321

 

 

فقه العقود

 

الفصل الثاني

أركان العقود وشرائطها

 

 

 

1 ـ مع الفقه الوضعي في أركان العقد.

2 ـ الإرادة.

3 ـ الإبراز.

4 ـ المتعاقدان.

5 ـ محلّ العقد.

323

 

 

 

 

 

 

 

مقدّمة:

لئن سمّينا مراكز شروط العقود بأركان العقود لصحّ القول ـ وفق ما تعارف لدى الأصحاب من ترتيب ذكر الشروط ـ بأنّ أركان العقد ثلاثة:

1 ـ صيغة العقد.

2 ـ المتعاقدان.

3 ـ العوضان.

حيث نرى أنّ الأصحاب يبحثون تارة عن شروط صيغة العقد، واُخرى عن شروط المتعاقدين، وثالثة عن شروط العوضين.

ولئن سمّينا ما بها قوام العقود بأركان العقود أمكن القول أيضاً بأنّ أركان العقد ثلاثة: صيغة العقد، والمتعاقدان، والعوضان.

وأنا أقترح افتراض أركان العقد أربعة:

1 ـ إرادة المضمون.

2 ـ إبرازها سواء كان باللفظ أو بأيّ مبرز آخر.

3 ـ المتعاقدان.

324

4 ـ المحلّ.

والأصحاب إنّما ذكروا شروط (العوضين) لأنّ مصبّ كلامهم كان هو البيع المشتمل على العوضين. أمّا التعبير بالمحلّ فيشمل كل عقد ولو لم يكن مشتملا على العوضين كالهبة.

وبهذا التقسيم لأركان العقد نأتي على ذكر الشروط بطريقة تختلف عن عرض الأصحاب لها فمثلا: شرط الصراحة راجع إلى الركن الثاني. وشرط التنجيز راجع إلى الركن الأوّل، بينما نرى في عرض الأصحاب أنّ شرط الصراحة والماضوية وتقديم الإيجاب على القبول ونحوها مع مثل شرط التنجيز تجعل جميعاً ـ في صف واحد ـ شروطاً للركن الأوّل وهو صيغة العقد. وشرط الرضا والاختيار نبحثه في شروط الركن الأوّل وهو الإرادة فهو أنسب بها، بينما ذكرها الأصحاب في شروط المتعاقدين.

 

325

 

 

 

1أركان العقود وشرائطها

 

 

مع الفقه الوضعي في أركان العقد

 

 

 

 

ركن الإرادة في الفقه الغربي

ركن السبب في الفقه الغربي

نظريّة السبب في ضوء الفقه الإسلامي

327

 

 

 

 

 

 

وقد ورد في الفقه الغربي: أنّ أركان العقد ثلاثة:

1 ـ الإرادة أو التراضي أو قُل توافق الإرادتين.

2 ـ المحلّ.

3 ـ السبب(1).

وقبل أن نبدأ ببحث الشروط نتكلّم عن تصور الفقه الغربي عمّـا أبرزوه من ركني الإرادة والسبب.

 

ركن الإرادة في الفقه الغربي

أمّا الإرادة فقد ذكروا لها تفسيرين: إرادة ظاهرة وإرادة باطنة(2) وقصدوا بالإرادة الباطنة: الإرادة بمعناها الحقيقي القائمة في النفس، وبالإرادة الظاهرة:


(1) راجع الوسيط 1: 182، الفقرة 68.

(2) راجع الوسيط الجزء 1: 95 ـ 99، بحث الاتجاهات العامّة للتقنين الجديد (في مصر) البند (ج)، وراجع أيضاً 1: 191 ـ 194، الفقرة 77 ـ 80.

328

التعبير عن الإرادة واختلفوا في أنّ ما هو ركن في العقد هل هي الإرادة الظاهرة أو الإرادة الباطنة؟ فمذهب الإرادة الباطنة وهو المذهب اللاتيني يقف عند الإرادة النفسيّة أمّا التعبير المادّي عن هذه الإرادة فليس إلّا قرينة عليها تقبل إثبات العكس ومذهب الإرادة الظاهرة وهو المذهب الجرماني يقف عند التعبير عن الإرادة ويعتبره هو الإرادة ذاتها:

فمذهب الإرادة الباطنة يرى أنّ المقياس في العقد ينبغي أن تكون هي الإرادة الكامنة في النفس، لأنّها الإرادة الحرّة المختارة في معدنها الحقيقي غير متأثرة بغش ولا بإكراه ولا بغلط. ومذهب الإرادة الظاهرة يرى أنّ جعل المقياس هي الإرادة النفسية ليس على ما ينبغي فقد بحث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فقهاء الألمان نظرية الإرادة الباطنة المتعارفة لدى الفقهاء الفرنسيين وخلصوا إلى أنّ هذه الإرادة لا يجوز أن يكون لها أثر في القانون، لأنّها شيء كامن في النفس والقانون ظاهرة اجتماعية يدرس الظواهر الاجتماعيّة وليس ظاهرة نفسية ودارساً لقضايا النفس ولأنّ جعل الإرادة الظاهرة هي المقياس يؤدّي إلى استقرار التعامل والطمأنينة لمَن يسكن بحق إلى ما يظهر أمامه من التعبير المادّي عن الإرادة، وهذا بخلاف جعل المقياس هي الإرادة الباطنة.

