92

 

أدلة التوحيد

 

ندخل فيما يلي في البحث الاستدلالي على التوحيد:

 

الأدلة على التوحيد الذاتي

 

نحن نتعرّض هنا لثلاثة أدلّة: دليل فلسفي، ودليل علمي، ودليل نقلي:

 

الدليل الفلسفي:

مضى في ما سبق الدليل الخامس من أدلّة وجود الله سبحانه وتعالى ـ وهو برهان الصدّيقين ـ وحاصله: أنّنا لا نتصوّر شيئاً بعد افتراض كون الماهيّات أعداماً وحدوداً للوجودات إلّا الوجود المستقل، والوجود التبعي، والعدم، ولا يتصوّر وجود تبعي إلّا تبعاً للوجود الذاتي؛ لأنّ الوجود التبعي عين الربط، والوجود المستقل هو عين الوجود بذاته لا يدخله العدم ويكون واجب الوجود، ومضى أنّ الوجود المستقل والذاتي يطرد لا محالة كلّ حدّ من الحدود؛ لأنّ الحدود إنّما تكون بلحاظ ما يقابل الوجود من العدم.

وهذا كما ترى ينتهي بالضرورة إلى طرد الشريك واستحالة تعدّد واجب الوجود؛ إذ لو تعدّد لشكّل كلّ واحد منهما حدّاً للآخر؛ لأنّ أحدهما يجب أن ينتهي منذ أن يبدأ الآخر، نعم الوجود التبعي ـ وهم المخلوقات ـ لا يشكّل حدّاً لوجود الخالق؛ لأنّ وجود الخالق وجود ذاتي وعيني ومستقل، وهو يختلف سنخاً عن الوجود التبعي، فانتفاء الوجود التبعي المخلوق لايحقّق امتداداً

93

لوجود الخالق؛ إذ لو كان يحقق نفي الوجود التبعي امتداداً لوجود الخالق لكان هذا الامتداد وجوداً تبعيّاً، وهذا خلفٌ، فكذلك ثبوت الوجود التبعي لا يحقّق حدّاً لوجود الخالق؛ وعليه فالتوحيد الذاتي ـ بمعنى نفي تعدّد واجب الوجود ـ يكون من لوازم وجوب الوجود وذاتيّته واستقلاله.

ثُمّ إنّ البعض يقول: «إنّ التوحيد الذاتي يفسّر بمعنيين، الأوّل: أنّه واحد لا مثل له، والثاني: أنّه أحد لا جزء له، ويعبّر عن الأوّل بالتوحيد الواحدي وعن الثاني بالتوحيد الأحدي»(1).

فإن مشينا على هذا الاصطلاح فما ذكرناه من البرهان يتكفّل بإثبات التوحيد بكلا المعنيين: أمّا الأوّل فقد أوضحناه، وأمّا الثاني فلأنّ الوجود المستقل الذي لا حدّ له ولا ماهيّة بل هو صرف الوجود لا يعقل له جزء، وإلّا لتمّ برهان الإطلاق على كل جزء منه فلم يبق مجال للجزء الآخر، وهو خلف.

 

الدليل العلمي:

قال عزّ من قائِل:

1 ـ ﴿ما تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِير﴾(2).

2 ـ ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون﴾(3).

3 ـ ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ


(1) راجع الالهيّات 1: 373.

(2) س 67 الملك، الآية: 3 ـ 4.

(3) س 21 الأنبياء، الآية: 21 ـ 22.

94

بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون﴾(1).

4 ـ ﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً﴾(2).

روى هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبدالله(عليه السلام)، فكان من قول أبي عبدالله(عليه السلام) له: «لا يخلو قولك: إنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً، فإن كانا قويّين فلِمَ لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرّد بالتدبير؟ وإن زعمت أنّ أحدهما قويّ والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني، وإن قلت: إنّهما اثنان، لم يخل من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة أو مفترقين من كلّ جهة، فلمّا رأينا الخلق منتظماً والفلك جارياً واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد»(3).

