18

الشرعيّة من بيع ونقل وتقليب ونحو ذلك، فمنشأ انتزاع الملكيّة ليس هو ذات جواز التصرّف كما في الفرض الأوّل، وإنّما هو القدرة الخارجيّة على التصرّف الجائز.

وأورد عليه بأنّ القدرة إنّما تتعلّق بالفعل بينما الملكيّة لها مساس بعين الرقبة ابتداءاً، فلا يعقل أن تكون القدرة على فعل التصرّف المشروع منشأً لانتزاع ملكيّة رقبة العين. ولعلّ هذا الكلام مرجعه إلى الإيراد الأوّل من الإيرادين اللذين أوردهما على فرض انتزاع الملكيّة من الحكم التكليفيّ، أي أنّ عنوان المملوك إنّما يصدق على رقبة العين ولا يصدق على القدرة على التصرّف المشروع، مضافاً إلى أنّ الإيراد الثاني من الإيرادين اللذين ذكرهما على فرض الانتزاع من الحكم التكليفيّ ـ لو تمّ ـ يرد هنا أيضاً، إذ قد تثبت الملكيّة مع عدم القدرة التكوينيّة على التصرّف، أو مع عدم مشروعيّة التصرّف المقدور.

 

بيان السيّد الخوئي (رحمه الله):

وذهب السيّد الخوئي (رحمه الله) أيضاً إلى أنّ الملكيّة عبارة عن سلطنة اعتباريّة ثبتت باعتبار المعتبر وجعله، وليست منتزعة من الأحكام التكليفيّة، ولا عرضاً قام حقيقة بالمالك أو المملوك. واستدلّ(1) على نفي الانتزاع من الحكم التكليفيّ بالوجه الثاني من وجهي المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) من أنّ الملكيّة قد تكون مع انتفاء الحكم التكليفيّ كما في موارد الحجر أو كون المالك كلّيّاً أو جهةً، كما أنّه قد ينعكس الأمر بأن يثبت جواز التصرّف من دون أن تثبت الملكيّة.

واستدل(2) على نفي العروض الحقيقيّ على المالك أو المملوك بالبرهان


(1) و (2) راجع محاضرات في الفقه الجعفريّ (قسم المعاملات) 2: 19 و 20.

19

الثالث من براهين المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) على ذلك من الانتقاض بفرض ما إذا كان المالك كلّيّاً أو المملوك ذمّيّاً، ولم يقبل البرهانين الأوّلين من براهينه.

أمـّا البرهان الأوّل: وهو شهادة الوجدان بعدم تغيّر عرض من أعراض المالك أو المملوك بعد البيع والشراء مثلا، فقد أجاب عليه بأنّ الذي حصل بالبيع والشراء هو الملكيّة. وعدم كونها عرضاً من أعراض المالك أو المملوك هو المبحوث عنه هنا، فلا يعدو هذا البرهان أن يكون مصادرة على المطلوب.

وأمـّا البرهان الثاني: وهو أنّ الملكيّة لو كانت من أعراض المالك أو المملوك لما اختلفت باختلاف الأنظار، فقد أورد عليه: بأنّ اختلاف الأنظار في الاُمور الحقيقيّة غير عزيز، فليس كلّ أمر واقعي من الجوهر أو العرض غير قابل للاختلاف فيه.

 

بيان السيّد الشهيد (رحمه الله):

وذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): أنّ هذا الإشكال غير وارد على المحقّق الإصفهاني (قدس سره)، ولا يظنّ بالمحقّق الإصفهانيّ أن يتخيّل أنّه لا يقع الخلاف في الاُمور الواقعيّة، وما أسعد ذاك العالَم الذي يفترض عدم وقوع الخلاف فيه بين تمام العقلاء في تمام الواقعيّات. وإنّما مقصود المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) هو الاستدلال بوقوع الاختلاف الإنشائيّ في الملكيّة لا الاختلاف الإخباريّ فيها، فكلّ مجتمع ينشئها بنحو خاص، وقد تنشأ ملكيّة في مجتمع ولا تنشأ في مجتمع آخر، ويعترف المجتمع الثاني بتحقّق الملكيّة بحسب قوانين المجتمع الأوّل، ويعترف المجتمع الأوّل بعدم تحقّق الملكيّة بحسب قوانين المجتمع الثاني، فلا تكاذب بينهما.

وقال (رحمه الله): الصحيح أنّه ـ رغم ما ذكرناه ـ لا يتمّ برهان المحقّق

20

الإصفهانيّ (قدس سره)، ولا ينبغي أن يذكر ما ذكره إلّا كمنبّه للوجدان الحاكم باعتباريّة الملكيّة لا كبرهان على المطلوب، فإنّ الاعتراف بالاختلاف الإنشائي فرع الاعتراف بإنشائيّة المطلب واعتباريّته، ومع الاعتراف بذلك قد ثبت المطلوب، ولا حاجة للاستدلال عليه بهذا الاختلاف.

ولم يرتضِ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) أيضاً البرهانين الآخرين من براهين المحقّق الإصفهاني (قدس سره) على نفي كون الملكيّة من عوارض المالك أو المملوك كإثبات لاعتباريّة الملكيّة.

وقد كان أحدهما عبارة عن أنّ الملكيّة لو كانت عرضاً حقيقيّاً لاحتاجت إلى محلّ موجود خارجاً. فإن فرض محلّه المملوك انتقض بتعلّق الملكيّة أحياناً بما في الذّمّة، وإن فرض محلّه المالك انتقض بتعلّق الملكيّة أحياناً بالجهة من دون وجود مالك خارجيّ، ككون الزكاة ملكاً للفقير بلا حاجة إلى فرض وجود فقير في الخارج بالفعل. وهذا البرهان هو الذي ارتضاه السيّد الخوئي (رحمه الله) أيضاً.

وأورد عليه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله):

أوّلا ـ بأنّ الصفات الحقيقيّة ليس من اللازم أن تطرأ حتماً على محلٍّ خارجي، فامتناع شريك الباري أمر حقيقي وليس ثابتاً في ما هو في الخارج، وإمكان الإنسان أمر حقيقي ولو فرض عدم إنسان في الخارج أصلا، فلئن لم تكن الملكيّة عرضاً مقوليّاً من مقولات أرسطو المفروض انصبابها على الخارج فلتكن صفة حقيقيّة من سنخ صفة الامتناع والإمكان. قال (رحمه الله): قد حققنا في علم الاُصول أنّ لوح الواقع أوسع من العالم الخارجي الذي انصبّت عليه مقولات أرسطو.

وثانياً ـ أنّه بإمكانهم ـ على مبانيهم ـ أن يفترضوا أنّ الملكيّة من الاُمور الحقيقيّة الخارجيّة ومن المقولات عندما تعرض على الأمر الخارجي وإن لم تكن

21

كذلك عندما لا تعرض على الأمر الخارجي. وهذا شيء يجوّزونه، فيقولون مثلا أنّ عنوان التقدّم ـ بالرغم من أنّه مفهوم واحد ـ قد يكون من المقولات ومن الاُمور الحقيقيّة الخارجيّة، وقد لا يكون كذلك، فتقدّم إمام الجماعة على المأموم مثلا يكون من الاُمور الحقيقيّة العارضة على ما في الخارج، وتقدّم الجنس على النوع المنحلّ عقلا إلى الجنس والفصل من باب تقدّم الجزء على الكلّ ليس تقدّماً عارضاً على الأمر الخارجي، وإنّما مصبّه عالم التحليل العقليّ، فليس مقولة، فلتكن الملكيّة من هذا القبيل.

