396

أفلا يعني هذا التفصيل بين بيعهما من المسلمين المحرّمين لها وبيعهما من غيرهمعلى أساس اهتمام الشريعة الإسلامية بالمسلمين المحرّمين دون غيرهم؟ ! ! وقد وردت نصوص صحيحة صريحة في جواز بيع العصير أو العنب أو التمر ممّن يجعله خمراً أو سكراً(1) أفلا يعني هذا عدم الإطلاق والعموميّة في تحريم تهيئة مقدمات الإثم؟! وقد ذكر السيد الإمام (رحمه الله) انّ بعض هذه الروايات يقبل التوجيه بحمله على معنى لا ينافي الحرمة التي افتى بها ولكنه اعترف بانّ باقي الروايات لا تقبل التوجيه فطرحها على أساس مخالفتها للدليل العقلي الذي آمن به والذي مضى النقاش فيه.

هذا وإن كان في مورد بيع العنب والتمر ممّن يجعله خمراً أو سكراً ما يقتضي الإرتكاز العقلائي والمتشرعي تحريمه كبيعه بقصد تحقق الحرام فإطلاق روايات الجواز منصرفة عنه، على أنّ شبهة ردعه عن الارتكاز لو تمت في الارتكاز العقلائي لا تتم في الإرتكاز المتشرعي فالارتكاز المتشرعي يصلح مقيداً لها.

 

بطلان العقد عند عدم مشروعيّة الباعث:

البحث الثاني ـ في بطلان العقدالذيوقع مقدمة للحرام بناء على تحريمه وعدمه.

قد حُقِقَ في علم الاُصول عدم الملازمة العقلية بين الحرمة والبطلان في العقود فلا تصل النوبة إلى البحث عن ان حرمة عنوان آخر انطبق على العقد هل تستلزم عقلا الفساد أو لا؟ وهل التركيب بين ذات العنوان والعقد انضماميّ أو اتحادي مثلا؟


(1) الوسائل 12: 169 ـ 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به.

397

ولكن رغم هذا قد يدل النهي التحريمي في العقود على الفساد بملازمة عرفية حيث أنّ غلبة الحال في الموالي العرفية في إبطالهم لما يمكنهم من إبطاله ممّا هو مبغوض لهم أوجبت دلالة النهي التحريمي المتعلق بعقد ما على الفساد باعتبار انّ الغالب في المبغوضيات الواصلة إلى حدّ تحريك المشرّع العرفي نحو التنصيص على تحريم عقد هو اعتباره فاسداً من قبل ذلك المشرّع، نعم هذا الاستظهار انّما يكون في النهي المتعلق بالعقد بعنوانه.

وقد ذكر السيد الإمام (رحمه الله)(1) ان المعاملة إن كانت معاطاتية فهي وإن فرضت حرمتها لمثل كونها إعانة على الحرام أو تسهيلا لتحقق الإثم لكن النهي لم يتعلق بعنوان المعاملة كي يوجب الفساد وإنّما تعلق بعنوان آخر انطبق على المعاملة الخارجية وإن كانت بالعقد اللفظي فبعد وقوع العقد يقع التزاحم بين حرمة التعاون على الإثم ووجوب تسليم المثمن فان قلنا بترجيح الثاني وجب التسليم وعوقب على الإعانة سواء قلنا ببقاء الحكم في المتزاحمين على ما هما عليه من الفعلية أو قلنا بسقوط النهي، إذ أنّ إسقاط المولى للنهي هنا إنّما هو على أساس اضطراره إلى ذلك بسوء اختيار العبد وان قلنا بترجيح الأوّل لم يجز له التسليم.

أقول: يحتمل أنّ السيد الإمام (رحمه الله) أراد أن يقول: انّ العقد إن كان معاطاتياً فهو غير باطل لانّ متعلق النهي عنوان آخر غير عنوان العقد، وإن كان لفظياً فعدم بطلانه بطريق أولى لانّ النهي تعلق بالتسليم لا بالعقد. فإن كان هو هذا مقصود السيد الإمام فبالامكان أنْ يقال في مقام توجيه حرمة العقد اللفظي بما مضى من دعوى كونه مورّطاً للعبد في مخالفة أحد المتزاحمين بسوء اختياره. ويحتمل


(1) راجع المكاسب المحرمة للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 149 ـ 150.

398

أنّه (رحمه الله)لم يقصد شيئاً من هذا القبيل وإنّما كان المقصود من تفصيله بين العقد المعاطاتي واللفظي في المقام مجرد بيان حال التزاحم الذي يقع في مورد العقد اللفظي دون المعاطاتي، أو بيان وجه آخر لبطلان العقد يختص بالعقد اللفظي وذلك بناء على ترجيح حرمة التسليم وهو ما ذكره (رحمه الله): من أنّه (ربّما يقال: انّ المعاوضة لدى العقلاء متقومة بإمكان التسليم والتسلم ومع تعذره شرعاً أو عقلا لا تقع المعاوضة صحيحة، وفي المقام يكون تسليم المبيع متعذراً شرعاً لعدم جوازه فرضاً وعدم جواز إلزامه عليه لا من قبل المشتري ولا الوالي ومع عدم تسليمه يجوز للمشتري عدم تسليم الثمن والمعاوضة التي هذه حالها ليست عقلائية ولا شرعية فتقع باطلة).

وأجاب (رحمه الله) عن ذلك بتعبيرين حيث أجاب عليه أولا بتعبير ثم ذكر تعبيراً آخر تحت عنوان (وإنْ شئت قلت) ممّا قد يوحي إلى انّهما تعبيران عن جواب واحد ولكن الصحيح انّهما جوابان لو أبطل أحد الأوّل منهما لم يبطل بذلك الثاني:

الجواب الأوّل ـ إنّ الشرط في صحة المعاملة إنّما هو القدرة التكوينية على التسليم والتسلم لا الشرعية، ونظّر السيد الإمام (رحمه الله) المقام بجواز ترك التسليم مع صحة البيع فيما لو كان أحد المتبايعين مديناً للآخر فحبس الدائن متاعه المبتاع لاستيفاء دينه فالبيع يكون هنا صحيحاً ولا يجوز للآخر حبس العوض فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل.

