؟! فهذا السؤال لا زال باقياً على حاله حيث يقال: إن كانت الإشارة أقوى من الوصف فلماذا يثبت الخيار وإلّا فلماذا يصح العقد؟! وطبعاً لا أقصد بهذا الكلام تسجيل إشكال على مَن يؤمن بهذا الوجه بدعوى انّ عليه أن ينكر الخيار كما ذكره الشيخ الانصاري (رحمه الله) وانّما أقصد انّ هذا الوجه لا يحل مشكلة الخيار.

وقد تحلّ مشكلة الخيار بنكتة اُخرى كدعوى وجود شرط لا يعود إلى القيد أمّا ما جاء في كلام الشيخ(1) من إلزام صاحب هذا الوجه بإنكار الخيار فيرد عليه ما أورده الشيخ الاصفهاني (رحمه الله)(2) من انّ تقديم الإشارة على الوصف انّما اثبت صحة العقد وامّا الخيار فيدعى بنكتة اُخرى.

والتحقيق ان أصل هذا الوجه وهو حل الإشكال عن طريق تقديم الإشارة على الوصف على تقدير دلالة الوصف على التقييد ممّا لا أساس له فانّ الوصف لو لم يدل على التقييد لانّ الوصف انّما يقيّد الكليّ ولا يقيد الجزئي مثلاً فلا حاجة إلى نفي التقييد باقوائية الإشارة، ولو دلّ على التقييد وقلنا ان جزئية المتعلق لا تنافي التقييد مثلاً فالإشارة تكون لا محالة إشارة إلى ذاك المقيّد، ولا معنى لفرض تناف بين الإشارة والوصف كي نقدّم الإشارة على الوصف بالاقوائية.

2 ـ الجزئي لا يحصّص:

الحلّ الثاني ـ ما جاء في الجواهر كما مضى من ان كلام المحقّق


(1) في المكاسب 2: 250.

(2) في تعليقته على المكاسب 2: 89.

456

الأردبيلي (رحمه الله)خلط بين وصف المعيّن والوصف المعين أو بين الذاتي والعرضيبناء على الأخذ بالتفسير الثاني من التفسيرين اللذين مضى ذكرهما وهو كونه بمنزلة التكرار لنفس الخلط الأوّل فالوصف الذاتي يعني به الوصف الذي يوصف به الكليّ للتعيين والتحصيص والوصف العرضي يعني الوصف المعيّن الذي يوجد في الجزئي ويكون حاصل هذا الحل عندئذ ان كون الواقع الخارجي غير المعقود عليه ممنوع فانّ هذا انّما يعقل في توصيف الكليّ بوصف لانّ وصف الكليّ يحصص الكليّ والحصة التي تحصل بهذا التحصيص تغاير الحصة الاُخرى لا محالة، فلو باعه عبداً كاتباً بشكل كلّي ثم في مقام الوفاء أعطاه عبداً غير كاتب فما سلّمه غير ما وقع عليه العقد، أمّا في الجزئي الخارجي وهو محل الكلام فلا يعقل التغاير بين مصبّ العقد وما في الخارج لان الجزئي لا يحصّص، وهذا الوجه لو تم لا يحل الصياغة الثانية للإشكال وهو مسألة عدم الرضا إذ لو سلّمنا ان العقد وقع على نفس ما في الخارج لانّه تعلق بالجزئي بقى الإشكال الآخر وهو ان المشتري لا تطيب نفسه بالعبد غير الكاتب ولا يرضى به باقياً على حاله ولا بدّ له من جواب آخر.

كما انّ هذا الوجه لا يفسّر الخيار ونبقى بحاجة إلى نكتة اُخرى للخيار.

وأيضاً هذا الوجه لو لم يكمّل بمكمّل لم يفسّر الفرق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي، لانّ برهان عدم قابلية الجزئي للتقييد يأتي حتى في الوصف الجوهري، فلو باعه هذا الموجود على انّه عبد حبشي ثم تبيّن حماراً وحشياً كان بالإمكان أيضاً ان يقال: إنّ الحيوان المبيع لو كان كلياً فتحصيصه إلى الناطق والناهق يوجب التباين بينهما، أما لو كان جزئياً فهو لا يقبل التحصيص غاية الأمر انّه كان يتخيل كونه ناطقاً وعبداً حبشياً ثم تبيّن كونه ناهقاً ولكن المبيع على أي

457

حال هو هذا الحيوان الخارجي وهو شيء واحد فالمعقود عليه هو عين ما في الخارج وليس غيره.

نعم بالإمكان ان يكمّل هذا الوجه بمكمّل كي يصلح مفسّراً للفرق بين الوصف ا لجوهري والوصف الجانبي وهو ان العرف هو الذي فرض التوصيف بالوصف الجوهري موجباً للتغاير، وهذا رجوع إلى الحلّ الثالث فتعليقنا على اصل هذا الوجه نؤجّله إلى البحث عن الحلّ الثالث.

3 ـ تفريق العرف بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي:

الحلّ الثالث ـ هو نفس ما مضى عن صاحب الجواهر مع الأخذ بالتفسير الأوّل من التفسيرين اللذين مضيا لقوله: (أو بين الذاتي والعرضي) وهو الإشارة إلى الفرق بين الجوهري والجانبي ويكون حاصل هذا الوجه عندئذ ان المحقق الاردبيلي إمّا خلط بين وصف المعيَّن والوصف المعيّن، فكما انّ الوصف المعيّن وهو الوصف الذي يوصف به الكلي يوجب مباينة الحصة الفاقدة للحصة الواجدة فقد تخيّل ان توصيف الجزئي أيضاً كذلك يوجب التباين وهذا خطأ لانّ الجزئي لا يحصَّص، وإمّا خلط بين الوصف الجوهري الذي يوجب تغاير الموجود للمعقود عليه والوصف الجانبي الذي لا يوجب ذلك، وهذا هو الذي قلنا انّه يرجع إلى الحلّ الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) في أوّل كلامه أو يقاربه حيث ذكر في مقام الحلّ: انّ العرف يفرّق بين الوصف الجوهري والوصف الجانبي فيرى انّ الثاني لا يوجب مغايرة الموجود للمعقود عليه بخلاف الأوّل(1).

وإن كان العلَمان (قدس سرهما) يعنيان دقيق ما في العبارتين فهنا فرق دقيق بين


(1) المكاسب 2: 250.