32

 

رأي السيّد الشهيد (رحمه الله):

وأمّا اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فإنّه أيضاً جعل المنشأ لملكيّة الإنسان لأمواله المنفصلة عنه بحسب الارتكازات العقلائيّة أحد أمرين: الحيازة أو العلاج، إلّا أنّه لم يفترض العلاج مملّكاً في مثل الطين أو الماء والثلج كي يرد عليه ما ورد على السيّد الخوئي (رحمه الله)، بل ذكر ذلك لأجل التفصيل بين المنقولات وغير المنقولات. ففي المنقولات يكون التملّك الأوّلي بالحيازة، وفي غير المنقولات كالأرض يكون التملّك الأوّلي بالعلاج كالزراعة أو التعمير.

وأفاد اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): أنّه حصلت عند العقلاء توسّعات في باب الحيازة من جهات شتّى:

فأوّلا ـ حصل عندهم التوسّع من ناحية الحائز، وذلك في باب الإرث، فيُرى ابن الميت مثلا أحقّ بمال أبيه من غيره وكأنـّه وجود امتداديّ لوالده. وهذا هو لبّ المقصود للمحقّق النائيني (رحمه الله)، حيث يقول: إنـّه في باب الإرث يتبدّل طرف الإضافة الذي هو الإنسان لا الطرف الآخر ولا الإضافة(1). فهذا الكلام تحليل عقلائيّ للمطلب، لا تحليل عقليّ وفلسفيّ حتى يرد عليه: أنّ الإضافة تتغيّر حتماً بتغيّر أحد طرفيها.

وثانياً ـ حصل عندهم التوسّع من ناحية المال الذي يحاز. فتلحق به نتائجه وأثماره كريع العقار وأثمار الأشجار.

وثالثاً ـ حصل عندهم التوسّع من ناحية ضمان الغرامة، فيُرى صاحب المال المحاز مستحقّاً لبدله عند إتلاف غيره له إمـّا ضماناً لبدله الأصلي بحسب


(1) راجع منية الطالب 1: 3 و 35، وراجع كتاب المكاسب والبيع للآملي 1: 86 و 87.

33

القانون الأوّلي، كما في من أتلف مال غيره من دون معاملة، أو ضماناً لبدل مسمّىكما في المتلف المقبوض بالمعاملة الفاسدة إذا كان الثمن المسمّى أقلّ من ثمن المثل، فإنّ المتفاهم عرفاً أنّ صاحب المال قد قنع بالضمان بمقدار المسمّى وهدر كرامة ماله بمقدار الزيادة على المسمّى(1). وأمـّا إذا كان الثمن المسمّى أكثر من ثمن المثل فلا يضمن إلّا بمقدار ثمن المثل؛ لأنّ ضمان الباقي كان من أثر المعاملة وكان فرع صحّتها وإمضائها، والمفروض عدم الصحّة.

وألحق (رحمه الله) ببحث التوسّع في الحيازة لدى العقلاء بحثاً عن تأثير موقف الحائز الأوّل في نظر العقلاء على نتائج حيازة الحائز الثاني. وتوضيح ذلك ـ على ما أفاده رضوان الله عليه ـ:

أنّه إذا ملك شخص مالا بالحيازة ثمّ جاءت يد ثانية وحازت ذلك المال، فاليد الاُولى تجعل اليد الثانية مقتضية للضمان، واليد الثانية بنفسها مقتضية لإيجاد الملكيّة لأنّها تحوز، إذن فقد اجتمع في هذه اليد اقتضاءآن: اقتضاء التمليك واقتضاء الضمان، فإن لم يوجد مانع عن فعليّة كلا الاقتضاءين وحصول أثرهما خارجاً، تحقّق الملك والضمان معاً، وإن وجد مانع عن أحدهما فقط تحقّق الآخر فقط، وإن وجد مانع عن كليهما لم يتحقّق شيء منهما.

قال (رحمه الله): والمانع عمّا تقتضيه اليد الثانية من الملكيّة عبارة عن عدم رضا صاحب اليد الاُولى بتملّك صاحب اليد الثانية. وأمـّا المانع عمّا تقتضيه من الضمان فهو أمران:


(1) قد يتّفق أنـّه بعد إيقاع المعاملة يندم عليها ويسلّم له المال بناءً على ما يرى نفسه ملزماً به من الوفاء بالمعاملة، بحيث لو كان يعلم بفسادها لما سلّمه له إلّا مجبوراً. وفي مثل هذا الفرض ليس هدره للزيادة إلّا هدراً مبنيّاً على المعاملة، وقد فرض فسادها.

34

(الأوّل) فرض اليد الثانية كأنـّها اليد الاُولى، كما في الوكالة والنيابة.

(والثاني) رضا صاحب اليد الاُولى بحيازة اليد الثانية.

على فرق بين المانعين، وهو أنّ المانع الأوّل مانع بذاته، والمانع الثاني وهو الرضا ليس مانعاً بذاته، بل هو مانع بإطلاقه، أي أنّه ليس مطلق الرضا مانعاً، بل المانع هو الرضا المطلق، فلو كان ذلك رضاً مقيّداً بفرض الضمان لم يمنع عن الضمان.

وأمر اليد الثانية في تأثيرها في التمليك أو الضمان أو عدم تأثيرها موكول إلى صاحب اليد الاُولى. ويختلف حالها باختلاف ما يشاؤه صاحب اليد الاُولى.

قال (رحمه الله): فتكون ـ بحسب ذلك ـ لليد الثانية حالات أربع:

الحالة الاُولى ـ حالة عدم التأثير في التمليك ولا في الضمان، كما في حالة الاستيمان والوديعة، فاليد هنا لا تؤثّر أثر الملكيّة لعدم رضا صاحب اليد الاُوّلى بالتملّك. وقد مضى أنّ ذلك مانع عن التأثير في التمليك، ولا تؤثّر أثر الضمان أيضاً لكون اليد الثانية بمنزلة اليد الاُولى، وكأنـّها وكيل عنها في الحفظ. وهذا هو المانع الأوّل عن الضمان، وأيضاً لا ملكيّة ولا ضمان في مثل العارية والعين المستأجرة التي بيد المستأجر ونحو ذلك. أمـّا عدم الملكيّة فلعدم رضا صاحب اليد الاُولى بذلك. وأما عدم الضمان فلوجود المانع الثاني عن الضمان، وهو رضا صاحب اليد الاُولى بحيازة اليد الثانية.

وقد وقع فرق في كلمات الأصحاب بين العارية وشبهها من ناحية والوديعة من ناحية اُخرى، فاتّفقوا في الوديعة على أنّه لا يتحقّق الضمان ولو بالشرط، وفي العارية وشبهها اختلفوا في أنّه هل يتحقّق الضمان بالشرط أوْ لا(1)؟ وكان هذا من


(1) الظاهر أنّ الضمان في العارية مع الشرط إجماعيّ. راجع الجواهر 27: 183، وعليه

35


النصوص، راجع الوسائل 13 الباب 1 و 2 و 3 من أبواب العارية. نعم وقع خلاف في الضمان بلا شرط في عارية الذهب والفضّة غير الدينار والدرهم بعد الاتّفاق على الضمان بلا شرط في عارية الدينار والدرهم مع إمكان إسقاط الضمان في ذلك بالشرط. راجع الجواهر 27: 184، والوسائل 13 الباب 3 من أبواب العارية.