والإرادتان لو اتفقتا فلا أثر لهذا الخلاف، وإنّما يظهر الأثر عندما تختلفان كما إذا أمضى شخص عقداً مطبوعاً يتضمن شرطاً كان لا يقبله لو فطن له وكشخص ينزل في فندق على شروط لا يعلمها ولكنها مكتوبة ومعلقة في غرفته وكمَن يوصي على أثاث منزليّ بطريق التأشير على بيان مطبوع فإذا به يؤشر على أثاث غرفة نوم وهو يريد أثاث غرفة استقبال. ومذهب الإرادة الباطنة يرى التعبير دليلا على الإرادة الباطنة، فبالتالي يأذن بمفاد التعبير كما هو الحال عند

329

مذهب الإرادة الظاهرة، فالأثر العملي بين المذهبين إنّما يظهر في إمكان إثبات العكس وعدمه. فالتعبير لو لم يعتبر إلّا دليلا وقرينة لإثبات الإرادة فقد يثبت العكس بدليل أقوى، أمّا لو اعتبر هو الإرادة فلا معنى لإثبات العكس.

وذكر السنهوري(1): أنّ التقنين الجديد المصري أخذ بشكل عام بالإرادة الباطنة ولكنّه أخذ في بعض الفروض بالإرادة الظاهرة حتى يكمل الاستقرار في التعامل فمثلا:

1 ـ نصّ التقنين الجديد في المادة (91) على أنّ التعبير عن الإرادة ينتج أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجّه إليه. وفي نفس الوقت قالوا: إنّ من وجّه إليه إيجاب فقبله ثم عدل ولكن القبول وصل إلى علم الموجب قبل أن يصل العدول يرتبط بالعقد بينما لا يعقل أن يكون هذا الارتباط إلّا على أساس الإرادة الظاهرة لأنّ الإرادة الحقيقية قد انتهت بالعدول.

2 ـ نصّت المادة (92) من القانون الجديد المصري على أنّه: «إذا مات مَنْ صدر منه التعبير عن الإرادة أو فقد أهليته قبل أن ينتج التعبير أثره فإنّ ذلك لا يمنع من ترتّب هذا الأثر عند اتصال التعبير بعلم من وجّه إليه» ولا يستقيم هذا الحكم على أساس الإرادة الباطنة الكامنة في النفس التي تموت بموت صاحبها وتزول بفقده لأهليّته بل على أساس الإرادة الظاهرة التي انفصلت عن صاحبها فأصبحت مستقلة عنه وتبقى حتى بعد موته أو بعد فقده لأهليته.

أقول: إنّ تفسيرها في القانون المصري في هذين الفرعين لا ينحصر بالأخذ بالإرادة الظاهرة، فقد يقول القانون المصري: إنّ العبرة بالإرادة الباطنة


(1) راجع الوسيط 1: 96 و 97.

330

التي كانت موجودة قبل الموت أو فقدان الأهلية أو العدول وأنّ التوسع المتبع ليس في الإرادة بالجنوح إلى الإرادة الظاهرة وإنّما هو في شرط الوصول فحينما شرطنا في تأثير التعبير وصوله إلى من وجّه إليه نكتفي بوصوله قبل وصول العدول أو نكتفي بوصوله حتى بعد الموت أو فقدان الأهلية.

3 ـ ويقرر التقنين الجديد المصري إنّ الغلط المختص بأحد المتعاقدين أو التدليس الصادر من شخص ثالث أو الإكراه الصادر من شخص ثالث لا يكون سبباً في إبطال العقد من قبل الغالط أو المكرَه أو المدَلَّس عليه إلّا إذا كان المتعاقد الآخر على علم بالغلط أو الإكراه أو التدليس، أو كان من السهل أن يتبيّنه ومن المفروض أن يعلم به، ففي غير فرض العلم أو سهولة التبين لا مجال للإبطال وهذا لا يكون على أساس الإرادة الحقيقية للمتعاقد الأوّل فانّها قد شابها الغلط أو التدليس أو الإكراه، وإنّما هو على أساس إرادته الظاهرة التي اطمأنّ إليها المتعاقد الآخر واعتمد عليها في ترتيب شؤونه. وقال الدكتور السنهوري: أمّا الشريعة الإسلامية فمع انّ القاعدة فيها أنّ العبرة بالمعاني أي بالإرادة الحقيقية للمتعاقدين إلّا أنّ الفقهاء في كثير من الفروض يقفون عند المعاني الظاهرة من الألفاظ التي استعملها المتعاقدان فلا يتعدّونها إلى المعاني الكامنة في السريرة، ولعل هذا يفسر تحليلهم الدقيق لبعض العبارات والألفاظ ووقوفهم طويلا عند شرح ما تتضمنه هذه العبارات من المعاني وما يستتبعه اختلاف التعبير من اختلاف الأحكام فليس هذا منهم في رأينا استمساكاً باللفظ بل هو تغليب للإرادة الظاهرة على الإرادة الباطنة...(1).


(1) في الوسيط 1: 193، في تعليقه على الفقرة 79 تحت الخط.

331

أقول: إنّ تبرير مذهب الإرادة الظاهرة بأنّ القانون ظاهرة اجتماعية ولا تدرس الاُمور النفسية والإرادة الباطنة ليست عدا أمر مكنون في النفس تبرير غير مقبول. فان المجتمع بإمكانه أن يرتب حكماً اجتماعياً على أمر نفسي. نعم عندئذ لا تعرف فعلية ذاك الحكم إلّا بمعرفة تحقق ذاك الأمر النفسي عن طريق أمارة تدل عليه، والمفروض لدى القائلين بمذهب الإرادة الباطنة انّ التعبير أمارة تدل عليها.

