332

وأمّا قوله: «بأنّ فقهاء الشريعة الإسلامية يقفون في كثير من الفروض عند المعاني الظاهرة من الألفاظ التي يستعملها المتعاقدان وهذا يعني تغليب الإرادة الظاهرة في تلك الفروض وهذا هو تفسير تدقيقهم لبعض العبارات والألفاظ ووقوفهم طويلا عند شرحها» فهو غير صحيح فان تدقيقهم في فهم معاني تلك العبارات ووقوفهم عند المعاني الظاهرة انّما هو ناتج من إيمانهم بأماريّة التعبير على الإرادة الباطنة وهذا ما يؤمن به مذهب الإرادة الباطنة فليس هذا دليلا على اقتراب من مذهب الإرادة الظاهرة.

والواقع أنّ مصطلح الإرادة الظاهرة وفكرتها مرتبطان بمدرسة الفقه الغربي تماماً ولا عـلاقة لهما بالفقه الإسلامي إطلاقاً ولا يقصد بالإرادة في الفقه الإسلامي عدا معناها الحقيقي المتواجد في النفس ولا يعدّ التعبير إلّا أمارة وقرينة على تلك الإرادة قابلة للمعارضة بدليل أقوى على الخلاف، وحينما قال فقهاء الإسلام: (العقود تتبع القصود) قصدوا بذلك المعنى الحقيقي للقصد وهي الإرادة النفسية.

 

ركن السبب في الفقه الغربي

وأمّا السبب فقد اختلف الفقه الغربي حول ركنيته في العقد وحول معناه في تاريخ طويل وقد ورد ذلك مشروحاً في الوسيط(1) للسنهوري. ونحن نلخّص هنا ما قد يكون أهمّ النقاط الواردة في البحث مشيرين إلى أن مقصودهم بركنية السبب للعقد افتراض بعض الشروط بلحاظ السبب يؤثّر اختلاله على مدى نفوذ العقد أو صحته:


(1) راجع الوسيط 1: 451 ـ 531، الفقرة 242 ـ 297.

333

 

تاريخ البحث حول السبب:

ظهر البحث عن السبب ـ أي سبب الإرادة في العقد في الفقه الغربي ـ من حين ما اختفت الشكلية وبرزت الإرادية والرضائية في العقود وبقدر ما كانت تختفي الشكلية وتبرز الإرادة كان يبدو مجال للبحث عن سبب الإرادة.

فحينما ظهرت في القانون الروماني إلى جانب العقود الشكلية عقود اُخرى غير شكلية أهمّها العقود العينية والعقود الرضائية والعقود غير المسماة وعقود التبرع ظهر الاتجاه إلى بحث السبب:

أمّا العقود العينية ـ وكانت هي القرض والعارية والوديعة والرهن ـ فالإرادة لم تكن ظاهرة فيها كي تظهر فكرة البحث عن سبب الإرادة في عقد القرض أو العارية أو الوديعة أو الرهن، وانّما كان يُرى أنّ المقترض أو المستعير أو الودعي أو المرتهن ملزم بردّ العين بسبب تسلّمها وإلّا كان مثرياً دون سبب.

وأمّا العقود الرضائية ـ وكانت هي البيع والإيجار والشركة والوكالة ـ فالإرادة هي قوام العقد فيها فبرزت فكرة السبب في هذه العقود واضحة. ففي عقد البيع يكون التزام البائع سبباً لالتزام المشتري وبالعكس ولكنّ فكرة السبب لديهم وقفت في حدود تكوين العقد ولم تتجاوز مرحلة التنفيذ. أي انّه لدى تكوين العقد إذا كان السبب منتفياً بطل العقد، ولكن لدى التنفيذ لو طرأ امتناع التنفيذ بالنسبة لأحد العوضين أو امتنع صاحبه عن التنفيذ لم يبطل العقد ولا كان للآخر الفسخ أو الامتناع عن التنفيذ فكل من الالتزامين بعد حصولهما أمر مستقل عن الآخر.

وأمّا العقود غير المسماة فقد ظهرت فيها أيضاً فكرة السبب، ففي عقد المقايضة مثلا إذا سلّم أحد المتقايضين العوض الذي يملكه كان هذا سبباً لالتزام الآخر بتسليم ما يقابله.

334

وأمّا عقود التبرعات فأهمها الهبة وقد اعترف القانون الروماني فيها بالسببإلى حدّ كبير فالتبرعات المحضة تقوم على نيّة التبرع وهي السبب في التزام المتبرع. فإذا انعدمت بطل التبرع والهبة المقرونة بالشرط يكون الشرط سبباً لها إذا كان هو الدافع إلى التبرع. فإذا لم يقم الموهوب له بتنفيذ الشرط كان للواهب استرداد ما وهب أو إجباره على التنفيذ. وفي الوصية ـ وهي إرادة منفردة ـ اعترف القانون الروماني بالسبب إلى حدّ أنْ مزجه بالباعث، فإذا اعتقد الموصي أنّ وارثه قد مات فأوصى بماله لاجنبي وتبين أنّ الوارث لا يزال حيّاً واستطاع هذا أن يثبت أنّ الباعث على الوصية هو اعتقاد الموصي أنّ الوارث قد مات فالوصية باطلة لانعدام سببها.

ثم جاء دور الفقهاء الكنسيين فهم فسّروا السبب بالباعث دون السبب الروماني الموضوعي الداخل في العقد وهم جعلوا نظرية السبب في بداية الأمر أداة لحماية المجتمع فحسب عن طريق إبطال العقود التي تتجه لتحقيق أغراض غير مشروعة، ولكن ما لبثوا أن جعلوها إلى جانب ذلك أداة لحماية العاقد نفسه وتحرير إرادته من الغلط والتدليس والغش، ذلك أنّهم أضافوا إلى السبب غير المشروع في إبطال العقد السبب غير الحقيقي، فإذا وقع غلط أو تدليس في الباعث على التعاقد كان السبب غير حقيقي وبطل العقد. ثم جاء عهد الفقيه الفرنسي الكبير (دوما) في القرن السابع عشر فأحيا فكرة الرومان القديمة عن نظرية السبب، فالسبب عنده في التزام المتعاقد في العقود الملزمة للجانبين هو ما يقوم به المتعاقد الآخر، أي الالتزام المقابل والسبب في مثل القرض الذي يظهر أنّ شخصاً واحداً فيه قد التزم، هو التسليم الذي تمَّ من الشخص الأوّل والسبب في التبرعات هو نيّة التبرع وكلامه وإن لم يكن واضحاً وضوحاً كافياً في هذا

335

الأخير ولكن كلام پوتية وهو فقيه فرنسي معروف جاء بعد دوما وردّد ما سبق إليه دوما واضح في ذلك كل الوضوح.