أقول: قد يدّعى ـ ولو بمعونة ارتكاز عدم كون عارية الدرهم والدينار ذات هدف عرفيّ غالباً، وارتكاز عدم الضمان في العارية غير المشروطة ـ أنّ المقصود من روايات الحكم في عارية الدرهم والدينار بالضمان إرجاع عاريتهما إلى القرض، ومن المعلوم أنّ المال المقترض مضمون في كلّ الحالات، ومنها التلف. وقد يدّعى ـ ولو بمعونة ارتكاز عدم الضمان في العارية غير المشروطة ـ حمل روايات الضمان في عارية الذهب والفضّة على كون المقصود بهما ما ورد في الروايات الاُخرى وهو الدينار والدرهم والتي حملناها على القرض.

ثمّ إنّ شرط الضمان في باب الوديعة أو العارية يتصوّر بعدّة أنحاء:

الأوّل ـ أن يفترض أنّ هذا الشرط ليس هو الشرط المصطلح الموجب لخلق الضمان من باب شرط النتيجة، وإنّما هو تقييد لإطلاق رضا المالك بالوديعة أو العارية بفرض الضمان. وهذا هو الذي يؤثّر في العارية ولا يؤثّر في الوديعة، لما ذكره اُستاذنا (رحمه الله) من أنّ المانع عن الضمان باليد في الوديعة مانع بذاته، والمانع عن الضمان باليد في العارية مانع بإطلاقه.

الثاني ـ أن يفترض أنّ هذا الشرط هو شرط للنتيجة لخلق الضمان، ولكنّه ليس شرطاً في مقابل التزام على الموجب لصالح القابل بنتيجة العقد؛ لأنّ الموجب في الوديعة لا يلتزم بشيء لصالح الودعيّ. وهذا يعني أنّ هذا الشرط ـ في الحقيقة ـ شرط ابتدائيّ، فإنّ مجرّد ذكره في ضمن العقد لا يخرجه عن كونه ابتدائيّاً ما دام لم يكن كمكافأة للمشروط له على التزامه بنتيجة العقد، وهذا الشرط لا قيمة له؛ لأنـّه شرط ابتدائيّ، والشرط الابتدائيّ ـ بناءً على نفوذه ـ إنّما ينفذ في شرط الفعل لا في شرط النتيجة.

36


الثالث ـ أن يفترض أنّ هذا الشرط هو شرط للنتيجة لخلق الضمان كمكافأة لما التزم به الموجب لصالح القابل. وهذا إنّما يتصوّر في العارية دون الوديعة؛ لأنـّه في العارية قد التزم الموجب بحل الانتفاع بالعين للقابل، فمن المعقول أن يشرط ذلك بالضمان. أمـّا في الوديعة فلم يلتزم الموجب بشيء لصالح القابل، وإنّما القابل فقط التزم بالحفظ لصالح الموجب، فلا معنى للشرط عليه بالضمان، وبهذا يكتمل تفسير الفرق في المقام بين الوديعة والعارية، فإنّ الظاهر أنّ العقلاء لا يفرّقون في رفض شرط الضمان في الوديعة بين ضمان الشرط وشرط الضمان بنحو شرط النتيجة. ولا أظنّ أنّ الفقهاء أيضاً يفصّلون بينهما.

وبهذا أيضاً يتّضح الفرق بين فرض الأمانة البحتة وبين فرض الأجير الذي يأخذ العين بالاُجرة للحفظ أو النقل من مكان إلى مكان، أو لإجراء عمل عليها كالخياطة، فإنّ شرط الضمان في ذلك عقلائيّ بخلاف باب الوديعة. وتفسيره أنّ المستأجر قد التزم للأجير بنتيجة المعاملة من التبادل بين العمل والمال، كما أنّ الأجير التزم للمستأجر بذلك، فكلّ منهما بإمكانه أن يشترط شرطاً على الآخر بأن لا يقبل ذاك الالتزام إلّا بهذا الشرط. وهذا بخلاف باب الأمانة الذي ليس الالتزام فيه الّا من طرف الأمين، فلا معنىً لشرط المستأمن عليه بشيء.

نعم، في باب الأمانة يتصوّر الشرط الابتدائيّ كما مضى، ولا أقصد بذلك مجرّد أخذ الوعد الابتدائي البحت غير المرتبط بأيّ شيء من الأشياء الذي لا ينبغي الإشكال في عدم صدق الشرط عليه، وإنّما أقصد بذلك شرطاً رتّب عليه الشارط عمله، وهو الاستيمان.

وتوضيح ذلك: أنـّنا نقسّم الشرط إلى الابتدائي، وما هو في ضمن العقد، لا بالمعنى الذي قد يتبادر إلى الذهن من مجرّد ذكره ضمن العقد وعدمه، فإنـّه إن قصد ذلك كان هذا مجرّد اصطلاح بحت من دون افتراض فرق جوهري يعقل تأثيره في النفوذ وعدم النفوذ حسب ما يستظهر من الأدلّة، وفرض صدق عنوان الشرط الوارد في الأدلّة على خصوص ما ذكر ضمن العقد دون غيره تحكّم بحت، فسواء كان هذا هو مقصود المشهور من تقسيمهم للشرط إلى

37


الابتدائي وما في ضمن العقد، أوْ لا، نحن نقسّم الشرط كالتالي:

إنّ الشرط تارةً يكون كمكافأة للمشروط له الذي التزم بشيء أراده المشروط عليه.

واُخرى لا يكون كذلك، ولكن الشارط ربط عملا من أعماله بهذا الشرط.

وثالثة لا يكون هذا ولا ذاك، وليس عدا الحصول على وعد ابتدائي بحت.

مثال الأوّل: البايع يشترط في قبوله بالبيع أمراً من الاُمور على المشتري، فهو لقاء التزامه بما يرغب فيه المشتري من البيع يفرض عليه شرطاً من الشروط. ولا ينبغي الإشكال في دخول ذلك تحت عنوان الشرط الوارد في أدلّة: (المؤمنون عند شروطهم)، ولا أثر لمجرّد كون هذا في ضمن العقد في صدق عنوان الشرط عليه وشمول النصوص له، بل حتى لو لم يكن ضمن العقد ولكنّه كان لقاء التزام الشارط بما يريده المشروط عليه صدق عنوان الشرط عليه عرفاً وشملته النصوص من قبيل ما لو التزم شخص بضيافة شخص آخر مثلا بشرط أن يصلّي الضيف صلاة الليل، فوفى ذلك الشخص بالضيافة فلا ينبغي الإشكال في وجوب وفاء الضيف بشرطه، ولا يصحّ له الاعتذار عن صلاة الليل بحجّة أنّ الشرط الابتدائي لا يجب الوفاء به. نعم، من حقّه أن يتراجع عن أصل الشرط قبل وفاء صاحبه بالضيافة إن لم يتعهّدا بالفعل بالضيافة وصلاة الليل، وإلّا لم يجز التراجع من طرف واحد لأنـّه خلاف الوفاء بالعقد والعهد.

ومثال الثالث: أن يحصل شخص من شخص آخر على وعد ابتدائيّ بحت بضيافته، ولا ينبغي الإشكال في عدم صدق عنوان الشرط هنا عرفاً، وعدم شمول نصوص الشرط إيّاه.

ومثال الثاني: المستأمن الذي اشترط على الأمين الضمان أو أيّ شرط آخر، فشرطه هذا لم يكن لقاء التزام للأمين، فإنّ المستأمن غير ملتزم بشيء تجاه الأمين ولم يكن مجرّد استحصال وعد بحت من الأمين بلا أيّ علاقة لذلك بعمل المستأمن، بل هو شرط رتّب المستأمن عمله عليه، فلولا قبول الأمين لشرطه كان من المحتمل أن لا يستأمن المال عنده، ويحفظه بنفسه أو يستأمنه عند شخص آخر.