وقد كان البرهان الآخر عبارة عمّا نحسّه بالوجدان من أنّه بعد تماميّة البيع والشراء مثلا لا يعرض أيّ شيء وجوديّ على المالك أو المملوك، والاُمور الخارجيّة كلّها ثابتة على حالها.

وأورد عليه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بأنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو فرض أنّ النافذة التي يطلّ منها الإنسان على العالم الخارجي يُرى بها كلّ ما في العالم الخارجي، بينما الواقع أنّ الذي يُرى بها من ذلك إنّما هو أقلّ القليل من العالم الخارجي، فلو قال قائل: لعلّه حصل تغيير في الخارج لا نراه من تلك النافذة لا يمكن دفع كلامه بهذا الوجه.

وبالإمكان أن يصاغ من جواب اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) على هذا البرهان وما مضى من جواب السيّد الخوئي عليه جواب واحد مؤتلف منهما بأن يقال: لو كان المقصود في مقام البرهنة على عدم كون الملك عرضاً مقوليّاً يعرض على المالك أو المملوك مجرّد دعوى عدم تحقّق حيثيّة وجوديّة جديدة للمالك أو المملوك بعد البيع والشراء ورد ما قاله السيّد الخوئي من أنّ هذه مصادرة على المطلوب، لأنّ الشيء الجديد الذي حصل هو الملكيّة، وعدم كونها تساوق حيثيّة وجوديّة

22

وعرضاً تعلّق بالمالك أو المملوك أوّل الكلام. ولو كان المقصود الاستدلال بأنـّه لو كانت الملكيّة تساوق حيثيّة وجوديّة للمالك أو المملوك لكنّا نحسّ بذلك ببعض حواسّنا، ولم نحسّ بشيء من هذا القبيل، ورد ما قاله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) من أنّ النافذة التي نطلّ بها على العالم الخارجي لا تُرينا إلّا أقلّ القليل من العالم الخارجي.

وأمـّا البرهانان اللذان ذكرهما المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) لإثبات عدم كون الملكيّة منتزعة من الحكم التكليفيّ فأيضاً لم يرتضهما اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

وقد كان أحد البرهانين عبارة عن أنّ الملكيّة لو كانت منتزعة من جواز التصرّف فكيف تنفكّ عنه وتثبت بدونه؟ كما في الصبيّ الذي يملك المال ولكنّه محجور عن التصرّف، وتكون تصرّفاته بيد الولي. وهذا الوجه هو الذي ذكره السيّد الخوئي أيضاً.

قال اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): إنّ هذا باطل من وجوه، نذكر منها: أنّه يمكن أن يفترض انتزاع الملكيّة من جواز التصرّف المشروط بالبلوغ، فإنّ هذا الحكم ثابت في حقّ الصغير في زمان صغره، حيث إنّ الجعل يثبت من أوّل الأمر، وإنّما الذي يتأخّر إلى زمان تحقّق الشرط هو المجعول، بل قد أنكرنا في علم الاُصول وجود مجعول مستقلّ وراء الجعل يتحقّق متأخّراً عن تحقّق الجعل، فيمكن أن يقال: إنّ الملكيّة تنتزع من هذا الجعل المشروط لكلّ من هو موضوع له، ولا شكّ أنّ هذا الصغير موضوع له، ويمكن أن يفرض: أنّ هذه الملكيّة منتزعة عن جواز تصرّف الوليّ، حيث إنـّه تصرّف من قبل الصبي، ولا يضرّ عدم قيام الحكم التكليفيّ بالصبيّ الذي انتزعت له الملكيّة، بل الحكم التكليفيّ ليس قائماً بالمالك في البالغ أيضاً، فإنّ الحكم قائم بالحاكم لا بالمحكوم عليه.

23

والمحقّق الإصفهاني (رحمه الله) كأنـّه تفطّن إلى هذين الجوابين اللذين نقلناهما عن اُستاذنا الشهيد أو إلى ما يقرب منهما، فأجاب عليهما بعد تمثيله لمورد الانفكاك بالمحجور لصغر أو جنون أو سفه أو فلس بما نصّه:

«وكونه في حدّ ذاته كذلك ـ وإن منع عنه مانع ـ معناه ثبوت الملكيّة بالاقتضاء لا بالفعل مع أنّ الملكيّة فعليّة وثبوت الأمر الانتزاعي بلا منشأ الانتزاع محال، وجواز التصرّف للوليّ لا يصحّح انتزاع الملكيّة للمولّى عليه؛ إذ لا يعقل قيام الحيثيّة المصحّحة للانتزاع بشيء والانتزاع من شيء آخر».

فكأنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) يريد أن يوضّح أنّ هذا الكلام غير صحيح. أمـّا صدره وهو (أنّ كونه في حدّ ذاته جائز التصرّف وإن منع عنه مانع معناه ثبوت الملكيّة بالاقتضاء لا بالفعل)، فجوابه: أنّ جواز التصرّف المشروط بما هو جواز مشروط فعليّ وإن كان نفس الجواز اقتضائيّاً، فقد يدّعى انتزاع الملكيّة من جواز التصرّف المشروط.

وأمـّا ذيله وهو (أنّ جواز تصرّف الوليّ لا يصحّح انتزاع الملكيّة للمولّى عليه؛ إذ لا يعقل قيام الحيثيّة المصحّحة للانتزاع بشيء والانتزاع من شيء آخر) فجوابه: أنّ جواز التصرّف للوليّ له علاقة بالصبيّ، وهو أنّ الجواز جواز للتصرّف الراجع إلى الصبيّ. أمـّا إذا لم يكفِ ذلك لصحّة الانتزاع، وتوقّف الانتزاع على قيام ذات الحكم وهو جواز التصرّف بالمالك، فحتى في البالغين ليس الحكم قائماً بالبالغ، بل قائم بالحاكم.

وقد كان البرهان الآخر عبارة عن أنّ الملكيّة لو كانت منتزعة من الحكم التكليفي، وكانت الحيثيّة المصحّحة للانتزاع ثابتة فيه؛ لصدق العنوان الاشتقاقي على الحكم التكليفيّ، كصدق (فوق) على (السقف)، و (الأب) على (من له الابن).

24

قال اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): يرد على هذا وجوه، نذكر منها:

أوّلا ـ أنّه يمكن أن يقال: إنّ الحيثيّة المصحّحة للانتزاع هي الاختصاص بجواز التصّرف، لا نفس جواز التصرّف، وهذه الحيثيّة موجودة في صاحب المال، ويصدق عليه العنوان الانتزاعيّ وهو المالك.

وثانياً ـ أنّ جواز التصرّف لعلّه سبب لانتزاع الملكيّة لا منشأ له، فالسقف مثلا منشأ لانتزاع الفوقيّة، ويصدق عليه عنوان (فوق)، ولكنّ الأرض التي تحته سبب لانتزاع الفوقيّة، ولا يصدق عليه عنوان (فوق).

أقول: كأنّ هذين الجوابين بمجموعهما مطلب واحد، حاصله افتراض أنّ جواز التصرّف سبب لانتزاع الملكيّة، ولا يشترط صدق العنوان الاشتقاقيّ عليه. أمـّا منشأ الانتزاع فهو الإنسان الذي يصدق عليه العنوان الاشتقاقيّ، وهو المالك، وهو إذا كان بحاجة إلى وجود حيثيّة فيه مصحّحة للانتزاع. قلنا: إنّ تلك الحيثيّة عبارة عن اختصاصه بجواز التصرّف.