وهذا المنحى من التفكير صنع البذور الأوّلية للنظرية التقليدية في السبب في القانون المدني الفرنسي وكذلك المصري القديمين وإليك الخلاصة عن النظرية التقليدية في السبب:

 

النظريّة التقليديّة في السبب:

تميّزالنظرية التقليدية بين السبب الانشائي والسبب الدافع والسبب القصدي: فالسبب الانشائي هو الذي ينشىء الالتزام ويخلقه وهو نفس العقد، وهذا ليس هو المقصود من السبب في المقام والسبب الدافع هو الباعث الذي دفع الملتزم إلى ان يرتب في ذمته الالتزام كمَن كان دافعه في شراء البيت ان يخصصه لسكناه أو أن يجعل منه محلا لعمله أحد غير ذلك وهذا أيضاً ليس هو المقصود في المقام.

والسبب القصدي ـ وهو السبب الذي تقف عنده النظرية التقليدية وإذا أطلقت كلمة السبب عنته بهذه الكلمة ـ يعرّف عادةً بأنّه الغاية المباشرة أو الغرض المباشر الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه فيختلف السبب عن الباعث في أنّ السبب هو أوّل نتيجة يصل إليها الملتزم، أمّا الباعث فغاية غير مباشرة تتحقق بعد أن يتحقق السبب ولا يصل إليها الملتزم مباشرة من وراء الالتزام.

وتقول النظرية التقليدية للسبب: إنّ سبب الالتزام لكل من المتعاقدين في العقود الملزمة للجانبين عبارة عن الالتزام المقابل وسبب الالتزام في العقود الملزمة لجانب واحد إذا كان العقد عينياً قرضاً كان أو عارية أو وديعة أو رهن

336

حيازة هو تسلّمه الشيء محل التعاقد، فالمقترض يلتزم برد القرض لأنّه تسلّمه. وفي عقود التبرع السبب في التزام المتبرع هو نيّة التبرع ذاتها. وتحرص النظرية التقليدية على أن لا تقتصر في تأثير السبب على تأثيره في مرحلة تكوين العقد بل يبقى التأثير إلى حين التنفيذ فإذا قام السبب عند تكوين العقد ثم انقطع قبل التنفيذ سقط الالتزام وتظهر أهميّة هذا الحكم في العقود الملزمة للجانبين فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقد الآخر أن يمتنع عن تنفيذ ما ترتب في ذمته من التزام، وهذه هي نظرية الدفع بعدم التنفيذ، وإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقد الآخر أن يطلب فسخ العقد وهذه هي نظرية الفسخ وإذا استحال على أحد المتعاقدين تنفيذ التزامه لقوّة قاهرة تحمّل هو تبعة هذه الاستحالة وسقط التزام المتعاقد الآخر وهذه هي نظرية تحمل التبعة.

والشروط الواجب توافرها في العقد بلحاظ السبب لدى النظرية التقليدية ثلاثة:

الأوّل ـ وجود السبب فان لم يكن السبب موجوداً بطل العقد وليس مقصودهم بعدم وجود السبب ما يشمل موهومية السبب، فان السبب الموهوم قد احترزوا منه بشرط آخر وإنّما المقصود بعدم وجود السبب ان يكون المتعاقدان على بيّنة من أنّه غير موجود غير واهمين وجوده ويمكن تصوير إقدامهما على العقد رغم علمهما بعدم وجود السبب في فروض منها:

1 ـ أن يكره أحد المتعاقدين على إمضاء إقرار بمديونيته وهو غير مدين، أي الالتزام بالدين لسبب لا وجود له كقرض لم يتمّ. فهذا العقد باطل وليس بطلانه لاجل الإكراه فإنّ الإكراه في رأيهم ليس مبطلا للعقد وانّما يوجب قابلية العقد للإبطال بالفسخ وانّما بطلانه لأجل انعدام السبب وقد لا يكون إكراه أصلا كما لو

337

أقرّ بالمديونية قبل تسلّم القرض ثم لم يحصل تسلّم القرض فيكون الإقرار في هذه الحالة باطلا لانعدام السبب. ويستقيم الفرض حتى لو اعتبر الإقرار إرادة منفردة لا عقداً فانّ السبب ركن في كل التزام إرادي لا في خصوص العقد.

2 ـ أن يوقّع على سند المجاملة فيتمّ بذلك عقد بلا سبب من دون فرض إكراه أو وهم في المقام وصورته أن يلتزم شخص نحو آخر التزاماً صورياً فيمضي سنداً لمصلحته كي يستفيد الدائن الصوري من هذا السند بتحويله لشخص ثالث لقاء أخذ مبلغ منه حتى إذا حلّ ميعاد دفع السند قام الدائن الصوري بتوريد قيمته إلى حساب المدين الصوري فيدفعها المدين لحامل السند وبذلك يستطيع الدائن الصوري أن يحصل على ما هو في حاجة إليه من النقود إلى أجل معلوم لا من مدينه بالذات بل بفضل إمضاء هذا المدين على سند المجاملة ولا يحتجّ بانعدام السبب على حامل السند إذا كان حسن النيّة ولكن يحتج به في العلاقة ما بين المدين ودائنه الصوري إذا أراد الدائن أن يستفيد من السند الممضى من قِبَل مدينه الصوري من دون توريد قيمته إليه. ويتحقق انعدام السبب بعد التعاقد أيضاً وذلك في العقود الملزمة للجانبين إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه أو استحال عليه هذا التنفيذ لقوة قاهرة، فانّ السبب التزام المتعاقد الآخر يصبح غير موجود بعد أن كان موجوداً عند التعاقد وهو يبرّر نظرية الدفع بعدم التنفيذ ونظرية الفسخ ونظرية تحمّل التبعة كما تقدمت الإشارة إليه.

الثاني ـ صحة السبب فإن كان السبب غير صحيح بطل العقد وقصدوا بالسبب غير الصحيح السبب الموهوم والمغلوط أو السبب الصوري: أمّا السبب الموهوم فأمثلته كثيرة من قبيل وارث يتخارج مع شخص يعتقد أنّه شريكه في الإرث فيعطيه مبلغاً من النقود لقاء تخلّيه من الإرث ثم يعرف أنّه ليس وارثاً فهذا

338

العقد باطل لأنّ سببه موهوم، وكذلك وارث يمضي إقراراً بدين على التركة ويتبين أنّ الدائن كان قد استوفى الدين من المورث فهذا الإقرار باطل لانّ سببه موهوم، ووارث يتعهّد لموصى له بعين في التركة أن يعطيه مبلغاً من المال في نظير نزوله عن الوصية ويتبين بعد ذلك أنّ الوصية باطلة أو أنّ الموصي قد عدل عنها فتعهّد الوارث باطل. ومدين يتفق مع دائنه على تجديد الدَّين فيتبين أن الدَّين القديم باطل أو أنّ الدائن قد استوفاه فالتجديد باطل. وأمّا السبب الظاهر صورياً لا موهوماً فمجرد صورية السبب الظاهر لا تبطل العقد عند فرض وجود سبب حقيقي مشروع صحيح ولكن إذا أثبت المدين صورية السبب فعلى الدائن أن يثبت السبب الحقيقي ويكون الالتزام قائماً أو غير قائم تبعاً لهذا السبب الحقيقي فإن كان هذا السبب موهوماً سقط الالتزام وإن كان سبباً غير مشروع وقد اُخفي تحت ستار سبب مشروع كما هو الغالب في صورية الأسباب الظاهرة سقط الالتزام أيضاً وإلّا كان الالتزام قائماً.