والجواب الثاني ـ انّ البائع قادر على التسليم وغير ممتنع عنه غاية ما هناك ان تسليمه مشروط بعدول المشتري عن قصد التخمير مثلا فنكول البائع إنّما هو بتقصير من المشتري وتسبب منه وفي مثله لا يكون النكول منافياً لمقتضى المبادلة بل يجب عليه تسليم الثمن وعدم مقابلة النكول بالنكول.

399

أقول: إنَّ الجواب الثاني أقوى من الجواب الأوّل فقد يورد على الجوابالأوّل بأنّ الارتكاز العقلائي يرى الملازمة بين تشريع حرمة التسليم وبطلان المعاملة في تلك الشريعة والعقلاء في تشريعهم العقلائي لو حرّموا التسليم الحقوا ذلك بفرض عدم إمكانية التسليم ويكون للطرف الآخر حق عدم تسليم العوض وقياس المقام بحبس الدائن المتاع المبيع لأجل استيفاء دينه قياس مع الفارق فان الحبس بعنوان استيفاء الدين يكون بمنزلة التسليم إذ وفّى به دين المشتري الذي كان يمتنع عن وفائه وهذا بخلاف ما نحن فيه. وهذا الإيراد كما ترى لا مجال له على الجواب الثاني.

وعلى أيّة حال فقد ذكر السيد الإمام (رحمه الله) في العقد الذي يهيّئ مقدمة الإثم للعاصي محاولتين لإثبات تعلق النهي بنفس عنوان المعاملة فيثبت البطلان أحدهما عام والآخر خاص ببيع العنب والتمر ممّن يصنع خمراً(1).

أمّا الوجه العام ـ فهو التمسك بحديث تحف العقول ليس بالفقرة الواردة في مكاسب الشيخ الأنصاري (رحمه الله) بل بفقرة ذكر السيد الإمام (رحمه الله) انّها ساقطة عن قلم الشيخ (قدس سره) أو لم تكن موجودة فيما كان يمتلكه من النسخة والفقرة ما يلي:

«وكذلك كل بيع (مبيع ظ) ملهوّ به وكل منهي عنه ممّا يتقرب به لغير الله، أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي (وباب من أبواب الضلالة أو باب من أبواب الباطل) أو باب يوهن به الحق فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه».

وما جعلناه في أثناء هذه العبارة بين القوسين هو الساقط من قلم الشيخ الأنصاري (رحمه الله).


(1) راجع المكاسب المحرّمة للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 150 ـ 151.

400

والمقدار الموجود في مكاسب الشيخ لا يدل على المقصود فان المبيعالملهوّ به يختص بما يكون آلة للهو ولا يشمل مثل العنب الذي يباع ممّن يصنعه خمراً وكذلك عنوان (كل منهي عنه ممّا يتقرب به لغير الله) يختص بما يحرم كل أو جلّ منافعه، ولا يشمل مثل بيع العنب ممّن يصنعه خمراً وكذلك عنوان (أو يقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي) يختص بمثل بيع السلاح من المحاربين وبيع كتب الضلال ونحوهما من المعاصي التي تكون تقوية لمبدأ الكفر والشرك ولا يشمل مثل بيع العنب ممّن يصنعه خمراً، وعنوان (باب يوهن به الحق) يختص بما يوجب الوهن في الإسلام كبيع السلاح من المحاربين ونحوه ولا يشمل مثل بيع العنب ممّن يصنعه خمراً.

أمّا ما يدل في نظر السيد الإمام (رحمه الله) على المقصود فهو قوله: (أو باب من أبواب الباطل) فهذا يشمل مطلق ما جعل مقدمة لمعصية مّا سيما مع وقوعه في مقابل (باب من أبواب الضلالة أو باب يوهن به الحق) فالمقصود بباب من أبواب الضلالة ما يوجب ضلال الناس كبيع كتب الضلال بل وبيع القرطاس لطبعه ونشره والمقصود بباب يوهن به الحق ما يوجب وهن الإسلام كبيع السلاح من المحاربين وبيع العنب ممّن يجعله خمراً ويبيعه علناً في شوارع المسلمين، أو جنب المشاهد المعظّمة ونحو ذلك ممّا يوجب الوهن في الإسلام، أما مثل بيع العنب ممّن يصنعه خمراً ويستفيد منه شخصياً مثلا فهو غير داخل في أحد هذين البابين ولكن قوله: (أو باب من أبواب الباطل) لو اُريد تخصيصه بأبواب الضلالة أو أبواب وهن الحق لكان تكراراً لإحدى الفقرتين الاُخريين، ولكن لو فسّر بمعنى مطلق أبواب المعاصي فليس تكراراً لهما ويشمل مثل بيع العنب ممّن يصنعه خمراً. وعلى أيّة حال فقد ناقش السيد الإمام (رحمه الله)في هذا الوجه بضعف سند الحديث.

وأمّا الوجه الخاص بباب الخمر ـ فهو التمسك بروايات لعن غارس الخمر،

401

أي غارس العنب لأجل التخمير والطوائف الاُخرى الدخيلة في شرب الخمر، فان قبلنا دلالتها مباشرة على تحريم بيع العنب ممّن يصنعه خمراً فقد ثبت المقصود وإلّا فلا أقل من دلالته على حرمة شراء العنب بقصد التخمير، فلئن كان يحرم الغرس مثلا بقصد التخمير فكيف لا يحرم الشراء بقصد التخمير؟! وهذا التحريم يدل على الفساد وإذا فسد الشراء فسد البيع لعدم إمكان التفكيك.