38


وهل يجب الوفاء بمثل هذا الشرط أوْ لا؟

نستبعد ابتداءً التفصيل في وجوب الوفاء به وعدمه بين مجرّد عنوان ذكره ضمن العقد، كما في عقد الأمانة وعدم ذكره ضمنه، كما لو أراد شخص السفر فرتّب سفره على أن يلتزم فلان برعاية أطفاله وأهله في غيابه، وقد قبل فلان بذلك، فسافر ذاك الشخص، فهل يجوز لمن قبل هذا الشرط أن يتخلّف ولا يفي بالرعاية التي التزم بها؟ فإن وجب الوفاء وجب في المثالين، وإن لم يجب لم يجب فيهما.

ولا يبعد القول بوجوب الوفاء وصدق عنوان الشرط على ذلك، وشمول النصوص له، إلّا أنّ هذا إنّما يكون في شرط الفعل من قبيل ما ذكرناه من مثال شرط رعاية الأطفال، أو من قبيل أن يشترط المستأمن على الأمين تعويضه على تقدير التلف بما يساويه بنحو شرط الفعل. أمـّا شرط النتيجة من قبيل شرط الضمان فلا دليل على نفوذه، لأنّ نصوص: «المؤمنون عند شروطهم» إنّما تدلّ على وجوب احترام الشرط بقدر ما هو مرتبط بالمشروط عليه وتعهد من قبله. أمـّا مشروعية المشروط في شرط الفعل ونفوذه في شرط النتيجة فهذا ليس داخلا في منظور النصوص، ولذا لو شككنا في حلّ شيء وحرمته لا يمكن إثبات حلّه باشتراطه ضمن عقد مثلا، فنفوذ شرط النتيجة يجب إمـّا أن يستفاد بارتكاز عقلائيّ ممضى بعدم الردع، ولا يوجد ارتكاز عقلائي كذلك في ما نحن فيه في شرط النتيجة الابتدائيّ ـ بالمعنى الذي قصدنا من الابتدائيّ، وهو غير المرتبط بالتزام الشارط بما في صالح المشروط عليه ـ ، أو يستفاد من نصّ طبّق قاعدة وجوب الوفاء بالشرط على شرط النتيجة، فنفهم بالالتزام نفوذ شرط النتيجة. وذاك النصّ هو ما عن عليّ بن رئاب بسند تامّ عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: «سُئل وأنا حاضر عن رجل تزوّج امرأة على مائة دينار على أن تخرج معه إلى بلاده، فإن لم تخرج معه فإنّ مهرها خمسون ديناراً إن أبت أن تخرج معه إلى بلاده. قال: فقال: إن أراد أن يخرج بها إلى بلاد الشرك فلا شرط له عليها في ذلك ولها مائة دينار التي

39

الألغاز في كلماتهم، حيث يقال: إنّه هل يمكن إثبات إمضاء مثل هذا الشرطبدليل: (المؤمنون عند شروطهم) أوْ لا؟ فإن أمكن ذلك ثبت الضمان بذلك مطلقاً، وإلّا لم يثبت الضمان به مطلقاً، فما وجه التفكيك بين الوديعة ومثل العارية، والاتّفاق في الأوّل على عدم الضمان والاختلاف في الثاني؟ !

والتحقيق: أنّ نكتة الفرق هي أنّ المانع عن الضمان في الوديعة هو المانع الأوّل، وهو مانع بذاته، فلا يمكن أن يثبت ضمان اليد ولو بالشرط. وأمـّا المانع عنه في مثل العارية فهو المانع الثاني، وهو مانع بإطلاقه، فيقبل التقييد، فيثبت ضمان اليد بالشرط، وكلامنا إنّما هو في ضمان اليد لا في فرض الضمان بذات الشرط بنحو شرط النتيجة.

الحالة الثانية ـ حالة التأثير في الضمان دون التمليك، وذلك كما في حالة كون اليد الثانية عادية، فهنا تؤثّر اليد في الضمان لعدم وجود شيء من المانِعَين عنه، ولا تؤثّر في الملكيّة لوجود المانع عن ذلك، وهو عدم رضا صاحب اليد الاُولى بذلك.

الحالة الثالثة ـ حالة التأثير في التمليك دون الضمان كما هو الحال في الهبة، ففي الهبة لا يثبت الضمان لرضا صاحب اليد الاُولى بحيازة اليد الثانية، وهذا هو


أصدقها إيّاها، وإن أراد أن يخرج بها إلى بلاد المسلمين ودار الإسلام فله ما اشترط عليها، والمسلمون عند شروطهم... إلخ»(*).

إلّا انّ هذا التطبيق إنّما ورد في شرط النتيجة غير الابتدائيّ ـ أعني الشرط المرتبط بالتزام المشروط له بمفاد العقد للمشروط عليه ـ ، واحتمال الفرق وارد، فلا يمكن التعدّي إلى مثل المقام.

(*) الوسائل 15: 49، الباب 40 من أبواب المهور، الحديث 2.

40

المانع الثاني عن الضمان، وتثبت الملكيّة لتحقّق المقتضي لها، وهو اليد وعدم المانع عنها؛ لأنّ المانع هو عدم رضا صاحب اليد الاُولى بذلك، والمفروض في باب الهبة أنّه راض بذلك. هذا بناءً على أنّ حقيقة الهبة عقلائيّاً هي إجازة صاحب اليد الاُولى لليد الثانية بتملّك المال بالحيازة والموهوب له يتملّك المال بسبب اليد والحيازة، وليست حقيقة الهبة التمليك من قبل الواهب للمتّهب مجّاناً، ولعلّه لذا يكون قوام الهبة عقلائيّاً وشرعاً بالقبض.

أمـّا لو كانت الهبة تمليكاً من قبل الواهب لزم أن يكون شرط القبض شرطاً تعبّديّاً بحتاً. فيشهد لكون حقيقة الهبة إجازة التمليك اشتراط القبض عقلائيّاً وعدم تعقّل الهبة عند العقلاء فيما لا يقبل الحيازة، فلا تصحّ هبة العمل ولا هبة شيء في الذمّة مع أنّه يصحّ إيقاع المعاملة عليها بمثل البيع والإجارة؟ فلو كانت الهبة تمليكاً كسائر المعاملات لكانت من المناسب صحّة ذلك عند العقلاء كصحّة سائر المعاملات.

الحالة الرابعة ـ حالة التأثير في الملكيّة والضمان معاً، وذلك يكون في فرضين:

الفرض الأوّل: أن يرضى صاحب اليد الاُولى بتملّك صاحب اليد الثانية رضاً مقيّداً ببقاء اليد الثانية على ما تقتضيه من الضمان، وذلك كما في القرض بناءً على أنّ حقيقته عبارة عن إجازة التملّك بقيد الضمان، وليس تمليكاً بضمان، ولذا يكون قوامه عقلائيّاً وشرعاً بالقبض، ولا يصحّ القرض عقلائيّاً وشرعاً في ما لا يقبل الحيازة كالعمل وكشيء في الذمّة.

وذكر بعض: أنّ القرض تمليك للخصوصيّة مع الاستيمان على أصل الماليّة.