الثالث ـ مشروعية السبب، والسبب المشروع هو الذي لا يحرّمه القانون ولا يكون مخالفاً للنظام العام أو الآداب. ومشروعية السبب عند أصحاب النظرية التقليدية شرط متميز عن مشروعية المحل فقد يكون المحل مشروعاً والسبب غير مشروع من قبيل:

1 ـ ما إذا تعهّد شخص لآخر بارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود فإن التزام الشخص الآخر بدفع النقود محله مشروع ولكن سببه وهو التزام الشخص الأوّل بارتكاب الجريمة غير مشروع فيكون الالتزام باطلا رغم مشروعية محله.

2 ـ إذا تعهّد شخص لآخر بعدم ارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود فانّ التزام كل من المتعاقدين محله مشروع، فعدم ارتكاب الجريمة مشروع ودفع

339

مبلغ من النقود أيضاً مشروع ولكن سبب التزام الأوّل بالامتناع عن ارتكابالجريمة هو التزام الثاني بدفع النقود وهذا سبب غير مشروع لأنّه ملزم بذلك مسبقاً وسبب التزام الثاني بدفع النقود هو التزام الأوّل بالامتناع عن ارتكاب الجريمة وهذا أيضاً سبب غير مشروع لأنّ ذاك ملزم بالامتناع عنها بقطع النظر عن أخذ النقود وكذلك الأمر في كل عقد يلتزم أحد فيه بجائزة لشخص ليحمله على الالتزام بما يجب عليه في ذاته وبقطع النظر عن الجائزة كالمودع يجيز المودع عنده حتى يرد الوديعة وكالمسروق منه يجيز السارق حتى يرد المسروق وكالمخطوف ولده يجيز الخاطف حتى يرد الولد وكمَن يخشى أذىً دون حق من شخص يجيز هذا الشخص حتى يكفّ عنه أذاه.

 

الهجوم ضدّ نظرية السبب التقليدية:

هذه خلاصة عن نظرية السبب التقليديّة. ثم هوجمت النظرية في سنة 1828 من قِبَل الفقيه البلجيكي (ارنست) ثم هاجمها آخرون بلجيكيون وفرنسيون إلى أن جاء دور (بلانيول) وانحاز إلى خصوم السبب وكان معولا فعّالا في هدمها وردد بعده آخرون صدى هذه الحملة.

وإليك خلاصة من نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية:

يقول بلانيول: إنّ نظرية السبب التقليدية نظرية غير صحيحة ثم هي غير ذات فائدة. أمّا انّها غير صحيحة فيظهر باستعراض السبب في فروضه الثلاثة: العقد الملزم للجانبين، والعقد العيني وعقد التبرع: ففي العقد الملزم للجانبين لا يجوز القول كما تزعم النظرية التقليدية: أنَّ سبب أحد الالتزامين المتقابلين هو الالتزام الآخر فانّ في هذا استحالة منطقية ذلك لأنّ الالتزامين يولدان في وقت واحد من مصدر واحد هو العقد فلا يمكن أن يكون أحدهما سبباً للآخر.

340

وفي العقد العيني يقولون: أنّ سبب الالتزام هو تسليم العين ولكن التسليمليس إلّا المصدر الذي كوّن العقد وانشأ الالتزام فانّ انشاء الالتزام في العقود العينية إنّما هو بتسليم العين ففرض التسليم سبباً للعقد يعني توحيد السبب الانشائي والسبب القصدي.

وفي عقد التبرع يقولون انّ سبب الالتزام هو نيّة التبرع وهذا كلام فارغ من المعنى فانّ نيّة التبرع هي الرضا بالعقد ذاته وليست سبباً قصدياً للتبرع.

وأمّا أنّ النظرية غير ذات فائدة، فلأنّ الفائدة المتوخاة منها تحصل بشيء آخر يغنينا عنها:

ففي العقود الملزمة للجانبين يكفينا أن نقول: إنّ الالتزامين المتقابلين مرتبطان أحدهما بالآخر بحيث يتوقف مصير كل منهما على مصير الثاني وتغني فكرة الارتباط في هذه العقود عن فكرة السبب.

وفي العقود العينية وعقود التبرع انعدام السبب بالمعنى المفهوم من النظرية التقليدية هو انعدام التسليم في العقد العيني وانعدام نيّة التبرع في الهبة وهذا معناه انعدام العقد ذاته فلسنا إذن في حاجة إلى تعليل عدم قيام الالتزام بانعدام السبب ما دام العقد ذاته غير موجود.

هذه خلاصة الاعتراضات على فكرة السبب التقليدية.

 

الدفاع عن النظريّة:

ولكن كثيرين دافعوا عن النظرية التقليدية بعد تحويرها وعلى رأس هؤلاء (كاپيتان) في كتابه المعروف (السبب في الالتزامات) فعند كاپيتان أنّ السبب في العقد الملزم للجانبين ليس هو الالتزام المقابل ذاته بل هو تنفيذ هذا الالتزام فلم

341

يلزم أن يكون الالتزام الواحد سبباً ومسبباً في وقت واحد كي تحصل الاستحالة العقلية(1).

ثم يضيف إلى ذلك أنّه حتى لو فرض طبقاً للنظرية التقليدية أنّ سبب الالتزام هو الالتزام المقابل ذاته فليس المقصود بذلك السبب الانشائي كي يقال: لا يمكن أن يكون الشيء منشأ لشيء آخر وناشئاً منه في آن واحد، وإنّما المقصود بذلك السبب القصدي أي الغرض المباشر الذي قصد إليه الملتزم من وراء التزامه ويسهل مع هذا المعنى أن نفهم أنّ الغرض الذي قصد إليه أحد المتعاقدين من وراء التزامه هو التزام المتعاقد الآخر بالذات فكل من المتعاقدين التزم حتى يلتزم الآخر ولا يكون في هذا خروج عن المنطق.

أمّا الالتزام الذي ينشأ عن عقد عيني فسببه هو تسليم الشيء كما تقرر النظرية التقليدية وهذا صحيح في نظر كاپيتان في عقود عينية ثلاثة، وهي القرض والعارية ورهن الحيازة فإنّ هذه العقود إذا كانت عينية من حيث الصياغة فهي من حيث طبيعتها عقود رضائية ملزمة للجانبين، فالمقرض والمقترض مثلا يتفقان على القرض ويتم العقد بالاتفاق فيلتزم المقرض بتسليم القرض كما يلتزم المقترض بردّ مثله. إذن فالتسليم ليس هو حتماً السبب المنشئ للالتزام بل هو الغرض الذي يسعى إليه المقترض من وراء التزامه برد الشيء فلا يختلط في هذه العقود الثلاثة السبب الانشائي والسبب القصدي كما يزعم خصوم نظرية السبب.