والواقع أنّ هذا غير وارد على المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) لأنّ هذا مرجعه إلى افتراض وجود منشأ الانتزاع في المالك، والمحقّق الإصفهاني حينما أنكر سلفاً كون الملكيّة عرضاً مقولياً يعرض على المالك أو المملوك تمسّكاً ببراهين ثلاثة لم يقصد بذلك نفي كونه عرضاً متأصّلا فحسب ـ كما لعلّه الذي فهمه اُستاذنا منه ـ،بل قصد بذلك نفي كونه عرضاً مقوليّاً متأصّلا أو منتزعاً من المالك أو المملوك.

والنكتة الإضافيّة الآن عبارة عن افتراض أنّ الحكم التكليفيّ سبب لهذا الانتزاع، وهذا وإن كان يدفع البرهان الثاني من البراهين الثلاثة وهو اختلاف الملك باختلاف الأنظار ـ حيث يصحّ أن يقال: إنّ اختلاف الأنظار في الحكم التكليفيّ المجعول لهم أوجب اختلاف الأنظار في الملك ـ ، ولكنّه لا يدفع البرهان الأوّل والثالث.

25

وثالثاً ـ أنّ من يقول بكون الملكيّة منتزعة من جواز التصرّف لا يقصد بذلكالانتزاع الفلسفيّ، وهو انتزاع مفهوم كامن في شيء من ذلك الشيء، وإنّما المقصود به كونها مجعولة ومعتبرة في طول جعل الحكم التكليفي وبلحاظه.

أقول: إنّ هذا الإشكال الأخير لو قصد به تفسير انتزاعيّة الملك، بمعنى جعله بجعل مستقلّ ولكن في طول جعل آخر وهو جعل الحكم التكليفيّ وبلحاظه، فلو تمّ هذا الإشكال يرد على البرهان الأوّل أيضاً من برهانَي عدم انتزاع الملك من الحكم التكليفيّ، وهو الانفكاك أحياناً عن الحكم التكليفيّ، وذلك لأنّه لو فرض أنّ المقصود بالانتزاع عن الحكم التكليفيّ كونه مجعولا ومعتبراً في طوله وبلحاظه فليس من الضروريّ عدم الانفكاك المطلق؛ إذ قد يجعل عنوان اعتباريّ بلحاظ ما يغلب وجوده من الحكم التكليفيّ وإن لم يكن دائم الوجود. ولكن من المستبعد جدّاً أن يكون مقصود من يقول بانتزاعيّة الملك هذا المعنى. إذ لا يتحصّل معنىً فنّي للبحث والخلاف حول الملكيّة المجعولة بجعل مستقلّ في أنّها هل جعلت بلحاظ الحكم التكليفيّ أو جعلت بقطع النظر عنه؟

أمـّا لو كان المقصود بهذا الإشكال الأخير تفسير انتزاعيّة الملك بمعنى كونه مجعولا جعلا تبعيّاً ويكون الجعل الأصلي والمستقلّ عبارة عن جعل الحكم التكليفيّ، فهذا لا يخالف أصل الانتزاع الفلسفيّ، غاية ما هناك أن يقال: ليس بالضرورة كون الجعل الأصليّ هو منشأ الانتزاع، ويكفي في التبعيّة كونه سبباً للانتزاع، وكون منشأ الانتزاع هو المالك مثلا، وهذا رجوع إلى الوجهين السابقين.

وعلى أيّ حال فقد اختار اُستاذنا الشهيد (قدس سره) كون الملكيّة من الاُمور الاعتباريّة والمجعولة، لا لبرهان على ذلك، بل لوضوح ذلك بالوجدان. وقال (رحمه الله): إنّ البحث عن كون الملكيّة أمراً اعتباريّاً أو حقيقيّاً إنّما هو بحث على

26

مستوى تاريخ مضى؛ إذ من يلتفت إلى الملكيّات الخارجيّة والتطوّرات الطارئة عليها في الزمان الطويل ونفيها تارةً وإثباتها اُخرى يجد بوجدانه كونها اعتباريّة لا حقيقيّة، وهذا من الواضحات في زماننا، ومن لا ينبّه وجدانه الالتفات إلى ذلك لا تفيده البراهين الفلسفيّة غير التامّة التي أقامها المحقّق الإصفهاني (رحمه الله).

أقول: إنّ هذا الكلام ينفي كون الملكيّة من الأعراض المتأصّلة، وكذلك ينفي كونها منتزعة لا في طول الحكم التكليفيّ.

أمـّا احتمال كونها منتزعة من الحكم التكليفيّ بمعنى كون الحكم التكليفيّ منشأً لانتزاعه، أو سبباً لانتزاعه، فهذا البيان ـ كما ترى ـ لا يكفي لنفيه. وقد ورد في الحلقة الثالثة من (دروس في علم الاُصول)(1) لاُستاذنا الشهيد (رحمه الله) بيان لنفي ذلك، وهو أنّ الملكيّة تقع عقلائيّاً وشرعاً موضوعاً للحكم التكليفيّ، فلا يعقل انتزاعها منه وتأخّرها عنه.

 

ثلاثة تعابير عن الملك:

وفي نهاية بحثنا عن مفهوم الملك نقول: قد اتّضح أنّ الملك الذي هو نوع علاقة بين المالك والمملوك باستطاعتك أن تعبّر عنه بنوع إضافة اعتباريّة بين المالك والمملوك، أو بسلطنة اعتباريّة، أو جدة اعتباريّة.

وقد جاءت كلّ التعابير الثلاثة ـ أعني الإضافة والسلطنة والجدة ـ على لسان مقرّر بحث المرحوم المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في منية الطالب(2).


(1) 1: 18.

(2) 1: 25.

27

وقد تفترض هذه التعبيرات الثلاثة تعريفات ثلاثة للملكيّة(1)، ويكون التباين بين هذه التعريفات واضحاً بناءً على حملها على معانيها المقوليّة، مع تسليم ما يفترض فلسفيّاً من التباين بين معنى السلطنة، وهي القدرة على تقليب العين وتقلّبها، وأنّها من مقولة الكيف ومعنى الإضافة، وهي النسبة المتكرّرة ومعنى الجدة، وهي الهيئة الحاصلة للجسم بسبب إحاطة جسم بكلّه أو ببعضه ـ على ما يدّعون(2) ـ. فإن كان الملك عبارة عن واقع إحدى هذه المقولات فهذه


(1) راجع حاشية المحقّق الإصفهاني على المكاسب 1: 5، فائدة في تحقيق حقيقة الحقّ.