ويرد عليه: أنّه هل المقصود الاستيمان على الماليّة الموجودة في ضمن

41

هذا المال، أو على ماليّة مضافة إلى ذمّة المقترض، أو على مطلق الماليّة من دون إضافتها إلى ذمّة أو عين؟ أمـّا الثالث فلا معنى له، فإنّ الماليّة من دون إضافة ليست أمراً معتبراً لدى العقلاء يعقل الاستيمان عليه. وأمـّا الأوّل فيرد عليه: أنّه لو كانت الماليّة الموجودة في ضمن هذا المال أمانة عنده فكيف جاز له إتلافها؟! وأمـّا الثاني، وهو دعوى كون الماليّة الثابتة في ذمّته أمانة عنده، فنقول: هذا معناه الاعتراف في الرتبة السابقة على هذا الاستيمان بتحقّق ماليّة في ذمّته، وهذا هو الذي يكون بحاجة إلى التحليل في مقام فهم حقيقة القرض، ولا يمكن تحليله بما يفترض في مرتبة متأخّرة عنه، وهو الاستيمان على هذه الماليّة وتحليله ما ذكرناه.

الفرض الثاني: أن يرضى صاحب اليد الاُولى بتملّك صاحب اليد الثانية رضاً مقيّداً بالضمان أيضاً كما في الفرض الأوّل، إلّا أنّه يفرض الضمان هنا ضماناً بالمسمّى، وذلك كما في المعاطاة عندما لا تكون بداعي الإنشاء الفعليّ، فلا ترجع إلى البيع، فعندئذ يكون أحدهما مبرزاً لرضاه بتملّك الآخر ماله بالحيازة مضموناً عليه ذلك بثمن معيّن، ويدخل في هذا مثل وضع السقّاء قربة الماء في موضع مّا ليأخذوا منه ويضعوا ثمنه في كوزه، ونحو ذلك ممّا يشبه المعاطاة ولا معاطاة خارجاً، فليس هذا بيعاً حتماً لعدم معاملة عقديّة ولا معاطاتيّة. ومن هنا التجأ السيّد الاُستاذ ـ يعني به السيّد الخوئي (رحمه الله) ـ إلى القول بكون ذلك تمليكاً مع الضمان لا بيعاً.

والصحيح: أنّ ما ذكره غير تام، إذ كيف يفترض أنّ السقّاء يملّك الماء من الشارب بينما قد يكون السقّاء حين مجيء الشارب إلى القربة غافلا محضاً أو نائماً؟ أمـّا افتراض أنّه أبدى رضاه بإيجاد الشارب هذا التمليك بالنيابة عنه فهو الذي يقوم بالإيجاب والقبول الفعليّين معاً فهو خلاف المرتكز العقلائي، إذ ليس

42

من المرتكز عندهم مثل هذه التكلّفات، ولو صار القرار على الالتزام بهذه التكلّفات فلم لا نقول: إنّ هذا بيع، وإنّ المعاطاة والتمليك والتملّك تحصل بفعل الشارب بالنيابة عن السقّاء(1)؟ والصحيح ما ذكرناه من أنّ السقّاء أبدى رضاه بتملّك الشارب للماء بالحيازة مضموناً عليه بمبلغ من المال فيضعه في كوزه.

هذا، وممّا يشبه مثال وضع المال في كوز السقّاء مسألة الذهاب إلى الحمّام ووضع الثمن في كوز الحمّامي. وذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) لذلك تفاسير ثلاثة:

الأوّل ـ كون الحمّاميّ مبيحاً للاستفادة الخاصّة من الحمّام والماء إباحة مشروطة بإعطاء ثمن معيّن، فالمستفيد لا تشتغل ذمّته بمال لصاحب الحمّام، إلّا


(1) لا يخفى أنّ مختار السيّد الخوئي (رحمه الله) ـ على ما جاء في مصباح الفقاهة 2: 169، وفي المحاضرات 2: 82 ـ في مثال أخذ المحقّرات كالخضريات والبقولات، ووضع الثمن في المكان المعدّ له، إنّما هو هذا، أعني حصول البيع من قبل الآخذ بالنيابة عن صاحب المال. نعم، اختار في فرض شرب الشارب من فم قربة السقّاء ووضع الثمن في الموضع المعدّ له أنـّه ليس بيعاً، وعلّل ذلك بأنّ المقدار الذي سوف يشربه الشارب لكي يرتوي غير معلوم، فلو حملناه على البيع لزم الغرر، ولذا حمله في المحاضرات على إباحة التصرّف بضمان، وفي مصباح الفقاهة على إباحة التصرّف أو التمليك بضمان.

أقول: إنّ هذا الكلام غريب، فإنّ عدم الغرر ليس من مقوّمات البيع العقلائي، وإنّما هو شرط تعبّدي، فجعله شاهداً على عدم إرادة الناس من مثال الشرب من قربة السقّاء لا معنى له.

والصحيح: أنّ المفهوم عرفاً في الأمثلة الاستهلاكيّة من قبيل الشرب من القربة هو الإباحة بضمان، وفي أمثلة الحيازة ونقل الأموال من قبيل أخذ الخضروات والبقولات هو ما اختاره السيّد الشهيد (رحمه الله) من الإذن في التمليك بضمان.

43

أنّه لو لم يعطه المال كشف عن عدم إباحة تصرّفه في الحمّام. قال اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): لعلّ هذا أبعد الوجوه بحسب الفهم العقلائيّ.

الثاني ـ أنّ الحمّاميّ يؤجّر حمّامه للمنفعة الخاصّة بثمن معيّن وبشرط أن يكون للمنتفع حقّ استهلاك الماء وإتلافه بالنحو المخصوص.

والثالث ـ كون الحمّاميّ مبيحاً للاستفادة الخاصّة مضموناً عليه بالثمن المعيّن. قال اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): لعلّ هذا هو أقرب الوجوه.

وقال الاُستاذ الشهيد (قدس سره): إنـّه توجد في البيع ـ وما أشبهه من المعاملات ـ الملكيّة مع العوض، ويمكن تفسير ذلك بأحد وجوه:

الأوّل: أن يُفترض أنّ كلّ واحد من المتبايعين يعرض ماله للآخر كي يتملّكه الآخر بالحيازة في مقابل أن يعرض الآخر أيضاً ماله ليتملّكه الأوّل بالحيازة.

والصحيح أنّ هذا خلاف المرتكز العقلائي، وإلّا لكان قوام البيع عند العقلاء بالقبض، ولما صحّ عندهم بيع العمل أو بيع شيء في الذمّة.

الثاني: أن يُفرض أنّ كلّ واحد منهما يحوز ما في يده بقاءً من قِبَل الآخر ليصبح ملكاً للآخر في قبال أن يصنع الآخر أيضاً كذلك. وهذا يعالج نقطة الضعف التي كانت في الوجه الأوّل من عدم كون القبض مقوّماً للبيع عند العقلاء، إذ يكفي الوجود البقائي لكلّ من المالين في يد المالك الأوّل لتملّك الآخر بحيازة الأوّل بالنيابة عنه.

قال (رحمه الله): والصحيح أنّ هذا أيضاً خلاف المرتكز العقلائي، وإلّا لما صحّت عندهم المعاملة على العمل أو على شيء في الذمّة كما ذكرنا في الفرض الأوّل.

الثالث: أن يُرى عقلائيّاً أنّ من تبعات مالكيّة الإنسان لماله أنّ له أن يملّكه من غيره بعوض، والبيع من هذا القبيل.

44

قال (رحمه الله): وهذا هو الصحيح.