(1) لو كان الإشكال هو الدور أو ما يشبهه فهو لا يرتفع بتحويل السببية من الالتزام إلى تنفيذه، لأنّ تنفيذ الالتزام مسبب عن الالتزام. فالمهم هو الجواب بالتفريق بين السبب الانشائي والسبب القصدي أو العلّة الفاعلية والعلة الغائية وهو الجواب الثاني الوارد في المتن من دون فرق في ذلك بين أن يفرض السبب هو الالتزام أو تنفيذه.

342

ولا يبقى من العقود العينية إلّا الوديعة وهنا يسلّم كاپيتان أنّ الوديعةبطبيعتها عقد عيني ملزم لجانب واحد إذا كانت بغير أجر، ويرى أنّ سبب التزام المودع عنده ليس هو تسليم الشيء إذ يختلط بذلك السبب الانشائي بالسبب القصدي بل هو رغبة المودع عنده في أنْ يسدي جميلا للمودع، أمّا إذا كانت الوديعة بأجر فقد أصبحت عقداً ملزماً للجانبين وصار سبب كل التزام هو تنفيذ الالتزام الآخر(1).

وأمّا عقود التبرع فسبب الالتزام هو نيّة التبرع ذاتها كما تقرر النظرية التقليدية ولا تختلط هذه النيّة بالرضا كما يقول خصوم السبب، فانّ إرادة الواهب يمكن تحليلها إلى عنصرين:

العنصر الأوّل هو إرادته أن يلتزم وهذا هو (الرضا) والعنصر الثاني هو إرادته أن يكون الالتزام دون مقابل وعلى سبيل التبرع وهذا هو (السبب) يتميّز عن الرضا كما نرى. والدليل على ذلك أنّ العنصر الأوّل وهو الرضا بالالتزام قد يثبت وجوده دون ان يثبت وجود السبب وهو نيّة التبرع كما إذا كتب شخص سنداً بدين في ذمته لآخر ثم استطاع أن يثبت أن هذا الدين لا وجود له فانّه يبقى بعد ذلك أن يثبت الدائن نية التبرع في جانب المدين حتى يستوفي منه قيمة السند فهذا مثل نرى فيه رضا المدين بالالتزام ثابتاً دون أن تكون نيّة التبرع عنده ثابتة، على أن كاپيتان لا يقف عند نيّة التبرع بل يجاوزها إلى الباعث الدافع فيجعله هو السبب في ثلاث حالات:


(1) وإن شئت كلامه في سائر العقود الملزمة لجانب واحد فراجع الوسيط 1: 490، ما ورد تحت الخط، الفقرة 274.

343

1 ـ التبرع إذا اقترن بشرط يتبين أنّه هو الذي دفع المتبرع إلى تبرعه كما إذا وهب شخص مالا لجمعية خيريّة واشترط على الجمعية ان تنشئ بهذا المال مستشفى أو ملجأً فانّ سبب الهبة في هذه الحالة لا يكون نيّة التبرع بل هو القيام بالشرط الذي اقترن به التبرع.

2 ـ الوصية حينما لا توجد إلّا إرادة واحدة هي إرادة الموصي فيرى كاپيتان أنّ الباعث الذي دفع الموصي إلى تبرعه هو الذي يجب اعتباره سبباً للوصية. وفي هاتين الحالتين يسلم كاپيتان باختلاط الباعث بالسبب.

3 ـ إذا أدخل المتعاقدان الباعث في دائرة التعاقد وأصبح جزء من العقد متفقاً عليه. قال السنهوري: ويختلف كاپيتان في هذا عن النظرية الحديثة فعنده لا يكفي للاعتداد بالباعث أن يكون معروفاً من المتعاقدين كما تقول النظرية الحديثة بل يجب أن يكون متفقاً عليه بينهما(1).

ومن ذلك يُرى أنّ كاپيتان أدخل تحويراً في النظرية التقليديّة حيث يجعل الباعث يختلط بالسبب في الحالتين المتقدمتين، وحيث يحدد السبب في العقد الملزم للجانبين بانّه هو تنفيذ الالتزام لا وجوده وحيث يحدد السبب في عقد الوديعة غير المأجورة بانّه نيّة التبرع عند حافظ الوديعة ولكنه مع ذلك يحتفظ بجوهر النظرية التقليدية فيستبقي التمييز بين السبب والباعث ولا يخلط بينهما إلّا في فروض نادرة ويجعل المعيار في تحديد السبب موضوعياً لا ذاتياً، فيكون السبب عنده شيئاً داخلا في العقد لا منفصلا عنه وهو واحد لا يتغيّر في أي نوع من العقود.


(1) راجع الوسيط 1: 491، التعليق الوارد تحت الخط، الفقرة 274.

344

وجاء بعد ذلك دور النظرية الحديثة في الفقه الفرنسي عن السبب وهي تتلخص في رفض النظرية التقليدية للسبب مع قبول أصل نظرية السبب في صياغة جديدة ويقال: إنّ الفقه الفرنسي كان متأخراً في هذه المسألة عن القضاء الفرنسي ذلك أنّ القضاء باعتباره كان يواجه الحياة العملية أدرك ضيق النظرية التقليدية وعقمها فلم يرض به وسار في طريق غير طريق الفقه التقليدي وتوسع في تحديد السبب فجعله هو الباعث الدافع إلى التعاقد، وقد عاد القضاء بذلك ـ عن غير قصد ـ إلى نظرية السبب عند الكنسيين لأنّها هي النظرية التي تنتج في العمل. وما لبث الفقه الحديث أن انضمّ إلى القضاء في نظريته الجديدة إذ أدرك مدى ما فيها من خصوبة ومرونة.

 

النظريّة الحديثة في السبب:

وهنا نستعرض موقف النظريّة الحديثة في السبب في مرحلتين: أوّلا رفضها للنظرية التقليدية في السبب، وثانياً قبولها لنظرية السبب في صياغة جديدة:

أمّا رفض النظرية التقليدية للسبب فيقال: إنّ فيها عيباً جوهرياً وهو عقمها وعدم اضافتها شيئاً إلى الثروة القانونيّة فكل من الشروط الثلاثة الماضية وهي وجود السبب القصدي وصحته ومشروعيته يمكن الاستغناء عنه بسهولة:

أمّا وجود السبب فقد قالوا: إنّ السبب إذا لم يكن موجوداً فانّ الالتزام لا يقوم، فإذا اُكره شخص على إمضاء سند لسبب لا وجود له كقرض لم يتم فانّ العقد يكون باطلا لا للإكراه فأنّ الإكراه لا يبطل العقد وإنّما يجعله قابلا للإبطال بل لفقدان السبب وإذا أمضى شخص سند مجاملة لدائن صوري كان العقد باطلا لفقدان السبب أيضاً كما مضى شرحه.