وورد عن هشام بن الحكم أيضاً بسند صحيح، قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): ما الدليل على أنّ الله واحد؟ قال: اتّصال التدبير وتمام الصنع كما قال عزّ وجلّ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ »(4).

وقد ورد عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيّة له لابنه الحسن(عليه السلام): «واعلم يا بنيّ أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه لا يضادّه في ملكه أحد»(5).

 


(1) س 23 المؤمنون، الآية: 91.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 42 ـ 43.

(3) التوحيد: 243 ـ 244، الباب 36، الحديث 1.

(4) التوحيد: 250، الباب 36، الحديث 2.

(5) نهج البلاغة، الرسالة: 31.

95

ونذكر فيما يلي عدّة تقارير للدليل العلمي على التوحيد الذاتي:

التقرير الأوّل: إنّ مراجعة كتاب ما بالدقّة تكشف لنا عن أنّ مؤلّفه واحد أو متعدّد، فوحدة الاُسلوب والطريقة والتناغم الكامل بين مطالب الكتاب وإعمال الفهم الواحد والذوق الواحد والمنهج الواحد دليل على وحدة المؤلّف؛ لأنّ الأذواق مختلفة والسلائق متباينة والمباني والأفهام متعدّدة، فكذلك التنسيق والترابط والتناغم الوثيق بين أجزاء عالم الوجود ـ من الأرض والسماء والشمس والقمر والنبات والأنهار والمخلوقات والمجرّات وغير ذلك مما جعل كلّ عالم الوجود وحدة متكاملة متناسقة ـ دليل على وحدة الله تبارك وتعالى، وليس الترابط والتنسيق في أجزاء منظومتنا الشمسيّة فحسب، ولا في مفردات مجرّتنا فحسب، بل في ما بين المجرّات أيضاً، فكلّ هذه الاُمور مجموعة متوحّدة يحكمها نظام الجذب والدفع اللذين جعلا كلّ شيء في محلّه لا يندكّ بعضها ببعض ولا يتناثر بعضها عن بعض.

والنظام الحاكم على المنظومة الشمسيّة هو بعينه النظام الحاكم على كلّ ذرّة، فجزَيئاتها تدور حول نواتها بنفس الجذب والدفع اللذين يجعلان كوكبنا يدور حول الشمس:

دل هر ذرّه را كه بشكافى
آفتابيش در ميان بينى

والتماثل والتناسق الحاكمان على العالم جعل العلماء قادرين على الوصول إلى قوانين عامّة عالميّة باختبار ضئيل مختصر، يجرى على جزء يسير في قطعة صغيرة من العالم، كما كشف نيوتن قانون الجاذبيّة للعالم أجمع بسقوط تفّاحة من شجرة على الأرض.

ولو زاد سمك الهواء أو نقص لاختلّ النظام، ولو قربت الشمس أو بعدت عن

96

الأرض لهلكنا، وقد مضى منّا بحث في أدلّة وجود الله في شرح الحكمة المسيطرة على العالم ما ينفع كثيراً هنا.

قد تقول: لعلّ هذا الترابط والتناسق والنظم الحكيم نتيجة الكمال المطلق لكلّ واحد من الآلهة المتعدّدة ممّا جعلهم يسلكون جميعاً مسلكاً حكيماً واحداً في خلق العالم وإدارته.

ولكنّا نقول: إنّ الكمال المطلق يعني نفي الحدّ عن الوجود على الإطلاق، وهذا يؤدّي بنا إلى الرجوع إلى ما مضى من البرهان الفلسفي على وحدانية الله، ومفروضنا في الوقت الحاضر التنازل عن ذلك، وهو مساوق للتنازل عن الكمال المطلق.

وقد تقول: إنّ هؤلاء الآلهة المتعدّدين وغير الكاملين توافقوا بتفاهم سابق في ما بينهم على طريقة معيّنة في الخلق والتدبير سنخ توافق عدد أعضاء هيئة معيّنة على طريقة إيجاد شركة معيّنة وإدارتها.