أقول: إننا لو تعدينا في الحرمة من الغرس إلى مطلق ما يؤتى به كمقدمة للتخمير فهذا لا يعني توجه النهي إلى البيع أو الشراء بعنوانه كي يوجب الفساد وإنّما هو في قوة تحريم عنوان مقدمة التخمير وقد انطبق صدفة على شراء العنب أو بيعه، وهذا هو القسم الذي لا يوجب الفساد.

 

في ختام بحث السبب:

وبودّي أن أشير في ختام البحث إلى أمرين:

الأوّل ـ انّنا لو حرّمنا مثل بيع العنب ممّن يجعله خمراً على أساس حرمة الإعانة على الإثم ونحوها في صورة علم البايع بالحال وقلنا باستلزام هذا التحريم للفساد لم يلزم من ذلك الفساد في صورة جهله بحجة أنّ البائع لئن كان جاهلا بالحال فالمشتري لم يكن جاهلا به إذن فالشراء باطل لعلم المشتري بالحال وإذا بطل الشراء بطل البيع للتلازم بينهما في الصحة والبطلان، فهذا الكلام رغم انّه يفهم من ظاهر تقرير بحث السيد الخوئي(1) غريب لانّ الإعانة ونحوها


(1) راجع مصباح الفقاهة 1: 185 فانّ التعبير في هذا التقرير أظهر في هذا المعنى الغريب من التعبير في التقرير الآخر وهو المحاضرات 1: 136 الذي لعله يمكن حمله على معنى انّ البائع لو كان عمله إعانة للمشتري على الحرام بطل الشراء أيضاً والمشتري لو كان عمله إعانة للبائع على الحرام بطل البيع أيضاً.

402

انّما هي في طرف بائع العنب امّا المشتري فلم يعن أحداً على الحرام، وليستتهيئة مقدمة الحرام حراماً على نفس العاصي وإنْ كانت حراماً فانّما هي حرام على غير العاصي فلا معنى لفرض بطلان الشراء بسبب علم المشتري بالحال وبالتالي بطلان البيع نعم لو استدل على حرمة الشراء وبطلانه بأحاديث حرمة غارس الخمر كان لإثبات بطلان البيع بالملازمة مجال كما فعله السيد الإمام (رحمه الله).

الثاني ـ قد يقال: كيف ينسجم ما ذكرناه من دلالة النهي عن المعاملة بعنوانها على الفساد مع ما دلّ من الأخبار على صحة بيع الخمر رغم حرمته؟ أفهل يعتبر هذا تخصيصاً لقاعدة فساد المعاملة المنهي عنها بعنوانها أم أنّ هذه القاعدة غير صحيحة؟ !

والواقع أنّ هذا الاستغراب ثابت في روايات تصحيح بيع الخمر حتى لو لم نؤمن بدلالة النهي عن المعاملة على الفساد أو لم نقل بتعلق النهي ببيع الخمر بعنوانه وذلك لانّ حرمة منافع الخمر اسقطتها عن المالية في نظر الشرع، في حين انّ الشريعة والعقلاء متفقان على فساد بيع ما لا مالية له وإن اختلفا بلحاظ النظرة التشريعية أو بعنوان التكاذب في تشخيص المصداق فإذا كانت الشريعة قد شخّصت في الخمر انّه لا مالية لها فكيف يصح بيعها؟! وكذلك الحال في الخنزير الذي حرمت منافعه ودلّت الروايات على صحة بيعه.

أمّا ما هي الروايات الدالة على تصحيح بيع الخمر والخنزير؟ فهي الروايات الواردة في أنّ الدائن يصح له استيفاء دينه من ثمن الخمر والخنزير الذي اكتسبه المدين من بيعهما(1) وبعضها وإن كان مختصاً بما إذا كان المدين


(1) الوسائل 12: 171 ـ 172، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، و 13: 116، الباب 28 من أبواب الدين.

403

ذمّياً، لكن هذا لا يوجب تخصيص سائر الروايات به كما فعله الشيخ الحرّ (رحمه الله) لانّحمل المطلق على المقيد انّما يكون لدى التنافي بينهما.

وهذه الروايات تعارض ما دلّ على بطلان بيع الخمر أو الخنزير من قبيل روايات تحريم بيع الخمر(1) الدالة بالملازمة على بطلان بيعه وروايات النهي عن ثمنها(2) وفي حديث محمد بن مسلم التام سنداً: (لا يصلح ثمنه)(3) وأدلة حرمة منافع الخمر والخنزير(4) الدالة بالملازمة على بطلان بيعهما.

وذكر السيد الخوئي في مقام الجمع بين الروايات: انّنا نفصّل بين الكافر والمسلم بصحة البيع بالنسبة للكافر وفساده بالنسبة للمسلم(5)، وقد يظهر من عبارته في بحث الخمر في مصباح الفقاهة اختصاص الجواز بما إذا كان البائع والمشتري معاً كافرين، بينما يظهر من عبارته في مصباح الفقاهة في بحث الخنزير وفي المحاضرات في بحثي الخمر والخنزير كفاية كفر البائع.

وعلى أيّة حال فقد تمسّك في مصباح الفقاهة لإثبات مدعاه بقاعدة انقلاب النسبة لانّ بعض الروايات الدالة على الصحة تختص بالكافر فيقيد بها ما دلّ على البطلان وشمل بإطلاقه المسلم والكافر فيصبح بذلك اخص من مطلقات الصحة


(1) راجع الوسائل 12: 164 ـ 166، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، و 17: 300 ـ 301، الباب 34 من أبواب الأشربة المحرّمة.

(2) راجع الوسائل 12: 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به.

