175

 

 

 

ـ 4 ـ

تصوّرات عامّة عن العقد

 

تعريف العقد وتطوّره التأريخي:

ولتعريف العقد نختار للبحث تعريفاً عن الفقه السنّيّ وتعريفاً عن الفقه الغربيّ، ثمّ ننتهي إلى تعريف له عن الفقه الشيعيّ:

ذكر الاُستاذ مصطفى الزرقاء ناسباً ذلك إلى مصطلح الفقه الإسلاميّ: أنّ العقد هو ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يثبت أثره في محلّه(1).

ويقرب من هذا التعبير ما نقله الدكتور عبد الرزّاق السنهوريّ عن صاحب «مرشد الحيران» من أنّ العقد عبارة عن ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقدين بقبول الآخر على وجه يظهر أثره في المعقود عليه(2).

ونقل الزرقاء تعريف الفقه الغربيّ للعقد عن كتاب «نظرية العقد» للاُستاذ السنهوريّ: أنّ العقد هو اتّفاق إرادتين على إنشاء حقّ أو على نقله أو على إنهائه(3).


(1) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد 1، الفقرة 132.

(2) مصادر الحقّ للسنهوريّ 1: 40.

(3) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد 1: الفقرة 132.

176

وذكر السنهوريّ في الوسيط: أنّ العقد توافق إرادتين على إحداث أثرقانونيّ، سواء كان هذا الأثر هو إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهاؤه(1). ونقل عن بعض حذف التعديل والإنهاء والاقتصار على الإنشاء والنقل، مدّعياً الفرق بين العقد والاتّفاق بأنّ العقد أخصّ من الاتّفاق فهو لا يشمل إلّا إنشاء الالتزام ونقله، بينما الاتّفاق يعمّ الكلّ. ورجّح السنهوريّ نفسه تعميم العقد وعدم التفريق بينه وبين الاتّفاق ناسباً له إلى الأكثر.

وذكر الزرقاء: أنّ تعريفه الفقهيّ أحكم منطقاً وأدقّ تصوّراً من التعريف القانونيّ، وإن كان التعريف القانونيّ أوضح تصويراً وتعبيراً(2).

وذكر في وجه كون التعريف الفقهيّ أدقّ وأحكم من التعريف القانونيّ: (أولا) أنّ العقد على التعريف الفقهيّ يختصّ بالمؤثّر في نظر التشريع، بينما ترى التعريف القانونيّ يشمل حتى ما لا يجمع شروط التأثير. (وثانياً) أنّ الأوّل يمتاز بتصوير الحقيقة العقديّة ببيان الأداة العنصريّة المكوّنة للعقد، أي الأجزاء وهما الإيجاب والقبول. أمّا اتّفاق الإرادتين فيشمل الوعد أيضاً.

وهناك فارق جوهريّ بين التعريف الفقهيّ والتعريف القانونيّ لم يشر إليه الزرقاء وهو: أنّ العقد في تعريفه القانونيّ عبارة عن إنشاء الالتزام بنقل حقّ أو إيجاده، وليس بنفسه إنشاء للنقل أو للحقّ، بينما العقد في تعريفه الإسلاميّ يمكن أن يكون بنفسه إنشاء للنقل أو لفرض الحقّ أو إنهائه لا التزاماً بفعل ذلك. فالبيع مثلا في الفقه الغربيّ ليس إنشاءً للتمليك والتملّك أو النقل والتبادل، وإنّما هو إنشاء


(1) الوسيط 4: الفقرة 229.

(2) الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد الجزء 1، الفقرة 132.

177

للالتزام بفعل ذلك، وهذا بقيّة تخلّف في فقههم موروث من فقههم المتخلّف القديم. وإليك خلاصة من التطوّر التاريخي لذلك بالنسبة للبيع مأخوذة من كتاب الوسيط(1):

كان البيع في القانون الرومانيّ عقداً لا ينقل الملكيّة بذاته، بل لم يكن البيع يرتّب في ذمّة البائع التزاماً بنقل الملكيّة، وكان كلّ ما يلتزم به البائع بمجرّد البيع ـ ما لم يوجد شرط صريح في العقد يلزمه بنقل الملكيّة ـ هو أن ينقل إلى المشتري حيازة هادئة بموجبها يضع يده على المبيع كمالك دون أن يتعرّض له أحد، ودون أن يتعرّض له البائع نفسه، فكان البائع ـ إلى جانب التزامه بنقل هذه الحيازة ـ يلتزم أيضاً بضمان التعرّض الصادر من جهته هو أو الصادر من أجنبيّ، وكان هذا يعتبر كافياً لتحقيق الغرض الذي يستهدفه البيع، فما دام المشتري واضعاً يده على المبيع يحوزه حيازة هادئة وينتفع به بجميع الطرق المشروعة دون أن يتعرّض له أحد في ذلك، فما عليه أن لا يكون مالكاً وقد حوى في يده جميع الميّزات التي يتوخّاها من كسب هذه الملكيّة؟

أمّا الذي كان ينقل الملكيّة فليس هو مجرّد إنشاء العقد، بل هو أمر مادّي من الإشهاد أو التنازل القضائيّ أو التقادم بمعنى بقاء العين في يد المشتري مدّة محدّدة من الزمن، أو في بعض الأحيان مجرّد القبض على الأقلّ.

وكان يترتّب على عدم مملكيّة البيع أنّ الشخص كان يستطيع بيع ملك غيره، وكان بيع ملك الغير صحيحاً ما دام البائع ـ دون أن يكون مالكاً ـ قادراً على نقل حيازة المبيع إلى المشتري بالنحو الذي أسلفناه، وقادراً في الوقت ذاته على


(1) راجع الوسيط 4: الفقرة 229 - 236.

178

منع أيّ عمل يكدّر على المشتري حيازته، إذ هو ضامن له التعرّض والاستحقاق وجلب موافقة المالك.