وقال (قدس سره): هل المرتكز عقلائيّاً تمليك كلّ منهما ماله للآخر بملكيّة اُخرى غير الملكيّة التي كانت له، أو إعطاء ما كانت له من الملكيّة إيّاه؟ الصحيح هو الأوّل، ولذا قد تختلف طبيعة الملكيّتين كما في تمليك العمل، فإنّه كان ملكاً للعامل بالملكيّة الحقيقيّة وصار ملكاً للآخر بالملكيّة الاعتباريّة.

وقال الاُستاذ الشهيد (رحمه الله) أيضاً: كما أنّ لصاحب المال حقّ أن يملّكه بعوض كذلك له حقّ أن يملّكه مجّاناً، وذلك كما في الهبة بناءً على التفسير غير المرضي لها من التفسيرين اللذين مضى ذكرهما، وكما في شرط ملكيّة شيء بنحو شرط النتيجة، وكما في مهر الزواج(1). انتهى ما أردنا نقله عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)هنا.

 

مصاديق غامضة من الملكيّة

وعدنا منذ البدء أن ندرج في بحثنا عن الملكيّة البحث عن مصاديق من الملكيّة قد يكتنفها شيء من الغموض كملكيّة الأعمال وملكيّة الذِمم وملكيّة المنافع.

 

ملكيّة الأعمال:

أمـّا الأعمال: فقد أفاد اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): أنّ مالكيّة الإنسان لعمله ليست بمعنى الملكيّة الاعتباريّة التي جعلت بلحاظ الأموال المنفصلة عنه. نعم، الإنسان مالك لأعماله بملكيّة حقيقيّة بمعنى قدرته وسلطنته التكوينيّة عليها بحيث إن شاء


(1) من تقرير غير مطبوع لنا لبعض أبحاثه (رحمه الله).

45

فعل وإن شاء ترك. وترتّبت على هذه الملكيّة التكوينيّة ملكيّة اُخرى بمنطق العقل العملي، وهي أيضاً حقيقيّة وليست جعليّة واعتباريّة، وهي كون الإنسان أولى بأعماله من غيره، فالملكيّة بهذا المعنى لا هي أمر اعتباريّ وجعليّ كما في ملكيّة الأموال المنفصلة عن الإنسان، ولا هي أمر تكوينيّ خارجيّ كما في المعنى الأوّل لملكيّة الأعمال، وإنّما هي أمر خلقيّ وراجع إلى حكم العقل العمليّ.

وأولويّة الإنسان بعمله تارةً تكون بلحاظ الفعل والترك، واُخرى بلحاظ التصرّف الوضعي في أعماله كما في الإيجار. والأوّل يكفيه حكم العقل العمليّ بلا حاجة إلى أيّ جعل، والثاني بحاجة إلى صغرى مجعولة، وهي جعل أصل ذاك التصرّف الوضعيّ كجعل قانون الإيجار، فإذا تمّ الجعل صغرويّاً طبّقت عليها الكبرى المعلومة بالعقل العمليّ، وهي أولويّة الإنسان بعمله. فكان له هذا التصرّف لا لغيره.

وأولويّة الإنسان بأعماله إنّما هي أولويّة في مقابل سائر الناس، وليست أولويّة في مقابل الله تعالى، ولا هي مقابل منع العقل العمليّ عن بعض الأعمال، فكذب الإنسان مثلا مملوك للإنسان، بمعنى أنّه أولى بالاستفادة منه من غيره لكنّه ممنوع عليه بحكم العقل العمليّ، كما أنّ الله تبارك وتعالى له أن يمنعه من عمل مّا والله تعالى مالك لمخلوقاته بمعنى أنّه هو الذي خلقهم وكوّنهم بقدرته، وهذا يقابل القدرة والسلطنة الثابتة للإنسان على عمله، ويترتّب على هذا حقّ المولويّة، وهذا الحقّ له مظاهر أربعة:

1 ـ حقّ الطاعة، فلو نهاه عن عمل مّا لم يكن للعبد حقّ المخالفة.

2 ـ حقّ أخذ أعمال الشخص منه قهراً، كأن يجوّز لأحد أن يستوفي منه عمله جبراً، وهذا ما يقابل مالكيّة الشخص لأعماله.

46

3 ـ حقّ التصرّف الوضعيّ في أعمال الشخص، كأن يجعل عمل زيد مملوكاًلعمرو، وهذا ما يقابل مالكيّة الشخص للتصرّف الوضعيّ في عمله.

وهنا تكون الكبرى مندمجة في الصغرى وثابتة بنفس حقّ المولويّة بلا حاجة إلى جعل من قبل جاعل.

4 ـ حقّ القيمومة على شخص، بأن يتصرّف تصرّفاً وضعيّاً في عمله كما في السابق، لكن لنفس العامل بأن يعطي عمله لشخص آخر بعوض لنفس العامل، وبكلمة اُخرى أن يقف تجاه العبد موقف الوليّ تجاه الصبيّ.

أمـّا إذا تجاوزنا حقّ الله تبارك وتعالى وحكم العقل العمليّ وقسنا الإنسان إلى سائر أفراد البشر كان كلّ إنسان أولى بعمله من غيره، وهذه الملكيّة الحقيقيّة للناس لأعمالهم كأنـّها هي التي أوحت إليهم بفكرة جعل الملكيّات.

والملكيّة الاعتباريّة للأعيان المنفصلة عن الإنسان تترتّب على ملكيّته لعمله بحسب الارتكازات العقلائيّة بهمزة وصل وهي الحيازة أو العلاج(1). انتهى ما أردنا نقله عن اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

الأحكام المترتّبة على ملكيّة الأعمال:

وملكيّة الإنسان لأعماله بمعنى كونه أولى بها من غيره، لا يترتّب عليها جميع أحكام الملكيّة الاعتباريّة، وإنّما هذا يتبع سعة دائرة جعل تلك الأحكام وضيقها، فما جعل منها على الأعمّ من الملكيّة الاعتباريّة وهذه الملكيّة يثبت، وما لم يكن كذلك لا يثبت، والأحكام الشرعيّة التعبّديّة وردت عادة على موضوع الملكيّة الاعتباريّة، ولا تثبت في مالكيّة الإنسان لعمل نفسه، وذلك من قبيل وجوب الخمس أو ثبوت الاستطاعة الموجبة لوجوب الحجّ.


(1) من تقرير غير مطبوع لنا لبعض أبحاثه (رحمه الله).

47

وأمـّا الأحكام العقلائيّة فهي مختلفة فيما بينها، فجواز التصرّف الوضعيّيشمل عقلائيّاً ملكيّة الأعمال، ولذا يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه على عمل، وإذا آجر نفسه على عمل أصبح عمله مملوكاً للمستأجر بالملكيّة الاعتباريّة. وضمان الإتلاف لا يشمل الأعمال، فلو أنّ الظالم سجن أحداً لم يضمن عمله بضمان الإتلاف. نعم، لو استوفى عمله ضمنه بضمان الحيازة واليد، فضمان اليد عقلائيّاً يشمل العمل بخلاف ضمان الإتلاف، وحبس الشخص لا يعتبر عرفاً حيازة لعمله، وإنّما يعتبر حيازة لشخصه، أمـّا حيازة عمله فهي بالاستيفاء.