(3) الوسائل 12: 164، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) راجع الوسائل 16: 309 ـ 312 و 320 ـ 322، الباب 1 و 3 من أبواب الأطعمة المحرّمة و 17: 221 ـ 223، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرّمة.

(5) راجع المحاضرات 1: 47 ـ 49، ومصباح الفقاهة 1: 81 ـ 88.

404

وتقيّد به، وهذا الوجه مبنيّ على مبناه من القول بانقلاب النسبة.

وذكر في المحاضرات زائداً على هذا الوجه وجهين آخرين:

أحدهما ـ دعوى انصراف أدلّة الصحة الواردة في جواز استيفاء الدائن دينه ممّن اكتسب الثمن ببيع الخمر والخنزير إلى الكافر باعتبار عدم تعارف بيع الخمر والخنزير علناً من قبل المسلمين وقتئذ، إذن فهي أخص من أدلة البطلان وبالتخصيص يثبت المطلوب.

وثانيهما ـ إنّ بعض أدلة البطلان يختص بالمسلم فلا بد من تخصيص أدلة الصحة بغير المسلم.

أقول: إنّ أثر هذه الوجوه الثلاثة في كفاية كفر البائع او اشتراط كفر المشتري أيضاً في صحة البيع مختلف:

فلو كان الوجه في التفصيل بين المسلم والكافر هو الوجه الأوّل وهو مبنى انقلاب النسبة لو قلنا به. فالنتيجة هي كفاية كفر البائع وذلك لانّ روايات الصحة المخصوصة بالكافر والتي بها تقلب النسبة وإن كان بعضها مخصوصاً بفرض كفر البائع والمشتري معاً من قبيل حديث علي بن جعفر التام سنداً عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خمراً أو خنزيراً إلى أجل فأسلما قبل أن يقبضا الثمن هل يحل له ثمنه بعد الإسلام؟ قال: إنّما له الثمن فلا باس ان يأخذه(1) وحديث عمار بن موسى التام سنداً عن أبي عبد الله (عليه السلام)سئل عن رجلين نصرانيين باع أحدهما من صاحبه خمراً أو خنازير ثم أسلما قبل أن يقبضا الدراهم هل تحلّ له الدراهم؟ قال: لا بأس(2) ولكن بعضها الآخر لم


(1) الوسائل 12: 172، الباب 61 من أبواب ما يكتسب به.

(2) الوسائل 17: 301، الباب 34 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 3.

405

يؤخذ فيه عدا قيد كفر البائع من قبيل ما عن منصور بسند تام قال: قلت لأبيعبد الله (عليه السلام): لي على رجل ذمّي دراهم فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر فيحلّ لي أخذها؟ فقال: إنّما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك(1) ومن الواضح انّه إذا كان لدينا مخصصان متوافقان أحدهما أوسع من الآخر فلا بد من الأخذ بأوسع المخصصين وهو في المقام ما لم يشتمل إلا على قيد كفر البائع.

أمّا الوجه الثاني وهو دعوى الانصراف فهو يقتضي تخصيص الحكم بالصحة بما إذا كانا معاً كافرين لأنّه كما لم يكن من المتعارف وقتئذ بيع الخمر أو الخنزير من قبل المسلم علناً كذلك لم يكن من المتعارف وقتئذ شراء المسلم لهما علناً، إذن فجميع تلك الروايات منصرفة إلى فرض كفر البائع والمشتري معاً.

ولا يرد على دعوى الانصراف: ان الانصراف الناتج من كثرة الوجود الخارجي انصراف بدويّ فانّ هذا الإشكال انّما يكون لدى دعوى انصراف كلمة إلى قسم من مصاديق معناه مما يكثر وجوده خارجاً كما لو ادّعى انصراف كلمة (رجل) إلى الرجل الشجاع لفرض كون غالب الرجال في البلد شجعاناً مثلا، أمّا إذا اكتنفت كلمة بقيد لا يكون غالباً إلّا مع صنف من أصناف مفاد تلك الكلمة فلا بأس بدعوى الانصراف في ذلك فمثلا لو قال: اكرم رجلا يرمي وكان الرميُ عادةً لا يصدر إلّا من الرجل الشجاع فلا بأس بدعوى الانصراف إلى الرجل الشجاع وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ كلمة الرجل (لا) تنصرف في ذاتها إلى الكافر ولكن اكتنافها بقيد البيع الذي لا يصدر عادة علناً إلّا من الكافر جعلها تنصرف إلى الكافر.


(1) الوسائل 12: 171، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

406

وأمّا الوجه الثالث وهو اختصاص بعض روايات البطلان بالمسلم مما يوجب تخصيص أدلة الصحة بغير المسلم فتلك الروايات بعضها أخذ فيها قيد إسلام البائع فقط كروايتي الباب 57 ممّا يكتسب به من المجلد الثاني عشر من الوسائل ولكنهما ضعيفتان سنداً وأمّا التامّ منها سنداً فقد ورد في فرض إسلامهما معاً وهو ما مضى من حديث على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) سالته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خمراً أو خنزيراً إلى اجل فاسلما قبل أن يقبضا الثمن هل يحل له ثمنه بعد الإسلام؟ قال: انّما له الثمن فلا بأس أن يأخذه. فهذا يدل بالمفهوم الجزئي على عدم الجواز لو كانت العملية واقعة بعد الإسلام والقدر المتيقن من عدم الجواز هو فرض إسلامهما معاً، إذن فنتيجة هذا الوجه لو كان وحده كفاية كفر أحدهما في صحة البيع.

ولكن بما أنّ الظاهر صحة دعوى الانصراف فالنتيجة اختصاص الصحة بالمقدار المستفاد من هذه الروايات بفرض كفرهما معاً، إلّا انّه لا يبعد القول بكفاية كفر المشتري في صحة البيع منه على أساس قاعدة الزامهم بما التزموا به هذا في الخنزير، وكذلك في الخمر لو لم نقل بحرمة بيعه حتى من الكافر تمسكاً بإطلاق روايات لعن بائع الخمر فبناء على ضعف تلك الروايات وعدم ثبوت استفاضتها يتجه جواز بيع الخمر من الكافر سنخ ما ورد من جواز بيع الميتة أو النجس ممّن يستحلّه(1).

