355

وذلك تحت عنوان ان حرمة الغاية في العقد أو البيع هل توجب حرمة أو بطلان ذلك أو لا؟ وأنّ بيع العنب ممّن يصنعه خمراً أو الخشب ممّن يصنعه صنماً أو صليباً أو السلاح ممّن يحارب به الإسلام والمسلمين أو نحو ذلك جائز أو لا؟ وهذا التطواف الطويل الفارغ الذي رأيته في الفقه الغربي لا تراه في الفقه الإسلامي إطلاقاً.

 

تقييم السنهوري لنظرية الإسلام حول السبب:

وقال السنهوري في كتاب مصادر الحق: إنّ هناك عاملين متعاكسين في التأثير على الفقه الإسلامي في مدى التزامه لنظرية السبب أو رفضه إيّاها.

1 ـ أنّه فقه ذو نزعة موضوعية بارزة يعتد بالتعبير عن الإرادة دون الإرادة ذاتها، أي يأخذ بمذهب الإرادة الظاهرة لا بمذهب الإرادة الباطنة فهو أقرب بكثير من هذه الناحية إلى الفقه الجرماني منه إلى الفقه اللاتيني. والفقه ذو النزعة الموضوعية يكون أكثر استعصاء على نظرية السبب من الفقه ذي النزعة الذاتية ومن ثم تستعصي النزعة الموضوعية للفقه الإسلامي على نظرية السبب فكان المترقب لولا العامل الثاني ان تضمر نظرية السبب في الفقه الإسلامي كما ضمرت في الفقه الجرماني.

2 ـ ولكن الفقه الإسلامي من جهة اُخرى فقه تتغلّب فيه العوامل الأدبية والخلقية والدينية وهذا يقتضي ان يعتد بالباعث الذي تقاس به شرف النوايا وطهارتها فكان المترقب لولا العامل الأوّل ان تكون لنظرية السبب وهي نظرية خلقية مكان ملحوظ يضاهي مكانها في الفقه اللاتيني. وبين هذين العاملين المتعارضين يتراوح الفقه الإسلامي ففى بعض مذاهبه نرى نظرية السبب تختفي تحت ستار من صيغة العقد والتعبير عن الإرادة ويختلط السبب بالمحلّ فلا يعتد

356

بالسبب، أي الباعث على التعاقد إلّا حيث يتضمنه التعبير عن الإرادة وفي مذاهباُخرى تتغلب العوامل الأدبية والخلقية والدينية فيعتد بالباعث ولو لم يتضمنه التعبير عن الإرادة ويكون العقد صحيحاً أو باطلا تبعاً لما إذا كان هذا الباعث مشروعاً أو غير مشروع.

ثم يستعرض السنهوري ضمور نظرية السبب في المذهبين الحنفي والشافعي وظهورها في المذهبين المالكي والحنبلي ويعقّبه بكلام مختصر عن المذاهب الاُخرى(1).

أقول: أما بالنسبة لما ذكره في العامل الأوّل من أنّ الفقه الإسلامي يتجه إلى نظرية الإرادة الظاهرة فقد مضى منّا: إنّ تلك النظرية فكرةً واصطلاحاً غربية بحتة لا علاقة بها بالفقه الإسلامي أبداً، والفقه الإسلامي يقصد بالإرادة، الإرادة بمعناها الحقيقي وهي الإرادة الباطنة، وأمّا ما يسمّى بالإرادة الظاهرة في مصطلح الغرب فينظر الفقه الإسلامي إليها بمنظار الأمارة والقرينة القابل لثبوت العكس.

نعم اتجاه الفقه الإسلامي إلى الإرادة الحقيقية لا يحتّم عليه الأخذ بنظرية السبب بمعنى الباعث، ففرق بين أصل إرادة العقد وبين الباعث والغاية لها، فبإمكان من يتجه في بحثه إلى الإرادة الباطنة أن يقتصر على دراسة الإرادة العقديّة ولا يرى أثراً للباعث.

وأمّا ما ذكره من العامل الثاني وهو الاتجاه الخلقي في الفقه الإسلامي فلا ريب إنّ الفقه الإسلامي فقه الأخلاق والآداب ولكن هذا لا يحتّم عليه الأخذ بنظرية السبب بمعنى كون عدم مشروعية الباعث موجباً لبطلان العقد. فإنّ المحتّم


(1) 4: 51 ـ 80.

357

على الفقه الإسلامي انّما هو أنْ يضرب في نظامه الفقهي على يد من يعمل ما ينافي الأخلاق، وأن يمنع عن البواعث غير المشروعة أمّا أنّ هذا هل سيكون عن طريق إبطال أو تحريم العقد الذي يكون باعثه غير مشروع أو يكتفى فيه بمنع العاقد في ظرف تصدّيه لتنفيذ باعثه غير المشروع عن ذلك والحيلولة دونه ودون حصول ما يهدفه؟ فللفقه الحرّية في ذلك وسيظهر إن شاء الله في آخر البحث أنّ النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) فيها تفصيل بين البواعث غير المشروعة بلحاظ شدّة أو ضعف مخالفتها للأخلاق فقد يحرم بيع الخشب ممّن يصنعه صنماً من دون أن يحرم بيع العنب ممّن يصنعه خمراً علماً بأنّ عبادة الصنم أشدّ قبحاً من شرب الخمر.

وعلى أيّة حال فالباعث غير المشروع تارة يكون مأخوذاً في الاتفاق العقدي واُخرى لا يكون كذلك.

فإنْ كان مأخوذاً في الاتفاق العقدي على مستوى رجوعه إلى محل العقد فلا إشكال في الفقه الإسلامي في بطلان العقد وهذا ما يبحثه الفقه الإسلامي تحت عنوان بيع ما يحرم الانتفاع به أو الإيجار على المنفعة المحرّمة ونحو ذلك ولا علاقة له بالسبب.

وإن كان مأخوذاً في الاتفاق العقدي على مستوى الشرط فهو بالنسبة لذات الشرط يكون محلا للشرط ويرى الفقه الإسلامي عندئذ فساد الشرط. وبالنسبة للعقد الأصلي قد بحثه الفقه الإسلامي تحت عنوان: أنّ الشرط الفاسد هل هو مفسد للعقد أو لا؟

وأمّا إنْ لم يكن الباعث مأخوذاً في الاتفاق العقدي فقد بحثه الفقه الإسلامي تحت مسائل من قبيل بيع العنب ممّن يصنعه خمراً، أو بيع الخشب ممّن

358

يصنعه صنماً ونحو ذلك، ووقع الخلاف فيه على وجوه، نظير الخلاف الوارد فيالفقه الغربي، فمثلا جاء في مصباح الفقاهة للشيخ التوحيدي الذي هو تقرير لبحث استاذه السيد الخوئي (رحمه الله): «في المختلف: (إذا كان البايع يعلم أنّ المشتري يعمل الخشب صنماً أو شيئاً من الملاهي حرم بيعه وإن لم يشترط في العقد ذلك لنا: انّه قد اشتمل على نوع مفسدة فيكون محرماً لأنّه اعانة على المنكر). ونُقل عن ابن ادريس جواز ذلك لانّ الوزر على مَنْ يجعله كذلك لا على البائع، وفصّل المصنف (رحمه الله) ـ يعني الشيخ الأنصاري (قدس سره)في المكاسب ـ بين ما لم يقصد منه الحرام فحكم بجواز بيعه وبين ما قصد منه الحرام، فحكم بحرمته لكونه إعانة على الإثم فتكون محرمة بلا خلاف»(1) انتهى ما أردنا نقله عن مصباح الفقاهة.