345

والجواب: أنّه في المثال الثاني تغنينا قواعد الصوريّة عن نظرية السبب فالسند صوري والدين لا وجود له فيما بين الطرفين ولم يقم عقد حقيقي في المقام كي نحتاج في إبطاله إلى نظرية السبب. أمّا بالنسبة إلى الغير (حامل السند) فيؤخذ باعتماده على العقد الظاهر وأمّا فيما ذكر من مثال الإكراه فأيضاً من السهل أن نصل إلى النتيجة ذاتها وهي البطلان عن غير طريق نظرية السبب لانّنا إذا اعتبرنا السند تصرفا صادراً عن إرادة منفردة فهو التزام بدفع مبلغ واجب بعقد القرض، ولما كان هذا المبلغ لا وجود له فمحل الالتزام معدوم فيسقط الالتزام بفقدان المحل لا بفقدان السبب، وإذا اعتبرنا السند هو عقد القرض ذاته فالتزام المقترض يكون متقابلا لالتزام المقرض ولا بد من أن يتسلم المقترض مبلغ القرض حتى يلتزم بردّه ومن دون تسلّمه إياه يسقط التزامه إمّا لأنّ القرض عقد عيني لم يتم بالتسليم وإمّا لأنّ القرض عقد رضائي (وفقاً للتقنين الجديد) لم يقم فيه المقرض بتنفيذ التزامه وهما التزامان متقابلان ومترابطان يسقط أحدهما عند عدم تنفيذ الآخر.

وبشكل عام نقول: إنّ الالتزام في العقد الملزم للجانبين سببه حسب النظرية التقليدية هو الالتزام المقابل، ولكن ما أيسر علينا أن نستبدل بفكرة السبب هذه فكرة الارتباط التي قال بها بلانيول فنفس التقابل بين الالتزامين يوجب سقوط أحدهما بسقوط الآخر أو عدم تنفيذه بلا حاجة إلى نظرية السبب، بل لعلَّ فكرة الارتباط والتقابل من الناحية الفنيّة أدق من فكرة السبب ذلك أنّ انعدام السبب جزاؤه البطلان كما هو معروف فإذا انعدم السبب عند تكوين العقد أو بعده كان من الواجب أن يكون الجزاء واحداً في الحالتين ولكننا نرى أنّ العقد يبطل في الحالة الاُولى ويفسخ في الحالة الثانية وفي هذا التفريق عيب فنّي

346

واضح. أمّا فكرة الارتباط والتقابل فأكثر مرونة من فكرة السبب وهي تسمح بأن نقول بالبطلان إذا انعدم أحد الالتزامين المتقابلين عند تكوين العقد إذ منطق الارتباط يقتضي عندئذ البطلان وتسمح في نفس الوقت بان نقول بالفسخ إذا انقطع أحد الالتزامين المتقابلين بعد أن وجد(1).

 


(1) التفريق بين فكرة السبب وفكرة الارتباط يكون بحاجة إلى بيان أعمق وأكثر فنيّة من هذا المقدار من البيان وذلك بتوضيح نقطتين أوّلا توضيح إنّ فكرة السبب غير فكرة الارتباط وليس الفرق في التعبير فقط، وثانياً توضيح أنّه لماذا يجب أن يكون الجزاء في نظرية السبب عند فقدان الالتزام المقابل وقت التكوين وبعده واحداً ولكن فكرة الارتباط تسمح باختلاف الجزاء في الحالتين؟

أمّا النقطة الاُولى ـ فبالإمكان أن يقال: انّ فكرة السبب تستبطن مفهوم الداعوية بينما فكرة الارتباط لا تستبطن أكثر من التقابل بين الالتزامين وربط أحدهما بالآخر، وعلاقة الارتباط أخفّ من علاقة الداعوية ولذا يمكن أن يفترض في مورد مّا عدم تحقق الداعوية المنحصرة رغم تحقق الارتباط كما لو فرضنا أنّ البائع كان مصمّماً على أن يلتزم بدفع العين إلى صاحبه ولو مجّاناً ومن دون ثمن لأنّ وجود العين عنده يكون ضارّاً بحاله أو لأنّه يحبْ أن يتمتع صاحبه بهذه العين حتى لو لم يلتزم بدفع الثمن إليه أو لأي سبب آخر، ولكن بما أنّ البيع كان أنفع له من الهبة والتبرع لأنّه يحقّق له هدف دفع العين إلى صاحبه زائداً الحصول على قيمة العين اختار البيع فقد أصبح التزام المشتري بدفع الثمن مقابلا لالتزام البايع بدفع العين ومرتبطاً به من دون أن يكون سبباً وداعياً إليه بشكل منحصر، وهذا بنفسه يبرهن حسنة لفكرة الارتباط تمتاز بها عن فكرة السبب لأنّها أوسع وأشمل بخلاف فكرة السبب التي لا تصدق في جميع موارد العقد الملزم للطرفين إذ في المثال الذي ذكرناه يوجد داع آخر مستقل لالتزام البايع بالثمن فإذا انفقد التزام المشتري الذي هو في أحسن الأحوال ليس إلّا داعياً غير منحصر وقد لا يكون إلّا جزء الداعي في مقابل داع آخر مستقل فليس المفروض أن يكون

347

أمّا في العقود العينية فقد قالت النظرية التقليدية بأنّ العقد العيني سببه التسليم فإذ لم يتم التسليم لم يتمّ الالتزام لانعدام سببه. ولكن من السهل القول بانّ الالتزام لا يقوم لا لانعدام السبب بل لعدم انعقاد العقد العيني لانّ معنى عينية العقد كون قوامه بالتسليم.

 


زواله سبباً لبطلان التزام البايع المشتمل على داع آخر وهذا بخلاف ما لو لاحظنا فكرة الارتباط فانّها تشمل حتى مثل هذا المثال.

وأمّا النقطة الثانية ـ فبالإمكان أن يقال: إنّ السرّ في التفريق بين فكرة السبب وفكرة الارتباط بدعوى ضرورة وحدة الجزاء في فكرة السبب حدوثاً وبقاء وعدم ضرورتها في فكرة الارتباط هو أنّ سببية أحد الالتزامين للآخر بمعنى داعويته له يجب أن ترجع بروحها إلى سببية تنفيذ أحد الالتزامين للالتزام الآخر، إذ أي قيمة للالتزام الذي لا ينفّذ في الدعوة إلى الالتزام الآخر؟ ولعله لهذا انقدح في ذهن كاپيتان تبديل سببية الالتزام بسببية التنفيذ كما مضى، وإذا كان التنفيذ هو الداعي للالتزام ففقده في موطنه يستوجب جزاءً واحداً من دون فرق بين فرض معرفتنا بانفقاده من أوّل الأمر أو انكشاف انفقاده في وقت متأخر، أمّا الارتباط والتقابل المفهوم من العقد فليس بين أحد الالتزامين وتنفيذ الالتزام الآخر أو بقائه، بل هو ارتباط بين الالتزامين بوجودهما الحدوثي المقوّم للعقد، فإذا فقد أحدهما حدوثاً بطل الآخر لانّهما مترابطان أما فقده بقاء أو فقد التنفيذ فهو ليس فقداً لأحد الأمرين المترابطين في العقد فلا ينبغي أن يكون جزاؤه بطلان العقد، ولكن بما أنّ الالتزامين كانا مترابطين ومتقابلين فعدم تنفيذ أحدهما أو عدم بقائه يؤدّي إلى حق عدم تنفيذ الآخر أو حق الفسخ، والخلاصة أنّه بناء على نظرية السبب يكون فقد الالتزام حدوثاً وبقاء فقداً للسبب ولذا يجب أن يتحد الجزاءان وبناء على نظرية الارتباط يكون فقد الالتزام حدوثاً فقداً لأحد الأمرين المرتبطين بينما فقده بقاءً يعني فقد تنفيذ أحد الأمرين المرتبطين لا فقد نفس الأمر المرتبط فمن المعقول اختلافهما في الجزاء.