ولكنك ترى دائماً شيئاً من الفطور والخلل ولو يسيراً في المؤسّسات المدارة من قبل هيئة لا تجده في ما يرأسها شخص واحد، بالرغم من أنّ نسبة تلك الشركة أو المؤسّسة إلى العالم أضأل من نسبة القطرة إلى البحر.

أمّا بلحاظ هذا العالم الواسع العظيم ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِير﴾(1).

التقرير الثاني: نحن إذا غضضنا النظر عن البرهان الفلسفي، أي عن برهان الصدّيقين، في ما انتهى إليه: من أنّ الوجود المستقل بما أنّه كامل مطلق فلا يقبل


(1) س 67 الملك، الآية: 3 ـ 4.

97

التعدّد، بأن افترضنا تعقل تعدّد الوجود المستقل، ولكن لم نغضّ النظر عن أنّ ما عدا الوجود المستقل وهو المخلوق وجود ربطيّ، لا محالة كانت نتيجة ذلك: هي أنّ فرض إسناد هذا العالم إلى إلهين يعني كونه وجوداً ربطياً لهذا ولذاك في وقت واحد، وهذا يعني تصرّف أحدهما في حيطة السلطان الذاتي للآخر، وليس كتصرّف شريكين في مال الشركة المستقل في الوجود عنهما كي يتعقّل توافق سابق لهما على ذلك، بل يكون التصادم هنا واقعاً لا محالة، ولو فرض أنّ هذا العالم الذي شرحنا في التقرير الأوّل وحدته وتماسكه وترابطه كان نصفه مثلاً وجوداً ربطيّاً لهذا، والنصف الآخر وجوداً ربطيّاً لذاك، لأدّى ذلك إلى الانصداع الذاتي بين النصفين؛ لما قلنا من أنّه ليس العالم وجوداً مستقلاً يفترض توافق الإلهين على صنعهما أو إدارتهما كتوافق شخصين على بناء دار أو التصرف في الدار، بل هو عين الربط بهما: ﴿إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون﴾(1)، ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون﴾(2).

وعلى هذا الأساس صحّ أن يقال: إن كانا قويين تدافعا وفسد العالم، وإن كان أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً استفرد القويّ بالاُلوهيّة، وإن كانا ضعيفين عاجزين لم يكن أحد منهما إلهاً، ولا يبقى هنا مجال لفرض كون الحكمة والحنكة المطلقة أو الكمال المطلق هو الذي أوجب عدم الانصداع والفساد؛ لأنّ المسألة لم تكن مسألة جهل الشركاء.

التقرير الثالث: إنّ أحد الإلهين قد أكثر من إرسال الرسل وإنزال الكتب


(1) س 23 المؤمنون، الآية: 91.

(2) س 21 الأنبياء، الآية: 22.

98

ونسبة جميع آيات الآفاق والأنفس إلى نفسه، فما بال الآخر ـ الذي هو شريكه في الخلق والتدبير ـ ساكت عن ذلك سكوت من يقتنع بفعل صاحبه أو يهمل خلقه؟ كما قال إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): «واعلم يا بنيّ، أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه(1)، ولعرفت أفعاله وصفاته»(2).

ولا يخفى أنّ هدفنا من الدليل العلمي كان أيضاً إثبات التوحيد الذاتي، وإن اختلف عن الدليل الفلسفي الذي أوردناه في أنّ الأوّل كان منصباً ابتداء على التوحيد الذاتي، ولكن هذا الدليل العلمي أثبت التوحيد الذاتي عن طريق التوحيد في الخلق أو التدبير.

التقرير الرابع: إنّ الدليل العلمي على التوحيد بالتقارير الثلاثة التي ذكرناها إنّما يثبت التوحيد بلحاظ العالم الذي نحن فيه، ولا ينفي افتراض إله آخر لعالم آخر يفرض مستقلاً عن هذا العالم تماماً، بخلاف الدليل الفلسفي الذي يثبت التوحيد حتّى في مقابل مثل هذا الاحتمال.