(2) ذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): أنـّنا لم ندرك لمقولة الجدة معنىً متحصّلا، وكأنّ الفلاسفة بأنفسهم أيضاً لم يدركوا لها معنىً متحصّلا بشهادة الشيخ الرئيس ابن سينا، حيث قال: إنـّه لم نعرف معنىً متحصّلا للجدة، وقد قالوا: إنّ الجدة عبارة عن هيئة حاصلة من إحاطة شيء بشيء آخر، وإنّما قالوا هكذا ولم يقولوا: إنـّها عبارة عن النسبة بين المحيط والمحاط لئلاّ يدخل ذلك في مقولة الإضافة، وذلك من قبيل ما قالوا في (متى) من أنـّه هيئة حاصلة من نسبة الشيء إلى الزمان، لا نفس النسبة بينهما، وفي (أين) من أنـّه هيئة حاصلة من نسبة الشي إلى المكان، لا نفس النسبة بينهما. والصحيح: أنـّه ليس هنا أيّ برهان عقليّ على كون هذه الهيئة شيئاً حقيقيّاً خارجيّاً، بل يحتمل عقلا في عرض احتمال ذلك كونها شيئاً ذهنيّاً، بمعنى أنّ الذهن حينما يكسب صورة ذهنيّة عن مجموع المحيط والمحاط تتقولب صورته الذهنيّة بالهيئة الخاصّة. وأكبر الظنّ أنّ أرسطو عند وضعه للمقولات التسع إنّما راجع قاموس اللغة فوضعها، ولذا لم يظهر حتى الآن أيّ مدرك لوضعه لها، حتى أنّ من يحسن الظنّ بالفلسفة يقول: إنـّه وَجَد هذه المقولات بالاستقراء في عالم التكوين، ورأى انحصار المقولات فيما عدّه من المقولات التسع، لكنّ المظنون أنـّه لم يصدّع نفسه بمطالعة عالم التكوين واستقرائه، وإنّما طالع اللغة، وحيث إنـّه رأى فيها عنوان التعمّم والتقمّص ونحو ذلك وضع هذه المقولة، وهي مقولة الجدة. انتهى كلام اُستاذنا الشهيد (رحمه الله).

28

تعريفات ثلاثة متباينة، وإن كان عبارة عن اعتبار مقولة من هذه المقولات فهيأيضاً تعريفات ثلاثة متباينة.

ولكن الظاهر ـ بعد فرض عدم كون الملك أمراً واقعيّاً بقطع النظر عن الحكم التكليفيّ، ولا نفس الحكم التكليفيّ، ولا منتزعاً عن الحكم التكليفيّ، وكونه أمراً اعتباريّاً يجعل موضوعاً للحكم التكليفيّ ـ أنّ المعتبر كأنـّه استنسخ نسخة من ملكيّة الإنسان لجوارحه وأعماله بمعنى قدرته وسلطنته عليها(1) التي هي موضوع لحكم العقل العمليّ بأولويّته للتصرّف فيها، وصحّ التعبير عن ذلك بنوع إضافة بين المالك والمملوك بالمعنى الذي يصحّ أن يقال عن سلطنة الإنسان على جوارحه وأعماله: أنّها نوع إضافة بينه وبينها، وصحّ التعبير أيضاً عن ذلك بالجدة بمعنى واجديّته لأمواله، كما يصحّ التعبير بواجديّة الإنسان لجوارحه وأعماله، لا بمعنى الجدة الفلسفيّة، ولذا اجتمعت كلّ التعابير الثلاثة على لسان شخص واحد ـ كما عرفت ـ.

واختار المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) أنّ الملك يكون من اعتبار مقولة الإضافة، لأنّه عبارة عن اعتبار إحاطة المالك بالمملوك، والإحاطة عنوان إضافيّ. وذكر: أنّ الملك ليس من اعتبار الجدة، لأنّ إحاطة جسم بجسم ليست جدة، ولا محاطيّة جسم بجسم هي الجدة، وإنّما الجدة هي الهيئة الحاصلة للجسم بسبب إحاطة جسم به، أمـّا نفس إحاطة جسم بجسم، أو محاطيّة الثاني بالأوّل فليست إلّا مقولة إضافيّة(2).

هذا تمام كلامنا في مفهوم الملكيّة.


(1) راجع كتاب (در آمدى بر اقتصاد اسلامى) 1: 90 و 91.

(2) راجع تعليقة المحقّق الإصفهاني على المكاسب (فائدة في تحقيق حقيقة الحقَّ) 1: 7.

29

 

المصادر الأوّلية للملك

وأمـّا الكلام في المناشئ العقلائيّة الأصليّة لملكيّة الشيء المنفصل عن الإنسان، وكذلك الشرعيّة ـ بعد فرض إمضاء ما عليه العقلاء ـ ، فسنطرح للبحث رأي السيّد الخوئي واُستاذنا الشهيد الصدر (رحمهما الله):

 

رأي السيّد الخوئي (رحمه الله):

أمّا السيّد الخوئي (رحمه الله) فقد ذكر(1) لها منشأين:

الأوّل ـ الحيازة كما في حيازة الإنسان للمباحات الأصليّة، فإنّ العقلاء يرون هذا منشأً للملكيّة.

والثاني ـ الصنع وما يلحق به من الأعمال، كما إذا أخذ أحد ما لا ماليّة له كالطين فصنعه كوزاً فيكون مالا، فيكون هذا الصنع منشأً لدى العقلاء لملكيّة الكوز. هذا في الصنع، وأمـّا ما يلحق به من الأعمال فكما إذا أتى أحد بالماء من النهر فهو عند النهر لا ماليّة له، ولكن بعد إبعاده إيّاه من النهر يكون مالا، فصنع الماليّة فيه يوجب ملكيّته عقلائيّاً، وكما لو حفظ الثلج إلى الصيف فإنـّه يكون مالا في الصيف ـ وإن لم تكن له ماليّة في الشتاء ـ ، وبه يصبح مملوكاً للمحتفظ به في نظر العقلاء.

قال: وقد يجتمع في مال واحد السببان كحيازة الخشب وصنعه سريراً، فملكيّته لهذا السرير بلحاظ المادّة نتجت من الحيازة، وبلحاظ الصورة نتجت من الصنع. هذا حال المناشئ الأصليّة والتي تولّد الملكيّة التي تكون من الإضافة


(1) راجع المحاضرات في الفقه الجعفري (قسم المعاملات) 2: 7 و 8.

30

الأوّليّة الذاتيّة.

وأمـّا الملكيّة التبعيّة فذكر أنّها تحصل بكون المال ثمرة لما يملكه الإنسان كبيض الدجاج وصوف الغنم وثمر الشجر، فإنـّها تملك بتبع ملكيّة الأصل.

وأمـّا الملكيّة التي تكون من الإضافة الثانويّة وفي طول الإضافة إلى الشخص الأوّل، فذكر أنّها تنشأ بأسباب اختياريّة كالعقود، أو غير اختياريّة كالإرث أو الوصيّة ـ بناءً على أنّها من الإيقاعات ـ.

وأورد اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) على ما ذكره السيّد الخوئي (رحمه الله) في مثل السرير من انتساب ملكيّته من حيث المادّة إلى الحيازة ومن حيث الصورة إلى العلاج: بأنّ سريريّة السرير تملك في نظر العقلاء تبعاً لتملّك مادّته، ولذا لو حاز خشباً ثمّ صنع شخص آخر منه بدون إذنه سريراً، كان الأمر كما لو صنع هو منه سريراً، بل أنّ ملكيّة السريريّة تنـدكّ في ملكيّة المادّة، ولا تُرى عرفاً ملكيّة خاصّة للسريريّة.

أقول: نفس هذا الإشكال يرد على السيّد الخوئي (رحمه الله) في مِثل مثال صنع الكوز من الطين، أو إبعاد الماء من النهر، أو حفظ الثلج إلى الصيف وما شابه ذلك، فإنّ الملكيّة العقلائيّة للكوز مثلا إنّما تكون في نظر العقلاء بلحاظ ملكيّة مادّته وهو الطين، فلو صنع الكوز من طين كان في حيازة شخص آخر بلا إذنه، كان الكوز ملكاً لذاك الشخص لا لصانع الكوز، وكذا لو أبعد ماءً في حيازة شخص آخر من النهر أو حفظ ما حازه من الثلج من دون تملّكه بإذنه، كان في ملك الشخص الأوّل. هذا بحسب النظر العقلائي، وكذلك الحال بحسب الشرع الإسلامي على ما يظهر من موافقته ـ ولو بعدم الردع ـ على ما هو المرتكز عقلائيّاً.