وعلى أيّة حال فالاستغراب الذي أشرنا إليه في صحة بيع الخمر والخنزير رغم حرمة بيع الخمر بناء على حرمته ورغم سقوطهما عن المالية شرعاً قد انحلّ


(1) راجع الوسائل 12: 67 ـ 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به.

407

بما انتهى إليه الكلام من كون هذا الحكم مختصاً ببيع الكافر أو بالبيع من الكافر فانّ تصحيح معاملات الكافر وفق مذهبه حتى لو كانت محرمة يعاقب عليها، أو تصحيح المعاملة مع الكافر وفق مفاد قاعدة الإلزام ليس غريباً، وتصحيح هذه المعاملات يؤثر في تسهيل الاُمور على المسلمين في استفادتهم من أموال الكفار فروايات الباب تكون من سنخ الروايات الواردة في جواز أخذ الجزية من الذمّي من ثمن خمرهم وخنزيرهم وميتتهم(1) بناء على دلالتها على صحة بيعهم لتلك الاُمور. هذا. وقد يخطر بالبال عدم صلاحية روايات الباب لتقييد أدلة بطلان بيع الخمر والخنزير بمعنى تخصيصها بالمسلم وذلك بأحد تقريبين:

الأوّل ـ ان دليل الحرمة التكليفية للبيع أو للانتفاع بالخمر والخنزير لا يختص مفاده بالمسلمين بناء على ما هو الحق من كون الكفار مكلفين بالفروع وقد افترضنا الملازمة العرفية بينهما وبين بطلان البيع، فإذا ثبت الانفكاك بينهما في بيع الكافر فالعرف لا يستظهر بعد ذلك من دليل تلك الحرمة الملازمة مع البطلان في بيع المسلم وهذا معناه سقوط هذه الدلالة الالتزامية تماماً.

وهذه الشبهة انّما ترد لو قلنا بانّ الدلالات الضمنية تكون في حجيتها أيضاً ضمنية وليست انحلالية قابلة للتفكيك وانّ حجّية العام في ما عدا مورد التخصيص ليست لأجل انحلالية حجية الدلالات الضمنية بل لأجل وجود ظهور آخر طولي في أقرب المجازات يؤخذ به عند سقوط الظهور الأوّل وهو الظهور في العموم، أمّا في المقام فبعد ان سقط جزء من هذه الدلالة الالتزامية فقد سقط كلها إذ ان العرف لا يعترف بالملازمة بالنسبة للمسلم بعد سقوطها بالنسبة للكافر.


(1) راجع الوسائل 11: 117 ـ 118، الباب 70 من أبواب جهاد العدو.

408

وهذا الكلام قد اتضح جوابه ممّا سبق فان كون الملازمة العرفية بالنسبة للمسلم أقوى منها بالنسبة للكافر معقول في المقام وذلك لمعقولية تنفيذ المعاملات الشخصية للكفّار الذين لا يؤمنون بشريعة ما من قبل تلك الشريعة ولو لأجل تسهيل اُمور المؤمنين بتلك الشريعة، أو لقاعدة الإلزام رغم عدم تنفيذها حينما تقع فيما بين المؤمنين بتلك الشريعة، إذن فالظهور الطولي في البطلان بالنسبة للمسلم بعد سقوط حجية الظهور في البطلان على الإطلاق ثابت في المقام.

الثاني ـ ان يقال: انّ التفكيك بين حرمة البيع وبطلانه بان يحرم ويصح وأن كان متعقلا في نظر العرف والعقلاء ولكن التفكيك بين حرمة الانتفاعات وبطلان البيع بان يكون الخمر أو الخنزير ساقطاً عن المالية شرعاً ومع ذلك يصح بيعه من الكافر غير متعقل في نظرهم فدليل صحة بيعهما بالنسبة للكافر يعارض أصل دليل حرمة منافع الخمر والخنزير بعد عدم احتمال حليتها للكفار بان يصبح الكفر موجباً لتسهيل الأمر عليه وبما ان حرمة منافعهما من الواضحات فهذه الروايات ساقطة في المقام.

والجواب: أولا ـ ان صحة بيعهما من الكفار ولو تسهيلا لاُمور المسلمين أمر يتعقلهُ العرف كما مضى.

وثانياً ـ هناك حديث مصرّح بالتفصيل بين الحرمة على الكافر وحلّ الثمن للدائن المسلم وهو قوله في حديث محمد بن مسلم: «أمّا للمقتضي فحلال وأمّا للبائع فحرام»(1) فهذا لا يسقط بالتعارض مع أدلّة الحرمة بل جميع أدلّة الجواز في المقام بعد ضمها إلى الارتكاز المتشرعي الذي لا يشك في حرمة منافعهما


(1) الوسائل 12: 171، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

409

الأساسية من الأكل والشرب هي ادلة التفصيل بين حرمة المنافع الأساسية وحلية ثمنه للدائن المسلم فلو كان هذا يعني صحة البيع فكونه خلاف الملازمة العرفية لا يمنع من قبوله تعبداً.

على أنّنا لو سلّمنا عدم تقبّل العرف للتفكيك بين حرمة عمدة المنافع وبطلان البيع كان هذا موجباً لسقوط ظهور هذه الروايات في صحة البيع وحملها على مجرّد تحليل من قِبَل الشارع للمسلم الدائن ان يستوفي ديَنه من هذا المال.