نعم، لو كان الإنسان كسوباً فحبس فقد يقال بضمان الحابس لعمله، إلّا أنّ هذا ليس ضمان اليد أو الإتلاف، بل هذا ضمان بنكتة دفع الضرر، ولذا لا يحسّ بمثل هذا الضمان في غير الكسوب، ولو ثبت هذا الضمان في الكسوب عقلائيّاً ثبت شرعاً بقاعدة نفي الضرر وبعدم الردع. أمـّا لو لم يثبت عقلائيّاً فلا يثبت شرعاً لا بعدم الردع كما هو واضح، ولا بقاعدة نفي الضرر، لما حقّق في محلّه من أنّ مفادها نفي الضرر الناشيء من الإسلام، فلو كان الضمان ثابتاً عرفاً ونفاه الإسلام عدّ هذا النفي ضرراً ناشئاً من الإسلام، فهو منفيّ، وإلّا فلا، و مجرّد نشوء ضرر من قِبل هذا الظالم لا يعني وجوب حكم الإسلام بالضمان عليه.

وبما ذكرناه ظهر الفرق بين منافع الحرّ ومنافع العبد، حيث إنّ منافع الحرّ غير المستوفاة لا تضمن، ومنافع العبد غير المستوفاة قد يقال: إنـّها تضمن. والفرق بينهما: أنّ منافع الحرّ ليست مملوكة له ملكيّة اعتباريّة، فلا تضمن بالإتلاف كما قدّمناه، ولكن منافع العبد مملوكة للمولى ملكيّة اعتباريّة ولو بملكيّة مندكّة في ملكيّة العين، فقد يقال: إنّ مثل هذه الملكيّة المندكّة كافية في ضمان الإتلاف.

48

وبما ذكرناه ظهر الفرق أيضاً بين منفعة الحرّ غير الأجير ومنفعة الأجير، فغير الأجير لا تضمن منفعته في غير الكسوب أو مطلقاً، لأنّها لم تكن مملوكة بالملك الاعتباريّ، أمـّا الأجير فمنفعته كانت مملوكة بالملك الاعتباريّ للمستأجر، فإن فرضنا أنّ هذا الحبس لا يوجب انفساخ الإيجار فالحابس ضامن للمستأجر، لأنّ عمل الأجير كان ملكاً له ملكيّة اعتباريّة، فقد ضمنه بالإتلاف، فإذا فسخ المستأجر العقد لعدم القبض رجع البدل الذي ضمنه الحابس إلى الأجير، ورجعت الاُجرة إلى المستأجر. وإن فرضنا أنّ هذا الحبس يوجب انفساخ الإيجار ضمن الحابس الاُجرة المسمّـاة للأجير بنكتة دفع الضرر، وعقلائيّة الضمان هنا أوضح من الضمان في الكسوب الذي لم يؤجر نفسه.

وهناك تفسير آخر لما يفهم عقلائيّاً من الفرق بين منفعة الأجير أو الكسوب وغيرهما بالضمان في الأوّل أو في الأوّلين دون غيرهما، وهو أن يقال: إنّ ضمان الإتلاف ثابت عقلائيّاً في باب الأعمال كما هو ثابت في الأعيان، إلّا أنّ إتلاف الأعمال ليس كإتلاف الأعيان بمعنى هدم ما هو موجود وكسره مثلا، وإنّما هو بمعنى الحيلولة بين الشخص وعمله، وهذه إنّما تكون في الأجير والكسوب. أمـّا الذي لا يوجد فيه دافع نفسيّ للعمل فعدم صدور العمل منه لا ينسب عرفاً إلى منع الحابس، بل ينسب إلى عدم المقتضي، فلا إتلاف في المقام.

إلّا أنّ هذا التفسير ـ لو تمّ ـ لا يفسّر لنا الفرق بين عمل الحرّ وعمل العبد، فلا بدّ من التفصيل في عمل العبد أيضاً، بينما لو كان المالك مقبلا على استثماره وما إذا كان المالك مُهمِلا له لا ينتفع به حتى لو لم يسجنه الساجن. وكذلك الحال في منفعة الدار غير المستوفاة من قبل الغاصب، فيجب أن يفصّل بين ما إذا كان صاحب الدار يستفيد منها لولا الغصب و ما إذا كان مُهملا لها.

49

ولعلّه من الواضح أنّ هذه التفاصيل ليست عقلائيّة، فالصحيح أنّ إتلاف الأعمال الذي يترقّب أن يكون موضوعاً للضمان هو بمعنى هدر القابليّة للعمل، وقد حصل ذلك بالسجن سواء كان العامل أجيراً أو كسوباً أوْ لا، فلعلّ الأولى هو التفسير الأوّل الذي ذكرناه بعد فرض تسليم الفرق عقلائيّاً بين الأجير وغيره، والكسوب وغيره، والحرّ والعبد.

ولو قتل شخص حرّاً فلا إشكال في أنّه لا يضمن عقلائيّاً عمله، وإنّما يصار إلى القصاص أو الدية، ولا يكفي في تفسير عدم الضمان هنا ما ذكرناه في حبس الحرّ، إذ لو كان هذا هو التفسير الوحيد لذلك لزم ضمان العمل في الأجير أو الكسوب لدى القتل بناءً على ثبوت الضمان فيهما في الحبس.

وبالإمكان تفسير ذلك بأنّ عدم ضمان عمل الحرّ لدى قتله يكون من قبيل عدم ثبوت ضمان لمنفعة العين في مقابل ضمان العين لدى إتلافها، فكما أنّ ضمان منفعة العين مندكّ في ضمان العين كذلك ضمان عمل الحرّ مندكّ في ضمان الحرّ المتمثّل في القصاص أو الدية، بفرق أنّ ضمان منفعة العين المندكّ في ضمان العين يؤثّر في مقدار الضمان قيميّاً، فالعين المضمونة بالقيمة تكثر وتقلّ قيمتها المضمونة على أثر عوامل أحدها كثرة وقلّة منافعها، لكنّ العقلاء حدّدوا الضمان في قتل الحرّ بمبلغ معيّن من الدية أو القصاص أيّاً كانت منفعته، أو لم تكن له منفعة أصلا، وذلك تغليباً لأصل حرمة الإنسان كإنسان على منافعه التي تعتبر لا شيء بالنسبة إليه.

وقد يقال: إنّ ضمان منافع الحرّ في الحبس أولى من ضمان منافع العين، لأنّ منفعة العين مندكّة قيمةً وملكيّة في العين، فلا يملك صاحب العين ـ إضافة إلى العين ـ شيئاً اسمه المنفعة، وليست للمنفعة قيمة إضافة إلى قيمة العين، وإنّما المنفعة

50

حيثيّة تعليليّة لتقييم العين، وهذا بخلاف عمل الحرّ، فإنّ الحرّ غير مملوكولا يقيّم، فيقيّم عمله مستقلاًّ عنه، ويملك مستقلاًّ عنه.

والجواب: أنّ اندكاك قيمة المنفعة وملكيّتها في العين صحيح، ولذا لا يضمن منفعتها إضافة إلى ضمان العين لدى إتلافها، ولكن هذا لا ينافي ضمانها مستقلاًّ حينما لا يوجد ضمان للعين كما لو حبس العين ولم يتلفها، وكما لو استوفى منفعتها ولم يتلفها. ولهذا أيضاً في باب الإيجار تتصوّر ملكيّة المنفعة رغم عدم ملكيّة العين. وفي الحرّ أيضاً يتبلور اندكاك ضمان المنفعة في العين لدى القتل كما مضى، فإنّ عين الحرّ وإن لم تكن مملوكة بالملكيّة الاعتباريّة لكنّ عمله أيضاً لم يكن مملوكاً بالملكيّة الاعتباريّة، وملكيّة عمله لنفسه من سنخ مالكيّة الإنسان لنفسه، أي أنّه هو أولى من غيره بنفسه وبعمله. وأمـّا في مورد الحبس فقد مضى بيان نكتة الفرق بين الحرّ وغيره.