إلّا أنّه قد يقرّر ما أسميناه بالدليل العلمي بتقرير رابع يقترب أكثر إلى البيان الفلسفي، فيثبت أيضاً التوحيد حتّى في مقابل مثل هذا الاحتمال، وذلك كأن يؤخذ أوّلاً من الفلسفة استحالة تركّب واجب الوجود من عدد من الأجزاء؛ للزوم حاجة كلّ جزء إلى الآخر، وهو مستحيل في واجب الوجود أو في الوجود المستقل، أو قل: للزوم حاجة الكلّ إلى أجزائه مثلاً، ثُمّ يقال: إنّ الإلهين إمّا أن يتماثلا من كلّ الجهات فلا يميّز أحدهما عن الآخر فلا يتمّ التعدّد، أو


(1) قوله: «ولرأيت آثار ملكه وسلطانه» يحتمل أن يكون إشارة إلى التقرير الأوّل، وهو أنّ وحدة الأثر وتماسك أجزائه وترابطها دليل على وحدة المؤثّر.

(2) نهج البلاغة، الرسالة 31.

99

يتماثلا في بعض الجهات ويتباينا في بعض فيلزم التركّب وهو محال حسب الفرض، أو يتباينا كلّياً فيتناقضان في الأثر فيفسد بذلك العالم وبذلك قد يفسّر قوله تعالى: ﴿لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض﴾، وقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾. وبناءً على هذا التقرير أيضاً لا يبقى موضوع لطرح إشكال: أنّ الحكمة والكمال منعا عن الفساد والانصداع، أو إشكال: أنّ التوافق السابق منع عن ذلك كما في مشتركين متعددين على مؤسّسة واحدة.

 

الدليل النقلي:

إنّ إثبات وجود الله تعالى بالدليل النقلي غير معقول؛ لأنّ النقل إن كان عن الله مباشرةً فأصل وجوده تعالى غير معترف به بعدُ، وإن كان عن رسول الله أو خلفاء الرسول فما قيمة الرسول وخلفائه قبل إثبات المُرسل؟!

أمّا إذا ثبت وجود الله تبارك وتعالى فإثبات التوحيد عن طريق النقل أمر ممكن؛ وذلك لأنّ إثبات وجود الله كاف في تسلسل البحث إلى الرسول وخلفاء الرسول، وإلى صدق الله ورسوله وإلى النقل عنهم جميعاً.

وعلى هذا الأساس نقول: لا إشكال في تطابق القرآن والسنّة المتواترة عن الرسول(صلى الله عليه وآله) وخلفائه على التوحيد، وبه يثبت التوحيد.

 

الدليل على التوحيد في الصفات

 

المقصود بالصفات هو صفات الذات، كالعلم والقدرة والحياة وما إلى ذلك، وليست صفات الفعل كالخلق والرزق.

فصفات الذات عين الذات ولا تغاير بينها وبين الذات ولا فيما بين أنفسها.

 

100

وهذا يثبت بنفس الدليل الفلسفي الذي أثبت التوحيد، فإن شئت فتكلّم بلغة دليل الواحديّة، أي: أنّه واحد لا مثيل له، وإن شئت فتكلّم بلغة دليل الأحديّة، أي: أنّه أحد بسيط لا جزء له.

فتقول بلغة الواحديّة: إنّ صفات الذات لو تغايرت مع الذات أو تغاير بعضها مع بعض لتعدّد الوجود المستقل، وقد مضى إثبات أنّ الوجود المستقل لا يعقل تعدّده.

وتقول بلغة الأحديّة: إنّ تصوير صفات الذات مع حفظ تغاير بينها وبين الذات أو حفظ تغاير في ما بينها يؤدّي إلى التركيب، وقد مضى توضيح استحالته في الوجوب المستقل، أو قل: في واجب الوجود.