ونفس صاحب المختلف وهو العلاّمة (رحمه الله)اختار في القواعد التفصيل بين ما لو شرط الحرام فيحرم أو لم يشترط فلا يحرم، ونسب في مفتاح الكرامة إلى ظاهر المشهور التفصيل بين ما إذا قصد الحرام وما إذا كان عالماً بذلك من دون قصده إياه فيحرم البيع في الأوّل دون الثاني، وذكر وجهاً لحمل أقوالهم على اختصاص المنع بصورة الشرط وعدم كفاية مجرد القصد، وهو أنّه لو كان مجرد القصد مبطلا لزم البطلان سواء كان البائع قاصداً أو لا، وسواء كان عالماً أو لا، لأنّ القصد من طرف المشتري مفروض على أي حال، فانّ عِلَم البائع انّما يتعلق غالباً بقصد المشتري، لا بانّه سوف يصرفه في الحرام رغم عدم قصده الآن. فلو فسد العقد من جانب المشتري فسد من الجانبين لعدم إمكانية التفصيل بين البايع والمشتري في الفساد(2).


(1) مصباح الفقاهة 1: 170.

(2) راجع مفتاح الكرامة 4: 37.

359

أقول: إنّ هذا الكلام إنّما تكون له صورة بناء على حمل المنع أو الحرمةعلى البطلان، أو على ما يشمل البطلان دون مجرد الحكم التكليفي، وإلّا فإمكان التفصيل بين المشتري القاصد للحرام والبائع غير العالم بذلك في غاية الوضوح.

وعلى أيّة حال فالدليل على بطلان العقد أو حرمته بعدم مشروعية الباعث قد يكون عبارة عن دليل عام يشمل ابتداء كل عقد، وقد يكون عبارة عن أدلّة خاصة واردة في موارد مخصوصة كبيع العنب أو الخشب أو السلاح ممّن يصنعه خمراً أو صنماً أو صليباً أو يحارب به المسلمين، ثم ينتزع منها حكم عام بلحاظ كل العقود.

وعلى كل تقدير تارةً نستنتج الحرمة التكليفية فحسب، واُخرى نستنتج البطلان فهنا لدينا بحثان:

 

حرمة العقد عند عدم مشروعية الباعث:

البحث الأوّل: في الحرمة التكليفية للعقد حينما يكون الباعث إليه للشخص المقابل غير مشروع، ونبحث ذلك أوّلا على مستوى الأدلّة العامة ثم على مستوى الاستنتاج من الأدلّة الخاصّة.

1 ـ مقتضى الأدلّة العامّة:

أمّا على مستوى الأدلّة العامة للتحريم فقد اختار السيد الإمام الخميني (رحمه الله)الحرمة بمجرد العلم وبلا حاجة إلى قيد الشرط أو قصد تحقق الحرام، واستدل على ذلك بوجوه ثلاثة(1) على تأمّل له في إطلاق الوجه الثاني:


(1) راجع المكاسب المحرمة للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 129 ـ 144.

360

أ ـ دعوى حكم العقل:

الوجه الأوّل ـ دعوى حكم العقل بقبح تهيئة شرائط أو أسباب المعصية والإثم لمَن يعصي الله تبارك وتعالى كما يحكم بقبح المعصية، ولا فرق في ذلك بين كون الهدف من ذلك تحقق تلك المعصية أو لا، وبين كون السبب من الأسباب القريبة أو البعيدة، ولا بين كون السبب منحصراً عند هذا الشخص أو أنّ العاصي سيشتري العنب مثلا من شخص آخر لو امتنع هذا عن بيعه منه فيجعله خمراً، ولا بين كون المشتري قاصداً بالفعل لاستعمال العين المبيعة في المحرّم وكونه غير قاصد ذلك بالفعل ولكنَّ البايع يعلم أنّه سيتحقق له هذا القصد في المستقبل، أو أنّ نفس حصوله على هذه العين سيقدح في نفسه الداعي إلى صرفها في المعصية. وكذلك لا مجال لأي تفصيل آخر من أمثال هذه التفاصيل إلّا بشدّة القبح وضعفه، أمّا أصل القبح فهو عنصر مشترك في كل هذه الموارد، والقبح العقلي يؤدّي إلى الحرمة الشرعية.

وليس المقياس في صحة هذا الوجه صدق عنوان الإعانة كي يشكّك في بعض الفروض في صدق هذا العنوان كما لو خصّص صدق هذا العنوان بما إذا كان هدف البائع من هذا البيع تمكين المشتري من المعصية أو حصولها منه، أو بخصوص الأسباب القريبة دون البعيدة، أو بما إذا كان المشتري من الآن عازماً على الصرف في المعصية دون ما إذا علمنا بانّه سينقدح في نفسه داعي المعصية في المستقبل ونحو ذلك، وانّما المدّعى في هذا الدليل هو حكم العقل بقبح تهيئة أسباب وشرائط المعصية لشخص مّا من دون ارتباط لذلك بصدق عنوان الإعانة عليه وعدمه. هذا وما قلناه في علم الاُصول من أنّ مقدمة الحرام ليست حراماً إنّما يعني عدم الملازمة بين حرمة الفعل وحرمة مقدمته، فنفس فاعل الحرام لا

361

يكون بارتكابه للمقدمات مرتكباً لحرام إضافي، أمّا غير الفاعل الذي هيأ الأسباب والشرائط لفاعل الحرام فعمله هذا بنفسه حرام لا من باب حرمة المقدمة بل من باب حكم العقل عليه بقبح ذلك، بينما لا يوجد قبح إضافي في مقدمة الحرام بالنسبة لنفس مرتكب الحرام. وقد تثار بوجه هذا الدليل عدة نقائض:

الأوّل ـ أنّ هذا الوجه قد يحرّم مثل البيع المعاطاتي دون مثل البيع الذي يتم بالعقد اللفظي، فان دخول العين في ملك مَن يستفيد منه فائدة محرّمة بالعقد اللفظي يمكن للبائع إخراجه عن غير سلسلة أسباب وقوع المحرم وشرائطه بترك التسليم إذْ لو باعه العنب مثلا ثم لم يسلّمه إليه بل حال بينه وبين تسلّمه للعنب ما دام قاصداً لتحويله إلى الخمر ردعاً له عن المنكر لم يكن هذا تهيئة لأسباب المعصية.