348

وأمّا في التبرعات فقد قالت النظرية التقليدية: إنّ السبب في التبرعات هو نيّة التبرع فإذا لم تكن هذه النيّة موجودة لم يقم التزام المتبرع لانعدام السبب. ولكن الواقع ان الرضا بالتبرع لا ينفك عن نيّة التبرع فإذا انعدمت نيّة التبرع بطلت الهبة بفقدان الرضا بها لا بفقدان السبب(1).

هذا كله بلحاظ الشرط الأوّل وهو شرط وجود السبب. وأمّا صحة السبب وهي الشرط الثاني فالسبب غيرالصحيح كمارأينا إما سبب موهوم أو سبب صوري.

أمّا في السبب الموهوم فدائماً يمكن الاستغناء عن نظرية السبب بنظرية المحل لأنّ العاقد قد توهّم وجود المحل وهو غير موجود فالشخص غير الوارث الذي تخارج مع وارث يتعامل في حق معدوم، وهذا حال دائن التركة الذي يحصل على إقرار بالدين بعد أن استوفاه، وحال الموصى له الذي يتعامل في الموصى به إذا كانت الوصية باطلة أو كان الموصي قد عدل عنها، وحال الدائن الذي يجدّد ديناً قديماً بعد أن يستوفيه.

وأمّا السبب الظاهر الصوري فقد رأينا أنه لا يُبطل العقد إلّا إذا كان يخفي سبباً موهوماً أو سبباً غير مشروع، وقد فرغنا عن السبب الموهوم وننتقل الآن إلى السبب غير المشروع.

وأمّا مشروعية السبب وهي الشرط الثالث فمن السهل أن نستغني عن


(1) وأمّا ما مضى عن كاپيتان من الجواب على ذلك بأنّ نيّة التبرع غير الرضا فقد يرضى أحد بالالتزام من دون نيّة التبرع فجوابه: أنّ التبرع صنف من العقد غير عقود الالتزام التي ليست تبرعية فلو أمضى سنداً بدين في ذمته لآخر بدافع ردّ القرض مثلا ثم تبيّن عدم وجود الدين كان عقد التبرع باطلا بفقدان الرضا به والالتزام بأداء الدين باطلا بفقدان المحل أو بفقدان الالتزام المتقابل له.

349

السبب المشروع في العقود الملزمة للجانبين بفكرة الارتباط التي مضت فمن يتعهّد بارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود لا يقوم التزامه لعدم مشروعية المحل وكذلك لا يقوم الالتزام المقابل لا لعدم مشروعية سببه بل لارتباطه بالتزام غير مشروع ومن يتعهّد بعدم ارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود لا يقوم التزامه لاستحالة المحل إذْ هو لا يستطيع انشاء التزام قد وجد بحكم القانون قبل هذا الانشاء، وكذلك لا يقوم الالتزام المقابل لا لعدم مشروعية سببه بل لارتباطه بالتزام مستحيل.

وأمّا في العقود العينية والتبرعات فانّ اشتراط مشروعية السبب غير مفهوم، فالسبب في العقود العينية هو التسليم ولا يتصور ان يكون التسليم غير مشروع إلّا إذا وقع على محل غير مشروع وعند ذلك لا ينعقد العقد لعدم مشروعية المحل لا لعدم مشروعية السبب، والسبب في التبرعات هو نيّة التبرع وكيف يتصور أن تكون نيّة التبرع في ذاتها غير مشروعة؟ إنّ وجه الاستحالة في ذلك هو الذي يفسّر إنّ بعض أنصار النظرية التقليديّة ومنهم كاپيتان يجنحون إلى اعتبار السبب في التبرعات هو الباعث الدافع إلى التبرع، بل إنّ القانون الروماني ذاته يعتد بالباعث في الوصايا وبعض الهبات.

وأمّا الصياغة الجديدة لنظرية السبب التي مشى عليها أوّلا القضاء الفرنسي ثم صيغت فقهياً في الفقه الفرنسي فهي تفسير السبب بالباعث الدافع للملتزم في أن يلتزم، فيشترط في هذا الباعث أن يكون مشروعاً لا يحرّمه القانون ولا يتنافى مع النظام العام ولا مع الآداب وهذا رجوع إلى نظرية الفقهاء الكنسيين في السبب. ولا يجوز بداهة أن يعتد بالباعث الذي دفع أحد المتعاقدين إلى التعاقد إذا كان هذا الباعث مجهولا للمتعاقد الآخر، وإلّا استطاع أي متعاقد أن يتخلص من

350

التزاماته بدعوى أنّ الباعث له على التعاقد ـ وهو أمر مستكن في خفايا الضمير ـ من شأنه أن يجعل العقد باطلا، فلا بدّ إذن من صلة وثيقة تربط كلا من المتعاقدين بالباعث فما هو الضابط في ذلك؟ أيكفي أن يكون الباعث معلوماً من الطرف الآخر؟ أو يجب أن يكون متفقاً عليه في العقد بين المتعاقدين كما مضى عن كاپيتان؟ أو يصح التوسط بين هذين الحدين فيشترط أن يكون ذات الباعث باعثاً للطرف الآخر أيضاً وإنْ لم يكن بينهما توافق عقدي على ذلك؟ وليسمّ هذا بكون الطرف الآخر مساهماً في الباعث.

إنّ أنصار النظرية الحديثة لا يشترطون وجوب الاتفاق العقدي على الباعث فيما بين المتعاقدين بل هم منقسمون بين مرتبة العلم ومرتبة المساهمة(1). والقضاء الفرنسي يكتفي بمرتبة العلم ويعتد بالباعث الذي دفع المتعاقد إلى التعاقد ما دام المتعاقد الآخر يعلم أو يستطيع أن يعلم بهذا الباعث.

أمّا الفقه الفرنسي فيميّز بين المعاوضات والتبرعات فيتطلب في الاُولى مرتبة أعلى ولكن الفقهاء يختلفون في تحديد هذه المرتبة.