وما ألطف التعبير الماضي عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله»(1).

 

الدليل على التوحيد في العبادة

 

العبادة والتي هي كمال الخضوع لا ينبغي أن تكون للإنسان الحرّ إلّا بأحد ملاكات ثلاثة:

1 ـ الاحتياج الحقيقي إلى المعبود.

2 ـ والأشرف من ذلك أن تكون العبادة بملاك المالكيّة الحقيقيّة للمعبود.


(1) نهج البلاغة، الخطبة الاُولى.

101

3 ـ والأشرف منهما أن تكون بملاك الكمال المطلق للمعبود.

وكلّ هذه الملاكات الثلاثة منحصرة في الله سبحانه وتعالى، فإنّ المخلوقين هم المحتاجون، والغنيّ الحقيقي المطلق هو الخالق، وهل يرحم المخلوق إلّا الخالق؟ وكذلك الملكيّة الحقيقيّة بمعنى الواجديّة الحقيقيّة لله سبحانه المالك لجميع ما خلق، وكذلك من هو أهل للعبادة لأنّه الكمال المطلق إنّما هو واجب الوجود سبحانه وتعالى.

والنصوص المحرّمة في الكتاب والسنّة لعبادة غير الله لعلّها فوق حدّ الإحصاء، منها قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون﴾(1) فترى الآية المباركة قد جعلت الشرك اسما لتعدد المعبود.

بل لم ينقل في القرآن عن مشركي مكّة إلّا الشرك في العبادة، قال الله تعالى عن لسانهم:﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾(2)، فأمّا أصل اختصاص الخلق بالله تعالى فقد كان معترفاً به من قِبَلهم كما قال الله تعالى:﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه﴾(3)، وكذلك قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُون﴾(4)، فالظاهر أنّ المقصود بالشرك في هذه الآية إمّا هو الشرك في العبادة أو الشرك في الربوبيّة لا الشرك في الخلق؛ لأنّه لو لم يكن عدم الشرك في الخلق مسلّماً عندهم فما معنى الاحتجاج عليهم بقوله: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ


(1) س 9 التوبة، الآية: 31.

(2) س 39 الزمر، الآية: 3.

(3) س 39 الزمر، الآية: 38.

(4) س 7 الأعراف، الآية: 190 ـ 192.

102

يُخْلَقُون﴾؟

أمّا سجود الملآئكة لآدم(عليه السلام) فبما أنّه كان بأمر الله كان عبادة لله تعالى كما ورد عن الصادق(عليه السلام) في حديث: «أنّ زنديقاً قال له: أفيصلح السجود لغير الله؟ قال: لا، قال: فكيف أمر الله الملآئكة بالسجود لآدم؟ فقال: إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله، فكان سجوده لله إذا كان عن أمر الله»(1).

وقد يقال: إنّ السجود لغير الله وإن كان محرّماً في شريعتنا لكن ليس كلّ سجود عبادة، والسجود المحرّم لغير الله غير القابل للاستثناء إنّما هو سجود العبادة، وهي نهاية الخضوع للمعبود باعتبار مالكيته للعابد، ولم يكن سجود الملآئكة لآدم ولا سجود إخوة يوسف وأبويه له بهذا الاعتبار(2).

 

الدليل على التوحيد في الطاعة

 

ونعطف على التوحيد في العبادة التوحيد في الطاعة، فإنّ كلامنا فيه مشابه لكلامنا في توحيد العبادة، فإنّ حكم العقل بمولويته سبحانه وتعالى وطاعته لا يكون إلّا لأحد سببين: إمّا لكونه هو المنعم الحقيقي الذي منه نعمة الوجود أوّلاً ثُمّ النعم المتفرّعة على الوجود التي إن تعدّوها لا تحصوها فيجب شكره بطاعته؛ وإمّا لكونه مالكاً حقيقيّاً لنا وللعالم بخلقه إيّانا وخلقه للعالم على الخصوص بناءً على ما مضى في برهان الصدّيقين على وجود الله: من أنّ ما سواه ليس إلّا ربطاً وإشعاعاً وتجلّياً، وأنّ الوجود المستقل لا يوجد إلّا له سبحانه وتعالى، فهو


(1) وسائل الشيعة 6: 387، الباب 27 من أبواب السجود، الحديث 4.