والثاني ـ إنَّ هناك بعض المصاديق لتهيئة الأسباب أو الشرائط والمقدمات ضروري الجواز فقهياً، بينما الدليل العقلي لا يقبل التخصيص. مثاله مَن تزوّج رغم علمه إجمالا بانّ بعض أولاده أو أحفاده سيعصي الله تبارك وتعالى، ومَن اتّجر رغم علمه بأنّه حينما يربح في التجارة يصبح مشمولا لقوانين ضرائب السلطة غير الشرعية فيأخذ منه السلطان الضرائب ظلماً وعدواناً وقد هيّأ هو بتجارته أسباب هذا العمل المحرّم للسلطان.

فلو كان دليلنا على حرمة العقد المؤدّي إلى فعل الحرام دليلا نقلياً لسهل الجواب على مثل هذه النقوض بخروجها من ذاك الدليل إمّا تخصيصاً بضرورة من الفقه أو بأدلة الحث على النكاح مثلا مع عدم انفكاكه غالباً عن مثل هذا العلم الإجمالي، أو بالسيرة القطعية في زمان المعصوم، أو تخصصاً بدعوى كون تلك الضرورة أو السيرة موجبة لانصراف الدليل، أو ببيان أنّ العنوان المأخوذ في لسان

362

الدليل لا يشمل مثل هذا الفرض كما لو كان الدليل دالّاً على حرمة عنوان الإعانة على الإثم فقد يقال بانّ عنوان الإعانة لا يصدق على مثل ذلك كما ورد عن المحقق النائيني (رحمه الله)تخصيص صدق الإعانة بإيجاد الأسباب التي ليست هي في سلسلة علل خلق الإرادة وتحققها في نفس العاصي فانّما تصدق الإعانة حينما تكون الإرادة بمعنى أنّ الدافع النفساني تامّة في نفس العاصي من غير ناحية احتياجه في تحقيق المعصية إلى السبب الفلاني فعندئذ يكون تأمين ذاك السبب له إعانة على المعصية على كلام في أنّ صدق الإعانة هل يختص بإيجاد السبب المباشر، أي الجزء الأخير من المقدمات أو يشمل المقدمات البعيدة؟ وهل يختص بما إذا كان داعي مُوجد السبب هو تحقق المعصية أو لا؟ واختار المحقق النائيني أنّ صدق الإعانة يختص بما إذا أوجد الجزء الأخير من المقدمات كإعطاء العصا بيد مَن أرادَ ضرب مظلوم أو قصد توصّل الغير إلى الحرام أمّا مع عدم القصد وعدم كون المقدمة المأتي بها هي المقدمة المباشرة فلا تصدق الإعانة. وعلى أيّة حال فحتى لو قلنا بصدق الإعانة في هذا الفرض فهذا لا يشمل في نظر المحقق النائيني مثل مثال النكاح والتجارة لانّ المقدمات هنا واقعة في الرتبة السابقة على إرادة العاصي للمعصية(1).

والسيد الخوئي (رحمه الله) فصّل بين مثل مثال النكاح مع العلم إجمالا بانّ بعض الأولاد أو الأحفاد سيعصي الله، ومثل مثال التجارة مع العلم بأدائه إلى أخذ الضرائب من قِبَل السلطان الجائر، ففرض أنّ صدق الإعانة يختص بما إذا لم تكن المقدمة التي أوجدها عبارة عمّـا يكون دخيلا في وجود نفس المُعان كما في مثل


(1) راجع المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 26 و 27.

363

النكاح فليس العباس بن عبد المطلب معيناً على قتل الأئمة (عليهم السلام) لكونه قد أولد خلفاء بني العباس فالمفروض أن يكون وجود المعان مفروغاً عنه وتكون تلك المقدمة من مقدمات صدور المعصية منه، وهذا صادق في مثال التجارة وإن لم يكن في نظر السيد الخوئي حراماً لعدم حرمة الإعانة على الإثم(1).

وعلى أيّة حال فكل هذه الكلمات لها مجال في المورد الذي أوردها فيه المحقق النائيني والسيد الخوئي وهو البحث عن مدى دلالة الدليل اللفظي على حرمة الإعانة. أمّا في ما هو محل كلام السيد الإمام (رحمه الله) الآن من دعوى دلالة العقل على قبح إيجاد أسباب وشرائط المعصية فكل هذه التفاصيل لا مجال لها لأنّ المسألة ليست مسألة لغوية نبحث فيها عن معنى الإعانة فيبدو في الذهن استفحال هذا النقض. حيث يقال لئن صحّ أنّ العقل يحكم بقبح ذلك فماذا تقولون في الموارد التي لا شك في عدم الحرمة فيها فقهياً؟ !

والثالث ـ أنّه لئن صح حكم العقل بقبح إيجاد سبب المعصية لأنّه يؤدي إلى معصية المولى تبارك وتعالى فهذا إنّما يكون فيما إذا لم يكن المشتري عند الامتناع من بيع العين إيّاه سيشتريها من شخص آخر بحيث لا يكون امتناعنا هذا مؤثراً في تقليل المعصية، أمّا إذا كان الأمر كذلك كما لو كان المشتري يريد تخمير كميّة معينة من العنب لا تخمير أكبر مقدار يبيعه البائعون وكانت الكمية المعيّنة موجودة لدى غيرنا أيضاً بحيث لو امتنعنا من بيعها إيّاه لاشتراها من غيرنا فهنا لا موجب للقبح المدّعى في المقام.

وهذا النقض يذكر عادةً على ما سيأتي إن شاء الله من الدليل الثالث من أدلّة


(1) راجع المحاضرات 1: 133، ومصباح الفقاهة 1: 179.

364

الحرمة في المقام وهو دليل وجوب دفع المنكر حيث يقال: انّ امتناعنا عن بيع العين إيّاه لا يدفع المنكر لأنّه سوف يشتريها من غيرنا. أمّا هذا الدليل الأوّل الذي صيغ بعنوان قبح إيجاب أسباب المعصية فقد يدّعى سلامته من هذا النقض حتى لو تمَّ في الدليل الثالث، والفرق هو أنّ عنوان دفع المنكر المدعى وجوبه في الدليل الثالث قد يُقال إنّه عنوان بسيط لا يتحقق إلّا بامتناع الكل من بيع العين إيّاه، فإذا عرفنا عدم الامتناع من قِبَل البعض فقد عجزنا عن تحقيق المنع، وهذا نظير ما إذا أوجب رفع جسم ثقيل من الأرض وهو لا يمكن إلّا بتعاون اُناس عديدين على حمله فإذا امتنع عن ذلك عجز الآخرون عن رفعه وسقط التكليف عنهم.