وكذلك لا يصحّ تبرير مذهب الإرادة الظاهرة بتوخّي استقرار التعامل فان قسماً كبيراً من استقرار التعامل محرز لدى مذهب الإرادة الباطنة باتباع ظواهر التعبيرات بعنوانها أمارة على الإرادة الباطنة ولا يضحي هذا المذهب إلّا بجزء ضئيل من الاستقرار توخّياً للمصلحة بمراعاة حال من عجز عن إيصال مراده بالشكل الذي أراد.

وأمّا تبرير مذهب الإرادة الباطنة بانّها غير متأثرة بغشّ ولا بإكراه ولا بغلط، فلا يخلو أيضاً عن ضعف ولعلّ الضعف في التعبير لا في المقصود، والاولى أن يعبّر بتعبير أنّ الإرادة الباطنة تبتلي بغشّ أو غلط أو إكراه أو تنعدم بالإكراه فيكون البطلان أو إمكانية الإبطال عندئذ موجباً لتدارك الغشّ والغلط والإكراه. بينما نرى أنّ مذهب الإرادة الظاهرة يؤدّي إلى عدم تدارك هذه الاُمور، ولا يخفى أنّ مذهب الإرادة الباطنة لا يبقى المظهر الخارجي الخاطئ دون جزاء بل يترتب عليه الحق في التعويض على أساس المسؤولية التقصيرية لمن اطمأنّ لهذا المظهر حماية للثقة المشروعة على حدّ تعبير الدكتور السنهوري(1).


(1) في الوسيط 1: 194، في تعليقه على الفقرة 79 تحت الخط.

332

وأمّا قوله: «بأنّ فقهاء الشريعة الإسلامية يقفون في كثير من الفروض عند المعاني الظاهرة من الألفاظ التي يستعملها المتعاقدان وهذا يعني تغليب الإرادة الظاهرة في تلك الفروض وهذا هو تفسير تدقيقهم لبعض العبارات والألفاظ ووقوفهم طويلا عند شرحها» فهو غير صحيح فان تدقيقهم في فهم معاني تلك العبارات ووقوفهم عند المعاني الظاهرة انّما هو ناتج من إيمانهم بأماريّة التعبير على الإرادة الباطنة وهذا ما يؤمن به مذهب الإرادة الباطنة فليس هذا دليلا على اقتراب من مذهب الإرادة الظاهرة.

والواقع أنّ مصطلح الإرادة الظاهرة وفكرتها مرتبطان بمدرسة الفقه الغربي تماماً ولا عـلاقة لهما بالفقه الإسلامي إطلاقاً ولا يقصد بالإرادة في الفقه الإسلامي عدا معناها الحقيقي المتواجد في النفس ولا يعدّ التعبير إلّا أمارة وقرينة على تلك الإرادة قابلة للمعارضة بدليل أقوى على الخلاف، وحينما قال فقهاء الإسلام: (العقود تتبع القصود) قصدوا بذلك المعنى الحقيقي للقصد وهي الإرادة النفسية.

 

ركن السبب في الفقه الغربي

وأمّا السبب فقد اختلف الفقه الغربي حول ركنيته في العقد وحول معناه في تاريخ طويل وقد ورد ذلك مشروحاً في الوسيط(1) للسنهوري. ونحن نلخّص هنا ما قد يكون أهمّ النقاط الواردة في البحث مشيرين إلى أن مقصودهم بركنية السبب للعقد افتراض بعض الشروط بلحاظ السبب يؤثّر اختلاله على مدى نفوذ العقد أو صحته:


(1) راجع الوسيط 1: 451 ـ 531، الفقرة 242 ـ 297.

333

 

تاريخ البحث حول السبب:

ظهر البحث عن السبب ـ أي سبب الإرادة في العقد في الفقه الغربي ـ من حين ما اختفت الشكلية وبرزت الإرادية والرضائية في العقود وبقدر ما كانت تختفي الشكلية وتبرز الإرادة كان يبدو مجال للبحث عن سبب الإرادة.

فحينما ظهرت في القانون الروماني إلى جانب العقود الشكلية عقود اُخرى غير شكلية أهمّها العقود العينية والعقود الرضائية والعقود غير المسماة وعقود التبرع ظهر الاتجاه إلى بحث السبب:

أمّا العقود العينية ـ وكانت هي القرض والعارية والوديعة والرهن ـ فالإرادة لم تكن ظاهرة فيها كي تظهر فكرة البحث عن سبب الإرادة في عقد القرض أو العارية أو الوديعة أو الرهن، وانّما كان يُرى أنّ المقترض أو المستعير أو الودعي أو المرتهن ملزم بردّ العين بسبب تسلّمها وإلّا كان مثرياً دون سبب.

وأمّا العقود الرضائية ـ وكانت هي البيع والإيجار والشركة والوكالة ـ فالإرادة هي قوام العقد فيها فبرزت فكرة السبب في هذه العقود واضحة. ففي عقد البيع يكون التزام البائع سبباً لالتزام المشتري وبالعكس ولكنّ فكرة السبب لديهم وقفت في حدود تكوين العقد ولم تتجاوز مرحلة التنفيذ. أي انّه لدى تكوين العقد إذا كان السبب منتفياً بطل العقد، ولكن لدى التنفيذ لو طرأ امتناع التنفيذ بالنسبة لأحد العوضين أو امتنع صاحبه عن التنفيذ لم يبطل العقد ولا كان للآخر الفسخ أو الامتناع عن التنفيذ فكل من الالتزامين بعد حصولهما أمر مستقل عن الآخر.