فيذهب (چوسران) إلى أنّه يكفي أن يكون الباعث في المعاوضات معلوماً من المتعاقد الآخر حتى يكون في هذا وقاية للتعامل من أن يتزعزع. أمّا في التبرعات فانّ الإرادة التي نقف عندها هي إرادة المتبرع وحده فهي الإرادة التي


(1) وبالامكان القول في ما إذا وصل الأمر إلى مستوى الاتفاق العقدي على الباعث: بأنّ الأمر رجع مرّة اُخرى إلى عدم مشروعية المحلّ فتلغو نظرية السبب من أساسها إذا كان الاتفاق العقدي على مستوى الشرط وتصورنا الشرط بنحو لا يرجع إلى القيد في متعلق العقد وفي نفس الوقت التزمنا بتسرّب الفساد من الشرط إلى العقد الأصلي.

351

تسيطر على التصرف سواء في ذلك أن يتم التبرع بتقابل إرادتين كالهبة أو بإرادة واحدة كالوصية، وهو لذلك يعتد بالباعث الذي دفع ا لمتبرع إلى تبرعه سواء كان معلوماً للطرف الآخر أو مجهولا لديه.

ويذهب (بواجيزان) إلى وجوب الوصول إلى مرتبة المساهمة في المعاوضات والاكتفاء بمرتبة العلم في التبرعات ذلك أنّ المعاوضات تختلف عن التبرعات في أنّ الاُولى بذل فيها كل من المتعاوضين شيئاً من عنده، فإرادة كل منهما تقوم بدور أساسي في تكوين العقد ومن ثمّ وجب أن تساهم كل إرادة من هاتين الإرادتين في الباعث الذي دفع إلى التعاقد مساهمة إيجابية، وان تتعاون الإرادتان معاً في تحقيق الفرض غير المشروع، أمّا في التبرعات فإرادة المتبرع وحدها هي الأساسية، إذ المتبرع وحده هو الذي بذل ومن ثم جاز الاقتصار على هذه المرتبة السلبية، وهي مرتبة العلم فهي كافية لاستقرار التعامل.

قال السنهوري(1): وإذا كان الذي يعنينا في انضباط معيار الباعث هو استقرار التعامل فالقضاء الفرنسي على حق فيما ذهب إليه من الاكتفاء بمرتبة العلم سواء كان التصرف تبرعاً أو معاوضة.

وجاء بعد ذلك دور نظرية السبب في التقنين المدني المصريّ الجديد فاعتنق التقنين المصري الجديد نفس النظرية الحديثة الفرنسية من تفسير السبب بالباعث الدافع إلى التعاقد مشترطاً أن يكون السبب معلوماً من المتعاقد الآخر، فإذا كان الباعث الذي دفع أحد المتعاقدين إلى التعاقد غير مشروع ولم يكن المتعاقد الآخر يعلم بهذا الباعث وليس في استطاعته أن يعلم به فعدم المشروعية


(1) في الوسيط 1: 501، آخر الفقرة 283.

352

هنا لا يعتد به ويكون العقد صحيحاً(1).

وهذه النظرية الحديثة التي أخذ بها القانون الجديد المصري سبقه إليها الفقه والقضاء في مصر.

وقد خطا التقنين الجديد المصري خطوة اُخرى تخلّف عنها الفقه المصري وتلك الخطوة هي أنّه لا يوجد في التقنين الجديد للسبب إلّا شرط واحد وهو أن يكون مشروعاً ولم يشترط فيه أن يكون السبب صحيحاً وسبقه إلى ذلك القضاء المصري فتراه يكاد يقتصر على السبب غير المشروع في إبطال العقد وقلَّ أنْ تجد تطبيقاً قضائياً لما يدعى بالسبب غير الصحيح.

والاقتصار على شرط المشروعية مع حذف شرط الصحة أمر طبيعي بعد أنْ فسّر السبب بالباعث لا بالغرض المباشر المقصود في العقد وذلك لأمرين:

الأوّل ـ أنّ الغلط في الباعث يعود إلى نقص في الرضا الذي هو ركن آخر من أركان العقد فلا داعي لإدراجه في بحث السبب ويصبح بالإمكان حصر الهدف من نظرية السبب في حماية المصلحة العامة للمجتمع وهي المشروعية دون


(1) قال هنا السنهوري في الوسيط 1: 516، في آخر الفقرة 289: إنّ العقد هنا يقوم لا على الإرادة الحقيقية فهي غير مشروعة ولكن على الإرإدة الظاهرة.

أقول: إنّ هذا لا ينحصر تفسيره بالأخذ بالإرادة الظاهرة بل يمكن القول بانّ المقياس هو الإرادة الباطنة إلّا أنَّ عدم مشروعيتها لا يبطل العقد ما لم يعلم بذلك المتعاقد الآخر ولم يكن المفروض به أن يعلم والاختلاف بين مذهب الإرادة الظاهرة ومذهب الإرادة الباطنة هنا بعد اشتراط علم المتعاقد الآخر في البطلان يكون صورياً بحتاً وإنما مقصودنا من هذا الكلام: انّ الذي يقول: لا بدّ من الاعتداد بالإرادة الباطنة لأنّها هي الإرادة الحقيقية لا يكون كلامه هذا منافياً لشرط العلم في المقام.

353

حماية مصلحة العاقد التي يقوم بها ركن آخر وهو الرضا كما أنّ السبب لو فُسّر بمعناه القديم وهو الغرض المباشر للعقد فأيضاً يكون الغلط فيه راجعاً إلى انعدام الرضا أو انعدام المحلّ.

والثاني ـ إنّ نظرية السبب تذكر لإثبات بطلان العقد والبطلان إنّما يناسب فرض عدم مشروعية السبب لا فرض الغلط في السبب بعد أنْ كان السبب عبارة عن الباعث فالبطلان لئن كان يناسب كونه جزاء للغلط في السبب بمعناه القديم وهو الغرض المباشر في العقد لشدّة لصوقه بالعقد فهو لا يناسب السبب بمعنى الباعث الخارج عن العقد فان أثّر أثراً فانّما يؤثر في قابلية العقد للإبطال لا في البطلان. إذن فالشرط الوحيد في السبب ينبغي أن يكون هو شرط المشروعية كما كان عليه الفقهاء الكنسيون في بادئ الأمر دون شرط الصحة وقد مضى في ما سبق عن النظرية القديمة للسبب إنّ صحة العقد مشروطة بشروط ثلاثة: وجود السبب، وصحته، ومشروعيته. وقد استغنينا الآن عن شرط الصحة وفصلنا بين منطقة الغلط ومنطقة السبب. وأمّا شرط الوجود فأيضاً لا محل له بعد تفسير السبب بالباعث لعدم إمكان تصوير وجود إرادة من غير باعث كي نحتاج إلى شرط وجوده فلا تبقى من الشروط الثلاثة عدا شرط المشروعية، ومن هنا يبدو ضعف في صياغة القانون المصري الجديد المادة 136 حيث تقول: (إذا لم يكن للالتزام سبب أو كان سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلا) فكلمة (إذا لم يكن للالتزام سبب) كأنّها تشير إلى شرط الوجود وقد عرفت انّه لا محل له.