31

وكأنّ السيّد الخوئي (رحمه الله) وقع هنا في الخطأ على أساس تخيّل أنّ الملكيّةفرع المالية، بمعنى كون الشيء ذا قيمة اجتماعيّة، فحينما افترض عدم القيمة الاجتماعيّة للطين أو للماء لدى النهر أو للثلج في الشتاء وأنّ القيمة خلقت فيه بالعلاج أو ما شابه العلاج نسب الملكيّة إلى العلاج أو ما شابهه، بينما لا مبرّر لربط الملكيّة بالماليّة بمعنى التقييم الاجتماعيّ، فالمفهوم عقلائيّاً ـ وكذلك شرعاً ولو بالإمضاء ـ أنّ الطين أو الماء أو الثلج ملكه ابتداءاً بالحيازة، واستمرّت ملكيّته له بعد صنعه كوزاً أو إبعاد الماء عن النهر أو إبقاء الثلج إلى الصيف، كما يشهد لذلك ما أشرنا إليه من أنّ هذا العلاج أو ما شابهه حينما ينصبّ على المادة التي حازها شخص آخر تكون النتيجة لذاك الشخص الآخر.

وقد جاء في كتاب مصباح الفقاهة(1) الذي هو أيضاً تقرير لبحث السيّد الخوئي (رحمه الله)الاعتراف بأنّ المملوك قد لا يكون مالا، إلّا أنّ هذا الاعتراف إنّما جاء منه فيما يكون السبب في عدم التقييم الاجتماعي له قلّته وضآلته كحبّة من الحنطة المملوكة. ولا أدري هل يفترض أنّ هذه الحبّة إنّما تكون مملوكة ضمن حبّات كثيرة، فلو فصلت عنها واُعدم الباقي مثلا لم تكن مملوكة؟ وهذا غريب، أو يفترض أنّها مملوكة حتى لو فصلت عن أخواتها؟ فأيّ فرق بين فرض فقدان الماليّة لأجل الضآلة والقلّة وفرض فقدانها لأجل كون الثلج في الشتاء، أو كون الماء قريباً من النهر؟! بل وحتى الماء قريباً من النهر إنّما لا يموّل لقلّته بدليل أنّ نفس ماء النهر يموّل.

 


(1) مصباح الفقاهة 2: 4.

32

 

رأي السيّد الشهيد (رحمه الله):

وأمّا اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) فإنّه أيضاً جعل المنشأ لملكيّة الإنسان لأمواله المنفصلة عنه بحسب الارتكازات العقلائيّة أحد أمرين: الحيازة أو العلاج، إلّا أنّه لم يفترض العلاج مملّكاً في مثل الطين أو الماء والثلج كي يرد عليه ما ورد على السيّد الخوئي (رحمه الله)، بل ذكر ذلك لأجل التفصيل بين المنقولات وغير المنقولات. ففي المنقولات يكون التملّك الأوّلي بالحيازة، وفي غير المنقولات كالأرض يكون التملّك الأوّلي بالعلاج كالزراعة أو التعمير.

وأفاد اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): أنّه حصلت عند العقلاء توسّعات في باب الحيازة من جهات شتّى:

فأوّلا ـ حصل عندهم التوسّع من ناحية الحائز، وذلك في باب الإرث، فيُرى ابن الميت مثلا أحقّ بمال أبيه من غيره وكأنـّه وجود امتداديّ لوالده. وهذا هو لبّ المقصود للمحقّق النائيني (رحمه الله)، حيث يقول: إنـّه في باب الإرث يتبدّل طرف الإضافة الذي هو الإنسان لا الطرف الآخر ولا الإضافة(1). فهذا الكلام تحليل عقلائيّ للمطلب، لا تحليل عقليّ وفلسفيّ حتى يرد عليه: أنّ الإضافة تتغيّر حتماً بتغيّر أحد طرفيها.

وثانياً ـ حصل عندهم التوسّع من ناحية المال الذي يحاز. فتلحق به نتائجه وأثماره كريع العقار وأثمار الأشجار.

وثالثاً ـ حصل عندهم التوسّع من ناحية ضمان الغرامة، فيُرى صاحب المال المحاز مستحقّاً لبدله عند إتلاف غيره له إمـّا ضماناً لبدله الأصلي بحسب


(1) راجع منية الطالب 1: 3 و 35، وراجع كتاب المكاسب والبيع للآملي 1: 86 و 87.

33

القانون الأوّلي، كما في من أتلف مال غيره من دون معاملة، أو ضماناً لبدل مسمّىكما في المتلف المقبوض بالمعاملة الفاسدة إذا كان الثمن المسمّى أقلّ من ثمن المثل، فإنّ المتفاهم عرفاً أنّ صاحب المال قد قنع بالضمان بمقدار المسمّى وهدر كرامة ماله بمقدار الزيادة على المسمّى(1). وأمـّا إذا كان الثمن المسمّى أكثر من ثمن المثل فلا يضمن إلّا بمقدار ثمن المثل؛ لأنّ ضمان الباقي كان من أثر المعاملة وكان فرع صحّتها وإمضائها، والمفروض عدم الصحّة.

وألحق (رحمه الله) ببحث التوسّع في الحيازة لدى العقلاء بحثاً عن تأثير موقف الحائز الأوّل في نظر العقلاء على نتائج حيازة الحائز الثاني. وتوضيح ذلك ـ على ما أفاده رضوان الله عليه ـ:

أنّه إذا ملك شخص مالا بالحيازة ثمّ جاءت يد ثانية وحازت ذلك المال، فاليد الاُولى تجعل اليد الثانية مقتضية للضمان، واليد الثانية بنفسها مقتضية لإيجاد الملكيّة لأنّها تحوز، إذن فقد اجتمع في هذه اليد اقتضاءآن: اقتضاء التمليك واقتضاء الضمان، فإن لم يوجد مانع عن فعليّة كلا الاقتضاءين وحصول أثرهما خارجاً، تحقّق الملك والضمان معاً، وإن وجد مانع عن أحدهما فقط تحقّق الآخر فقط، وإن وجد مانع عن كليهما لم يتحقّق شيء منهما.

قال (رحمه الله): والمانع عمّا تقتضيه اليد الثانية من الملكيّة عبارة عن عدم رضا صاحب اليد الاُولى بتملّك صاحب اليد الثانية. وأمـّا المانع عمّا تقتضيه من الضمان فهو أمران:


(1) قد يتّفق أنـّه بعد إيقاع المعاملة يندم عليها ويسلّم له المال بناءً على ما يرى نفسه ملزماً به من الوفاء بالمعاملة، بحيث لو كان يعلم بفسادها لما سلّمه له إلّا مجبوراً. وفي مثل هذا الفرض ليس هدره للزيادة إلّا هدراً مبنيّاً على المعاملة، وقد فرض فسادها.

34

(الأوّل) فرض اليد الثانية كأنـّها اليد الاُولى، كما في الوكالة والنيابة.

(والثاني) رضا صاحب اليد الاُولى بحيازة اليد الثانية.

على فرق بين المانعين، وهو أنّ المانع الأوّل مانع بذاته، والمانع الثاني وهو الرضا ليس مانعاً بذاته، بل هو مانع بإطلاقه، أي أنّه ليس مطلق الرضا مانعاً، بل المانع هو الرضا المطلق، فلو كان ذلك رضاً مقيّداً بفرض الضمان لم يمنع عن الضمان.

