56

من تفكير وروية لا عن نزوات وخواطر وقتية، إرادة يصح وصفها بأنها تعبر عن المصالح والإرادة الحقيقية للأمة، التي تشمل ـ كما قدمنا ـ الأجيال القادمة الى جانب الجيل الحاضر.

وبناءً على ذلك، فإنه يصبح من الجائز لدى أصحاب نظرية سيادة الأمة ان يكون للسلطة التنفيذية "حق الاعتراض" (أو ما يطلق عليه حق الفيتو)(1) على قرار البرلمان.

كما أنه يصبح جائزاً مشروعاً، لدى أصحاب هذه النظرية، أن يتكون البرلمان من مجلس آخر الى جانب مجلس النواب الذي يمثل الأمة، إذا كان ذلك المجلس الآخر (ويطلق عليه عادة مجلس الشيوخ) يهدف الى تمثيل تلك "الإرادة الثابتة" التي أشرنا إليها (أو كما يعبر عنها الفقهاء الفرنسيون: اتجاهات الرأي العام الطويلة المدى) فطالما كان هذا المجلس الآخر معارضاً لرأي مجلس النواب فإنه يمكن القول إذاً في هذه الحالة بأن سيادة الأمة لم يعبر عنها بعد بتلك "الارادة الثابتة" التي تعد معبرة عن الارادة الحقيقية للأمة، أو بعبارة أخرى عن سيادة الأمة.

* اما لدى أصحاب نظرية "سيادة الشعب" (التي يرجع



(1) يقصد به هنا ـ كما صرح في الهامش ـ الفيتو التوقيفي الذي يترتب فيه على الاعتراض مجرد توقيف القرار لإعادة النظر فيه، بحيث لا يمكن صدور القانون إلا بعد الموافقة عليه من البرلمان بأغلبية خاصة تزيد عن الأغلبية العادية التي تصدر بها القرارات.

57

مصدرها كما قدمنا الى روسو)(1) فإن الأمر بالعكس؛ إذا ان إرادة الأغلبية يجب احترامها وتنفيذها، دون حاجة الى البحث عما إذا كانت تمثل "ارادة ثابتة" صادرة عن الأمة.. وبناءً على ذلك فإنه لا يجوز لدى أصحاب هذه النظرية أن يكون للسلطة التنفيذية حق الفيتو، كما لا يجوز أن يتكون البرلمان من مجلسين، بل يجب أن يقتصر في تكوينه على مجلس واحد (اللهم إلا في حالة الدولة التعاهدية أو الفيدرالية).

* يرى روسو أن نواب الشعب لا يصلح أن يكونوا إلا خاضعين لإرادة الشعب، يصدر إليهم الناخبون تعليماتهم ورغباتهم التي يجب على أولئك النواب تنفيذها، كما ان للناخبين حق عزل أولئك النواب متى شاؤوا.

ومن ذلك يُرى أن روسو يأخذ بنظرية الوكالة الإلزامية التي تعد منافية للديموقراطية النيابية (الغربية)(2).



(1) إشارة الى أول كلامه الذي لم ننقله هنا.

(2) ذكر هنا في الهامش ما نصه:

لا يفوتنا هنا أن نشير الى ان من خصائص النظام النيابي في الديموقراطية الغربية الكلاسيكية أن لأعضاء البرلمان قسطاً من الاستقلال عن الناخبين في ممارسة سلطتهم.. لأن النواب يعدون ممثلين للأمة (أي للمصالح العليا التي تضم الأجيال القادمة) لا ممثلين لمجرد إرادة الناخبين الحاليين. ويترتب على ذلك أنه ليس للناخبين املاء ارادتهم على النواب ولا حق عزلهم.

58

هذا هو المقدار الذي أردنا نقله من عبارة الدكتور عبد الحميد متولي.

*. *

وعلي أي، فإن قال أنصار الديموقراطية إن طرف العقد هم (الشعب) ـ أي الموجودون فعلاً ـ ثار التساؤل عن حقوق القادمين من الأفراد، وكذا الموجودين القاصرين حين يبلغون سن الانتخاب القانونية، وما هو المبرر لاختصاص حق السيادة بالموجودين البالغين فعلاً؟

فإذا قيل ان القادمين والبالغين في المستقبل عندما يرون القانون على خلاف مصلحتهم لهم أن يبدلوه لو شكلوا الأكثرية، أما ما داموا الأقلية فلا أشكال إلا ما قيل سابقاً من سحق الأكثرية لحقوق الأقلية، وانه لم تثبت موافقة الأقلية للأكثرية حتى في مجال "مبدأ الأكثرية" نفسه، فيؤدي الأمر الى سحق حقوقهم والتحكم بمصالحهم.