وهنا يذكر صاحب الوسيط: أنّ البيع في القانون الرومانيّ إذا كان لا يستلزم نقل الملكيّة كان من طبيعته نقلها. والدليل على ذلك أمران:

(أوّلهما) أنّه كان يجوز للمشتري أن يشترط في عقد البيع على البائع أن ينقل له ملكيّة المبيع، وكان هذا الشرط صحيحاً لأنّه يتآلف مع طبيعة البيع، وعند ذلك كان على البائع أن ينقل ملكيّة المبيع للمشتري ولا يقتصر على نقل الحيازة الهادئة.

(والأمر الثاني) أنّه كان لا يجوز للبائع أن يشترط على المشتري أن لا ينقل له ملكيّة المبيع، فهذا الشرط يتنافى مع طبيعة البيع، ومن ثمّ كان غير جائز.

أقول: الصحيح من هذين الدليلين هو الدليل الثاني دون الأوّل، لأنّ مجرّد صحّة شرط التمليك لا يدلّ على كون نقل الملكيّة من طبيعة البيع، بل يكفي في صحّة الشرط أن لا ينافي طبيعة البيع، وينبغي أن يكون المراد من التدليل على كون التمليك من طبيعة البيع إبراز نقطة للضعف في القانون الرومانيّ لاستبطانه ـ في الحقيقة ـ نوعاً من التناقض، حيث يفترض عدم مملّكيّة البيع، ثمّ يفترض بطلان شرط عدم التمليك الذي هو شاهد على إحساسهم في قرارات أنفسهم بمملّكيّة البيع، ممّا يدلّ على أنّ قانونهم يخالف المرتكزات العقلائيّة.

وعلى أيّة حال فعندما انتقلت أحكام القانون الرومانيّ في هذا الصدد إلى القانون الفرنسيّ القديم كان البيع في هذا القانون أيضاً لا ينقل الملكيّة ولا يرتّب التزاماً بنقلها، وكان بيع ملك الغير صحيحاً، ولكن دخل بعض التطوّرات على وضع البيع: فأوّلا أصبح المملّك هو القبض وحده بعد أن اختفى الإشهاد والتنازل القضائيّ عن ساحة المملّكيّة. ثمّ أدّى تطوّر القانون الفرنسيّ القديم طوال مراحله

179

إلى أن يجعلوا هذا القبض أمراً صوريّاً، فكانوا يكتبون في بياعاتهم أنّ القبض قد تمّ، فكان من وراء هذا القبض الصوريّ أن تنتقل الملكيّة إلى المشتري، والمفروض أنّها انتقلت بالقبض، والواقع أنّها انتقلت بذكر حصول القبض في العقد، على أنّ ذكر حصول القبض ما لبث أن أصبح هو أيضاً شرطاً مألوفاً في عقد البيع، أي شرطاً ضمنيّاً لا حاجة إلى التصريح به.

وقال صاحب الوسيط: قد جاوز الفقه الإسلاميّ هذه المرحلة التي وصل إليها القانون الفرنسيّ القديم فجعل الملك ينتقل بالعقد مباشرة.

وعلى أيّة حال، ففي القانون الفرنسيّ الحديث لمّا رأى واضعو تقنين نابليون إلى أين انتهى التطوّر في القانون الفرنسيّ القديم على النحو الذي أسلفناه خطوا آخر مرحلة من مراحل هذا التطوّر، فجعلوا البيع ذاته ناقلا للملكيّة، لا بمعنى أنّ البيع إنشاء للتمليك، بل هو لا زال إنشاء للالتزام بنقل الملكيّة، ولكنّه يتمّ نقل الملكيّة كقاعدة عامّة فوراً بمجرّد نشوء الالتزام، فينتهي الالتزام، وذلك لدى توافر شروط معيّنة من التسجيل في العقار والإفراز في المنقول الذي يكون كلّيّاً وغير معيّن بالذات مع عدم فقدان شرط يتّفق عليه المتبايعان، كما لو اتّفقا على أن لا تنتقل الملكيّة إلّا عند تسليم المبيع إلى المشتري مثلا، فإن لم تكن هذه الشروط متوفّرة انفصلت الملكيّة عن الالتزام، فالبيع قد أوجد الالتزام بنقل الملك، ولكن النقل يتحقّق في زمن متأخّر متى ما توفّرت الشروط. أمّا لو كانت هذه الشروط متوفّرة حين العقد فالالتزام بنقل الملكيّة يتمّ تنفيذه فوراً بحكم القانون، وفي صورة عدم توافر الشروط يجب على البائع تهيئة المقدّمات اللازمة لتوافرها وفاءً بما التزم به، وبعد أن أصبح البيع ناقلا للملكيّة بالمعنى الذي عرفت صار بيع ملك الغير لا يتلاءم مع طبيعة البيع، فحكموا ببطلانه.

180

أقول: لا أدري لماذا يكون بيع ملك الغير غير ملائم مع طبيعة البيع بعد أن فرض أنّ البيع التزام بنقل الملك وليس نقلا للملك؟! ولتكن مالكيّة البائع أو تحصيل رضا المالك شرطاً لحصول الانتقال كباقي الشروط التي قالوا: لو تخلّفت تأخّر حصول الانتقال عن زمان الالتزام إلى زمان تحقّق تلك الشروط.

وعلى أيّة حال، فقد ذكر صاحب الوسيط: يلاحظ أنّ التقنين الجديد سار على النظرية التقليديّة من أنّ نقل الملكيّة يسبقه التزام بنقلها، وهذا الالتزام يتمّ تنفيذه من تلقاء نفسه، فتنتقل الملكيّة إلى الدائن بحكم القانون، وينقضي الالتزام بنقل الملكيّة بمجرّد نشوئه. وهذا الوضع بقيّة تخلّفت عن تقليد القانون الرومانيّ والقانون الفرنسيّ القديم، حيث كانت الملكيّة لا تنتقل بالعقد.