وأمر اليد الثانية في تأثيرها في التمليك أو الضمان أو عدم تأثيرها موكول إلى صاحب اليد الاُولى. ويختلف حالها باختلاف ما يشاؤه صاحب اليد الاُولى.

قال (رحمه الله): فتكون ـ بحسب ذلك ـ لليد الثانية حالات أربع:

الحالة الاُولى ـ حالة عدم التأثير في التمليك ولا في الضمان، كما في حالة الاستيمان والوديعة، فاليد هنا لا تؤثّر أثر الملكيّة لعدم رضا صاحب اليد الاُوّلى بالتملّك. وقد مضى أنّ ذلك مانع عن التأثير في التمليك، ولا تؤثّر أثر الضمان أيضاً لكون اليد الثانية بمنزلة اليد الاُولى، وكأنـّها وكيل عنها في الحفظ. وهذا هو المانع الأوّل عن الضمان، وأيضاً لا ملكيّة ولا ضمان في مثل العارية والعين المستأجرة التي بيد المستأجر ونحو ذلك. أمـّا عدم الملكيّة فلعدم رضا صاحب اليد الاُولى بذلك. وأما عدم الضمان فلوجود المانع الثاني عن الضمان، وهو رضا صاحب اليد الاُولى بحيازة اليد الثانية.

وقد وقع فرق في كلمات الأصحاب بين العارية وشبهها من ناحية والوديعة من ناحية اُخرى، فاتّفقوا في الوديعة على أنّه لا يتحقّق الضمان ولو بالشرط، وفي العارية وشبهها اختلفوا في أنّه هل يتحقّق الضمان بالشرط أوْ لا(1)؟ وكان هذا من


(1) الظاهر أنّ الضمان في العارية مع الشرط إجماعيّ. راجع الجواهر 27: 183، وعليه

35


النصوص، راجع الوسائل 13 الباب 1 و 2 و 3 من أبواب العارية. نعم وقع خلاف في الضمان بلا شرط في عارية الذهب والفضّة غير الدينار والدرهم بعد الاتّفاق على الضمان بلا شرط في عارية الدينار والدرهم مع إمكان إسقاط الضمان في ذلك بالشرط. راجع الجواهر 27: 184، والوسائل 13 الباب 3 من أبواب العارية.

أقول: قد يدّعى ـ ولو بمعونة ارتكاز عدم كون عارية الدرهم والدينار ذات هدف عرفيّ غالباً، وارتكاز عدم الضمان في العارية غير المشروطة ـ أنّ المقصود من روايات الحكم في عارية الدرهم والدينار بالضمان إرجاع عاريتهما إلى القرض، ومن المعلوم أنّ المال المقترض مضمون في كلّ الحالات، ومنها التلف. وقد يدّعى ـ ولو بمعونة ارتكاز عدم الضمان في العارية غير المشروطة ـ حمل روايات الضمان في عارية الذهب والفضّة على كون المقصود بهما ما ورد في الروايات الاُخرى وهو الدينار والدرهم والتي حملناها على القرض.

ثمّ إنّ شرط الضمان في باب الوديعة أو العارية يتصوّر بعدّة أنحاء:

الأوّل ـ أن يفترض أنّ هذا الشرط ليس هو الشرط المصطلح الموجب لخلق الضمان من باب شرط النتيجة، وإنّما هو تقييد لإطلاق رضا المالك بالوديعة أو العارية بفرض الضمان. وهذا هو الذي يؤثّر في العارية ولا يؤثّر في الوديعة، لما ذكره اُستاذنا (رحمه الله) من أنّ المانع عن الضمان باليد في الوديعة مانع بذاته، والمانع عن الضمان باليد في العارية مانع بإطلاقه.

الثاني ـ أن يفترض أنّ هذا الشرط هو شرط للنتيجة لخلق الضمان، ولكنّه ليس شرطاً في مقابل التزام على الموجب لصالح القابل بنتيجة العقد؛ لأنّ الموجب في الوديعة لا يلتزم بشيء لصالح الودعيّ. وهذا يعني أنّ هذا الشرط ـ في الحقيقة ـ شرط ابتدائيّ، فإنّ مجرّد ذكره في ضمن العقد لا يخرجه عن كونه ابتدائيّاً ما دام لم يكن كمكافأة للمشروط له على التزامه بنتيجة العقد، وهذا الشرط لا قيمة له؛ لأنـّه شرط ابتدائيّ، والشرط الابتدائيّ ـ بناءً على نفوذه ـ إنّما ينفذ في شرط الفعل لا في شرط النتيجة.

36


الثالث ـ أن يفترض أنّ هذا الشرط هو شرط للنتيجة لخلق الضمان كمكافأة لما التزم به الموجب لصالح القابل. وهذا إنّما يتصوّر في العارية دون الوديعة؛ لأنـّه في العارية قد التزم الموجب بحل الانتفاع بالعين للقابل، فمن المعقول أن يشرط ذلك بالضمان. أمـّا في الوديعة فلم يلتزم الموجب بشيء لصالح القابل، وإنّما القابل فقط التزم بالحفظ لصالح الموجب، فلا معنى للشرط عليه بالضمان، وبهذا يكتمل تفسير الفرق في المقام بين الوديعة والعارية، فإنّ الظاهر أنّ العقلاء لا يفرّقون في رفض شرط الضمان في الوديعة بين ضمان الشرط وشرط الضمان بنحو شرط النتيجة. ولا أظنّ أنّ الفقهاء أيضاً يفصّلون بينهما.

وبهذا أيضاً يتّضح الفرق بين فرض الأمانة البحتة وبين فرض الأجير الذي يأخذ العين بالاُجرة للحفظ أو النقل من مكان إلى مكان، أو لإجراء عمل عليها كالخياطة، فإنّ شرط الضمان في ذلك عقلائيّ بخلاف باب الوديعة. وتفسيره أنّ المستأجر قد التزم للأجير بنتيجة المعاملة من التبادل بين العمل والمال، كما أنّ الأجير التزم للمستأجر بذلك، فكلّ منهما بإمكانه أن يشترط شرطاً على الآخر بأن لا يقبل ذاك الالتزام إلّا بهذا الشرط. وهذا بخلاف باب الأمانة الذي ليس الالتزام فيه الّا من طرف الأمين، فلا معنىً لشرط المستأمن عليه بشيء.

نعم، في باب الأمانة يتصوّر الشرط الابتدائيّ كما مضى، ولا أقصد بذلك مجرّد أخذ الوعد الابتدائي البحت غير المرتبط بأيّ شيء من الأشياء الذي لا ينبغي الإشكال في عدم صدق الشرط عليه، وإنّما أقصد بذلك شرطاً رتّب عليه الشارط عمله، وهو الاستيمان.

وتوضيح ذلك: أنـّنا نقسّم الشرط إلى الابتدائي، وما هو في ضمن العقد، لا بالمعنى الذي قد يتبادر إلى الذهن من مجرّد ذكره ضمن العقد وعدمه، فإنـّه إن قصد ذلك كان هذا مجرّد اصطلاح بحت من دون افتراض فرق جوهري يعقل تأثيره في النفوذ وعدم النفوذ حسب ما يستظهر من الأدلّة، وفرض صدق عنوان الشرط الوارد في الأدلّة على خصوص ما ذكر ضمن العقد دون غيره تحكّم بحت، فسواء كان هذا هو مقصود المشهور من تقسيمهم للشرط إلى

37


الابتدائي وما في ضمن العقد، أوْ لا، نحن نقسّم الشرط كالتالي:

إنّ الشرط تارةً يكون كمكافأة للمشروط له الذي التزم بشيء أراده المشروط عليه.