وأمّا ما يدعى في هذا الدليل الأوّل فهو قبح إيجاد سبب المعصية، وإيجاد سبب المعصية عنوان انحلالي له مصاديق عديدة كلها محرّمة فكل مَنْ باع العنب من هذا الذي يريد تخميره فقد أوجد سبب المعصية وهو حرام وليس مصداقه منحصراً بفرد واحد مرتبط بالكل كما في رفع الجسم الثقيل حتى يسقط التكليف عن البعض عند امتناع الآخرين فما نحن فيه ليس من قبيل إيجاب رفع جسم ثقيل وإنّما هو من قبيل تحريم قتل المؤمن فلو علم أحد أنّه لو لم يقتل المؤمن الفلاني لقتله شخص آخر لم يكن هذا مجوّزاً لقتله إيّاه فإنّ حرمة القتل أمر انحلالي متوجّه إلى كل واحد من المكلفين مستقلا وكذلك الأمر في ما نحن فيه فحرمة إيجاد سبب الحرام حكم انحلالي متوجه إلى جميع آحاد المكلفين وعصيان البعض لا يبرّر عصيان الآخرين.

إلّا أنّ الواقع هو أنّنا لسنا أمام دليل لفظي دلّ على حرمة إيجاد سبب المعصية كي نستظهر منه الانحلال وإنّما نحن أمام حكم عقليّ بالقبح وهذا الحكم العقليّ لو كان فانّما النكتة المعقولة له هي التقليل من وجود ما هو مبغوض للمولى

365

سبحانه أو إزالته من صفحة الوجود وإن شئت فقل إنّ الدليل الثالث إذا فرض وجوب دفع المنكر فيه عقلياً لا شرعياً مع الدليل الأوّل في واقعهما ينبغي أن يكونا دليلا واحداً، ولا يتصور لايجاد سبب المعصية قبح مستقل عن قبح ترك دفع المنكر ولذا لا نحسّ فيمَن أوجد سبب المعصية باشتداد القبح نتيجة صدق كلا العنوانين على ما هو مقتضى الاستدلال بكلا الدليلين، فلئن فسّرنا هذا الدليل الأوّل بتفسير معقول وهو التفسير الراجع إلى أحد شقيّ الدليل الثالث، أعني وجوب دفع المنكر عقلا كان لإيراد هذا النقض عليه مجال. هذه هي النقائض الثلاثة التي يمكن إبرازها بلحاظ هذا الدليل.

أمّا النقض الأوّل ـ وهو عدم شموله للبيع الذي يتم بالعقد اللفظي فلم يتعرض له السيد الإمام (رحمه الله) في المقام ولكنه حينما بحث مسألة البطلان بعد فرض الحرمة التفت إلى مسألة الفرق بين البيع اللفظي والبيع المعاطاتي، حيث إنّ ما يحتّم وقوع البيع في طريق تحقق المعصية إنّما هو التسليم لا العقد اللفظي، وذكر أنّ الحرمة في البيع المعاطاتي ثابتة على عنوان منطبق على مصداق البيع المعاطاتي وهو التسليم لا على نفس عنوان البيع حتى تفترض دلالتها على بطلان البيع. وفي البيع اللفظي يقع بعد تمامية البيع التزاحم بين دليل حرمة العنوان المحرّم المنطبق على التسليم ودليل وجوب تسليم المثمن...،(1). ولعله يريد أن يقول: إنَّ عدم بطلان البيع هنا أيضاً واضح لأنّ الحرمة هنا أصلا لم تكن ثابتة على البيع وإنّما كانت ثابتة على التسليم ومزاحمة للوجوب الناشئ من البيع كما ويحتمل أيضاً أن يقول (رحمه الله)بحرمة البيع هنا لكونه مورّطاً للمكلف في التزاحم بين


(1) راجع المكاسب المحرّمة للسيد الإمام 1: 149.

366

وجوب التسليم وحرمة الإعانة على الإثم، أو إيجاد سبب من أسباب المعصية، إذ لو صحّ القول بقبح إيجاد سبب من أسباب معصية الغير صحّ القول أيضاً بأنّ إيجاد ما يورّط نفس الموجد في التزاحم بين تكليفين يضطر إلى مخالفة أحدهما أيضاً قبيح عقلا، فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإنْ كان ينافيه خطاباً، والبيع اللفظي هنا من هذا القبيل لأنّه يورّط البائع في التزاحم بين حرمة التسليم بعنوانه سبباً من أسباب معصية المشتري ووجوبه بعنوانه تسليماً للمثمن فيكون هذا البيان جواباً على النقص الأوّل من النقائص التي بيّناها.

إلّا أنّ هذا الجواب مبتن على الإيمان بكون وجوب تسليم المثمن في حدّ ذاته مطلقاً يشمل فرض ما إذا كان المشتري سيصرفه في الحرام، وعلى القول بانّ اجتماع هذا الوجوب مع حرمة التسبيب إلى المعصية من باب التزاحم، وعدم رجوعه أو رجوع مطلق باب التزاحم إلى التعارض وإلّا لتقدم دليل حرمة التسبيب على دليل وجوب التسليم باعتبار تقدم الدليل العقلي على الدليل اللفظي لدى التعارض فلا يصبح البيع مورّطاً للإنسان في التزاحم بين تكليفين، وعلى أيّة حال فالمهم عندي هو النقض الثاني والثالث لانّهما في نظري مدخلان للبحث الحلّي في المقام.

وأمّا النقض الثاني ـ وهو الانتقاض بموارد لا شك بضرورة من الفقه في كون الحكم فيها هو الجواز كالنكاح الذي قد يوجب العلم الإجمالي بتورط بعض الأولاد أو الأحفاد في معصية الله، أو التجارة التي تؤدّي إلى أخذ الظالم للضرائب. فقد أجاب على ذلك السيد الإمام (رحمه الله) بأنّ القبيح عقلا إنّما هو تحصيل الشرائط والأسباب للمعصية لا مطلق ما له دخل في تحقق المعصية كتجارة التاجر العالم بأخذ الظالم للضرائب منه، والنكاح ممّن يعلم بتحقق العصيان من الأولاد أو

367

الأحفاد فمثل هذا ليس قبيحاً لأنّه ليس من قبيل تهيئة الأسباب ولم يذكر (رحمه الله) ما هو المقياس المميز عنده بين المعنى الذي يقصده في المقام بتهيئة الأسباب وغيره، ولعلّه يقصد بذلك التفصيل بين ما يكون من مقدمات إرادة العاصي كتجارة التاجر، والنكاح المؤدّي إلى وجود الولد، وما يكون من مقدمات تحقق الفعل بعد افتراض تمامية الإرادة من غير زاوية وجود الأدوات كإعطاء العصا بيد الظالم الذي يريد ضرب المظلوم فهذا نظير التفصيل الذي ادعاه المحقق النائيني (رحمه الله)في صدق عنوان الإعانة إلّا أنّ مثل هذا التفصيل في المقام لا مورد له لانّنا لو سلّمنا بحكم العقل بقبح تهيئة الأسباب فإنّما نسلّمه برجوعه بروحه إلى دعوى أنّ من وظيفة العبودية والإخلاص للمولى هو تقريب المولى دائماً نحو حصول أغراضه وإخلاء الساحة عمّـا يبغضه المولى ولو كان ذاك المحبوب أو المبغوض من فعل الآخرين، ولا يفرق في ذلك بين ما يكون سبباً وبين المقدمات التي لا ترجع إلى السبب، وإن كان قد يقع الفرق بين مورد ومورد بشدة القبح وضعفه.