وأمّا العقود غير المسماة فقد ظهرت فيها أيضاً فكرة السبب، ففي عقد المقايضة مثلا إذا سلّم أحد المتقايضين العوض الذي يملكه كان هذا سبباً لالتزام الآخر بتسليم ما يقابله.

334

وأمّا عقود التبرعات فأهمها الهبة وقد اعترف القانون الروماني فيها بالسببإلى حدّ كبير فالتبرعات المحضة تقوم على نيّة التبرع وهي السبب في التزام المتبرع. فإذا انعدمت بطل التبرع والهبة المقرونة بالشرط يكون الشرط سبباً لها إذا كان هو الدافع إلى التبرع. فإذا لم يقم الموهوب له بتنفيذ الشرط كان للواهب استرداد ما وهب أو إجباره على التنفيذ. وفي الوصية ـ وهي إرادة منفردة ـ اعترف القانون الروماني بالسبب إلى حدّ أنْ مزجه بالباعث، فإذا اعتقد الموصي أنّ وارثه قد مات فأوصى بماله لاجنبي وتبين أنّ الوارث لا يزال حيّاً واستطاع هذا أن يثبت أنّ الباعث على الوصية هو اعتقاد الموصي أنّ الوارث قد مات فالوصية باطلة لانعدام سببها.

ثم جاء دور الفقهاء الكنسيين فهم فسّروا السبب بالباعث دون السبب الروماني الموضوعي الداخل في العقد وهم جعلوا نظرية السبب في بداية الأمر أداة لحماية المجتمع فحسب عن طريق إبطال العقود التي تتجه لتحقيق أغراض غير مشروعة، ولكن ما لبثوا أن جعلوها إلى جانب ذلك أداة لحماية العاقد نفسه وتحرير إرادته من الغلط والتدليس والغش، ذلك أنّهم أضافوا إلى السبب غير المشروع في إبطال العقد السبب غير الحقيقي، فإذا وقع غلط أو تدليس في الباعث على التعاقد كان السبب غير حقيقي وبطل العقد. ثم جاء عهد الفقيه الفرنسي الكبير (دوما) في القرن السابع عشر فأحيا فكرة الرومان القديمة عن نظرية السبب، فالسبب عنده في التزام المتعاقد في العقود الملزمة للجانبين هو ما يقوم به المتعاقد الآخر، أي الالتزام المقابل والسبب في مثل القرض الذي يظهر أنّ شخصاً واحداً فيه قد التزم، هو التسليم الذي تمَّ من الشخص الأوّل والسبب في التبرعات هو نيّة التبرع وكلامه وإن لم يكن واضحاً وضوحاً كافياً في هذا

335

الأخير ولكن كلام پوتية وهو فقيه فرنسي معروف جاء بعد دوما وردّد ما سبق إليه دوما واضح في ذلك كل الوضوح.

وهذا المنحى من التفكير صنع البذور الأوّلية للنظرية التقليدية في السبب في القانون المدني الفرنسي وكذلك المصري القديمين وإليك الخلاصة عن النظرية التقليدية في السبب:

 

النظريّة التقليديّة في السبب:

تميّزالنظرية التقليدية بين السبب الانشائي والسبب الدافع والسبب القصدي: فالسبب الانشائي هو الذي ينشىء الالتزام ويخلقه وهو نفس العقد، وهذا ليس هو المقصود من السبب في المقام والسبب الدافع هو الباعث الذي دفع الملتزم إلى ان يرتب في ذمته الالتزام كمَن كان دافعه في شراء البيت ان يخصصه لسكناه أو أن يجعل منه محلا لعمله أحد غير ذلك وهذا أيضاً ليس هو المقصود في المقام.

والسبب القصدي ـ وهو السبب الذي تقف عنده النظرية التقليدية وإذا أطلقت كلمة السبب عنته بهذه الكلمة ـ يعرّف عادةً بأنّه الغاية المباشرة أو الغرض المباشر الذي يقصد الملتزم الوصول إليه من وراء التزامه فيختلف السبب عن الباعث في أنّ السبب هو أوّل نتيجة يصل إليها الملتزم، أمّا الباعث فغاية غير مباشرة تتحقق بعد أن يتحقق السبب ولا يصل إليها الملتزم مباشرة من وراء الالتزام.

وتقول النظرية التقليدية للسبب: إنّ سبب الالتزام لكل من المتعاقدين في العقود الملزمة للجانبين عبارة عن الالتزام المقابل وسبب الالتزام في العقود الملزمة لجانب واحد إذا كان العقد عينياً قرضاً كان أو عارية أو وديعة أو رهن

336

حيازة هو تسلّمه الشيء محل التعاقد، فالمقترض يلتزم برد القرض لأنّه تسلّمه. وفي عقود التبرع السبب في التزام المتبرع هو نيّة التبرع ذاتها. وتحرص النظرية التقليدية على أن لا تقتصر في تأثير السبب على تأثيره في مرحلة تكوين العقد بل يبقى التأثير إلى حين التنفيذ فإذا قام السبب عند تكوين العقد ثم انقطع قبل التنفيذ سقط الالتزام وتظهر أهميّة هذا الحكم في العقود الملزمة للجانبين فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقد الآخر أن يمتنع عن تنفيذ ما ترتب في ذمته من التزام، وهذه هي نظرية الدفع بعدم التنفيذ، وإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه جاز للمتعاقد الآخر أن يطلب فسخ العقد وهذه هي نظرية الفسخ وإذا استحال على أحد المتعاقدين تنفيذ التزامه لقوّة قاهرة تحمّل هو تبعة هذه الاستحالة وسقط التزام المتعاقد الآخر وهذه هي نظرية تحمل التبعة.