وعلى أيّة حال فقد اتضح بما ذكرناه ان ما فعله الغربيون من جعل السبب ركنا من أركان العقد لا أساس له عندنا وانما نقول: بطلان المعاملة عند حرمة دواعيها في مورد خاص حينما يدل عليه دليل خاص دلّ على حرمة بيع الخشب ممّن يصنعه صنماً أو صليباً، أو بيع السلاح من المحارب للإسلام والمسلمين ولا نقول بذلك على شكل قاعدة عامّة ولنعد الآن إلى بحث الأركان الأربعة التي عددناها للعقود وهي:

الإرادة، وإبرازها، والمتعاقدان، والمحلّ. فنقول:

 

411

 

 

 

2أركان العقود وشرائطها

 

 

الإرادة

 

 

 

 

إرادة العقد في المرحلة التمهيديّة

المقارنة بين انعدام الإرادة ووجودها المعيب

شرائط صحّة الإرادة

412

 

 

 

 

 

 

 

الركن الأوّل: الإرادة، ونعقد في ذلك أبحاثاً ثلاثة:

البحث الأوّل: فيما فرض في الفقه الوضعي حالةً وسطيةً بين إرادة العقد النهائي ونفي الإرادة المحض.

والبحث الثاني: في المقارنة بين انعدام الإرادة وقيامها على أساس الغلط.

والبحث الثالث: في شرائط صحّة الإرادة.

413

 

 

 

 

إرادة العقد في المرحلة التمهيديّة

 

 

أمّا البحث الأوّل ـ فقد جاء في الفقه الوضعي ذكر حالة وسطية بين إرادة العقد النهائي ونفي الإرادة المحض تلك هي مرحلة تمهيدية تؤدي ـ على وجه محقق أو غير محقق ـ إلى المرحلة النهائية، ولعل أبرز الصور لهذه المرحلة التمهيدية: الوعد بالتعاقد، والاتفاق الابتدائي، والعربون:

 

الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي:

أمّا الوعد بالتعاقد والاتفاق الابتدائي فقد مثّل لهما في الوسيط بما يلي:

«يتوقع شخص حاجته في المستقبل إلى أرض بجوار مصنعه أو منزله أو هو الآن في حاجة إليها ولكن لا يستطيع شراءها فوراً فيكفي بالتعاقد مع صاحب هذه الأرض على أن يتعهد هذا ببيع الأرض له إذا أبدى رغبته في الشراء في مدة معينة فيتقيد صاحب الأرض بالعقد دون أن يتقيد به الطرف الآخر.

يقوم المستأجر بإصلاحات هامّة في العين المؤجرة ويحصل قبل قيامه بهذه الإصلاحات من المالك على وعد بيع العين له إذا رغب شراءها في خلال مدة الإيجار حتى ينتفع بهذه الإصلاحات انتفاعاً كاملا.

يعد المالك مَن تسلم الشيء بشرط مذاقه أن يبيعه إياه إذا هو أعلن رغبته

414

في الشراء في مدة معينة وهذا ما يسمّى ببيع المذاق.

يؤجر المالك العين ويشترط على المستأجر أن يشتريها إذا هو أبدى رغبته في البيع في خلال مدة الإيجار وهذا هو الوعد بالشراء يقابل الوعد بالبيع في الصور المتقدمة.

يفتح مصرف حساباً جارياً لعميل قبل أن يقرضه شيئاً فيكون هذا وعداً من المصرف بالإقراض عندما يريد العميل أن يقترض.

ويلاحظ في كل هذه الصور ـ الوعد بالبيع والوعد بالشراء والوعد بالإقراض ـ انّ العقد ملزم لجانب واحد هو الواعد أمّا الموعود له فلم يلتزم بشيء.

على أنّ هناك صوراً اُخرى للوعد بالتعاقد يكون فيها ملزماً للجانبين:

يريد شخصان التعاقد ولكنهما لا يستطيعان ذلك فوراً يمنعهما من ذلك مثلا إجراءات لا بد منها في إبرام العقد النهائي كاستخراج مستندات ضرورية أو الحصول على إذن من المحكمة الشرعية أو المحكمة الحسبية أو نحو ذلك، أو يمنعهما ضرورة الكشف عن العقار لتبيّن ما عسى أن يثقله من الحقوق العينية، أو يمنعهما ان هناك مصروفات كثيرة يقتضيها إبرام العقد النهائي وشهره وهما لا يستطيعان الاضطلاع بها في الحال. هذه بعض أمثلة من الموانع التي تحول دون إبرام العقد النهائي فوراً ولكن المتعاقدين قد قرّر قرارهما على إبرام العقد ويريدان التقيد به منذ الآن فيمضيان اتفاقاً ابتدائياً يعد كل منهما فيه الآخر بان يمضي العقد النهائي في مدّة تعيّن في الاتفاق وهذا الاتفاق الابتدائي وهو وعد بالتعاقد لكنه وعد ملزم للجانبين»(1).


(1) راجع الوسيط 1: 266 ـ 267، الفقرة 132.

415

واثر عدم تمامية العقد النهائي: انّ الواعد يبقى مالكاً للشيء فله أن يتصرّف فيه ويستفيد منه إلى وقت التعاقد النهائي، كما أنّه إذا هلك الشيء قضاء وقدراً تحمل الواعد تبعة هلاكه لا لأنّه لم يسلّمه إلى المتعاقد الآخر فحسب كما في العقد النهائي بل أيضاً لأنّه لا يزال المالك ولكن لا يكون مسؤولا عن الضمان نحو الموعود له إذ المفروض انّ الشيء قد هلك قضاء وقدراً(1).