واُخرى لا يكون كذلك، ولكن الشارط ربط عملا من أعماله بهذا الشرط.

وثالثة لا يكون هذا ولا ذاك، وليس عدا الحصول على وعد ابتدائي بحت.

مثال الأوّل: البايع يشترط في قبوله بالبيع أمراً من الاُمور على المشتري، فهو لقاء التزامه بما يرغب فيه المشتري من البيع يفرض عليه شرطاً من الشروط. ولا ينبغي الإشكال في دخول ذلك تحت عنوان الشرط الوارد في أدلّة: (المؤمنون عند شروطهم)، ولا أثر لمجرّد كون هذا في ضمن العقد في صدق عنوان الشرط عليه وشمول النصوص له، بل حتى لو لم يكن ضمن العقد ولكنّه كان لقاء التزام الشارط بما يريده المشروط عليه صدق عنوان الشرط عليه عرفاً وشملته النصوص من قبيل ما لو التزم شخص بضيافة شخص آخر مثلا بشرط أن يصلّي الضيف صلاة الليل، فوفى ذلك الشخص بالضيافة فلا ينبغي الإشكال في وجوب وفاء الضيف بشرطه، ولا يصحّ له الاعتذار عن صلاة الليل بحجّة أنّ الشرط الابتدائي لا يجب الوفاء به. نعم، من حقّه أن يتراجع عن أصل الشرط قبل وفاء صاحبه بالضيافة إن لم يتعهّدا بالفعل بالضيافة وصلاة الليل، وإلّا لم يجز التراجع من طرف واحد لأنـّه خلاف الوفاء بالعقد والعهد.

ومثال الثالث: أن يحصل شخص من شخص آخر على وعد ابتدائيّ بحت بضيافته، ولا ينبغي الإشكال في عدم صدق عنوان الشرط هنا عرفاً، وعدم شمول نصوص الشرط إيّاه.

ومثال الثاني: المستأمن الذي اشترط على الأمين الضمان أو أيّ شرط آخر، فشرطه هذا لم يكن لقاء التزام للأمين، فإنّ المستأمن غير ملتزم بشيء تجاه الأمين ولم يكن مجرّد استحصال وعد بحت من الأمين بلا أيّ علاقة لذلك بعمل المستأمن، بل هو شرط رتّب المستأمن عمله عليه، فلولا قبول الأمين لشرطه كان من المحتمل أن لا يستأمن المال عنده، ويحفظه بنفسه أو يستأمنه عند شخص آخر.

38


وهل يجب الوفاء بمثل هذا الشرط أوْ لا؟

نستبعد ابتداءً التفصيل في وجوب الوفاء به وعدمه بين مجرّد عنوان ذكره ضمن العقد، كما في عقد الأمانة وعدم ذكره ضمنه، كما لو أراد شخص السفر فرتّب سفره على أن يلتزم فلان برعاية أطفاله وأهله في غيابه، وقد قبل فلان بذلك، فسافر ذاك الشخص، فهل يجوز لمن قبل هذا الشرط أن يتخلّف ولا يفي بالرعاية التي التزم بها؟ فإن وجب الوفاء وجب في المثالين، وإن لم يجب لم يجب فيهما.

ولا يبعد القول بوجوب الوفاء وصدق عنوان الشرط على ذلك، وشمول النصوص له، إلّا أنّ هذا إنّما يكون في شرط الفعل من قبيل ما ذكرناه من مثال شرط رعاية الأطفال، أو من قبيل أن يشترط المستأمن على الأمين تعويضه على تقدير التلف بما يساويه بنحو شرط الفعل. أمـّا شرط النتيجة من قبيل شرط الضمان فلا دليل على نفوذه، لأنّ نصوص: «المؤمنون عند شروطهم» إنّما تدلّ على وجوب احترام الشرط بقدر ما هو مرتبط بالمشروط عليه وتعهد من قبله. أمـّا مشروعية المشروط في شرط الفعل ونفوذه في شرط النتيجة فهذا ليس داخلا في منظور النصوص، ولذا لو شككنا في حلّ شيء وحرمته لا يمكن إثبات حلّه باشتراطه ضمن عقد مثلا، فنفوذ شرط النتيجة يجب إمـّا أن يستفاد بارتكاز عقلائيّ ممضى بعدم الردع، ولا يوجد ارتكاز عقلائي كذلك في ما نحن فيه في شرط النتيجة الابتدائيّ ـ بالمعنى الذي قصدنا من الابتدائيّ، وهو غير المرتبط بالتزام الشارط بما في صالح المشروط عليه ـ ، أو يستفاد من نصّ طبّق قاعدة وجوب الوفاء بالشرط على شرط النتيجة، فنفهم بالالتزام نفوذ شرط النتيجة. وذاك النصّ هو ما عن عليّ بن رئاب بسند تامّ عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: «سُئل وأنا حاضر عن رجل تزوّج امرأة على مائة دينار على أن تخرج معه إلى بلاده، فإن لم تخرج معه فإنّ مهرها خمسون ديناراً إن أبت أن تخرج معه إلى بلاده. قال: فقال: إن أراد أن يخرج بها إلى بلاد الشرك فلا شرط له عليها في ذلك ولها مائة دينار التي

39

الألغاز في كلماتهم، حيث يقال: إنّه هل يمكن إثبات إمضاء مثل هذا الشرطبدليل: (المؤمنون عند شروطهم) أوْ لا؟ فإن أمكن ذلك ثبت الضمان بذلك مطلقاً، وإلّا لم يثبت الضمان به مطلقاً، فما وجه التفكيك بين الوديعة ومثل العارية، والاتّفاق في الأوّل على عدم الضمان والاختلاف في الثاني؟ !

والتحقيق: أنّ نكتة الفرق هي أنّ المانع عن الضمان في الوديعة هو المانع الأوّل، وهو مانع بذاته، فلا يمكن أن يثبت ضمان اليد ولو بالشرط. وأمـّا المانع عنه في مثل العارية فهو المانع الثاني، وهو مانع بإطلاقه، فيقبل التقييد، فيثبت ضمان اليد بالشرط، وكلامنا إنّما هو في ضمان اليد لا في فرض الضمان بذات الشرط بنحو شرط النتيجة.

الحالة الثانية ـ حالة التأثير في الضمان دون التمليك، وذلك كما في حالة كون اليد الثانية عادية، فهنا تؤثّر اليد في الضمان لعدم وجود شيء من المانِعَين عنه، ولا تؤثّر في الملكيّة لوجود المانع عن ذلك، وهو عدم رضا صاحب اليد الاُولى بذلك.

الحالة الثالثة ـ حالة التأثير في التمليك دون الضمان كما هو الحال في الهبة، ففي الهبة لا يثبت الضمان لرضا صاحب اليد الاُولى بحيازة اليد الثانية، وهذا هو


أصدقها إيّاها، وإن أراد أن يخرج بها إلى بلاد المسلمين ودار الإسلام فله ما اشترط عليها، والمسلمون عند شروطهم... إلخ»(*).

إلّا انّ هذا التطبيق إنّما ورد في شرط النتيجة غير الابتدائيّ ـ أعني الشرط المرتبط بالتزام المشروط له بمفاد العقد للمشروط عليه ـ ، واحتمال الفرق وارد، فلا يمكن التعدّي إلى مثل المقام.