وقد قال السنهوري: «إنّ هناك مأخذين على التقنين الجديد تجمّعا في العبارة التي صدّرت بها المادة 136 فقد جاء في صدر هذه المادة (إذا لم يكن للالتزام سبب) فالسبب نسب إلى الالتزام وكان الاولى أن ينسب إلى العقد إذْ هو

354

متلازم مع الإرادة كما رأينا ثم افترض النص احتمال أن يكون هناك التزام دونسبب وهذا الاحتمال لا يتصور فما دمنا نجعل السبب هو الباعث فكل إرادة لا بدّ أن يكون لها باعث إلّا إذا صدرت من غير ذي تمييز»(1).

وأمّا القوانين الچرمانية فهي لا تقيم عادة وزناً للسبب بمعنى الباعث إلّا إذا اُخذ في متن العقد، وأخذه في متن العقد يعني رجوعه إلى المحل(2). ومن هنا لا ترى في القوانين الچرمانيّة أثراً من نظرية السبب بمعنى الباعث وهذا المنحى يناسب إيمانهم بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة، نعم لديهم فكرة عن السبب بمعناه الأوّل عن الغرض المباشر يُميّزون على اساسه بين التصرف المسبب والتصرف المجرد وبإمكانك أنْ ترى شرح الكلام حول التصرف المسبب والتصرف المجرد في كتاب الوسيط(3).

وعلى أيّة حال فقد خَلُصَ من هذا البحث أن نظرية السبب بمعناه القديم يُغني عنها البحث عن سائر أركان العقد ولم يبق شيء معقول من نظرية السبب عدا البحث عن السبب بمعنى الباعث وعن شرط المشروعية فحسب.

 

نظرية السبب في ضوء الفقه الإسلامي

ومن هنا تبدو قيمة الفقه الإسلامي الذي لم يركّز الكلام من أوّل الأمر إلّا على هذا المعنى الأخير وهو الباعث أو الغاية من العقد بلحاظ المشروعية وعدمها


(1) في الوسيط 1: 526، الفقرة 294.

(2) إلّا إذا أخذ على نحو الشرط وتصورنا عدم رجوع الشرط إلى القيد وفي نفس الوقت التزمنا بسريان فساده إلى العقد الأصلي.

(3) الوسيط 1: 463 ـ 470، الفقرة 285 ـ 287.

355

وذلك تحت عنوان ان حرمة الغاية في العقد أو البيع هل توجب حرمة أو بطلان ذلك أو لا؟ وأنّ بيع العنب ممّن يصنعه خمراً أو الخشب ممّن يصنعه صنماً أو صليباً أو السلاح ممّن يحارب به الإسلام والمسلمين أو نحو ذلك جائز أو لا؟ وهذا التطواف الطويل الفارغ الذي رأيته في الفقه الغربي لا تراه في الفقه الإسلامي إطلاقاً.

 

تقييم السنهوري لنظرية الإسلام حول السبب:

وقال السنهوري في كتاب مصادر الحق: إنّ هناك عاملين متعاكسين في التأثير على الفقه الإسلامي في مدى التزامه لنظرية السبب أو رفضه إيّاها.

1 ـ أنّه فقه ذو نزعة موضوعية بارزة يعتد بالتعبير عن الإرادة دون الإرادة ذاتها، أي يأخذ بمذهب الإرادة الظاهرة لا بمذهب الإرادة الباطنة فهو أقرب بكثير من هذه الناحية إلى الفقه الجرماني منه إلى الفقه اللاتيني. والفقه ذو النزعة الموضوعية يكون أكثر استعصاء على نظرية السبب من الفقه ذي النزعة الذاتية ومن ثم تستعصي النزعة الموضوعية للفقه الإسلامي على نظرية السبب فكان المترقب لولا العامل الثاني ان تضمر نظرية السبب في الفقه الإسلامي كما ضمرت في الفقه الجرماني.

2 ـ ولكن الفقه الإسلامي من جهة اُخرى فقه تتغلّب فيه العوامل الأدبية والخلقية والدينية وهذا يقتضي ان يعتد بالباعث الذي تقاس به شرف النوايا وطهارتها فكان المترقب لولا العامل الأوّل ان تكون لنظرية السبب وهي نظرية خلقية مكان ملحوظ يضاهي مكانها في الفقه اللاتيني. وبين هذين العاملين المتعارضين يتراوح الفقه الإسلامي ففى بعض مذاهبه نرى نظرية السبب تختفي تحت ستار من صيغة العقد والتعبير عن الإرادة ويختلط السبب بالمحلّ فلا يعتد

356

بالسبب، أي الباعث على التعاقد إلّا حيث يتضمنه التعبير عن الإرادة وفي مذاهباُخرى تتغلب العوامل الأدبية والخلقية والدينية فيعتد بالباعث ولو لم يتضمنه التعبير عن الإرادة ويكون العقد صحيحاً أو باطلا تبعاً لما إذا كان هذا الباعث مشروعاً أو غير مشروع.

ثم يستعرض السنهوري ضمور نظرية السبب في المذهبين الحنفي والشافعي وظهورها في المذهبين المالكي والحنبلي ويعقّبه بكلام مختصر عن المذاهب الاُخرى(1).

أقول: أما بالنسبة لما ذكره في العامل الأوّل من أنّ الفقه الإسلامي يتجه إلى نظرية الإرادة الظاهرة فقد مضى منّا: إنّ تلك النظرية فكرةً واصطلاحاً غربية بحتة لا علاقة بها بالفقه الإسلامي أبداً، والفقه الإسلامي يقصد بالإرادة، الإرادة بمعناها الحقيقي وهي الإرادة الباطنة، وأمّا ما يسمّى بالإرادة الظاهرة في مصطلح الغرب فينظر الفقه الإسلامي إليها بمنظار الأمارة والقرينة القابل لثبوت العكس.

نعم اتجاه الفقه الإسلامي إلى الإرادة الحقيقية لا يحتّم عليه الأخذ بنظرية السبب بمعنى الباعث، ففرق بين أصل إرادة العقد وبين الباعث والغاية لها، فبإمكان من يتجه في بحثه إلى الإرادة الباطنة أن يقتصر على دراسة الإرادة العقديّة ولا يرى أثراً للباعث.

وأمّا ما ذكره من العامل الثاني وهو الاتجاه الخلقي في الفقه الإسلامي فلا ريب إنّ الفقه الإسلامي فقه الأخلاق والآداب ولكن هذا لا يحتّم عليه الأخذ بنظرية السبب بمعنى كون عدم مشروعية الباعث موجباً لبطلان العقد. فإنّ المحتّم


(1) 4: 51 ـ 80.