ونقل صاحب الوسيط عن بنكاز: أنّه لا يوجد اليوم مانع من القول بأنّ العقد ذاته ينقل الملكيّة دون افتراض التزام موهوم يسبق نقل الملكيّة وينقضي بمجرّد أن ينشأ... على أنّه في بلد تتّبع نظام السجل العقاريّ يبرز التمييز بين الالتزام بنقل الملكيّة ونقل الملكيّة بالفعل، فالعقد لا ينقل الملكيّة بنفسه، بل يقتصر على إنشاء التزام بنقلها. أمّا نقل الملكيّة بالفعل فلا يتمّ إلّا بتسجيل العقد في السجل العقاريّ....

أقول: إنّ الامتياز الذي ذكره بنكاز لافتراض الالتزام الموهوم بالنسبة لبلد تتّبع نظام السجلّ العقاريّ ناتج من الخلط بين مطلبين كان ينبغي التمييز بينهما:

أحدهما: أنّ العاقد هل ينشئ نقل الملك؟ أو ينشئ الالتزام بنقل الملك؟

والثاني: أنّه حتى لو تمّ نقل الملك في اعتبار المتعاقدين، فهذا لا يعني تماميّته في اعتبار القانون، فقد يكون القانون مؤجِّلا للاعتراف بالملك لحين حصول شرط مّا.

181

والفقه الإسلاميّ يرى أنّ العقد إنشاء لنقل الملك مثلا لا للالتزام بنقله، وأنّ القانون يحكم فوراً بحصول النقل إن كانت الشرائط متوفّرة في حين العقد، وإلّا ففي غالب الفروض لا يحصل الملك عند تحقّق الشرط في وقت متأخّر إلّا بعقد جديد أو بإمضاء للعقد السابق. وقد يفترض نادراً شرط مّا شرطاً لحصول الملك لا لتماميّة العقد، فإذا حصل متأخّراً حصل الملك الشرعيّ مقارناً للشرط لا مقارناً للتمليك الاعتباريّ الذي صدر من المتعاقدين. مثاله: بيع الصرف بناءً على توقّف حصول الملك فيه على تماميّة القبض.

تعريف العقد في الفقه السنّي:

ولنعد الآن إلى التعريف الذي نقلناه عن فقه السنّة، وهو ارتباط الإيجاب بالقبول على وجه مؤثّر. وقد جعل الزرقاء اختصاص ذلك بالعقد الصحيح مرجّحاً له على التعريف المنقول عن الفقه القانونيّ.

إلّا أنّ كون هذا مرجّحاً له غير واضح، فأيّ بأس في تعريف العقد بالنحو الذي يشمل الباطل؟ فنحن تارةً نفتّش عن حقيقة العقد القائمة بنفس المتعاقدين، واُخرى نفتّش عمّا يحدثه الاعتبار التشريعيّ الذي أحدثه المشرّع، سواء كان هو العقلاء أو أيّ مشرّع آخر، ولا تلازم بين الأمرين كما قلنا في ما سبق بأنّ إنشاء نقل الملك في اعتبار المتعاقدين مغاير لحصول الملك في اعتبار القانون، ولا تلازم بينهما، ولا ينبغي الخلط بينهما، فبالإمكان أن ننظر في تعريف العقد إلى ما يقوم به المتعاقدان بقطع النظر عن مدى إمضاء الشرع له.

وذكر السنهوريّ ـ بعد نقله لما مضى من تعريف صاحب «مرشد الحيران» للعقد ـ: أنّ تعريف العقد الذي نقلناه عن مرشد الحيران ينمّ عن النزعة الموضوعيّة التي تسود الفقه الإسلاميّ دون النزعة الذاتيّة. فالعقد هو ارتباط الإيجاب بالقبول

182

لا من حيث أنّه ينشئ التزامات شخصيّة في جانب المتعاقدين، وهذا هو المعنىالبارز فى النزعة الذاتيّة، بل من حيث إنّه يثبت أثره في المعقود عليه، أي يغيّر المحلّ من حالة إلى حالة، وهنا تبرز النزعة الموضوعيّة التي أشرنا إليها. وسنرى أنّ هذه النزعة الموضوعيّة التي سادت الفقه الإسلاميّ لها أثر كبير في مبادئه الأساسيّة، وفي تفصيلات أحكامه، وهي التي جعلته يأخذ بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة(1).

أقول: إن كان المقصود بدلالة تعريف العقد في الفقه الإسلاميّ على النزعة الموضوعيّة لهذا الفقه الإشارة إلى ما يفهم من تعريف مرشد الحيران من اختصاص اسم العقد بالعقد الصحيح المؤثّر خارجاً دون الباطل الذي لا يثمر النقل والانتقال في المحلّ فمن الواضح أنّ مجرّد إدخال العقد الباطل في اسم العقد أو إخراجه عنه الذي لا يعود إلّا إلى مجرّد تسمية لفظيّة لا ينبغي أن يجعل شاهداً على النزعة الذاتيّة أو الموضوعيّة.

وإن كان المقصود الإشارة إلى أنّ العقد في الفقه الإسلاميّ يعتبر إنشاءً للتمليك مثلا بينما هو في الفقه الغربيّ يعتبر إنشاءً للالتزام بالتمليك فالموضوعيّة بهذا المعنى وإن كانت صحيحة لكن هذا لم ينشأ من افتراض نزعة موضوعيّة بشكل عامّ في الفقه الإسلاميّ. وسنوضّح إن شاء الله في محلّه ـ عندما نبحث ما أشار إليه السنهوريّ من الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة في العقد ـ بأنّ الفقه الإسلاميّ ملتزم في تلك المسألة بالجانب الذاتيّ لا الموضوعيّ، وأنّ المقياس في نظر الفقه الإسلاميّ هي الإرادة الباطنة، ولكنّها تجعل الإرادة الظاهرة دليلا على الإرادة الباطنة.