والشروط الواجب توافرها في العقد بلحاظ السبب لدى النظرية التقليدية ثلاثة:

الأوّل ـ وجود السبب فان لم يكن السبب موجوداً بطل العقد وليس مقصودهم بعدم وجود السبب ما يشمل موهومية السبب، فان السبب الموهوم قد احترزوا منه بشرط آخر وإنّما المقصود بعدم وجود السبب ان يكون المتعاقدان على بيّنة من أنّه غير موجود غير واهمين وجوده ويمكن تصوير إقدامهما على العقد رغم علمهما بعدم وجود السبب في فروض منها:

1 ـ أن يكره أحد المتعاقدين على إمضاء إقرار بمديونيته وهو غير مدين، أي الالتزام بالدين لسبب لا وجود له كقرض لم يتمّ. فهذا العقد باطل وليس بطلانه لاجل الإكراه فإنّ الإكراه في رأيهم ليس مبطلا للعقد وانّما يوجب قابلية العقد للإبطال بالفسخ وانّما بطلانه لأجل انعدام السبب وقد لا يكون إكراه أصلا كما لو

337

أقرّ بالمديونية قبل تسلّم القرض ثم لم يحصل تسلّم القرض فيكون الإقرار في هذه الحالة باطلا لانعدام السبب. ويستقيم الفرض حتى لو اعتبر الإقرار إرادة منفردة لا عقداً فانّ السبب ركن في كل التزام إرادي لا في خصوص العقد.

2 ـ أن يوقّع على سند المجاملة فيتمّ بذلك عقد بلا سبب من دون فرض إكراه أو وهم في المقام وصورته أن يلتزم شخص نحو آخر التزاماً صورياً فيمضي سنداً لمصلحته كي يستفيد الدائن الصوري من هذا السند بتحويله لشخص ثالث لقاء أخذ مبلغ منه حتى إذا حلّ ميعاد دفع السند قام الدائن الصوري بتوريد قيمته إلى حساب المدين الصوري فيدفعها المدين لحامل السند وبذلك يستطيع الدائن الصوري أن يحصل على ما هو في حاجة إليه من النقود إلى أجل معلوم لا من مدينه بالذات بل بفضل إمضاء هذا المدين على سند المجاملة ولا يحتجّ بانعدام السبب على حامل السند إذا كان حسن النيّة ولكن يحتج به في العلاقة ما بين المدين ودائنه الصوري إذا أراد الدائن أن يستفيد من السند الممضى من قِبَل مدينه الصوري من دون توريد قيمته إليه. ويتحقق انعدام السبب بعد التعاقد أيضاً وذلك في العقود الملزمة للجانبين إذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه أو استحال عليه هذا التنفيذ لقوة قاهرة، فانّ السبب التزام المتعاقد الآخر يصبح غير موجود بعد أن كان موجوداً عند التعاقد وهو يبرّر نظرية الدفع بعدم التنفيذ ونظرية الفسخ ونظرية تحمّل التبعة كما تقدمت الإشارة إليه.

الثاني ـ صحة السبب فإن كان السبب غير صحيح بطل العقد وقصدوا بالسبب غير الصحيح السبب الموهوم والمغلوط أو السبب الصوري: أمّا السبب الموهوم فأمثلته كثيرة من قبيل وارث يتخارج مع شخص يعتقد أنّه شريكه في الإرث فيعطيه مبلغاً من النقود لقاء تخلّيه من الإرث ثم يعرف أنّه ليس وارثاً فهذا

338

العقد باطل لأنّ سببه موهوم، وكذلك وارث يمضي إقراراً بدين على التركة ويتبين أنّ الدائن كان قد استوفى الدين من المورث فهذا الإقرار باطل لانّ سببه موهوم، ووارث يتعهّد لموصى له بعين في التركة أن يعطيه مبلغاً من المال في نظير نزوله عن الوصية ويتبين بعد ذلك أنّ الوصية باطلة أو أنّ الموصي قد عدل عنها فتعهّد الوارث باطل. ومدين يتفق مع دائنه على تجديد الدَّين فيتبين أن الدَّين القديم باطل أو أنّ الدائن قد استوفاه فالتجديد باطل. وأمّا السبب الظاهر صورياً لا موهوماً فمجرد صورية السبب الظاهر لا تبطل العقد عند فرض وجود سبب حقيقي مشروع صحيح ولكن إذا أثبت المدين صورية السبب فعلى الدائن أن يثبت السبب الحقيقي ويكون الالتزام قائماً أو غير قائم تبعاً لهذا السبب الحقيقي فإن كان هذا السبب موهوماً سقط الالتزام وإن كان سبباً غير مشروع وقد اُخفي تحت ستار سبب مشروع كما هو الغالب في صورية الأسباب الظاهرة سقط الالتزام أيضاً وإلّا كان الالتزام قائماً.