(2) البحار 11: 140.

103

الموجد والواجد لا غيره، وتجب على المملوك إطاعة المالك.

وكلا هذين السببين لوجوب الطاعة مخصوص بالله عزّ وجلّ:

﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾(1)، ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين﴾(2).

 

الدليل على التوحيد في الأفعال

 

التوحيد في الأفعال بمعنى أنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، وعمدة النقض الذي يورد على ذلك عبارة عن أفعال الإنسان بناءً على كونه فاعلاً مختاراً، ومن هنا قد يتورّط من يتورّط في الجبر بتخيّل أنّ هذا هو الذي يؤدّي إلى التنزيه من الشرك غفلة عن أنّ الجبر يؤدّي إلى توصيف الله تعالى بالظلم؛ لأنّ العقاب على ما ليس بالاختيار ظلم وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

والجمع بين اختيار الإنسان والتوحيد في الأفعال يذكر بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: هو الوجه العامّ ـ أي القريب من ذهن العموم ـ وهو أنّه على الرغم من اختيارية الإنسان في الأفعال تكون الوسائل التي بها يحقق العبد الفعل من الأعضاء والجوارح والوسائط الماديّة التي قد يحتاجها لتحقيق ذاك الفعل والحياة والقدرة والشعور وما إلى ذلك، كلّها من الله تعالى وبفيض دائم منه، ولو انقطعت إحدى هذه الفيوضات آناًما لما أمكن للعبد إيجاد ذاك الفعل، إذن فالتأثير الحقيقي كان من الله سبحانه وتعالى بالرغم من اختيار العبد.

 


(1) س 31 لقمان، الآية: 20.

(2) س 7 الأعراف، الآية: 54.

104

والوجه الثاني: هو الوجه الفلسفيّ الخاص، وهو أنّه بعد أن كان وجود العبد مجرّد وجود ربطيّ؛ إذ لا وجود له بغضّ النظر عن هذا الربط، فجميع أفعاله لا يعقل أن يفترض لها وجود استقلالي، وإلّا لكان فعل الإنسان أعلى مرتبة في الوجود من نفس الإنسان، وإذن كلّ أفعاله توجد بوجود ربطي، وتكون مرتبطة بالوجود المستقل وإشعاعاً من إشعاعات الوجود المستقل، وهذا معنى أمرٌ بين الأمرين.

 

105

اللّه جلّ جلاله

3

 

 

 

صفات اللّه(سبحانه وتعالى)

 

وبعد إثبات التوحيد قد تكلّم علماؤنا الأبرار في صفات الله تعالى، ولكنّا هنا لا نتكلّم إلّا عن نزر يسير من صفاته عزّوجّل، وببيان مختصر قصير على أساس ما بُني عليه هذا الكتاب من الاختصار.

 

○ علم الله (سبحانه وتعالى)

○ قدرته (عز وجل) واستغناؤه.

○ صدق الله (عز وجل).

○ عدل الله (سبحانه وتعالى)

 

 

 

107

 

 

 

 

 

علم الله (سبحانه وتعالى)

 

نشير هنا إلى علم الله سبحانه وتعالى ضمن مختصر من الكلام بعد افتتاح الحديث بالآيات المباركات التاليات:

1 ـ ﴿قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْض﴾(1).

2 ـ ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين﴾(2).

3 ـ ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْن وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآن وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَل إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين﴾(3).

4 ـ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾(4).


(1) س 3 آل عمران، الآية: 29.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 59.

(3) س 10 يونس، الآية: 61.