والحاصل: أنّ النكتة الفنيّة للفرق بين الموارد المقطوع بالجواز فيها فقهياً وغيرها لم تتضح حتى الآن. وكذلك من ضروريات الفقه جواز المبايعات مع الكفار حيث لا شك في أنّ الكفار الذميين كانوا في زمن المعصومين معاشرين مع المسلمين ومتعايشين معهم في بلادهم وكان بيع المآكل والمشارب والأدوات منهم قائماً على قدم وساق وكان ذلك مورد رضا الأئمة (عليهم السلام) من دون شك مع العلم في نهار شهر رمضان بانّ كثيراً منهم سيصرف هذا المأكل أو المشرب في الإفطار المحرّم، أو العلم بانّ الطعام الذي يأكلونه ينجّسونه بريقهم ثم يأكلون النجس وهم مكلفون بالفروع كالمسلمين.

وأجاب على ذلك السيد الإمام (رحمه الله) بانّ هذه التكاليف غير مُنجَّزة على

368

الكفار عادة وغالباً لانّهم في غير ما شذّ وندر قاصرون وليسوا مقصرين، من دون فرق في ذلك بين عوامهم وعلمائهم، أمّا عوامهم فلعدم انقداح خلاف ما هم عليه من المذاهب في أذهانهم، بل هم قاطعون بصحة مذهبهم وبطلان سائر المذاهب نظير عوام المسلمين، وأمّا علماؤهم فالغالب فيهم أنّه بواسطة التلقينات من أوّل الطفولة والنشوء في محيط الكفر صاروا جازمين ومعتقدين بمذاهبهم الباطلة بحيث كل ما ورد على خلافها ردّوه بعقولهم المجبولة على خلاف الحق من بدو نشوئهم.

أقول: لو سلّمنا قصورهم رغم انحشارهم مع المسلمين في بلادهم آنذاك فهذا لا يدفع النقض وذلك لانّ العقل لو حكم بقبح تهيئة مقدمة المعصية علينا إلى حدّ الإلزام. فهذا ليس على أساس حقّ ذاك العاصي علينا، أي حق أن لا نسبّب لدخوله نار جهنم مثلا. فانّنا بتهيئة المقدّمة لا نسلب منه الاختيار في التورط في المعصية وعدمه. ولا يكون له بذلك حجة علينا كي يقال: إنّ هذا الحق ينتفي حينما ينتفي تنجز الحكم عليه بقصوره، وانّما كان حكم العقل بذلك علينا على أساس حق المولى تعالى علينا في تقريبه إلى أغراضه المولوية وإخلاء الساحة عمّـا يبغضه وهذا ثابت في المثال المذكور لانّ القصور وعدم التنجز لا يفني الغرض المولوي، فإذا كان الغرض المولوي لا زال ثابتاً في حق القاصر فعليَّ أن لا أورطه فيما يبغض المولى ولا اُهيّىء له أسباب ذلك وحتى إذا قلنا إن نفس جرأة الفاعل على المولى ما يغيظ المولى وقد انتفت بالقصور وعدم التنجز فالهدف الآخر للمولى وهو الهدف الكامن في متعلق الحكم لا زال موجوداً لعدم سقوط الحكم بالقصور. ولئن كان الفاعل غافلا عن ذلك فانّي غير غافل عنه فيجب عليّ الحفاظ عليه بحكم العقل المفروض في المقام.

369

وأمّا النقض الثالث ـ وهو أنّ امتناعنا عن تهيئة المقدمات قد لا يؤدّي إلى إزالة المبغوض لانّ الخمّار سيشتري عندئذ العنب من غيرنا مثلا، فقد مضى أنّ هذا إنّما يرد في المقام بعد فرض إرجاع الدليل الأوّل وهو دعوى حكم العقل بقبح إيجاد سبب المعصية وشرطه إلى أحد شقي ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من الدليل الثالث وذاك الشقّ هو دعوى حكم العقل بوجوب دفع المنكر وانّهما يعودان إلى روح واحدة وهي ضرورة إخلاء صفحة الوجود مما يبغض المولى، تارة بعدم خلق السبب كما في المقام، واُخرى بدفعه فعندئذ نقول: إنّ دفع المنكر حاله حال ما مضى من مثال رفع جسم ثقيل فهو متوقف على تعاون جماعة عليه وبتخلف بعضهم يسقط عن الآخرين بالعجز.

وأجاب السيد الإمام (رحمه الله) عن ذلك في بحثه عن الدليل الثالث بأنّ هناك فرقاً بين وجوب دفع المنكر ووجوب رفع جسم ثقيل من الأرض وهو أنّ رفع الجسم الثقيل ليس له إلّا مصداق واحد يقوم به الكل ولا ينحل حكمه إلى أحكام استقلالية بعدد مصاديق كثيرة له. فإذا امتنع البعض عن التعاون في تحقيق هذا المصداق فقد عجز الآخرون عن تحقيقه وسقط الحكم عنهم لا محالة. وأمّا في المقام فدفع المنكر وإنْ كان أيضاً ليس له عدا مصداق واحد متقوّم باتفاق الكل على عدم بيع العنب من هذا الخمّار مثلا ولكن إذا وجب هذا الدفع فقد حرم نقض الدفع، إمّا بعنوان أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ شرعاً، وإمّا بلحاظ أنّ العقل يحكم بقبح الضد العام للواجب بلا إشكال، فإذا وجب الصوم مثلا قبح تركه وعوقب المكلف على تركه بلا كلام، ولئن لم يكن لدفع المنكر في المقام عدا مصداق واحد فلضدّه العام وهو نقض الدفع مصاديق كثيرة فبيعي للعنب إيّاه نقض للدفع وبيع الشخص الآخر له إيّاه مصداق آخر لنقض الدفع وبيع الثالث مصداق

370

ثالث له وهكذا. وحرمة النقض على الكل شبيه حرمة قتل المؤمن على الكل لا وجوب رفع الجسم الثقيل على الكل. ومن الواضح أنّه لا يجوز لأحد قتله بحجة انّني لو لم اقتله لقتله غيري.

وإن شئت قلت: انّ الدفع الواجب إنّما يتحقق العجز عنه بعصيان بعض الجماعة بنقض الدفع فكيف يعقل أنْ نبرّئ من نقضه بالفعل ببيع العنب إيّاه عن المعصية ملقين باللوم على مَن كان ينقض لولا نقض هذا بالبيع وهو بالفعل لم ينقض؟! فتمام الفرق بين ما نحن فيه وبين مثال رفع الجسم الثقيل أنّه بمجرد أنْ امتنع البعض عن التعاون في الرفع قد انتقض الرفع فسقط عن الآخرين. وأمّا في المقام فالذي نقض الدفع هو الذي باع العنب بالفعل من الخمّار لا الذي لو كنّا لا نبيعه إيّاه لكان يبيعه إيّاه.