فإن الجواب عن ذلك يتوضح إذا أدركنا وجوه الفرق بين هذه الأقلية (القادمين والقاصرين غير البالغين) والأقلية التي ذكرناها فيما سبق، وتتلخص فيما يلي:

الأول: أنه كان يمكن أن يفترض (ولو كفرض محتمل عقلاً) ان شعباً ما اتفق كل أفراده على مبدأ (الأخذ برأي الأكثرية)، إلا أن هذا الفرض غير صحيح مع أقليتنا هنا، وكيف نضمن موافقتها

59

حينما تقدم أو تبلغ السن القانونية، ولو جاءت ولم توافق، فماذا نصنع كي نضمن تمامية العقد الاجتماعي لأمد معقول؟!

الثاني: أن القاصر قد يكون قصوره واضحاً كالطفل الصغير وغير المميز الرشيد، وقد لا يكون كذلك. وهنا تكمن حاجة لوضع قانون يميز القاصرين عن غيرهم، فمن ذا الذي يضع هذا القانون؟ هل الأكثرية أو من يمثلها، مع أننا لم نزل نجهل عدد الأفراد المؤهلين للتصويت قبل تشريع هذا القانون؟ وهل يمكننا مع عدم تحديد نطاق البالغين أن ندعي حصول إجماع ما ولو على مبدأ (الأخذ برأي الأكثرية)؟!

الثالث: ان القادمين أو القاصرين بعد قدومهم أو بلوغهم، قد يشكلون بالتدريج الأكثرية التي يمكنها أن تغير القانون لصالحها، فتمنع من إجحاف الماضين من الآن فصاعداً بمصالحها. ولكن كيف يمكن لهذه الأكثرية ـ رغم كونها أكثرية ـ أن ترفع الضرر الذي لحق بها من جراء تنفيذ قوانين سابقة أضرت بهؤلاء القادمين مع عدم إمكان رفع الضرر، كما لو كانت حقول النفط واحتياطياته قليلة في منطقة ما ورأت الأكثرية تصريف كل قطرة فيها، فرفعت الإنتاج الى اقصى حد حتى نفدت، الأمر الذي رفهها هي من جهة، ولكن ألقى الأجيال الآتية في حاجة شديدة جعلتها تشتري النفط من السوق العالمية بأثمن القيم؟! وهكذا قل بالنسبة لإزالة الغابات

60

في عصر مما يؤثر على نقاء البيئة في العصر التالي، وعقد المعاهدات التجارية أو السياسية الطويلة الأمد، وأمثال ذلك.

كل هذا إذا التزم بالمسلك الأول، وهو كون طرف العقد هو الشعب. أما لو التزم بالمسلك الثاني ـ وهو كون طرف العقد الأمة بما يشمل القادمين أيضاً ـ فإن للتساؤل مجالاً عن كيفية ضمان حقوق القادمين والقاصرين (ولو القاصرين قانونياً بغض النظر عن مناقشتنا في ذلك).

وللديموقراطية أن تجيب على هذا التساؤل، باتخاذ بعض الإجراءات الكفيلة بضمان حقوقهم، من قبيل ما يلي مما يعرف أكثرها من النص الذي نقلناه عن كتاب عبد الحميد متولي:

الأول: أن يلتزم المصوّتون بعدم اتباع مصالحهم، وأخذ رغباتهم فقط في الحساب، وإنما التوجه الى المصالح العامة للأمة بما فيها القادمون.. وذلك على أساس وجود حق لهم في ثروات الأرض والطبيعة، ومشاركتهم المنتظرة لهؤلاء في الحياة الاجتماعية. وهكذا يلتزم المنتخبون والنواب بأن لا ينظروا الى المصالح المقصورة على موكليهم، وإن وسعوا من مدى نظرهم ليشمل الأمة بمجموعها.

الثاني: منح أعضاء البرلمان نوعاً من الاستقلالية عن الناخبين

61

ليفسح لهم المجال فتؤخذ حقوق القادمين بعين الاعتبار، ولا يتقيدوا بإطار مصالح ناخبيهم.

الثالث: أن يضع المشرع من الشروط والقيود على ناخبية الفرد ما يراه كفيلاً بحسن أداء هذه الوظيفة بشكل يكون في صالح الأمة.