ومقتضى مقاييس الفقه الإسلامي ان يقال: إذا كان الوعد بالعقد شرطاً ضمن عقد كما هو الحال في المثال الرابع فلا ينبغي الإشكال في وجوب الوفاء به.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ولكن كان التزاماً في مقابل الالتزام كما في الاتفاق الابتدائي لو كان التزام كل منهما بالعقد في مقابل التزام الآخر به وكما لو التزم المستأجر بإصلاحات هامّة في العين المؤجرة في مقابل التزام المؤجر ببيع العين إيّاه لو أبدى المستأجر رغبته في ذلك خلال عقد الإيجار فأيضاً لا ينبغي الإشكال في وجوب الوفاء بذلك فانّنا لو لم نقل انّ هذا شرط داخل تحت دليل وجوب الوفاء بالشرط فلا أقل من كونه عهداً وعقداً يجب الوفاء بهما إذ حتى لو قلنا بانّ العقد عبارة عن التزامين متقابلين ولا يكفي مجرد قرار مرتبط بقرار ما لم يوجد التزامان فهذا أمر متوفّر في المقام، وأمّا ان لم يكن كذلك فالظاهر انّه يجب الوفاء به أيضاً، لأنّه حتى لو لم نقبل بكونه شرطاً فهو عقد لانّ العقد هو القرار المرتبط بقرار وهذا ثابت في المقام غاية الأمر انّه عقد على العقد على الشيء وليس عقداً على ذاك الشيء الخارجي مباشرة فهذا داخل في عموم دليل وجوب الوفاء بالعقد وكذلك في عموم قوله تعالى: ﴿اُوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولا﴾(2).


(1) راجع الوسيط 1: 274، الفقرة 138.

(2) الإسراء: 34.

416

نعم لو كان الوعد بالتعاقد وعداً ابتدائياً بحتاً لا يستبطن أي عهد أو قرارمرتبط بقرار لم يجب الوفاء به.

هذا وقد ورد في الفقرة الثانية من المادة (101) من القانون المدني الجديد المصري: «إذا اشترط القانون لتمام العقد استيفاء شكل معيّن فهذا الشكل تجب مراعاته أيضاً في الاتفاق الذي يتضمّن الوعد بإبرام هذا العقد»(1) والعهد الشكلي عندهم كالهبة والرهن الرسمي والشركة، وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي لذاك القانون: أن إغفال هذا الاحتياط يعين على الإفلات من قيود الشكل الذي يفرضه القانون ما دام ان الوعد قد يؤدّي إلى اتمام التعاقد المراد عقده فيما إذا حكم القضاء بذلك باعتباره وليّاً للممتنع وبذلك يتاح لهما ان يصلا بطريق غير مباشر إلى عدم مراعاة قيود الشكل، ومع ذلك لا يعني هذا سقوط الوعد بإبرام عقد رسمي أو شكلي عن الأثر القانوني نهائياً إذا لم يستوف ركن الرسمية أو الشكلية فهذا قد ينتهي إلى قيام دعوى بالتعويض عمّـا وقعت من خسارة أو سقوط أجل القرض الذي يراد ترتيب الرهن لضمان الوفاء به.

وذكر أبو عافية: ان هذا الكلام انّما يناسب ما إذا كان شرط الشكلية لصالح أحد المتعاقدين فيقال: ان الوعد الابتدائي لو نفذ من دون تقيد بالشكل لانتفت مصلحة المتعاقد التي لوحظت في التقيد بالشكل أما إذا قلنا: ان شرط الشكل انّما هو لصالح المجتمع كي يواجهوا عقداً مثبَّتاً ويسهل إثباته أو نفيه وتستقر الاُمور لا لصالح المتعاقدين فايّ عيب في افتراض ان الوعد الابتدائي بالعقد الشكلي يحتّم على الواعد الوفاء به ولو لم يف به نفّذه الحاكم الوليّ للممتنع بإجراء العقد الشكلي


(1) راجع الوسيط 1: 270 ـ 271، الفقرة 135 وماتحت الخط.

417

وإجراء كفيل بتحقيق المصلحة الاجتماعية الملحوظة للمشرّع حينما شرع قيد الشكل ! !

أقول: مقتضى أدلّة فقهنا الإسلامي التي أشرنا إليها هو وجوب الوفاء بالوعد بالتعاقد دون دليل على تقيد ذلك باستيفاء شروط الشكل المفروضة في العقد النهائي.

ولئن لم نعترف في فقهنا بعقود شكلية في العقود المالية فقد اعترف الفقهاء رضوان الله عليهم بعقود عينية كالهبة والقرض ورهن الحيازة، فالأثر الفقهي لبحثنا يظهر في هذه العقود إذ لو قبلنا بالنكتة المشروحة في المذكرة الإيضاحية للقانون المصري الموجبة لإسراء شرط الشكل إلى الوعد بالتعاقد لجرت تلك النكتة في شرط القبض أيضاً في العقود العينية، والقبض فيها يعني تنفيذها وهذا يعني إلغاء الوعد بالتعاقد في العقود العينية نهائياً إذ لو نفذّت لتعدينا الوعد بالتعاقد إلى العقد النهائي ولو لم تنفّذ لم يصح الوعد بالتعاقد.

وأمّا ان شروط الانعقاد أو الصحة في العقد الموعود به هل تراعى في الوعد بالعقد أو لا؟ فقد ذكر في الوسيط:

أ ـ ان الوعد إذا كان ملزماً للجانبين فشروط الأهلية المطلوب للجانبين شرط في الجانبين.

ب ـ وإذا كان ملزماً لجانب واحد قدّرت الأهلية بالنسبة للواعد وقت الوعد حتى لو فقدت حين العقد النهائي فلا يضرّ الحجر مثلا بعد الوعد وقبل انتهاء العقد النهائي.

ج ـ وعيوب الإرادة بالنسبة للواعد تقدر وقت الوعد دون وقت العقد النهائي، إذ لا يصدر منه رضا وقت العقد النهائي بل يرغم عليه لو لم يرض بذلك.