(1) مصادر الحقّ 1: 77.

183

والواقع أنّ الفقه الإسلاميّ ليست له بشكل عامّ نزعة ذاتيّة ولا نزعةموضوعيّة، بل يتبع في ذلك كلّ مسألة بالخصوص الدليل الخاصّ بتلك المسألة، والذي قد يؤدّي إلى التزام الذاتيّة وقد يؤدّي إلى التزام الموضوعيّة.

وعلى أيّة حال، فليس كلّ التعاريف الموجودة في الفقه الإسلاميّ تختصّ بالعقد الصحيح، فلننتقل هنا إلى تعريف للعقد من الفقه الشيعيّ.

تعريف العقد في الفقه الشيعي:

قد عرّف السيّد الخوئيّ العقد ـ على ما جاء في المحاضرات(1) ـ بأنّه شدّ أحد الالتزامين وعقده بالآخر، وهذا التعريف ـ كما ترى ـ يشمل العقد الصحيح والفاسد.

وهذا التعريف لا يرد عليه ما أورده الزرقاء على تعريف الفقه الغربيّ من شموله للوعد ـ كما هو واضح ـ فهو شريك مع تعريف الفقه السنّيّ في اختصاصه بالعقد بالمعنى الحقيقيّ للكلمة دون الوعد، وهو يستبطن أيضاً فرض وجود إيجاب وقبول، لكن لا بخصوص معنى الفعل والمطاوعة بمثل: (بعت وقبلت)، بل بمعنى أوسع من ذلك، وهو مطلق القرارين المرتبط أحدهما بالآخر ممّا يشمل أيضاً مثل: (بعت واشتريت).

ولكنّ عيب هذا التعريف هو تعبيره بالالتزام، وهو تعبير أقرب إلى تعريف الفقه الغربيّ منه إلى تعريف الفقه الإسلاميّ، فإنّ العقد ـ حسب نظر الفقه الإسلاميّ ـ ليس دائماً التزاماً، بل ربما يكون نقلا للملك مثلا لا التزاماً بالنقل.

فلعلّ الأولى تعبير المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله) حيث ذكر: أنّ العقد هو القرار


(1) المحاضرات 2: 67.

184

المرتبط بقرار آخر، والعهد عبارة عن القرار والجعل. فالعقد والعهد يتصادقان في مورد القرار المرتبط بالقرار، فحيثيّة القرار فيه هي حيثيّة العهديّة، وحيثيّة الارتباط هي حيثيّة العقديّة.

والعقد بمعناه اللغويّ أعمّ من العهد، لأنّ العقد لغةً هو ربط شيء بشي، والعهد لا أقلّ من ارتباطه بما تعلّق به، فكلّ عهد وقرار عقد، ولكن ليس كلّ عقد عهداً وقراراً، فعقد الحبل مثلا لا علاقة له بالعهد والقرار، ولكن العقد بمعناه الاصطلاحيّ أخصّ من العهد، لأنّ العقد هو القرار المرتبط بقرار، والعهد هو مطلق القرار من دون تقيّد بالارتباط بقرار آخر، والعهد الذي هو القرار والجعل قد يكون في المناصب المجعولة كالإمامة والخلافة، كما في قوله تعالى: ﴿إنّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيّتي قال لا ينال عهدي الظالمين﴾(1). وقد يكون في التكاليف كقوله تعالى: ﴿وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين﴾(2). انتهى ما أردنا نقله بالمعنى عن المحقّق الإصفهانيّ (رحمه الله)(3).

 

النسبة بين العقد والعهد:

أقول: إنّ العهد يستعمل بمعنيين كما تشهد بذلك كتب اللغة وموارد الاستعمالات.

الأوّل: الوصيّة، كما في عهد الإمام إلى مالك الأشتر، أو قل القرار، وهو يشمل القرار الوضعيّ والتكليفيّ. فالوضعيّ كما مضى من قوله تعالى: ﴿لا ينال


(1) البقرة: 124.

(2) البقرة: 125.

(3) راجع تعليقته على المكاسب: 35، وقسم منه موجود في كتابه في الإجارة: 17.

185

عهدي الظالمين﴾، والتكليفيّ كما مضى من قوله تعالى: ﴿وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي﴾، وكقوله تعالى: ﴿إنّ الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان﴾(2). والعهد بهذا المعنى يكون فعله (عَهِدَ)، ويتعدّى بـ (إلى).

والثاني: الميثاق، وفعله (عاهد) ويتعدّى بنفسه، أو (تعهّد) ويتعدّى باللام. قال تعالى: ﴿ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصّدّقنّ﴾(3)، وقال تعالى: ﴿براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين﴾(4)، وقال تعالى: ﴿ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار﴾(5).

والعهد بهذا المعنى الثاني هو الذي يتعلّق به الوفاء، قال الله تعالى: ﴿ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً﴾(6)، وقال تعالى: ﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم﴾(7)، وقال تعالى: ﴿والموفون بعهدهم إذا عاهدوا﴾(8)، وقال تعالى: ﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾(9).


(1) آل عمران: 183.

(2) يس: 60.

(3) التوبة: 75.

(4) التوبة: 1.

(5) الأحزاب: 15.

(6) الفتح: 10.

(7) النحل: 91.

(8) البقرة: 177.

(9) الرعد: 20.

186

وصحيح أنّ العقد بمعناه الاصطلاحيّ أخصّ من العهد، إلّا أنّ هذا بلحاظ المعنى الأوّل للعهد وهو الوصيّة. أمّا بلحاظ المعنى الثاني للعهد وهو الميثاق فلا، فربّ عقد لا يكون ميثاقاً كالبيع على ما مضى من أنّه نقل وليس التزاماً بالنقل، وكلّ ميثاق عقد، فإنّ الميثاق مشتمل على قرار مرتبط بقرار.