الرابع: قد يقسم البرلمان الى مجلسين أحدهما للنواب والآخر للأعيان الذين يُنتخبون على أساس خبراتهم الطويلة وحنكتهم، مما يؤهلهم للتفكير في المصالح البعيدة الأمد.

الخامس: وقد تمنح السلطة التنفيذية حق الفيتو ضد قرار البرلمان حفاظاً على حقوق القادمين.

إلا أن هذه لا تشكل علاجاً ناجعاً للمشكلة، حتى ولو غضضنا النظر عن أنه لا معنى لافتراض تحرك الموجودين فعلاً شعباً وحكومة وفق مصالح المجموع الشامل للقادمين، وضمان عدم الانحراف عن هذا الخط بعد أن كان الدافع النفسي منحصراً بشكل عام في المجالات المادية الدنيوية الضيقة، ولم يكن هناك أي دخل للدين في الحساب بالمعنى الحقيقي للكلمة.

نعم، حتى لو لم نلتفت لهذا فإن التساؤل باقٍ عن كيفية قيام العقد الاجتماعي على ذلك، بعد أن كان القادمون معدومين فعلاً وعن من ينوب عنهم في الموافقة على العقد.

62

ولا يمكن هنا أن يدّعي أن الشعب الحاضر أو قسماً منه هو الممثل لأولئك، أو أن الشعب يمثل الأمة، ذلك أن هذا التمثيل نفسه يحتاج الى عقد مسبق بين الممثِّل والممثَّل، وإلا فمن الذي سمح لهؤلاء أن يكونوا أولياء لأولئك ويمثلوهم؟!

ولو أدُّعي عدم الحاجة الى ولاية وعقد من هذا القبيل، قلنا: إذا تم هذا الإنكار فلماذا لا ننكر الاحتياج في أصل انعقاد السلطة الى عقد يوافق عليه الموجودون، وعند ذلك يمكننا أن نرجع الى الحكم الاستبدادي أو الدكتاتوري.

أما وأنكم تحاولون إقامة الحكم على أساس من العقد الاجتماعي فإنكم تصطدمون لا محالة بهذا الحاجز الذي لا مخلص منه في مجال تحقيق عقد يشارك فيه المعدومون ولو بممثليهم.

وهكذا رأينا أننا لن نصل الى شكل صالح للحكم يبرره الوجدان الانساني، سواء في ذلك الدكتاتورية أو الديموقراطية، وذلك حتى لو لم ننظر لمسألة الحكم من زاوية نظر الاسلام.

*. *

الإسلام والديموقراطية

ونحن إذ نركز على الديموقراطية باعتبارنا مسلمين نضيف على المؤآخذات السابقة ما يلي:

63

أولاً: إن الولاية التامة لله تعالى وحده لا شريك له، وليست لأحد على أحد ولاية مستقلة عن الله تعالى، وإنما تُستمَد من الله وبأمره.

أما العقد الاجتماعي، فلا يمكنه أن يحل المشكلة في نظر الفقه الاسلامي؛ ذلك لأن إدارة الدولة بحاجة الى كثير من الأمور التي يجب أن تقوم بها الهيئة الحاكمة، وهي بالنظر الأولي محرمة إسلامياً حتى بعد التعاقد والاشتراط، ولا تخرج عن حرمتها إلا بولاية تستمدها السلطة من قبل الاسلام. وكذلك لا دليل على ثبوت حق الولاية على مثل إقامة الحدود أو التصرف في ممتلكات القاصر بمجرد العقد او الشرط لمن لم يكن له ذلك.

﴿إن الحكم إلا لله أمَرَ ألاّ تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون(1).

وهكذا فالحكم في التصور الاسلامي لله تعالى لا لغيره.

ثانياً: إن المسلم يعتقد أن الله الخالق الحكيم العليم هو الأعلم بمصالح الانسان وأسلوب إشباع احتياجاته إشباعاً عادلاً منسجماً مع القوانين التكوينية.



(1) سورة يوسف الآية 40.

64

لأنه خالق العالم والمجتمع والانسان، وهو أعلم به وبما يحقق كماله.

وعليه، فلا معنى لتسليم أمور التشريع والتقنين وتنظيم أمور شكل الحكومة بيد الناس الذين يجهلون الكثير الكثير عن أنفسهم فضلاً عن جهلهم الواسع بالعالم وأسراره، مع وجود الخالق العظيم الحكيم، وقد أنزل لهم من النظم والأحكام ما يسعدهم ويهديهم سواء السبيل.