(*) الوسائل 15: 49، الباب 40 من أبواب المهور، الحديث 2.

40

المانع الثاني عن الضمان، وتثبت الملكيّة لتحقّق المقتضي لها، وهو اليد وعدم المانع عنها؛ لأنّ المانع هو عدم رضا صاحب اليد الاُولى بذلك، والمفروض في باب الهبة أنّه راض بذلك. هذا بناءً على أنّ حقيقة الهبة عقلائيّاً هي إجازة صاحب اليد الاُولى لليد الثانية بتملّك المال بالحيازة والموهوب له يتملّك المال بسبب اليد والحيازة، وليست حقيقة الهبة التمليك من قبل الواهب للمتّهب مجّاناً، ولعلّه لذا يكون قوام الهبة عقلائيّاً وشرعاً بالقبض.

أمـّا لو كانت الهبة تمليكاً من قبل الواهب لزم أن يكون شرط القبض شرطاً تعبّديّاً بحتاً. فيشهد لكون حقيقة الهبة إجازة التمليك اشتراط القبض عقلائيّاً وعدم تعقّل الهبة عند العقلاء فيما لا يقبل الحيازة، فلا تصحّ هبة العمل ولا هبة شيء في الذمّة مع أنّه يصحّ إيقاع المعاملة عليها بمثل البيع والإجارة؟ فلو كانت الهبة تمليكاً كسائر المعاملات لكانت من المناسب صحّة ذلك عند العقلاء كصحّة سائر المعاملات.

الحالة الرابعة ـ حالة التأثير في الملكيّة والضمان معاً، وذلك يكون في فرضين:

الفرض الأوّل: أن يرضى صاحب اليد الاُولى بتملّك صاحب اليد الثانية رضاً مقيّداً ببقاء اليد الثانية على ما تقتضيه من الضمان، وذلك كما في القرض بناءً على أنّ حقيقته عبارة عن إجازة التملّك بقيد الضمان، وليس تمليكاً بضمان، ولذا يكون قوامه عقلائيّاً وشرعاً بالقبض، ولا يصحّ القرض عقلائيّاً وشرعاً في ما لا يقبل الحيازة كالعمل وكشيء في الذمّة.

وذكر بعض: أنّ القرض تمليك للخصوصيّة مع الاستيمان على أصل الماليّة.

ويرد عليه: أنّه هل المقصود الاستيمان على الماليّة الموجودة في ضمن

41

هذا المال، أو على ماليّة مضافة إلى ذمّة المقترض، أو على مطلق الماليّة من دون إضافتها إلى ذمّة أو عين؟ أمـّا الثالث فلا معنى له، فإنّ الماليّة من دون إضافة ليست أمراً معتبراً لدى العقلاء يعقل الاستيمان عليه. وأمـّا الأوّل فيرد عليه: أنّه لو كانت الماليّة الموجودة في ضمن هذا المال أمانة عنده فكيف جاز له إتلافها؟! وأمـّا الثاني، وهو دعوى كون الماليّة الثابتة في ذمّته أمانة عنده، فنقول: هذا معناه الاعتراف في الرتبة السابقة على هذا الاستيمان بتحقّق ماليّة في ذمّته، وهذا هو الذي يكون بحاجة إلى التحليل في مقام فهم حقيقة القرض، ولا يمكن تحليله بما يفترض في مرتبة متأخّرة عنه، وهو الاستيمان على هذه الماليّة وتحليله ما ذكرناه.

الفرض الثاني: أن يرضى صاحب اليد الاُولى بتملّك صاحب اليد الثانية رضاً مقيّداً بالضمان أيضاً كما في الفرض الأوّل، إلّا أنّه يفرض الضمان هنا ضماناً بالمسمّى، وذلك كما في المعاطاة عندما لا تكون بداعي الإنشاء الفعليّ، فلا ترجع إلى البيع، فعندئذ يكون أحدهما مبرزاً لرضاه بتملّك الآخر ماله بالحيازة مضموناً عليه ذلك بثمن معيّن، ويدخل في هذا مثل وضع السقّاء قربة الماء في موضع مّا ليأخذوا منه ويضعوا ثمنه في كوزه، ونحو ذلك ممّا يشبه المعاطاة ولا معاطاة خارجاً، فليس هذا بيعاً حتماً لعدم معاملة عقديّة ولا معاطاتيّة. ومن هنا التجأ السيّد الاُستاذ ـ يعني به السيّد الخوئي (رحمه الله) ـ إلى القول بكون ذلك تمليكاً مع الضمان لا بيعاً.

والصحيح: أنّ ما ذكره غير تام، إذ كيف يفترض أنّ السقّاء يملّك الماء من الشارب بينما قد يكون السقّاء حين مجيء الشارب إلى القربة غافلا محضاً أو نائماً؟ أمـّا افتراض أنّه أبدى رضاه بإيجاد الشارب هذا التمليك بالنيابة عنه فهو الذي يقوم بالإيجاب والقبول الفعليّين معاً فهو خلاف المرتكز العقلائي، إذ ليس

42

من المرتكز عندهم مثل هذه التكلّفات، ولو صار القرار على الالتزام بهذه التكلّفات فلم لا نقول: إنّ هذا بيع، وإنّ المعاطاة والتمليك والتملّك تحصل بفعل الشارب بالنيابة عن السقّاء(1)؟ والصحيح ما ذكرناه من أنّ السقّاء أبدى رضاه بتملّك الشارب للماء بالحيازة مضموناً عليه بمبلغ من المال فيضعه في كوزه.

هذا، وممّا يشبه مثال وضع المال في كوز السقّاء مسألة الذهاب إلى الحمّام ووضع الثمن في كوز الحمّامي. وذكر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) لذلك تفاسير ثلاثة:

الأوّل ـ كون الحمّاميّ مبيحاً للاستفادة الخاصّة من الحمّام والماء إباحة مشروطة بإعطاء ثمن معيّن، فالمستفيد لا تشتغل ذمّته بمال لصاحب الحمّام، إلّا


(1) لا يخفى أنّ مختار السيّد الخوئي (رحمه الله) ـ على ما جاء في مصباح الفقاهة 2: 169، وفي المحاضرات 2: 82 ـ في مثال أخذ المحقّرات كالخضريات والبقولات، ووضع الثمن في المكان المعدّ له، إنّما هو هذا، أعني حصول البيع من قبل الآخذ بالنيابة عن صاحب المال. نعم، اختار في فرض شرب الشارب من فم قربة السقّاء ووضع الثمن في الموضع المعدّ له أنـّه ليس بيعاً، وعلّل ذلك بأنّ المقدار الذي سوف يشربه الشارب لكي يرتوي غير معلوم، فلو حملناه على البيع لزم الغرر، ولذا حمله في المحاضرات على إباحة التصرّف بضمان، وفي مصباح الفقاهة على إباحة التصرّف أو التمليك بضمان.

أقول: إنّ هذا الكلام غريب، فإنّ عدم الغرر ليس من مقوّمات البيع العقلائي، وإنّما هو شرط تعبّدي، فجعله شاهداً على عدم إرادة الناس من مثال الشرب من قربة السقّاء لا معنى له.

والصحيح: أنّ المفهوم عرفاً في الأمثلة الاستهلاكيّة من قبيل الشرب من القربة هو الإباحة بضمان، وفي أمثلة الحيازة ونقل الأموال من قبيل أخذ الخضروات والبقولات هو ما اختاره السيّد الشهيد (رحمه الله) من الإذن في التمليك بضمان.