وأمّا ما ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم عن عبد الله بن سنان بسند تامّ عن الصادق (عليه السلام) في تفسير ﴿اوفوا بالعقود﴾، قال: العهود(1). فهو تفسير للعقد بفرد جليّ من أفراده كما هو شأن كثير من التفاسير الواردة للآيات الكريمة.

أمّا إذا حمل على حصر المقصود من العقد في الآية بالعهد فتسقط الآية عن صلاحية الاستدلال بها على اللزوم في مثل عقد البيع، لأنّ المقصود بالعهد في هذا الحديث المفسّر به العقد هو الميثاق لا الوصيّة والقرار، وذلك بقرينة الوفاء، والبيع ليس ميثاقاً كما مضى إلّا أن يقال: إنّ القرار المرتبط بالقرار أيضاً داخل عرفاً في مفهوم الميثاق، كما لعلّه أطلقت كلمة «الميثاق» على عقد النكاح في قوله تعالى: ﴿وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً﴾(2).

وجوب الوفاء بالعهد:

والعهد بمعنى الميثاق واجب الوفاء بدليل قوله تعالى: ﴿أوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولا﴾(3)، وبدليل قوله تعالى: ﴿أوفوا بالعقود﴾. ومن هنا نقول


(1) تفسير علي بن إ براهيم 1: 160، ورواه الحرّ العاملي في الوسائل 16: 206، الباب 25 من النذر والعهد، الحديث 3، عن العيّاشي.

(2) النساء: 21.

(3) الإسراء: 34.

187

بوجوب الوفاء بالشرط الابتدائيّ حينما يكون ميثاقاً، ولا يشترط أن يكون ضمن عقد، بل هو بذاته عقد وعهد ومشمول للآيتين. وإذا كان التزاماً في مقابل التزام شملته أيضاً أدلّة الوفاء بالشرط.

وقد يقال بصدق الشرط أيضاً فيما لو كان التزاماً رتّب عليه الملتزم له عمله بعلم من المشروط عليه، كمن يسافر مبنيّاً على التزام زيد بحفظ أهله وعياله، ويقبل زيد بذلك. نعم، لو كان وعداً ابتدائيّاً بحتاً لا يشتمل على شيء من هذه الاُمور لم يجب الوفاء به.

 

مصادر الالتزام في الفقه الغربي:

ثمّ إنّ الفقه الغربيّ جعل العقد مفردة من مفردات مصادر الالتزام. وإليك بعض خلاصة من التطوّر التاريخيّ لذلك، مأخوذ من كتاب الوسيط(1):

جاء في القوانين اللاتينيّة: أنّ مصادر الالتزام خمسة: العقد، وشبه العقد، والجريمة، وشبه الجريمة، والقانون. ويقصد بشبه العقد ما يصدر عن إرادة منفردة يوجب إثراء الغير، بينما العقد تتوافق فيه الإرادتان. ومثال ذلك ما لو بنى شخص داراً في أرض الغير أو غرس بستاناً في داره من دون عقد أو استيجار في ما بينهما، فشبه العقد عمل اختياريّ مشروع ينشأ عنه الالتزام نحو الغير، فيلتزم مثلا بأن يستمر في العمل الذي بدأه، وبأن يقدّم حساباً عنه، وينشأ منه التزام آخر في جانب ربّ العمل، فيلتزم هذا في حالة ما إذا أحسن الفضوليّ القيام بالعمل الذي أخذه على عاتقه بأن يردّ ما ينفقة الفضوليّ من مصروفات ضروريّة ونافعة، وبأن ينفّذ ما عقده الفضوليّ من التزامات في سبيل القيام بمهمّته.


(1) راجع الوسيط 1: الفقرة 22 - 34.

188

والجريمة هي العمل الضارّ يأتيه فاعله متعمّداً الإضرار بالغير، كما إذا أتلف شخص عمداً مالا مملوكاً لغيره فينشأ عنه الالتزام بالتعويض.

وشبه الجريمة هو الجريمة بفرق عدم العمد، وصدوره عن الإهمال وعدم الاحتياط، لا عن تعمّد الضرر.

وناقش في ذلك الاُستاذ بلانيول، فذكر: أنّ تقسيم العمل غير المشروع باعتباره مصدراً للالتزام إلى جريمة وشبه جريمة بحسب وجود نيّة التعمّد أو انعدامها لا أهمّية له، لا من حيث نشوء الالتزام ولا من حيث ما يترتّب عليه من الأثر. فشبه الجريمة ينشئ التزاماً كالجريمة سواء بسواء، والتعويض يدفع كاملا في الحالتين.

أمّا شبه العقد فهو في نظر الاُستاذ بلانيول تعبير مضلِّل، ذلك أنّ أصحاب الترتيب التقليديّ يزعمون أنّ شبه العقد قريب من العقد في أنّه عمل إراديّ، وبعيد عن الجريمة وشبه الجريمة في أنّه عمل مشروع.

والواقع عكس هذا تماماً، فشبه العقد ليس إراديّاً، لأنّ الملتزم الذي أثرى على حساب الغير ويلتزم بالتعويض ليس هو صاحب الإرادة. وإذا كنّا في شبه العقد قد نصادف عملا إراديّاً في مبدأ الأمر، كما إذا أقام شخص بناءً على أرض الغير فينشأ الالتزام في ذمّة صاحب الأرض، فهذه الإرادة إنّما صدرت من قبل الملتزَم له لا من قبل الملتزِم كي تكون الإرادة مصدراً للالتزام.