الثالث ـ مشروعية السبب، والسبب المشروع هو الذي لا يحرّمه القانون ولا يكون مخالفاً للنظام العام أو الآداب. ومشروعية السبب عند أصحاب النظرية التقليدية شرط متميز عن مشروعية المحل فقد يكون المحل مشروعاً والسبب غير مشروع من قبيل:

1 ـ ما إذا تعهّد شخص لآخر بارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود فإن التزام الشخص الآخر بدفع النقود محله مشروع ولكن سببه وهو التزام الشخص الأوّل بارتكاب الجريمة غير مشروع فيكون الالتزام باطلا رغم مشروعية محله.

2 ـ إذا تعهّد شخص لآخر بعدم ارتكاب جريمة في مقابل مبلغ من النقود فانّ التزام كل من المتعاقدين محله مشروع، فعدم ارتكاب الجريمة مشروع ودفع

339

مبلغ من النقود أيضاً مشروع ولكن سبب التزام الأوّل بالامتناع عن ارتكابالجريمة هو التزام الثاني بدفع النقود وهذا سبب غير مشروع لأنّه ملزم بذلك مسبقاً وسبب التزام الثاني بدفع النقود هو التزام الأوّل بالامتناع عن ارتكاب الجريمة وهذا أيضاً سبب غير مشروع لأنّ ذاك ملزم بالامتناع عنها بقطع النظر عن أخذ النقود وكذلك الأمر في كل عقد يلتزم أحد فيه بجائزة لشخص ليحمله على الالتزام بما يجب عليه في ذاته وبقطع النظر عن الجائزة كالمودع يجيز المودع عنده حتى يرد الوديعة وكالمسروق منه يجيز السارق حتى يرد المسروق وكالمخطوف ولده يجيز الخاطف حتى يرد الولد وكمَن يخشى أذىً دون حق من شخص يجيز هذا الشخص حتى يكفّ عنه أذاه.

 

الهجوم ضدّ نظرية السبب التقليدية:

هذه خلاصة عن نظرية السبب التقليديّة. ثم هوجمت النظرية في سنة 1828 من قِبَل الفقيه البلجيكي (ارنست) ثم هاجمها آخرون بلجيكيون وفرنسيون إلى أن جاء دور (بلانيول) وانحاز إلى خصوم السبب وكان معولا فعّالا في هدمها وردد بعده آخرون صدى هذه الحملة.

وإليك خلاصة من نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية:

يقول بلانيول: إنّ نظرية السبب التقليدية نظرية غير صحيحة ثم هي غير ذات فائدة. أمّا انّها غير صحيحة فيظهر باستعراض السبب في فروضه الثلاثة: العقد الملزم للجانبين، والعقد العيني وعقد التبرع: ففي العقد الملزم للجانبين لا يجوز القول كما تزعم النظرية التقليدية: أنَّ سبب أحد الالتزامين المتقابلين هو الالتزام الآخر فانّ في هذا استحالة منطقية ذلك لأنّ الالتزامين يولدان في وقت واحد من مصدر واحد هو العقد فلا يمكن أن يكون أحدهما سبباً للآخر.

340

وفي العقد العيني يقولون: أنّ سبب الالتزام هو تسليم العين ولكن التسليمليس إلّا المصدر الذي كوّن العقد وانشأ الالتزام فانّ انشاء الالتزام في العقود العينية إنّما هو بتسليم العين ففرض التسليم سبباً للعقد يعني توحيد السبب الانشائي والسبب القصدي.

وفي عقد التبرع يقولون انّ سبب الالتزام هو نيّة التبرع وهذا كلام فارغ من المعنى فانّ نيّة التبرع هي الرضا بالعقد ذاته وليست سبباً قصدياً للتبرع.

وأمّا أنّ النظرية غير ذات فائدة، فلأنّ الفائدة المتوخاة منها تحصل بشيء آخر يغنينا عنها:

ففي العقود الملزمة للجانبين يكفينا أن نقول: إنّ الالتزامين المتقابلين مرتبطان أحدهما بالآخر بحيث يتوقف مصير كل منهما على مصير الثاني وتغني فكرة الارتباط في هذه العقود عن فكرة السبب.

وفي العقود العينية وعقود التبرع انعدام السبب بالمعنى المفهوم من النظرية التقليدية هو انعدام التسليم في العقد العيني وانعدام نيّة التبرع في الهبة وهذا معناه انعدام العقد ذاته فلسنا إذن في حاجة إلى تعليل عدم قيام الالتزام بانعدام السبب ما دام العقد ذاته غير موجود.

هذه خلاصة الاعتراضات على فكرة السبب التقليدية.

 

الدفاع عن النظريّة:

ولكن كثيرين دافعوا عن النظرية التقليدية بعد تحويرها وعلى رأس هؤلاء (كاپيتان) في كتابه المعروف (السبب في الالتزامات) فعند كاپيتان أنّ السبب في العقد الملزم للجانبين ليس هو الالتزام المقابل ذاته بل هو تنفيذ هذا الالتزام فلم

341

يلزم أن يكون الالتزام الواحد سبباً ومسبباً في وقت واحد كي تحصل الاستحالة العقلية(1).