ولو أمر المولى عبيده بدفع السارق عن سرقة ماله وكان ذلك متوقفاً على بقاء الباب مسدوداً يجب على كل واحد منهم دفعه بحفظ سدّ الباب أفهل يجوز لأحدهم فتح الباب للسارق وتمكينه من السرقة حينما يعلم بأنّه لو لم يفعل ذلك فعله عبد آخر؟ !

أقول: قد نفهم من ظاهر دليل لفظي ولو بمعونة المناسبات، أو من الارتكازات المتشرعية أو الارتكازات العقلائية أنّ المولى صبّ الحكم ابتداءً على نقض الدفع فحرّمه بجميع مصاديقه ولو من باب اتخاذ الاحتياط من قِبَل المولى حيث يحتمل خطأ عبده في علمه بانّه لو لم ينقض الدفع لنقضه آخرون وعندئذ لا إشكال في انحلال الحكم إلى أحكام مستقلة وغير مترابطة ابتداء وبلا نظر إلى مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده العام أو قبح ضدّه العام، ولعلّ مثال دفع السارق يكون من هذا القبيل. أمّا إذا كان مصبّ الحكم ابتداء هو دفع

371

المنكر الذي لا ينحل إلى مصاديق عديدة ويكون حاله حال رفع الجسم الثقيل المتوقف على تعاون الجميع فصحيح أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام أو قبحه ولكن هذا النهي أو القبح تبعيّ لا محالة إعانة بتبع وجوب الشيء فقبل معرفة وظيفة العبد تجاه هذا الضدّ العام يجب أن نعرف ما هو حال أصل الوجوب، وما دام الوجوب متعلقاً بشيء واحد غير انحلالي وهو دفع المنكر فهو لا محالة يسقط عن البعض بفرض عدم تعاون البعض الآخر للعجز عن تحقيقه كالعجز عن رفع الجسم الثقيل عند امتناع البعض عن ذلك وإذا سقط الوجوب لم تصل النوبة إلى حرمة الضد العام أو قبحه، فلو وجد أحد صمّم على بيع العنب على تقدير عدم بيع الآخرين كان هو العاصي لا محالة لا من باعه بالفعل على أثر علمه بتصميم ذاك.

وقد تحصّل بكل ما ذكرناه أنّ النقض الثاني والثالث لا جواب عليهما.

أمّا حلّ المسألة فهو أنّ الحق الإلزامي الثابت للمولى الحقيقي سبحانه وتعالى على العبد عقلا إنّما هو أحد أمرين أو كلاهما:

1 ـ حق تحقيق أهدافه المولويّة وإخلاء الساحة عمّـا يبغضه.

2 ـ حق تبجيله واحترامه بتحقيق ما اعتقد كونه من أهدافه ولو خطأ، وإخـلاء الساحة عما اعتقد كونه مبغوضاً له ولو خطأ وعدم الجرأة عليه بخلاف ذلك.

فإنْ آمنّا بالحق الثاني فحسب ولم نؤمن بالأوّل من دون إرجاعه إلى الثاني تساوى المتجري والعاصي في العقاب، وإنْ آمنّا بالحق الأوّل فحسب، أي باختصاص الحق بصورة الموافقة للواقع ثبت العقاب على العاصي دون المتجري، وإنْ آمنّا بهما معاً بأنْ افترضنا أنّ ذات الوصول ولو خطأ يوجب الحق وموافقة

372

الوصول للواقع يوجب حقاً آخر كان المتجري مستحقاً للعقاب والعاصي أشدّ استحقاقاً له.

وعلى أية حال فحق المولى الإلزامي لا يخلو من أحد هذين الأمرين، إمّا حق تحقيق الأهداف المولويّة وإخلاء الساحة ممّا يبغضه، وإمّا حق التبجيل والاحترام وعدم الهتك والتجري. والقاسم المشترك الذي ينصبّ عليه الحقّان هو الأهداف المولوية إمّا بوجودها العلمي كما في الحق الثاني من دون دخل للواقع في ذلك أو بقيد ثبوتها في الواقع كما في الحق الأوّل، وقد افترضنا في المقام أنّ هذين الحقين لا يختصان بمن خُوطب بالأهداف والأغراض المولويّة المبرزة بل يشملان الأهداف والأغراض المولوية المبرزة لشخص آخر فيقبح عقلا مساعدة ذاك الشخص الآخر على المخالفة ويجب دفعه عن المعصية.

وعلى أيّة حال فمصبّ كلا الحقين كما عرفت هي الأهداف والأغراض المولوية المبرزة سواء اشترطنا وجودها الواقعي أو اكتفينا بالوجود العلمي، فكل تبدّل في الأهداف المولويّة في الواقع أو في مرحلة العلم أو وجود مزاحم يغلبه أو يكسره يؤثر على الحق وعلى قبح الفعل أو الترك ويكسره. وأمّا ما نقوله من أنّ قبح معصية المولى ذاتي لا يمكن أن ينفكّ عنها فانّما هو لأجل أنّه أخذت لغةً في مفهوم المعصية تمامية الغرض المولويّ وعدم ابتلائه بمزاحم يكسره، أمّا لو انتفى الغرض المولوي أو انكسر بسبب المزاحم لم تكن هناك معصية ولم يكن قبح في المقام.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ سريان الحق المولوي والقبح العقلي ممّن وجّه إليه الخطاب إلى غيره وعدمه ليس أمراً دائمياً، بل يختلف باختلاف عدة نكات فقد يسري وقد لا يسري وذلك لانّنا بعد أن التفتنا إلى أنّ الحق المولوي مصبّه هو

373

الغرض المولوي ولو بوجوده العلمي يجب أن نحسب حساب دخل عمل الغير فعلا وتركاً في هذا الغرض والمزاحمات التي تزاحم ذاك الغرض في دائرة فعل الغير وهذا الحساب ينبّهنا إلى عدّة نكات في المقام:

الاُولى: انّ الملاك الإلزامي الموجود في متعلق الحكم المتوجّه إلى شخص قد يزاحمه ملاك الترخيص بلحاظ الشخص الآخر المساعد له في بعض المقدمات لما حققناه في محله من أنّ الحكم الترخيصي ليس دائماً ناشئاً من عدم الملاك في الإلزام بل قد يكون ناشئاً من ملاك في الترخيص، فقد تكون في ترخيص صاحب العنب في بيع عنبه ولو من الخمّار مصلحة تزاحم مفسدة التخمير وتسقط تلك المفسدة عن تأثير مفسدة التخمير في تحريم بيع العنب من المخمّر.