 

ملكيّة الذمم:

وأمـّا الذمم: فالذمّة ـ في الحقيقة ـ وعاء اعتباريّ افترضه العقلاء للأموال الرمزيّة التي لا وجود لها في الخارج كي يكون موطناً لتلك الأموال التي تتّخذ كرمز للأموال الخارجيّة، وتطبّق حين التنفيذ والأداء على الخارج تطبيقاً للرمز على ذي الرمز.

وقد كان هذا الاعتبار من قبل العقلاء تسييراً للمعاملات وتكييفاً عقلائيّاً لها، وتسهيلا لتمشية الاُمور. فقد يحتاج الشخص إلى إيقاع المعاملة على شيء لا يمتلكه خارجاً، فيبيع عيناً غير مملوكة له، أو يشتري بثمن لا يمتلكه، فيكون طريق حلّ الإشكال في هذه المعاملة هو البيع في الذمّة أو الشراء بالذمّة. وقد يمتلك المال خارجاً لكنّه لا يريد أن يفقده، وفي نفس الوقت هو بحاجة إلى إيقاع

51

المعاملة على سنخ ما يمتلكه، فيوقع المعاملة على الذمّة. وقد يقتضي القانونتغريم شخص مّا من دون غرض في التحجير على ماله و تحجيم ممتلكاته، وذلك كمن أتلف مال غيره فيفترض تعلّق ملك المغرم له بما في ذمّة هذا الشخص جمعاً بين بقاء الأموال الخارجيّة للمتلف على حرّيّتها وقدرة التصرّف المعامليّ لمن تلف ماله في ما يكون له في ذمّة المتلف، وكذلك في القرض مثلا تصبح عين المال ملكاً للمقترض ولكن تستقرّ ماليّته أو مثليّته في ذمّته، ويمكن إيقاع بعض المعاملات عليها.

اختلاف الذمّة عن العهدة:

والذمّة تختلف عن العهدة، ويظهر من الكلمات المنقولة عن المحقّق النائيني (رحمه الله): أنّ الفرق الجوهري بينهما هو أنّ الأموال الخارجيّة أو أداءها تكون في العهدة لا في الذمّة، والذمّة وعاء للأموال الكلّية فحسب(1).

والواقع أنّ كون العهدة وعاءً لأداء الأموال الخارجيّة صحيح فإنـّها وعاءٌ للتكاليف وما يلزم على الإنسان من أعمال ومنها أداء الأموال الخارجيّة. وأمـّا كون الذمّة وعاءً للأموال الكلّية فايضاً صحيح على أن يكون المقصود به ما جاء في تعابير اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من كونها وعاءً للأموال الرمزية.

هذا وربّما يكون في العهدة أداء مال مّا من دون تعيّن خارجيّ لذاك المال، ولا يكون ذاك المال رغم كلّيّته شاغلا للذمّة كما في نفقة الأقارب الواجبة على الإنسان، فعهدة الإنسان مشغولة بنفقة الأقارب بينما ذمّته غير مشغولة بها، ولا


(1) راجع كتاب المكاسب والبيع للشيخ الآملي 1: 352، وكتاب منية الطالب للشيخ موسى النجفي 1: 141 السطر 7 و ص 145 س 12 و ص 147 س 15.

52

ضمان عليه لو ترك، فلو مات مثلا لم تؤخذ النفقة الماضية التي لم يؤدّها من التركة، وربّما يكون المال الكلّي مرتبطاً بالعهدة والذمّة معاً، كما في من أتلف مال غيره فقد انشغلت ذمّته بالمال وانشغلت عهدته بوجوب إفراغ الذمّة وأداء المال، بينما الطفل الصغير الذي أتلف مال غيره مثلا انشغلت ذمّته بالمال لكن ليس على عهدته شيء، ولو استدان مالا من كافر حربيّ انشغلت ذمّته ولكن ليس على عهدته الأداء، وبإمكانه أن يمتلك ما في ذمّته فيسقط عنه وتفرغ ذمّته، وطبيعيّ أنّ المال الخارجيّ لا يشغل الذمّة لأنّ الذمّة وعاء اعتباريّ فرض كمحلٍّ لاستيعاب الأموال التي لم يستوعبها الظرف الخارجيّ. أمـّا المال الموجود في ظرف الخارج فليس بحاجة إلى ظرف اعتباريّ من هذا القبيل.

هذا، والذي يبيع كلّيّاً في ذمّته وإن كان لا يوجد قبل البيع مال في ذمّته يمتلكه كي يبيعه لكن يكفي إشباعاً للقانون العقلائيّ الذي يقول: لا بيع إلّا في ملك، مالكيّة الإنسان لنفس الذمّة التي هي من سنخ مالكيّته لنفسه ولأعماله، فهو أولى بإشغال ذمّته من غيره أو إبقائها على الفراغ.

المفهوم الفقهي للدَين مقارناً للقانون الوضعي:

والدَين في مفهومه الفقهيّ لدينا هو المال الكلّي الاعتباريّ الرمزي الذي أشغل وعاء الذمّة الذي يفترض لصيقاً بالإنسان، ولكنّه في مفاهيم الفقه الغربيّ ليس عدا مجرّد التزام شخص لشخص، فهو أقرب شيء إلى مفهوم انشغال العهدة لدينا، ورابطة بين إنسان وإنسان، لا بين إنسان ومال، وكان هذا هو الفرق عندهم بين ما يسمّونه بالحقّ الشخصيّ وما يسمّونه بالحقّ العينيّ، فالحقّ العينيّ هو الذي يربط الإنسان بعين خارجيّة، والحقّ الشخصيّ هو الذي يربط الإنسان بإنسان آخر. وقال الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوريّ متحدّثاً عن الرابط بين الدائن والمدين:

53

ولم تثبت هذه الرابطة على حال واحدة، بل إنّها تطوّرت، فكانت في أوّل أمرها سلطة تعطى للدائن على جسم المدين لا على ماله، وكان هذا هو الذي يميّز بين الحقّ العينيّ والحقّ الشخصيّ، فالأوّل سلطة تعطى للشخص على شيء، والثاني سلطة تعطى للشخص على شخص آخر، وكانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها حقّ الإعدام وحقّ الاسترقاق وحقّ التصرّف، ثمّ تلطّفت هذه السلطة فصارت مقصورة على التنفيذ البدني بحبس المدين مثلا، ولم يصل الدائن إلى التنفيذ على مال المدين إلّا بعد تطوّر طويل، فأصبح للالتزام منذ عهد الرومان مظهران: مظهر باعتباره رابطة شخصيّة فيما بين الدائن والمدين، ومظهر باعتباره عنصراً ماليّاً يقوم حقّاً لذمّة الدائن ويترتّب دَيناً في ذمّة المدين. ولا يزال الالتزام محتفظاً بهذين المظهرين إلى الوقت الحاضر وإن اختلفت المذاهب فيه، فمذهب يغلّب الناحية الشخصيّة وهو المذهب الفرنسيّ التقليديّ الموروث عن القانون الرومانيّ، ومذهب يغلّب الناحية الماليّة وهو المذهب الألمانيّ الحديث....