ثم يضيف إلى ذلك أنّه حتى لو فرض طبقاً للنظرية التقليدية أنّ سبب الالتزام هو الالتزام المقابل ذاته فليس المقصود بذلك السبب الانشائي كي يقال: لا يمكن أن يكون الشيء منشأ لشيء آخر وناشئاً منه في آن واحد، وإنّما المقصود بذلك السبب القصدي أي الغرض المباشر الذي قصد إليه الملتزم من وراء التزامه ويسهل مع هذا المعنى أن نفهم أنّ الغرض الذي قصد إليه أحد المتعاقدين من وراء التزامه هو التزام المتعاقد الآخر بالذات فكل من المتعاقدين التزم حتى يلتزم الآخر ولا يكون في هذا خروج عن المنطق.

أمّا الالتزام الذي ينشأ عن عقد عيني فسببه هو تسليم الشيء كما تقرر النظرية التقليدية وهذا صحيح في نظر كاپيتان في عقود عينية ثلاثة، وهي القرض والعارية ورهن الحيازة فإنّ هذه العقود إذا كانت عينية من حيث الصياغة فهي من حيث طبيعتها عقود رضائية ملزمة للجانبين، فالمقرض والمقترض مثلا يتفقان على القرض ويتم العقد بالاتفاق فيلتزم المقرض بتسليم القرض كما يلتزم المقترض بردّ مثله. إذن فالتسليم ليس هو حتماً السبب المنشئ للالتزام بل هو الغرض الذي يسعى إليه المقترض من وراء التزامه برد الشيء فلا يختلط في هذه العقود الثلاثة السبب الانشائي والسبب القصدي كما يزعم خصوم نظرية السبب.


(1) لو كان الإشكال هو الدور أو ما يشبهه فهو لا يرتفع بتحويل السببية من الالتزام إلى تنفيذه، لأنّ تنفيذ الالتزام مسبب عن الالتزام. فالمهم هو الجواب بالتفريق بين السبب الانشائي والسبب القصدي أو العلّة الفاعلية والعلة الغائية وهو الجواب الثاني الوارد في المتن من دون فرق في ذلك بين أن يفرض السبب هو الالتزام أو تنفيذه.

342

ولا يبقى من العقود العينية إلّا الوديعة وهنا يسلّم كاپيتان أنّ الوديعةبطبيعتها عقد عيني ملزم لجانب واحد إذا كانت بغير أجر، ويرى أنّ سبب التزام المودع عنده ليس هو تسليم الشيء إذ يختلط بذلك السبب الانشائي بالسبب القصدي بل هو رغبة المودع عنده في أنْ يسدي جميلا للمودع، أمّا إذا كانت الوديعة بأجر فقد أصبحت عقداً ملزماً للجانبين وصار سبب كل التزام هو تنفيذ الالتزام الآخر(1).

وأمّا عقود التبرع فسبب الالتزام هو نيّة التبرع ذاتها كما تقرر النظرية التقليدية ولا تختلط هذه النيّة بالرضا كما يقول خصوم السبب، فانّ إرادة الواهب يمكن تحليلها إلى عنصرين:

العنصر الأوّل هو إرادته أن يلتزم وهذا هو (الرضا) والعنصر الثاني هو إرادته أن يكون الالتزام دون مقابل وعلى سبيل التبرع وهذا هو (السبب) يتميّز عن الرضا كما نرى. والدليل على ذلك أنّ العنصر الأوّل وهو الرضا بالالتزام قد يثبت وجوده دون ان يثبت وجود السبب وهو نيّة التبرع كما إذا كتب شخص سنداً بدين في ذمته لآخر ثم استطاع أن يثبت أن هذا الدين لا وجود له فانّه يبقى بعد ذلك أن يثبت الدائن نية التبرع في جانب المدين حتى يستوفي منه قيمة السند فهذا مثل نرى فيه رضا المدين بالالتزام ثابتاً دون أن تكون نيّة التبرع عنده ثابتة، على أن كاپيتان لا يقف عند نيّة التبرع بل يجاوزها إلى الباعث الدافع فيجعله هو السبب في ثلاث حالات:


(1) وإن شئت كلامه في سائر العقود الملزمة لجانب واحد فراجع الوسيط 1: 490، ما ورد تحت الخط، الفقرة 274.

343

1 ـ التبرع إذا اقترن بشرط يتبين أنّه هو الذي دفع المتبرع إلى تبرعه كما إذا وهب شخص مالا لجمعية خيريّة واشترط على الجمعية ان تنشئ بهذا المال مستشفى أو ملجأً فانّ سبب الهبة في هذه الحالة لا يكون نيّة التبرع بل هو القيام بالشرط الذي اقترن به التبرع.

2 ـ الوصية حينما لا توجد إلّا إرادة واحدة هي إرادة الموصي فيرى كاپيتان أنّ الباعث الذي دفع الموصي إلى تبرعه هو الذي يجب اعتباره سبباً للوصية. وفي هاتين الحالتين يسلم كاپيتان باختلاط الباعث بالسبب.

3 ـ إذا أدخل المتعاقدان الباعث في دائرة التعاقد وأصبح جزء من العقد متفقاً عليه. قال السنهوري: ويختلف كاپيتان في هذا عن النظرية الحديثة فعنده لا يكفي للاعتداد بالباعث أن يكون معروفاً من المتعاقدين كما تقول النظرية الحديثة بل يجب أن يكون متفقاً عليه بينهما(1).