الثانية: انّ ملاك متعلق التحريم قد يزاحمه ملاك تلك المقدمة. أي أنّ المزاحمة تقع بين ملاكي المتعلقين لا بين ملاك متعلق التحريم وملاك الترخيص كما في النكتة الاُولى ومثاله: هو أنْ نفترض أنّ مفسدة معصية الأولاد أو الأحفاد زاحمت مصلحة النكاح فإمّا أن مصلحة النكاح لم تكن إلى حدّ الإلزام ولكن المقدار الذي تفوق عليها مفسدة المعصية ليس بمستوى يوجب الإلزام بترك النكاح، أو أنّ مصلحة النكاح في حدّ ذاتها كانت بمستوى الإلزام وغلبت تلك المفسدة وتنزّلت على أثر هذا التزاحم من مستوى الوجوب إلى مستوى الاستحباب. أو أنّ الوجوب كانت تعارضه مصلحة في عدم الإلزام بالنكاح على ما أشرنا إليه من أنّ الترخيص وعدم الإلزام ليس دائماً نتيجة عدم ملاك في الإلزام بل قد يكون نتيجة ملاك في عدم الإلزام.

الثالثة: انّ ترك المقدمة قد لا يكون له أيّ دخل في تقريب المولى إلى غرضه لأنّ الخمّار سيشتري العنب عندئذ من شخص آخر ولم تكن أهميّة الغرض

374

بمستوى يحتاط المولى في تحريم تهيئة المقدمة حتى على مَن يعلم بعدم تأثير تركه لها في إزالة المعصية باعتبار أنّ المولى يحتمل خطأ العبد في علمه أحياناً.

الرابعة: انّ ترك المقدمة قد لا يكون له أيّ دخل في تقريب المولى إلى غرضه الإلزامي، لأنّ الأمر المتوجه إلى الشخص الآخر كان نتيجة مصلحة في نفس الإلزام كما في الأوامر الامتحانية. أو لأنّ الجزء الأخير من علّة الإلزام كان عبارة عن مصلحة في نفس الإلزام ولا أثر لترك المقدمة من قِبَل الغير في تحقيق هذه المصلحة أصلا، وكون الأمر الإلزامي ناشئاً من مصلحة في الإلزام بحتاً وإنْ كان نادراً وبعيداً، لكن كون الجزء الأخير من علة الإلزام عبارة عن مصلحة في الإلزام ليس بعيداً.

فتحصّل أنّ الوجه الأوّل من وجوه إثبات حرمة تهيئة مقدمات الحرام للغير وهو حكم العقل بقبح ذلك غير صحيح(1).

نعم قد يتفق انّنا نعرف بارتكاز متشرعي أو بارتكاز عقلائي في مورد مّا عدم تحقق شيء من تلك النكات الأربع التي قلنا إنّها لو تحققت منعت عن هذا القبح بتغير موضوعه. وما مضى من مثال سدّ الباب بوجه السارق قد يدخل في هذا الباب أي في باب العلم عادة بعدم تحقق تلك النكات، واحتياط المولى في مقابل احتمال خطأ العبد في علمه، وإن شئت تعبيراً عرفياً عن تلك النكات الأربع أو عن بعضها فهو أنْ يقال: أنّ المطلوب للمولى تارة يكون سدّ جميع الأبواب


(1) وللسيد الإمام (رحمه الله) التفاتة جزئية إلى بعض هذه النكات في المقطع الثاني من مقاطع الصفحة 147 ولعله أيضاً في المقطع الأخير من مقاطع الصفحة 136 من كتابه أعني الجزء الأوّل من المكاسب المحرمة.

375

على تحقق شيء مّا فعندئذ تحرم على الغير تهيئة مقدماته، واُخرى لا يكون المطلوب للمولى عدا سدّ بعض الأبواب وليس منها تهيئة المقدمة من قِبَل الغير فلا تحرم، وهذا التعبير العرفي انّما يكون تامّاً لو رجع بروحه إلى بعض تلك النكات الأربع.

ب ـ التمسّك بآية التعاون:

الوجه الثاني ـ التمسّك بقوله تعالى: ﴿تعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾(1) حيث يقال: إنّ هذه الآية تدلّ على حرمـة الإعانة على الإثم وتهيئة المقدمة لمعصية العاصي إعانة على الإثم على كلام مذكور في الكتب حول مدى سعة وضيق دائرة صدق الإعانة. أفهل هو مشروط بقصد المعين لمساعدته على الإثم أو لا؟ أم هل هو مشروط بقصد المعان للمعصية أو يكفي أنّه سيحصل له هذا القصد بعد تحقق المقدمة؟ أم هل يشترط في صدقها تحقق المعصية بالفعل أو لا؟ أم هل هذا يكون حتى في المقدمات البعيدة أو يختص بالمقدمات القريبة ونحو ذلك من التفاصيل؟

وعن المحقق الإيرواني (رحمه الله) في تعليقه على المكاسب النقاش في أصل التمسك بهذه الآية المباركة في المقام بإيرادين:

الإيراد الأوّل ـ انّ التعاون على البرِّ والتقوى أمرٌ مستحب ومقتضى التقابل بينه وبين التعاون على الإثم والعدوان هو الحمل على التنزيه لا الحرمة.

وأجاب السيد الإمام (رحمه الله) على ذلك بأنّه لو سلّمت في سائر الموارد قرينية بعض الفقرات على الاُخرى لا تسلّم في المقام لأنّ تناسب الحكم والموضوع


(1) المائدة: 202.

376

وحكم العقل ومقارنة الإثم بالعدوان الذي لا شك في حرمة الإعانة عليه كلها شواهد على الحمل على التحريم(1).

أقول: أمّا حكم العقل فقد عرفت حاله وعرفت معقولية عدم حرمة مقدمة الحرام في بعض الموارد فالتعاون بعد فرض حمله على ما يشمل الإعانة بإتيان المقدمة يمكن حمله على التنزيه أو الجامع بين الحرمة والكراهة وكذلك مناسبة الحكم والموضوع أيضاً لا تعيّن الحرمة في جميع موارد التعاون بعد فرض شموله لمثل الإتيان بالمقدمة الذي يناسب كونه مكروهاً كما يناسب كونه حراماً.

وأمّا مقارنة الإثم بالعدوان فان منعت عن الحمل على الكراهة فلا تمنع عن الحمل على الجامع بين الحرمة والكراهة، وهذا يجمع بين وحدة السياق بين الإثم والعدوان من ناحية وبين الأمر بالتعاون في البرِّ والتقوى مع النهي عن التعاون في الإثم والعدوان.