ونتيجة هذين التعليقين هي عدم صحة اعتناق المسلم للديموقراطية والعمل بها (حتى في مجال انتخاب الهيئة التنفيذية فقط) إلا أن يأمر الاسلام ويسمح بذلك.

*. *

المبدأ الثاني لاستمداد الولاية هو الله تعالى

فهو تعالى الخالق والمنعم والمولى الحقيقي للكون والناس، وقد عرفنا ـ من خلال ما سبق ـ أن هذا المبدأ هو المبدأ الصحيح الوحيد الذي يجب أن تستمد الحكومة قدرتها وولايتها منه. فإذا تم ذلك فلا ريب في ضمان موافقة الوجدان بل تأكيده على هذا الشكل، بعد أن استمدت الولاية من صاحبها الحقيقي، وبعد أن كان ذلك هو الضمان الوحيد لتحقيق مصالح الأمة في الحياة الدنيا على أساس التشريع الإلهي وحكومة الولي من قبل الله، كما أن هذا

65

هو الضمان الوحيد ـ أيضاً ـ لتحقيق رضا الله عز وجل وسعادة الحياة الآخرة.

ووفقاً لهذا المبدأ لا معنى للبحث عن كون السيادة للشعب أو للأمة وأمثال ذلك، وإنما السيادة الحقيقية لله لا غير، وهو يعين السلطة الحاكمة. وهنا يجب البحث عن نوعية هذه الولاية ولمن أعطيت من قبل الله.

هل ينتهي الحكم الإسلامي للإستبداد؟

ربما يُدعى في هذا الصدد أن الحكم الإلهي يعني الالتزام بالثيوقراطية التي تؤكد على ان السلطة الحاكمة تستمد قدرتها على الحكم وقدسية أوامرها من الله تعالى، وهي بالتالي تحكم بلا منازع ولا رادع ودون أي حساب، إذ الراد عليها يعتبر راداً على الله وهو المولى الحقيقي الذي يحكم بما يشاء، وكذلك تحكم حكومته بما تشاء، وهذا يؤدي الى أتعس ألوان الحكم الاستبدادي الدكتاتوري.

والواقع أن هذا الادعاء باطل وبلا أي مبرر، فإذا افترضنا كون رئيس الدولة معصوماً من الزلل والخطأ والانحراف ـ كما هو الحال في رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في رأي الشيعة ـ فلا معنى لهذا، إذ الواقع حينئذٍ أن السماء

66

بكل ولايتها وعطفها وعلمها وحكمتها هي التي تحكم، وكذا الحال حينما يكون الحاكم نائباً خاصاً للإمام المعصوم يتشرف بخدمته ويسترشد بهداه، كما هو الحال في النواب الأربعة (رضوان الله تعالى عليهم) في رأي الشيعة.

أما لو لم يكن الحاكم معصوماً ـ بأن كان الحاكم هو نائب الإمام العام، كما سيأتي توضيح ذلك ـ أو الشخص المنتخب بالشورى ـ كما يرى بعض علماء السنة ـ فإن لهذا المدعى مجالاً، ولكنه مع ذلك لا يتم إذا اخذنا بعين الاعتبار نقطتين هامتين:

النقطة الأولى: التربية الاسلامية للقادة والمجتمع:

الاسلام يولي اهتمامه الكامل بتهذيب نفوس المسلمين عموماً، ويؤكد على تربية القائد المسلم تربية ممتازة توجِد في أعماقه الدوافع الدينية الأخلاقية الأصيلة التي تعبر عن نفسها في موضوعية أصلية واتباع للحق أينما كان، وتضحية بالنفس والنفيس في سبيل أمر الله وتطبيق شريعته ونشر العدالة الحقة..

بينما كنا نناقش النظام الديموقراطي بعد امتلاكه الضمان الكافي لمنع أتباع الأهواء والمصالح الشخصية وتقديمها على المصالح العامة ـ ذلك لأن إطار النظام اطار مادي ضيق ـ نجد أن إيمان المسلمين وحكامهم بالله العظيم والآخرة والمثُل والقيم الاسلامية وانخراطهم في اطار عملية التربية الاسلامية الشاملة يشكل

67

ضماناً قوياً لعدم الانحراف.

ويمكن ـ لأجل التعرف على أساليب هذه التربية الرائعة ـ مراجعة ما كتبه سيدي الاستاذ آية الله العظمى السيد الصدر (رحمه الله) بشكل مشبع في مقدمة كتابه القيم "فلسفتنا" وغيرها من كتاباته، وكذلك مراجعة كتابنا "الأخلاق".