418

د ـ أما أهلية الموعود له فتقدر وقت العقد النهائي لا وقت الوعد إذ لا يلتزم بشيء وقت الوعد وانّما التزامه يكون في وقت العقد النهائي، فلا نشترط فيه أهلية الالتزام وقت الوعد، نعم يجب أن تتوفر فيه أهلية التعاقد وهي التمييز وقت الوعد لأنّه عقد وهو أحد طرفيه.

هـ ـ أمّا عيوب الإرادة بالنسبة للموعود له فتقدّر له وقت الوعد ووقت التعاقد النهائي معاً لصدور الرضا منه في كلا الوقتين.

و ـ وسواء كان الوعد ملزماً لجانب واحد أو للجانبين فانّ مشروعية المحل والسبب يكفي توافرها وقت التعاقد النهائي(1).

أقول: انّ البند الثاني فيه إشكال من وجهة نظرنا في الفقه لانّ مثل الحجر في وقت العقد النهائي يكشف عن ان الوعد وقع على متعلق لم يكن مشروعاً في ظرفه، وان شئت فعبّر بأنّ الوعد عقد محلّه العقد النهائي، وشرط الأهلية في العقد النهائي يعتبر شرطاً للمحلّ بالنسبة للوعد لا بد من توفّره في وقت المحل.

 

العربون وأنواعه:

وأمّا العربون فيفسّر عادة بأحد تفسيرين:

1 ـ أن يكون مبلغاً من الثمن يدفع إلى البائع أو الموجر مثلا كي يكون لكل واحد من المتعاملين حق التراجع على ان يخسر مقداره أيّ من المتعاملين الذي سيتراجع عمّـا بنوا عليه من المعاملة.

2 ـ أن يكون دفعه شروعاً في تنفيذ المعاملة فهو مجرّد أداء الجزء من الثمن تأكيداً للعقد والبت فيه.


(1) الوسيط 1: 272 ـ 273، الفقرة 136.

419

وقد وقع الخلاف(1) في أقسام الفقه الوضعي في بيان ما هو الأصل فيتفسير العربون؟ والذي يحمل عليه ما لم يثبت الخلاف هل هو التفسير الأوّل أو الثاني؟ أو يؤخذ في كل زمان ومكان بما هو المتعارف في ذلك بين الناس؟

ومقتضى فقهنا الإسلامي بعد تسليم أصل فكرة العربون هو تفسير الكلام أو العمل الواقع بين المتعاقدين على ما تعارف عليه الناس في كل زمان ومكان ما لم يثبت الخلاف أو لم تدل القرائن المكتنفة على الخلاف لانّ المتعارف بين الناس يولد الظهور وهو حجّة.

وعلى أيّة حال فلا إشكال عندنا في العربون إن كان مجرّد أداء لجزء من الثمن شروعاً في تنفيذ العقد من دون أن يخسر أحدهما المبلغ لدى التراجع.

وإنّما الكلام في ما إذا وضع العربون كي يخسر مبلغه كل واحد منهما لدى تراجعه عن المعاملة وهذا قد يفرض جزءً من الثمن يخسره المشتري لو تراجع عن الشراء ويرجعه ومثله معه البائع لو تراجع عن البيع، وقد يفرض عدم كونه جزءً من الثمن بل قد يكون قبل تمامية العقد ويقصد به أيضاً خسارة كل منهما للمبلغ لدى التراجع عن المعاملة.

فرضيّة كون العربون جزءً من الثمن:

فإن فرض جزءً من الثمن دلّت على حرمته صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى ثوباً ولم يشترط على صاحبه شيئاً فكرهه ثم ردّه على صاحبه فأبى أن يقبله (يقيله ـ خ) إلّا بوضيعة قال: لا يصلح له ان يأخذه بوضيعة فان جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ على صاحبه الأوّل ما زاد(2)


(1) راجع الوسيط 1: 276 ـ 281، الفقرة 140 ـ 142.

(2) الوسائل 12: 392، الباب 17 من أبواب أحكام العقود.

420

وفي نقل الصدوق (رحمه الله) للحديث حذفت جملة «ولم يشترط على صاحبه شيئاًفكرهه» وكأن المقصود بالشرط هو شرط الخيار يعني انّه لم يكن له شرط الخيار كي يضطر البائع إلى الخضوع لرغبة المشتري في الفسخ ولذا أبى قبول ذلك إلّا بوضيعة، وعلى ايّة حال فان حرمت الوضيعة من دون شرط كان شرط العربون شرطاً مخالفاً للسنة، فان معنى مخالفة الشرط للسنة كونه متعلقاً بشيء كان في ذاته ولو لا الشرط خلاف السنة ومحرّماً، وبعدم احتمال الفرق ولو عرفاً نتعدّى من فرض اقتطاع البائع لجزء من الثمن لدى إقالته للمشتري إلى فرض اقتطاع المشتري لجزء من المبيع لدى إقالته للبائع.

فرضية عدم كون العربون جزءً من الثمن:

وإن لم يفرض العربون جزءً من الثمن دلّت على حرمته رواية وهب بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لا يجوز بيع العربون إلّا أن يكون نقداً من الثمن(1) بل هذا الحديث يدل على تحريم العربون بالمعنى الذي يوجب خسارة أحد الطرفين وان فرض أولا جزء من الثمن فان حمله على تحريم هذا التخسير في خصوص ما إذا لم يفرض جزء من الثمن بعيد لدى النظر إلى المناسبات العقلائية فكأن المقصود من قوله: (لا يجوز بيع العربون إلّا أن يكون نقداً من الثمن) هو ان العربون لا يجوز أن يحسب شيئاً عدا ان يحسب جزء من الثمن، أما أن يأخذه البائع لدى رجوع المشتري فهذا باطل لأنّه بعد الفسخ لم يعد جزءً من الثمن وإن كان أولا جزءً منه إلّا ان سند الحديث ضعيف بوهب.


(1) الوسائل 12: 405، الباب 28 من أبواب أحكام العقود.