إلّا أنّه رغم كل هذا نقول: إنّ جواب المحقق الايرواني (رحمه الله) غير صحيح لانّ التقابل بين الأمر والنهي يختلف عن اجتماع أمرين أو نهيين في سياق واحد، فاجتماع أمرين أو نهيين في سياق واحد لو اجتمع مع كون أحدهما غير إلزامي أسقط الآخر عن الظهور في الإلزام. وأمّا في التقابل بين الأمر والنهي فمقابلة المبغوض إلى حدّ الحرمة مع المحبوب إلى حدّ الاستحباب، أو المبغوض إلى حدّ الكراهة مع المحبوب إلى حدّ الوجوب أمرٌ مقبول عرفاً كعرفية التقابل بين المحبوب والمبغوض الإلزاميين أو الاستحبابيين بحيث لو كان أحدهما غير إلزامي لم يوجب سقوط الآخر عن الظهور في الإلزام نعم لو لم يكن المفهوم عرفاً


(1) راجع المكاسب المحرّمة للسيد الإمام (رحمه الله) 1: 131.

377

مسألة التقابل بل كان المفهوم عرفاً مسألة التناسق كما لو جمع الأمر والنهي من مادتين غير متقابلتين فقال صلّ صلاة الليل ولا تصم يوم عاشوراء فلا يبعد أنْ يقال هنا أيضاً أن عدم إلزامية أحدهما يسقط الآخر عن الظهور في الإلزام، أمّا حينما تفترض المادّتان متقابلتين من قبيل: صم في عيد الغدير ولا تصم في عيد الأضحى، وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وانفق على محبّينا ولا تنفق على مبغضينا ونحو ذلك فالمفهوم عرفاً من أمثال هذه الأمثلة هو قصر النظر على التقابل دون التناسق والتقابل لا يقتضي سقوط أحدهما عن الظهور في الإلزام عند فرض عدم الإلزام في الآخر.

الإيراد الثاني ـ انّ التعاون باعتباره من باب التفاعل يدل على الاجتماع على إتيان المنكر كأن يجتمعوا على قتل النفوس ونهب الأموال بحيث تكون المعصية مستندة إليهم جميعاً، ولا يشمل فرض إعانة الغير على الحرام عندما يكون الحرام مستنداً إلى الغير مستقلا ويكون دور المعين تهيئة الأسباب والمقدمات فحسب.

وتبعه على ذلك السيد الخوئي مدعياً ـ على ما يبدو من ظاهر تقرير بحثه(1) ـ أنّ الإعانة تختص بما إذا كان المعان أصيلا يسند إليه الفعل والمعين غير أصيل ولا يسند إليه ذات الفعل وانّما تسند إليه المقدمة أو التسبيب، ويكون التعاون على العكس من ذلك فانّه يختص بما إذا كانا معاً أصيلين بان يشتركا في الفعل ويسند الفعل إليهما معاً.

وأمّا ما عن المحقق الإيرواني بالمقدار المنعكس في المكاسب المحرمة


(1) راجع مصباح الفقاهة 1: 180، والمحاضرات 1: 134.

378

للسيد الإمام (رحمه الله)(1) فهو لا يشتمل إلّا على الدعوى الثانية وهي اختصاص التعاون بما إذا كانا أصيلين وشريكين في الفعل، وهذه الدعوى إنْ تمّت فهي كافية لإثبات المطلوب سواء تمّت الدعوى الاُولى وهي اختصاص صدق الإعانة بما إذا كان المعان أصيلا والمعين مساعداً له بلحاظ المقدمات أو لم تتم بان قلنا بصدق الإعانة حتى فيما إذا كانا معاً أصيلين وشريكين في الفعل فانّه على أيّة حال لو حملت الآية على فرض كونهما أصيلين وشريكين في نفس الإثم ولم تشمل فرض تهيئة المقدمات ثبت المطلوب من عدم حرمة الإعانة بتهيئة المقدمات سواء سمّي الاشتراك في ذات الإثم أيضاً إعانة أو لا.

وعلى أيّة حال فلا ينبغي أن يورد على هذا الوجه بأنّ الآية وإنْ دلّت على حرمة التعاون الذي هو من الطرفين ولكن لا إشكال في دلالتها أيضاً على حرمة الإعانة من طرف واحد وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿ولا تنابزوا بالألقاب﴾(2)أفهل يمكن أنْ يقال: إنّ هذه الآية انّما حرّمت التنابز من الطرفين أمّا النبز من طرف واحد فلم تثبت حرمته بهذه الآية.

أقول: هذا الإيراد لا مجال لتوهمه في المقام فإنّ مقصود المحقق الايرواني والسيد الخوئي ليس بيان الفرق بين الإعانة من طرف واحد والتعاون بمجرّد أنّ التعاون إعانتان من طرفين فإذا حرمتا لم تحرّم الإعانة من طرف واحد، ولو كان هذا هو المقصود فما أسهل النقض عليه بمثل دليل حرمة التنابز الذي لا شك في دلالته على حرمة النبز من طرف واحد أيضاً، وما أسهل الحلّ بالالتفات إلى أنّ


(1) راجع المكاسب المحرمة للسيد الإمام 1: 131.

(2) الحجرات: 11.

379

أدلّة الأحكام ظاهرة في الانحلال فكما يكون قوله: «صلّوا» إيجاباً للصلاة على كل واحد من المكلفين مستقلا فلا تسقط الصلاة من أحد بترك الآخرين كذلك يكون قوله: «لا تنابزوا» أو لا تعاونوا تحريماً للنبز أو الإعانة من كل واحد منهما مستقلا سواء صدر من الآخر أيضاً أو لا.

وانّما المقصود للمحقق الايرواني والسيد الخوئي هو أنّ ما يصدر من المتعاون مباين لما يصدر من المعاون الواحد لانّ التعاون كان من باب التفاعل ودلّ على صدوره من الطرفين وهذا يستحيل أن يكون بمعنى كون كل منهما مهيئاً للمقدمات للآخر إذْ لا بد من وجود أصيل على أيّ حال، فلا بد أن يكون بمعنى اشتراكهما في الفعل واستناد الفعل إليهما وكونهما معاً أصيلين ولا إشكال في أن الاشتراك في ذات الإثم أشدّ من تهيئة المقدمات وتحريم الأوّل لا يدل على تحريم الثاني.

وقد أشكل السيد الإمام (رحمه الله) على ذلك:

أولا بأنَّ التعاون ليس بمعنى الاشتراك في الفعل فانّ مادة التعاون والإعانة واحدة وليست الإعانة إلّا بمعنى تهيئة الأسباب والمقدمات فلا بد أن يكون معنى التعاون عبارة عن تهيئة الأسباب والمقدمات من كلا الطرفين ويكون ذلك بأنْ يهيّئ أحدهما للآخر مقدمات فعله ويهيّئ الآخر لهذا مقدمات فعل آخر له لا أن يكونا معاً شريكين في فعل واحد وإلّا لزم تغيّر معنى المادّة حينما دخلت عليها هيئة التفاعل بينما ليست وظيفة هيئة التفاعل عدا إفهام أن نفس المعنى المقصود بالمادة صادر من كلا الطرفين كل بلحاظ الآخر دون تغيير معنى المادة، فالتعاون في الإثم إذن يعني أن أحدهما هيّأ مقدمات إثم للآخر والآخر هيّأ مقدمات إثم آخر للأوّل ولا يعني اشتراكهما في إثم واحد.