وقبل أن ننتقل الى النقطة الثانية لا بأس ببيان خلاصة ما يستفاد من كلمات مونتسكيو في ذكر الأسس التي ينبغي ارتكاز الحكومات عليها كي تبقى الدول متماسكة ونزيهة الى حد معقول، وهي عنده عبارة عن أسس ثلاثة بعدد أقسام الحكومات عنده؛ فالحكومات عنده منقسمة الى ثلاثة أقسام: الجمهورية، والملكية الدستورية، والمستبدة.

والأسس التي ينبغي ارتكاز هذه الحكومات عليها ثلاثة: التقوى أو الفضيلة، والشرف، والخوف أو الرعب.

فالأول ينبغي أن يكون أساساً للجمهورية، والثاني ينبغي أن يكون أساساً للملكية الدستورية، والثالث ينبغي أن يكون أساساً للحكومة الاستبدادية.

أما التقوى أو الفضلية، فليس مقصوده بها التدين أو الاتصاف بما يعتبره علماء الأخلاق من الصفات الحسنة، وإنما المقصود بها حب الوطن والمساواة وأن يحب دولته أكثر من نفسه، وهو يرى

68

أن الجمهورية على قسمين:

1 ـ الديموقراطية: ويكون الحكم فيها بيد الكل، وحينئذٍ لولا تفاني المجتمع في حب الوطن والمساواة لفسدت الدولة وانهارت الحكومة، إذ لا قوة مركزية مهيمنة تمسك زمام الأمور بيد حديدية وتمنع عن طغيان بعض على بعض وتبقى الدولة متراصة متماسكة، فالشيء الوحيد الذي يحفظ الدولة عن الفساد والانهيار هو شيوع التقوى والفضيلة.

2 ـ الارستقراطية: ويكون الحكم فيها بيد قسم من الشعب. وهذه الحكومة أيضاً بحاجة الى أساس التقوى والفضيلة، ولكن لا بقدر حاجة الجمهورية الى ذلك.. وذلك لأن قسماً من الشعب، وهم غير الارستقراطيين ـ نسبتهم الى الارستقراطيين كنسبة الرعايا الى الملك في النظام الملكي ـ مقيدون ومسيّرون بالقوانين التي يمليها عليهم الارستقراطيون، والحكومة الارستقراطية في حد ذاتها أقوى من الحكومة الديموقراطية، وأقدر على تقييد الشعب وتسييره.

أما الارستقراطيون فيما بينهم فلا يفيدهم القانون ولا الضمان لانحفاظ المساواة في الحقوق فيما بينهم إلا بالتقوى والفضيلة؛ فلو كانت التقوى عندهم قوية جداً الى حد تجعلهم يوجدون المساواة بينهم وبين الشعب عاد الأمر الى جمهورية واسعة، ولو كانت تقوى

69

خفيفة نسبياً أنتجت على الأقل تساوي الارستقراطيين فيما بينهم وحفظتهم من الانهيار.

وأما الشرف فيقصد بذلك روح الكرامة والإباء الشعبيين وطلب الجاه والطموح في مقابل الخسة ودناءة الطبع. ويرى أن هذا ينبغي أن يكون أساساً للملكية الدستورية؛ فمن ناحية من الصعب أن ننتظر من رجال البلاط الملكي عدم الظلم والطغيان وعدم سوء الخلق، وبالتالي من الصعب أن نفترض في أفراد أمة تعيش تحت أيدي هؤلاء أن يصبحوا من ذوي التقوى ويحبون وطنهم وحكومتهم ودولتهم، إذ هذا يعني أن الحاكمين يظلمون ويغفلون دائماً والمحكومين يغفلون ويستسيغون الظلم دائماً.

ومن ناحية أخرى لا حاجة مهمة في نظام الحكومة الدستورية الى التقوى، إذ القوانين في هذا النظام إذا انضمت الى أساس الشرف نابت مناب التقوى، فقوة القانون تقيد الناس وتسيرهم وقوة الشرف أيضاً تحركهم نحو الخير بدافع كسب الشهرة والمحبوبية. وهذا ـ وإن لم يكن شرفاً فلسفياً واقعياً، بل هو شرف ظاهري تصنّعي ـ يفيد في بقاء أعضاء الهيئة متماسكين وإبقاء الدولة في خير وعافية.