وأشهر من قال بالمذهب الشخصيّ من فقهاء الألمان (سافيني) فقد كان يرى الالتزام رابطة شخصيّة تخضع المدين للدائن، وهي صورة مصغّرة من الرقّ، فالسلطة التي تمنح لشخص على شخص آخر قد تستغرق حرّيّة من يخضع لهذه السلطة، وهذا هو الرقّ الكامل والملكيّة التامّة، وقد لا تتناول السلطة إلّا بعض هذه الحرّيّة، ولا تمتدّ إلّا إلى جزء من نشاط المدين، فيترتّب من ذلك حقّ للدائن قريب من حقّ الملكيّة ولكنّه ليس إيّاها، فهو حقّ خاصّ بعمل معيّن من أعمال المدين....

هذه النظريّة قام في وجهها فقهاء الألمان وعلى رأسهم (چييريك) وأبوا أن

54

تستقرّ في الفقه الألمانيّ بعد أن عملوا على تحرير قانونهم من النظريّات الرومانيّة وغلّبوا النظريّات الجرمانيّة الأصل عليها، وقد بيّن چييريك أنّ الفكرة الجرمانيّة في الالتزام لا تقف عند الرابطة الشخصيّة كما كان الأمر في القانون الروماني، بل تنظر إلى محلّ الالتزام وهو العنصر الأساسيّ وتجرّده من الرابطة الشخصيّة حتّى يصبح الالتزام عنصراً ماليّاً أكثر منه علاقة شخصيّة، فينفصل الالتزام بذلك عن شخص الدائن وعن شخص المدين، ويختلط بمحلّه فيصبح شيئاً مادّيّاً العبرة فيه بقيمته الماليّة(1).

ومن هنا دخلت فكرة الذمّة في الفقه الغربي، إلّا أنّها اختلفت عن فكرة الذمّة عندنا، فبينما الذمّة عندنا وعاء اعتباريّ لصيق بالإنسان لا علاقة له بأمواله الخارجيّة كانت لديهم عبارة عمّا يسمّى بالثروة أو بالذمّة الماليّة، وهي وعاء تستوعب كلّ أموال الإنسان الخارجيّة وغيرها إيجابيّة وسلبيّة. ففي الذمّة الماليّة عندهم عنصران: عنصر إيجابيّ هو الحقوق، وعنصر سلبيّ هو التكليفات، والذمّة تتكوّن من العنصرين معاً. وحاصل الفرق بين العنصرين يسمّى الصافي، وقد تكون الذمّه خالية ليس فيها حقوق ولا تكليفات كذمّة الوليد الذي ليس له مال(2).

هذا، والتصوير القديم للفقه الغربي لمعنى الدَين وفهمهم لحقيقة الالتزام الشخصيّ أدّى إلى عدم تصويرهم لحوالة المدين إلى شخص آخر في دَينه، وهذه هي الحوالة في فقهنا وهي حوالة الدَين في فقههم، أو تغيير الدائن من شخص إلى


(1) الوسيط 1: 118 - 120 الفقرة 7 - 9 بحسب الطبعة الثانية.

(2) راجع الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للاُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء 3: 233 الفقرة 128 بحسب الطبعة الخامسة.

55

آخر، وهذا ما يتصوّر في فقهنا ضمن بيع الدَين أو هبته، ويسمّى في فقههم بحوالة الحقّ. قال الدكتور السنهوري:

قد كانت فكرة الرابطة الشخصيّة هي الفكرة السائدة في القانون الرومانيّ، ثمّ سادت بعد ذلك عصوراً طويلة في القوانين اللاتينيّة، فلم يكن يمكن معها تصوّر انتقال الالتزام لا من دائن إلى دائن آخر، ولا من مدين إلى مدين آخر، على أنّ استعصاء الالتزام على الانتقال لم يثبت في هذه القوانين القديمة إلّا في انتقاله فيما بين الأحياء. أمـّا انتقال الالتزام إلى الوارث بسبب الموت فإنّ هذه القوانين لم تلبث أن استساغته منذ عهد طويل... فينتقل الالتزام من الدائن عند موته إلى ورثته من بعده، ويصبح هؤلاء هم الدائنون مكانه، وكذلك ينتقل الالتزام من المدين عند موته إلى ورثته من بعده، ويصبح هؤلاء هم المدينون مكانه... وتعتبر شخصيّة الوارث إنّما هي استمرار لشخصيّة المورّث، فكأنّ الالتزام لم ينتقل إلى شخص جديد بموت صاحبه، بل بقي عند صاحبه ممثّلا في شخص الوارث...

وقد يبدو أنّ الالتزام يتحوّر في الشرائع الغربيّة إذا هو انتقل من المدين إلى وارثه وقَبِل الوارث الميراث محتفظاً بحقّ التجريد، فيفصل أموال التركة عن أمواله الشخصيّة ولا يكون مسؤولا عن ديون التركة إلّا في المال الذي ورثه، فيصبح الالتزام بعد أن انتقل إلى الوارث لا يمكن التنفيذ به إلّا على أموال التركة التي انتقلت إلى هذا الوارث، ولكن هذا التحوير ليس تحويراً حقيقيّاً، فالواقع من الأمر أنّ الالتزام بقي ـ من ناحية المال الذي يجوز التنفيذ عليه ـ كما كان في حياة المورّث، فقد كان عندئذ لا يمكن التنفيذ به إلّا على ماله فبقي كما كان....

وإذا كان قد أمكن في انتقال الالتزام بسبب الموت جعل الوارث خلفاً عامّاً

56

للمورّث، وتصوير هذه الخلافة العامّة كأنـّها استمرار لشخصيّة المورّث، ففي انتقال الالتزام ما بين الأحياء حيث الخلافة خاصّة لا يمكن تصوير هذه الخلافة الخاصّة حال الحياة كما أمكن تصوير الخلافة العامّة بعد الموت استمراراً لشخصيّة السلف، ذلك أنّه إذا أمكن القول بأنّ المورّث ـ وقد زالت شخصيّته بالموت ـ يتصوّر استمرارها في شخص الوارث فإنـّه يتعذّر القول بأنّ السلف وهو لا يزال حيّاً تستمرّ شخصيّته في شخصيّة خلفه الخاصّ.

من أجل ذلك لم يكن ممكناً أن ينتقل الالتزام حال الحياة في القانون الروماني من دائن إلى دائن آخر، أو من مدين إلى مدين آخر عن طريق حوالة الحقّ أو عن طريق حوالة الدَين، ولم يكن ممكناً إذا اُريد تغيير شخص الدائن إلّا تجديد الالتزام بتغيير الدائن، أو اُريد تغيير شخص المدين إلّا بتجديد الالتزام بتغيير المدين، وفي الحالتين لم يكن الالتزام ذاته بمقوّماته وخصائصه هو الذي ينتقل من شخص إلى شخص آخر، بل كان الالتزام الأصليّ ينقضي بالتجديد، وينشأ مكانه التزام جديد بمقوّمات وخصائص غير المقوّمات والخصائص التي كانت للالتزام الأصليّ، وفي هذا الالتزام الجديد كان يتغيّر شخص الدائن، أو يتغيّر شخص المدين.

على أنّ الرومان كانوا يلجأون إلى طريقة اُخرى لتحويل الالتزام من دائن إلى دائن آخر دون تدخّل من المدين، فكان الدائن الأصليّ يوكّل من يريد تحويل الالتزام إليه في قبض الدَين باسمه من المدين، وكان هذا التوكيل وسيلة يستطيع بها الوكيل أن يقبض الدَين من المدين دون حاجة إلى رضائه بتحويل الدَين، ولكن هذه الطريقة لم تكن مأمونة، فإنّ الدائن الأصليّ كان يستطيع أن يعزل الوكيل قبل أن يقبض الدَين.