وشبه العقد عمل غير مشروع، فإنّنا إذا تعمّقنا في تحليل الالتزام الذي ينشأ من شبه العقد فنحن وإن كنّا نقف عادةً عند العمل الذي يبدأ به شبه العقد وهو مشروع دون شكّ فمن يدفع دَيناً غير موجود أو يقيم بناءً على أرض الغير يقوم بأعمال مشروعة، ولكنّ هذا العمل المشروع ليس هو الذي ينشئ الالتزام، فإنّ

189

الملتزم ليس هو الشخص الذي دفع الدَين أو أقام البناء. ومعروف أنّ سبب الالتزام يتّصل بشخص المدين لا بشخص الدائن، فهذا السبب يرجع إلى إثراء المدين دون سبب على حساب الدائن، فوجب عليه التعويض، فالإثراء دون حقّ هو إذن مصدر الالتزام وهو عمل غير مشروع.

ويذهب الاُستاذ بلانيول إلى أنّ للالتزام مصدرين اثنين: العقد، والقانون. ويردّ شبه العقد والجريمة وشبه الجريمة جميعاً إلى القانون، ذلك أنّ الالتزامات التي تنشأ من هذه المصادر الثلاثة ليست إلّا التزامات جزائيّة قامت بسبب الإخلال بالتزامات قانونيّة. ففي شبه العقد أثرى شخص على حساب غيره فأخلّ بالتزام قانونيّ هو أن لا يثري دون حقّ على حساب الغير. وكذلك في الجريمة وشبهها أخلّ بالقانون عن عمد أو غير عمد وينشأ عن الإخلال في كلّ هذه الاُمور بهذا الالتزام القانونيّ التزام جزائيّ فرضه عليه القانون وهو التعويض.

وفرق هذه الالتزامات الجزائيّة عن الالتزامات القانونيّة الأصلية أنّها ليست درءاً لضرر قد يقع في المستقبل، بل هي تعويض عن ضرر قد وقع في الماضي. على أنّه يلاحظ أنّ هذه الالتزامات الجزائيّة إنّما هي في الواقع الالتزامات القانونيّة ذاتها قد استحالت إلى التعويض على الوجه الذي تراه في الالتزامات التعاقديّة عندما تستحيل هي أيضاً إلى تعويض إذا لم يمكن تنفيذها عيناً، فكل التزام غير تعاقديّ يكون التزاماً قانونيّاً إمّا في صورته الأصليّة وإمّا في صورة استحال فيها إلى تعويض، وهو في الصورة الاُولى يراد به درء ضرر قد يقع، وفي الصورة الثانية يراد به التعويض عن ضرر قد وقع.

وأورد الاُستاذ السنهوريّ على مقالة الاُستاذ بلانيول ما يلي:

أوّلا: أنّ القانون مصدر ولو بشكل غير مباشر لكلّ الالتزامات بما فيها

190

الالتزامات التعاقديّة، ولكن كما اُبرز العقد مصدراً مستقلاًّ باعتبار أنّ القانون في مورده يؤثّر بشكل غير مباشر كذلك الأولى إبراز العمل كمصدر مستقلّ من مصادر الالتزام.

وثانياً: أنّه بالغ الاُستاذ بلانيول في تأكيده بأنّ شبه العقد عمل غير مشروع مع أنّ القول بأنّه عمل مشروع لا يخلو من الوجاهة، وذلك أنّ المثري على حساب الغير إنّما يلتزم بعمل إذا نظرنا إليه في أصله كان مشروعاً، وإذا نظرنا إليه في نتيجته كان غير مشروع، فهو عمل يتسبّب عنه إثراء على حساب الغير، فيبقى العمل في ذاته مشروعاً وإن تسبّبت عنه نتيجة غير مشروعة.

وأمّا التقنين المدني المصريّ القديم فيرى أنّ مصادر الالتزام ثلاثة: العقد، والفعل، والقانون.

وذكر السنهوريّ ـ تعليقاً عليه ـ أنّ الفعل إمّا أن يكون من شأنه أن يفقر الدائن دون حقّ وهذا هو العمل غير المشروع، أو أن يغني المدين على حساب الدائن دون سبب وهذا هو الإثراء بلا سبب. وفصل أحدهما عن الآخر أجلى بياناً وأوسع إحاطة.

وأمّا التقنينات الحديثة فهي ترى عادة أنّ مصادر الالتزام خمسة: العقد، والإرادة المنفردة، والعمل غير المشروع، والإثراء بلا سبب، والقانون. ويشترك هذا الترتيب الحديث مع الترتيب القديم في مصدرين هما: العقد والقانون. أمّا الجريمة وشبه الجريمة فيجتمعان في العمل غير المشروع. وشبه العقد في الترتيب القديم يقابله الإثراء بلا سبب. ويزيد الترتيب الحديث الإرادة المنفردة مصدراً للالتزام، وهذا الترتيب هو الذي أخـذ به أكثر الفقهاء في الفقه الحديث. ويلاحظ أنّ التقنينات الحديثة لا تورد في نصّ خاصّ مصادر الالتزام مرتبة هذا الترتيب

191

الخمـاسيّ بل إنّ هـذا الترتيب سيستخلص من التبويب الـذي اتّخـذته هـذه التقنينات.

هذا، وذكر السنهوريّ أنّ هذا الترتيب لمصادر الالتزام تغلب فيه الناحية العمليّة، وينقصه الأساس العلميّ الذي يرتكز عليه، فلا يكفي أن نقول: إنّ هذه مصادر الالتزام، بل يجب إرجاع هذه المصادر إلى اُصول علميّة منطقيّة.

وخلاصة ما قال في إرجاع هذه المصادر إلى اُصول علميّة هي: أنّ الوقائع في العالم هي التي تؤدّي إلى التغيير في العلاقات القانونيّة الموجودة، ولو سكن كلّ شيء لبقيت العلاقات القانونيّة على حالها، فإذا حدثت بعد ذلك أيّة حركة فقد يكون من شأنها أن تعدّل في هذه العلاقات. وهذه الحركة هي التي نسمّيها (بالواقعة)، فإذا كان من شأنها أن تنتج أثراً قانونيّاً سمّيت بـ (الواقعة القانونيّة)، وهي إمّا أن تكون راجعة لإرادة الإنسان واختياره، أو لا تكون كذلك، بل هي من عمل الطبيعة. فالوقائع الطبيعيّة المؤثّرة في تلك العلاقات مثالها الجوار والقرابة ونحوهما ممّا يرتّب عليه القانون إلتزامات معيّنة. أمّا الوقائع الاختياريّة فهي إمّا أعمال مادّيّة أو أعمال قانونيّة.