أما الحكومة الاستبدادية فلا يجتمع معها الشرف في نفوس المجتمع؛ فإن الشعب نسبتهم الى الملك المستبد نسبة العبيد الى

70

المولى، بينما الشرف وإباء النفس يمنع عن ذلك، ولا يستطيع الملك المستبد أن يتحمل من الشعب الشرف والإباء وعدم الهروب من الموت. فالشرف ـ الذي كان يوجد في الممالك الدستورية ويقوي الهيئات السياسية والقوانين بل ويقوي التقوى ـ لا يوجد في الممالك الاستبدادية.

فما هو الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الحكومة الاستبدادية؟

ليس هو التقوى ولا حاجة إليها، ولا الشرف بل الشرف، كما عرفت يولد الأخطار والمشاكل، بل هو الخوف والرعب كي يمنع من ناحية أن يفكر أحد في قلب الهيئة الحاكمة أو يحس بطلب الجاه والمقام ويمنع من ناحية أخرى رجالات الحكومة والذين بيدهم زمام أمور المملكة من ظلم الشعب؛ إذ لولا خوفهم من الملك فإنهم لا يبقون شيئاً ولا يذرون، حيث لا شرف ولا تقوى ولا قوانين ثابتة ومتقنة، وإنما الشيء الوحيد هو إرادة الملك.

أما شأن الدين ورجال الدين، فيرى "مونتسكيو" بهذا الصدد أن الملك المستبد لا يقف أمام إرادته وقدرته عدا الدين؛ فالملك لو أمر إنساناً أن يترك أباه تركه، أو أن يقتله قتله، أما لو أمر الناس بشرب الخمر فلم يشربوا لأن الدين الذي تنبسط سلطته على الناس وعلى الملك نفسه لا يسمح بذلك.

أما في الحكومة الدستورية والمعتدلة في التصرف، فالشرف

71

هو الذي يحدد من قدرة الملك، فلا يتحدث أحد مع الملك عن الدين، ولو تحدث معه أحد رجال البلاط عن الدين لكان قابلاً للاستهزاء، وإنما يتحدث معه دائماً عن الشرف وعلو النفس.

ومع هذا، فبما أن الحكومة الملكية الدستورية تنقلب بطبيعتها الى الاستبداد لولا وجود روابط ووسائط وقوى فيما بين الملك والشعب، فلابد من وجود أشراف من ناحية عن طريقهم تطبق القوانين وتجري فيما بين الناس كي لا ينقلب الملك رأساً الى ملك مستبد، ومن ناحية أخرى ينبغي أن تكون لرجال الدين قدرة ونفوذ عند الشعب في مقابل نفوذ الحكومة، على الخصوص إذا كانت الحكومة تميل الى الاستبداد؛ أما في الحكومة الجمهورية ففرض القدرة لرجال الدين خطر وغير صحيح.

هذه خلاصة ما يمكن استفادته مما كتبه مونتسكيو خلال عدة صفحات من كتابه (روح القوانين).

ونحن إزاء هذا النص لا نملك إلا أن نفترض أن مونتسكيو وأمثاله يتحدثون عن حكومات مثالية وخيالية لا تمتلك نصيباً من الواقع وإنما تعيش على مستوى فروض فلسفية ممكنة وصور عقلية تجريدية. وإلا فلو كان البحث عن واقع حكومي خارجي فإننا نجد ـ عادة ـ أنه لا يقف أي شيء في قبال المصالح الشخصية والظلم والطغيان اللذين ينتجهما حب الذات الا الدين والعقيدة

72

والأخلاق الفاضلة التي تغرسها السماء عن طريق الأنبياء والوحي في النفوس.

ولا نقصد بالدين طبعاً ذلك الدين الذي لا يملك من القدرة إلا منع الناس من شرب الخمر بينما لا يستطيع أن يمنع الابن من قتل أبيه! ـ كما جاء في كلمات مونتسكيو ـ وإنما نعني الدين الذي لم يكن مونتسكيو وأمثاله من أئمة القوانين الوضعية قادرين على تصوره؛ إنه الدين الذي يأمر بكل ما هو خير وينهى عن كل ما هو شر، ويربي الانسان المضحي بماله ومقامه ودمه في سبيل انتصار العقيدة طالباً بذلك رضا الله لا غير.