ومن ذلك يُرى أنّ كاپيتان أدخل تحويراً في النظرية التقليديّة حيث يجعل الباعث يختلط بالسبب في الحالتين المتقدمتين، وحيث يحدد السبب في العقد الملزم للجانبين بانّه هو تنفيذ الالتزام لا وجوده وحيث يحدد السبب في عقد الوديعة غير المأجورة بانّه نيّة التبرع عند حافظ الوديعة ولكنه مع ذلك يحتفظ بجوهر النظرية التقليدية فيستبقي التمييز بين السبب والباعث ولا يخلط بينهما إلّا في فروض نادرة ويجعل المعيار في تحديد السبب موضوعياً لا ذاتياً، فيكون السبب عنده شيئاً داخلا في العقد لا منفصلا عنه وهو واحد لا يتغيّر في أي نوع من العقود.


(1) راجع الوسيط 1: 491، التعليق الوارد تحت الخط، الفقرة 274.

344

وجاء بعد ذلك دور النظرية الحديثة في الفقه الفرنسي عن السبب وهي تتلخص في رفض النظرية التقليدية للسبب مع قبول أصل نظرية السبب في صياغة جديدة ويقال: إنّ الفقه الفرنسي كان متأخراً في هذه المسألة عن القضاء الفرنسي ذلك أنّ القضاء باعتباره كان يواجه الحياة العملية أدرك ضيق النظرية التقليدية وعقمها فلم يرض به وسار في طريق غير طريق الفقه التقليدي وتوسع في تحديد السبب فجعله هو الباعث الدافع إلى التعاقد، وقد عاد القضاء بذلك ـ عن غير قصد ـ إلى نظرية السبب عند الكنسيين لأنّها هي النظرية التي تنتج في العمل. وما لبث الفقه الحديث أن انضمّ إلى القضاء في نظريته الجديدة إذ أدرك مدى ما فيها من خصوبة ومرونة.

 

النظريّة الحديثة في السبب:

وهنا نستعرض موقف النظريّة الحديثة في السبب في مرحلتين: أوّلا رفضها للنظرية التقليدية في السبب، وثانياً قبولها لنظرية السبب في صياغة جديدة:

أمّا رفض النظرية التقليدية للسبب فيقال: إنّ فيها عيباً جوهرياً وهو عقمها وعدم اضافتها شيئاً إلى الثروة القانونيّة فكل من الشروط الثلاثة الماضية وهي وجود السبب القصدي وصحته ومشروعيته يمكن الاستغناء عنه بسهولة:

أمّا وجود السبب فقد قالوا: إنّ السبب إذا لم يكن موجوداً فانّ الالتزام لا يقوم، فإذا اُكره شخص على إمضاء سند لسبب لا وجود له كقرض لم يتم فانّ العقد يكون باطلا لا للإكراه فأنّ الإكراه لا يبطل العقد وإنّما يجعله قابلا للإبطال بل لفقدان السبب وإذا أمضى شخص سند مجاملة لدائن صوري كان العقد باطلا لفقدان السبب أيضاً كما مضى شرحه.

345

والجواب: أنّه في المثال الثاني تغنينا قواعد الصوريّة عن نظرية السبب فالسند صوري والدين لا وجود له فيما بين الطرفين ولم يقم عقد حقيقي في المقام كي نحتاج في إبطاله إلى نظرية السبب. أمّا بالنسبة إلى الغير (حامل السند) فيؤخذ باعتماده على العقد الظاهر وأمّا فيما ذكر من مثال الإكراه فأيضاً من السهل أن نصل إلى النتيجة ذاتها وهي البطلان عن غير طريق نظرية السبب لانّنا إذا اعتبرنا السند تصرفا صادراً عن إرادة منفردة فهو التزام بدفع مبلغ واجب بعقد القرض، ولما كان هذا المبلغ لا وجود له فمحل الالتزام معدوم فيسقط الالتزام بفقدان المحل لا بفقدان السبب، وإذا اعتبرنا السند هو عقد القرض ذاته فالتزام المقترض يكون متقابلا لالتزام المقرض ولا بد من أن يتسلم المقترض مبلغ القرض حتى يلتزم بردّه ومن دون تسلّمه إياه يسقط التزامه إمّا لأنّ القرض عقد عيني لم يتم بالتسليم وإمّا لأنّ القرض عقد رضائي (وفقاً للتقنين الجديد) لم يقم فيه المقرض بتنفيذ التزامه وهما التزامان متقابلان ومترابطان يسقط أحدهما عند عدم تنفيذ الآخر.

وبشكل عام نقول: إنّ الالتزام في العقد الملزم للجانبين سببه حسب النظرية التقليدية هو الالتزام المقابل، ولكن ما أيسر علينا أن نستبدل بفكرة السبب هذه فكرة الارتباط التي قال بها بلانيول فنفس التقابل بين الالتزامين يوجب سقوط أحدهما بسقوط الآخر أو عدم تنفيذه بلا حاجة إلى نظرية السبب، بل لعلَّ فكرة الارتباط والتقابل من الناحية الفنيّة أدق من فكرة السبب ذلك أنّ انعدام السبب جزاؤه البطلان كما هو معروف فإذا انعدم السبب عند تكوين العقد أو بعده كان من الواجب أن يكون الجزاء واحداً في الحالتين ولكننا نرى أنّ العقد يبطل في الحالة الاُولى ويفسخ في الحالة الثانية وفي هذا التفريق عيب فنّي