والأعمال المادّية هي التي لا تتقوّم بإرادة إحداث الأثر في الروابط القانونيّة كالأكل والمشي والحديث مع الناس ومعاشرتهم ونحو ذلك، فقد يريد صاحبها بها إحداث أثر قانونيّ جديد، وقد لا يريد. وهذه الأعمال تأثيرها في إحداث أثر قانونيّ إمّا أن يكون على أساس كونها أعمالا غير مشروعة تصدر من المدين فتفقر الدائن دون حقّ وهو العمل المادّيّ الضارّ، أو على أساس كونها أعمالا مشروعة نافعة تغني المدين على حساب الدائن.

والأعمال القانونيّة هي الأعمال الإراديّة المحضة المتّجهة نحو إحداث

192

نتائج قانونيّة، وهي إمّا أن تكون صادرة من جانبين أو من جانب واحد.

فالوقائع الطبيعيّة كالجوار والقرابة يرتّب عليها القانون التزامات معيّنة لاعتبارات ترجع للعدالة والتضامن الاجتماعي، لذلك يصحّ إسناد هذه الالتزامات للقانون مباشرة، فيكون هو مصدرها.

وأمّا الوقائع الاختياريّة، فإن كانت أعمالا مادّية مؤثّرة في العلاقات القانونيّة عن طريق الإضرار فهذه هي التي تسمّى بالعمل غير المشروع، وإن كانت أعمالا مادّية مؤثّرة عن طريق النفع، فهذه هي التي تسمّى بالإثراء بلا سبب، وإن كانت أعمالا قانونيّة صادرة من جانبين فهي العقد، أو من جانب واحد فهي الإرادة المنفردة.

أقول: إنّ هذا الأساس العلميّ لا يخلو من نقاش، لأنّنا نتساءل: ماذا يقصد بالوقائع الطبيعيّة؟ هل يقصد بها ما يكون خارجاً عن إرادة الإنسان؟ أو يقصد بها ما لا يكون متقوّماً بإرادة الإنسان ويمكن صدوره بلا إرادة؟ فإن قصد الأوّل فمثل الجوار والقرابة قد يحصل بالإرادة فيخرج من القسم الأوّل الذي فرض فيه أنّ القانون هو مصدر الالتزام، فقد يجاور الإنسان شخصاً بالاختيار، وقد يولد الإنسان زوجته بالاختيار فتتولّد قرابة الاُبوّة والبنوّة. و إن قصد الثاني دخل العمل غير المشروع في هذا القسم الأوّل لأنّه ليس متقوّماً بالإرادة، فلو أتلف شخصٌ مال شخص بلا إرادة واختيار ضمن له.

وكان الأولى به أن يقول ـ بدلا عن إبراز هذا الأساس العلميّ المزعوم ـ: إنّ هناك أسباباً بارزة للالتزام كثيرة الوقوع خارجاً وهي: العقد، والإرادة المنفردة، والعمل غير المشروع، والإثراء بلا سبب، وهناك أسباباً متفرّقة ومتشتّتة جمعناها تحت عنوان واحد وهو القانون.

193

 

شمول العقد لغير العقود الماليّة:

الأوّل: إنّ تعريف العقد في الفقه الإسلاميّ لا يختصّ بالعقود الماليّة وإن كان بحثنا هذا مخصوصاً بالعقود الماليّة. إلّا أنّ الدكتور السنهوريّ يظهر منه اختصاص العقد في مصطلح الفقه الغربيّ بالعقود الماليّة، حيث كتب يقول:

وليس كلّ اتّفاق يراد به إحداث أثر قانونيّ يكون عقداً، بل يجب أن يكون هذا الاتّفاق واقعاً في نطاق القانون الخاصّ، وفي دائرة المعاملات الماليّة.

فالمعاهدة اتّفاق بين دولة ودولة، والنيابة اتّفاق بين النائب وناخبيه، وتولية الوظيفة العامّة اتّفاق بين الحكومة والموظف، ولكنّ هذه الاتّفاقات ليست عقوداً، إذ هي تقع في نطاق القانون العامّ: الدوليّ والدستوريّ والإداريّ.

والزواج اتّفاق بين الزوجين، والتبنّي في الشرائع التي تجيزه بين الوالد المتبنّي والولد المتبنّى، ولكن يجدر أن لا تدعى هذه الاتّفاقات عقوداً وإن وقعت في نطاق القانون الخاصّ، لأنّها تخرج عن نطاق المعاملات الماليّة.

فإذا وقع اتّفاق في نطاق القانون الخاصّ وفي دائرة المعاملات الماليّة فهو عقد(1).

أقول: إنّ العقد في مصطلحنا وإن كان لا يختصّ بالعقود الماليّة ولكن بحثنا هذا خاصّ بالعقود الماليّة.

 

تقسيم العقد إلى إذني وعهدي:

الثاني: ذكر المحقّق النائينيّ (رحمه الله) ـ على ما جاء في تقرير بحثه ـ: أنّ العقد على قسمين: عقد إذنيّ، وعقد عهديّ. والعقد الإذنيّ إنّما يكون عقداً باصطلاح


(1) الوسيط 1: 139 الفقرة 39.

194

الفقهاء لا بالمعنى اللغويّ والعرفيّ، فهو عقد بالمسامحة لا بالحقيقة في معناهاللغويّ والعرفيّ، ذلك أنّ العقد الإذنيّ عبارة عمّا يتقوّم بالإذن حدوثاً وبقاءً ويرتفع بارتفاع الإذن.