أما إذا ضربنا صفحاً عن العقيدة والدين، فسوف لن نلقى أي ضمان في النظام الدستوري أو الجمهوري لاتباع الحق والعدل، وأي شرف يتصور فيمن لا يعتقد بنظام مسيّر للحياة مبشرٍ كلّ من ضحى بمصالحه الشخصية الدانية لصالح المجتمع والعقيدة بجنة عرضها السماوات والأرض، والخلود في السعادة الأبدية، كما لا يعتقد بحقيقة المثُل والقيم التي غرستها أوامر السماء في النفوس؟!

وما مضمون السعي لتحقيق المساواة ودوافعه مادامت الغريزة الذاتية تثور في الفرد فتدفعه للتعالي على الآخرين ومنافستهم في حطام الدنيا وملذاتها، ما لم تؤطر هذه الغريزة بإطار تربوي سماوي؟!

73

أما حب الوطن ـ بالمعنى الذي يفهمه الانسان الغربي ـ فسوف لن يؤدي إلا الى مد النظر الى الأوطان الأخرى وخيراتها والعمل على استعبادها واستعمارها، محققاً بذلك مصالح وطنه في قبال مصالح الأوطان الأخرى. هذا بالنسبة لخارج الوطن، أما بالنسبة للداخل فمن الطبيعي أن يقدم مصالحه الشخصية على مصالح الآخرين عندما تتعارض فيما بينها، متبعاً بذلك غريزة حب الذات.

فلا شرف إذن ولا تقوى، بمعنى يؤدي الى المنفعة العامة في نظام جمهوري أو ملكي دستوري.

والدين وحده ـ وبمعناه الصحيح ـ هو الذي يكفل إجراء الحق والعدالة في المجتمع وعدم انحراف الحاكم واستبداده مادام المجتمع متديناً حقاً بالدين الصحيح. ونحن عندما ننظر للحكم الاسلامي الذي يقوده انسان غير معصوم ولكنه يستمد ولايته من الدين، فإنما ذلك مع إفتراض اطار ديني عام للحكومة والمجتمع لنتوقع بعد ذلك الثمار الطيبة.

وعلى أي حال، فإن العنصر الكفيل بأن لا ينتهي الحكم الاسلامي الى الاستبداد يتوفر في روح الحكم الاسلامي نفسها، وهو الدين والتدين، ومن المعقول تماماً أن يهتم أولياء الله بتربية المجتمع الذي يقوده الدين، كما توفر ذلك في بعض عصور التطبيق الإسلامي الصحيح، كعصر النبي (صلى الله عليه وآله) الذي مارس التجربة في منطقة كانت

74

أبعد ما يتصور من الإنسانية والشرف والتقوى والأخلاق، فأوجد ذلك المجتمع الذي تؤطره التقوى والعدالة.

هذا في حين تفقد النظم الأخرى ما يكفل لها من ذاتها عدم التحول الى الاستبداد، كما لا يتوفر لها عادة في الواقع الموضوعي عامل يحول دون هذه النهاية المرة.

وهذه ديموقراطيات العالم اليوم نراها ونلمس آثارها وما جرته على العالم من دمار واستعمار وامتصاص لدماء الشعوب الضعيفة، ومازال العالم يعيش على فوهة بركان مطامعها ويهدده بين آونة وأخرى شبح الحروب العالمية وما يتبعها من الفناء والاضمحلال.

وكذلك عدنا نرى أن المساواة ـ لو صحت في نفسها ـ لا وجود لها في المجتمعات الديموقراطية ـ إطلاقاً، أما المجتمعات التي فرضت عليها المساواة قسراً فلا مسحة ديموقراطية لها إطلاقاً.

إن الدولة التي ينتظر منها العدل وإقامة الحق ومراعاة الوظائف الحقيقية للدولة، هي تلك التي تجعل نصب عينيها أداء حق العبودية لله جل وعلا وطلب مرضاته، لا الدولة التي تنتابها الأهواء والمصالح ولا يستهدف أفرادها ـ عند دراسة خلفيات أهدافهم ـ إلا الاعتلاف والتقمم، وإشباع الرغبات الضيقة.

هذه هي النقطة الأولى التي تمنع من تحول الحكم الاسلامي الى حكم مستبد.

75

النقطة الثانية: عدم الانسجام بين شكل الحكم الاسلامي والاستبداد.