(4) س 57 الحديد، الآية: 4.

108

5 ـ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾(1).

6 ـ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾(2).

7 ـ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد﴾(3).

وفيما يلي نذكر بعض وجوه الاستدلال على علمه المطلق سبحانه وتعالى:

1 ـ إنّ إطلاق علمه يكون من قبيل التوحيد الذي قلنا فيه: إنّه يمكن الاستدلال عليه بالدليل النقلي، وليس من قبيل أصل وجود الله الذي يتوقّف عليه كلّ دليل نقلي، فبعد إثبات وجود الله وما يأتي من صدقه ينفتح باب تسلسل الحديث في الأدلة النقليّة القطعيّة لإثبات جميع العقائد الاُخرى، والنقل القطعي كتاباً وسنّة ثابت على علم الله المطلق بشكل لا غبار عليه.

2 ـ إنّ برهان الصدّيقين يثبت علم الله المطلق؛ لأنّه أثبت أنّ ما عدا الوجود المستقل كلّه وجود ربطيّ لا استقلال له في ذاته، فكلّه حاضر لدى الوجود المستقل بالعلم الحضوري دون الحصولي، والحجاب بين العالم وبعض الاُمور إن كان يتصوّر فإنّما يتصوّر في الاُمور المنفصلة عنه والتي يتوقف العلم بها على انطباع الصورة عنها في الذهن، فإذا انطبعت حصل العلم الحصولي وإلّا حصل الجهل، وأمّا ما يكون حاضراً لدى الله سبحانه وتعالى فلا معنى لفرض جهله به.

3 ـ إنّ برهان النظم والحكمة الذي كان فيما مضى من أهمّ أدّلتنا على وجود


(1) س 67 الملك، الآية: 13 ـ 14.

(2) س 31 لقمان، الآية: 34.

(3) س 50 ق، الآية: 16.

109

الله تعالى يثبت علم الله بوضوح بنفس طريقة الأدلّة العلميّة لا الفلسفيّة؛ فإنّ كتاباً مختصراً لمؤلّف اعتيادي يعكس عادة خصوصيّات المؤلّف ومزاياه: من فصاحة وبلاغة أو ضعف في القدرة على البيان أو دقّة في الفهم أو بلادة فيه وما إلى ذلك، فكيف لا تدل الدقّة المتناهية في كتابي التكوين ـ وهما: كتاب الآفاق، أعني الأرض والسماوات بما فيها من الآيات الماديّة، وكتاب الأنفس الذي يكون المحسوس لنا من أجزائه هو النفس البشريّة المشتملة على غرائب الاُمور وعجائبها ـ وكتاب التدوين ـ وهو القرآن المشتمل على إعجازات لا متناهية في عدّة جهات، ومنها الإخبارات الغيبيّة ـ على العلم المطلق لمؤلّف هذه الكتب الثلاثة ألا وهو الله سبحانه وتعالى؟!

4 ـ لو صنع أحدٌ سيّارة أو طائرة أو أيّة أداة صغيرة من هذا القبيل يكون عالماً بمزايا وخصوصيّات مصنوعه هذا على الرغم من أنّه ليس خالقاً له بالمعنى الحقيقي للكلمة، وانّما عمله مجرّد تجميع لأجزاء هذا المصنوع، فكيف لا يدل خلق العالم كلّه على علمه سبحانه وتعالى بما فيه؟! ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير﴾.

وبإمكانك أن تجعل الوجه الرابع جزءاً من الوجه الثالث فيتلخّص دليلنا على علمه عزّ وجلّ ضمن الأدّلة الثلاثة: النقلي والفلسفي والعقلي.

 

علم الله تعالى بالغيوب الخمسة:

نختم الحديث عن علم الله سبحانه بكلام عن الآية السادسة من الآيات التي مضت: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾.

روي في تفسير البرهان في ذيل هذه الآية المباركة عن الصادق(عليه السلام): «هذه

110

الخمسة أشياء لم يطّلع عليها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وهي من صفات الله عزّ وجلّ»(1).