والعقد العهديّ عبارة عمّا يتقوّم بالعهد والالتزام. والعقد لغةً وعرفاً عبارة عن العهد المؤكّد وهو غير موجود في العقود الإذنيّة كالوديعة والعارية ـ بناءً على أن يكون مفادها الإباحة المجّانية لا التمليك ـ. وهذا القسم من العقد غير مشمول لقوله تعالى ﴿اوفوا بالعقود﴾(1). وتختصّ الآية المباركة بالعقود العهديّة كالبيع وأمثاله.

وأمّا الوكالة فهي على قسمين: فتارةً تكون عبارة عن مجرّد الإذن في التصرّف مثلا وهي تبطل بمجرّد رجوع الموكّل عن إذنه، واُخرى تكون عبارة عن عقد حقيقيّ بين طرفين واجد للشرائط الخاصّة، وهي لا تبطل بمجرّد رجوع الموكّل، بل يتوقّف انفساخها على بلوغ الرجوع إلى الوكيل(2).

أقول: تقسيم الوكالة إلى قسمين غير واضح. والظاهر أنّ الوكالة ليست إلّا عبارة عن الإذن الصادر من الموكّل، أو هو مع رضا الوكيل بالوكالة، فالوكالة عقد إذنيّ. أمّا عدم انفساخها برجوع الموكّل قبل وصول ذلك إلى الوكيل فليس على مقتضى القاعدة، بل هو بدليل خاصّ.

وأمّا كون العقد لغةً وعرفاً عبارة عن العهد المؤكّد فالواقع أنّنا لو سلّمنا أنّ


(1) المائدة: 1.

(2) راجع منية الطالب 1: 33 و 112، وكتاب المكاسب والبيع تأليف الشيخ الآمليّ 1: 81 و 82 و 290.

195

العقد عبارة عن العهد فإنّما نقصد بذلك العهد بمعنى القرار كي يشمل مثل البيع لا العهد بمعنى الميثاق، بينما العقد في الآية الكريمة لو فسّر بمعنى العهد لكان بمعنى الميثاق لا القرار بقرينة التعبير بالوفاء كما مضى، فيلزم من ذلك أجنبيّة العقد بالمعنى المقصود عن الآية الكريمة.

والصحيح ما مضى من أنّ العقد عبارة عن قرار مرتبط بقرار، وأنّ العقد في الآية ليس بمعنى العهد، وتفسيره به في بعض الروايات تفسير بفرد جليّ.

وعلى أيّة حال، فنحن نقصد بالعقد الذي جعلناه موضوع بحثنا في هذا الكتاب ما أسماه المحقّق النائينيّ (رحمه الله) بالعقود العهديّة، ولا يشمل موضوع بحثنا ما أسماه (قدس سره) بالعقود الإذنيّة.

إلى هنا انتهى بحثنا في المقدّمة التي قدّمناها لفقه العقود.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. والآن حان وقت الشروع في صلب البحث عن فقه العقود، وفيه فصول ثلاثة:

 

197

 

 

 

 

 

الفصل الأوّل

 

نظرات فاحصة في إطلاقات أدلّة العقود

 

 

1 ـ كيفيّة إبراز العقد.

2 ـ العقود المستحدثة.

3 ـ أصالة اللزوم في العقود.

198

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة:

نبدأ حديثنا فى فقه العقود بالبحث عن مدى تواجد إطلاقات فى أدلّة العقود بلحاظ ثلاث جهات:

الاُولى: أنّه هل يشترط فى العقد شكل مخصوص زائداً على أصل إبراز المقصود؟ أو يكفي إبراز المقصود الذي هو ربط قرار بقرار بأيّ مبرز عرفيّ؟

والثانية: هل العقد المشروع عبارة عن العقود المسمّـاة عادةً فى الكتب الفقهية أو في المصادر الأوّليّة للفقه؟ أو أنّ أيّ عقد آخر استحدث أو يستحدث جديداً وفق الضوابط العامّة يكون مشروعاً وصحيحاً؟

والثالثة: هل أنّ إطلاقات العقود تقتضي اللزوم وتنفي التزلزل وإمكانيّة الفسخ بحسب الطبع الأوّلي للمعاملة أوْ لا؟

كلّ ذلك يتمّ في مباحث ثلاثة:

 

199

 

 

 

ـ 1 ـ

كيفيّة إبراز العقد

 

الجهة الاُولى: هل العقد يكفي فيه إبراز ربط قرار بقرار بأيّ مبرز عرفيّ؟ أو هناك شكل مخصوص يجب تقيّد العقد به؟

نبدأ بكلام عن الفقه الغربيّ في ذلك، ثمّ نقايس بينه وبين فقه الإسلام، ثمّ نختم البحث بالحديث عن مدى تماميّة الإطلاق في المصادر الأصليّة للفقه الإسلاميّ في ذلك.

 

كيفيّة الإبراز في الفقه الوضعي

ورد فى فقه القانون: أنّ العقد على ثلاثة أقسام: العقد الرضائيّ، والعقد الشكليّ، والعقد العينيّ. ولننقل شيئاً من التفصيل في ذلك عن كتاب الوسيط:

فالعقد الرضائيّ: هو ما يكفي في انعقاده تراضي المتعاقدين، أي اقتران الإيجاب بالقبول بلا حاجة الى شكل مخصوص، فالتراضي وحده هو الذي يكوّن العقد، وأكثر العقود في القانون الحديث رضائيّة كالبيع والإيجار وغيرهما.

والعقد الشكليّ: هو ما لا يتمّ بمجرّد تراضي المتعاقدين، بل يجب لتمامه فوق ذلك اتّباع شكل مخصوص يعيّنه القانون، وأكثر ما يكون هذا الشكل ورقة