وذلك أن الصيغة التي يمكن استفادتها لشكل الحكم الاسلامي، والتي تمنح من خلالها الولاية للهيئة الحاكمة ـ بعد فرض عدم وجود المنصوص عليه من قبل السماء كرسول الله (صلى الله عليه وآله) عند جميع المسلمين والأئمة المعصومين (عليهم السلام) عند الشيعة ـ هذه الصيغة هي أحد أمرين:

الأمر الأول: نظام الشورى:

ويدعي بعض علماء السنة قيام الحكم منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هذا الأساس، في حين يرى الشيعة أن الحكم أوكل بنص من النبي وبأمر إلهي الى الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، فإذا أمكن تصور نظام للشورى ـ عندهم ـ فليس إلا في عصر غيبة المعصوم الكبرى.

وعلى أي حال، فنظام الشورى (لو قبلنا به في عصر الغيبة) يختلف عن الديموقراطية في أن أمر التشريع الرئيس ليس بيد الناس، بل بيد الله تعالى عن طريق الأحكام والشرائع الاسلامية، وقد ترك الاسلام منطقة فراغ معينة المعالم يقوم بملئها ولي الأمر في الإطار الاسلامي العام. فإذا أمكن تصور شورى فإنما هي في ملء هذه المنطقة فحسب وعلى ضوء تصورات الاسلام، أو في انتخاب من

76

يملؤها ومن ينفذ القوانين الاسلامية.

كما أن نظام الشورى يختلف عن النظام الدكتاتوري، بأنه لا استبداد لرئيس الدولة في شيء، لا في التشريعات الأساسية ولا فيما أسميناه بمنطقة الفراغ ولا في انتخاب المنفذين؛ لأن التشريعات الأساسية بيد الله والاسلام، وأما الأمور الأخرى فتتم بالشورى لا بالاستبداد.

إلا أننا سنوضح ـ في بحث الشورى بطلان هذا التصور للحكم الاسلامي، وأن نظام الشورى لا يمتلك أي مستند شرعي مطلقاً.

الأمر الثاني: نظام نيابة الفقيه عن الامام المعصوم (عليه السلام)، فيكون الولي الحقيقي هو الامام المعصوم، وهو الذي عين الفقيه نائباً عنه.

وهذا هو الشكل المنسجم مع المنهج الشيعي.

ويختلف نظام نيابة الفقيه وولايته عن الدكتاتورية في ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: أن واضع القوانين الأساسية في دولة قائمة على أساس ولاية الفقيه هو الله تعالى لا الفقيه.

النقطة الثانية: ان الولاية ليست محصورة بفقيه معين، وإنما هي لكل فقيه جامع للشروط، ويكون الكل أولياء يراقبون الولي المخول للحكم أو هيئة الفقهاء العاملة فعلاً في مجال القيادة، ويحدون من

77

أخطاء القيادة الحاكمة. وربما نقضوا حكمها في الموارد التي يكون فيها نقض الحكم أقل مفسدة من الخطأ الذي وقع فيه حكمها، ويكون عصيان الحاكم أفضل من تفادي مضاعفات الإنشقاق بمجاراة أخطائه في نظرهم.

النقطة الثالثة: ان الولاية هنا لا تقوم على أساس القهر والغلبة، وإنما تتحقق بتحقق شروطها، وعمدتها: الفقاهة، والعدالة، والكفاءة.. وهي شروط تقود تصرفات ولي الأمر نحو الخط الصحيح، وتدع الأمة مراقبة له ولتوفر الشروط فيه، بعد أن كانت قد ربيت على الالتفات لهذه الشروط.

كما أن دائرة الولاية هنا محددة بحدود مصلحة الأمة، وهذا أيضاً يقود تصرفات الولي نحو الخط الصحيح، ويدع الأمة المتربية على الالتفات الى ذلك مراقبة له. وحينما تقتضي المصلحة وضع الشيء موضع التصويت والأخذ بأكثرية الآراء وجب على ولي الأمر ذلك.

كما أن نظام نيابة الفقيه وولايته يختلف عن الديموقراطية، بأنه لا يتضمن مبدئياً أي نظام للتصويت وتجميع الآراء، وذلك لا في مجال القوانين الأساسية الاسلامية، ولا في منطقة الفراغ السالفة الذكر، ولا في مجال تعيين الهيئة التنفيذية.

فالاسلام هو مشرع القوانين الأساسية، والفقيه هو الذي يملأ

78

منطقة الفراغ أو يعين من يملؤها، كما يعين الهيئة التنفيذية أيضاً أو يعين من يعينها. نعم قد تستدعي المصلحة ـ كما أشرنا ـ أن يعمل الفقيه أسلوب التصويت في منطقة الفراغ، أو في تعيين الهيئة التنفيذية، فيتبع في الحدود التي يعينها الفقيه لذلك.

79

الشورى