وروي في پيام قرآن(2) عن نور الثقلين عن الإمام الصادق(عليه السلام): «ألا اُخبركم بخمسة لم يطّلع عليها أحد من خلقه؟ قلت: بلى. قال(عليه السلام): ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾».

ومن الطريف ما رواه ابن أبي الحديد من أنّ إنساناً قال لموسى بن جعفر(عليه السلام): «إنّي رأيت الليلة في منامي أ نّي سألتك: كم بقي من عمري؟ فرفعت يدك اليمنى وفتحت أصابعها في وجهي مشيراً إليّ، فلم أعلم خمس سنين أم خمسة أشهر أم خسمة أيّام؟ فقال: ولا واحدة منهنّ، بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التي استأثر الله تعالى بها في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ...)»(3).

ومن الطريف أيضاً ما روي في تفسير كنز الدقائق وخرّجه المخرّج من كتاب أنوار التنزيل: «إنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ فقال: ملك الموت، فقال: كأنّه يريدني فاؤمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند، ففعل، فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجّباً منه إذ اُمرتُ أن أقبض روحه بالهند وهو عندك»(4).

وإن كنّا نحن والمقدار المستفاد لنا من ظاهر الآية المباركة لم يكن مجال للاعتراض عليها بأنّ علم اليوم يكشف عن ذكورة الجنين واُنوثته وهو في الرحم؛ وذلك عن طريق النظر اليه بالوسائل الحديثة. والوجه في عدم ورود هذا


(1) تفسير البرهان 3: 280.

(2) پيام قرآن 4: 82.

(3) شرح ابن أبي الحديد 8: 217.

(4) كنز الدقائق 10: 274.

111

الاعتراض على الآية واضح؛ فإنّ كشف حقيقة الجنين من ناحية الذكورة والاُنوثة بالنظر إليه بالوسائل الحديثة ليس إلّا من قبيل النظر إليه بعد ولادته، ولا يدّعي أحد أنّ الاطّلاع على الذكورة والاُنوثة بالحاسّة الباصرة مخصوص بالله تعالى، وإنّما المخصوص به هو الاطّلاع عليه رغم أنّه مستور في الرحم فلعل المقصود بالآية المباركة هو هذا المقدار من الأمر.

إلّا أنّ المستشعر من بعض الروايات السابقة أنّ الاطّلاع على حقيقة الجنين في الرحم كالاطّلاع على وقت القيامة لا يمكن أن يتحقّق لأحد وليس أمراً يمكن كشفه بالحس، فحاله حال الساعة التي لا يطّلع عليها أحد ولو كان نبيّاً مرسلاً، كما دلّت عليه الآية المباركة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا﴾(1)، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(2)، فإذا كان الأمر هكذا فيرد الاستفسار عن أنّه كيف يقال: إنّ العلم بحقيقة ما في الأرحام مخصوص بالله تعالى مع أنّ العلم الحديث قد كشف النقاب عن حقيقة ما في الأرحام من ذكر أو اُنثى بالحسّ؟!

والجواب: أنّه بناءً على هذا الاحتمال يجب أن تحمل الآية على معنى معرفة حقيقة ما في الرحم ليس من ناحية الذكورة والاُنوثة فحسب، بل ومن ناحية صفاته الجميلة أو الرذيلة وسعادته وشقائه وما إلى ذلك، وهذا ما لا يمكن كشفه إلّا بالعلم بالغيب، كما ورد ذلك عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام)، حيث ذكر في تفسير الآية المباركة: «فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام: من ذكر أو اُنثى، وقبيح


(1) س 79 النازعات، الآية: 42 ـ 44.

(2) س 7 الأعراف، الآية: 187.

112

أو جميل، وسخيّ أو بخيل، وشقيّ أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبييّن مرافقاً»(1).

وعلى أيّة حال فقد تبيّن من كلّ ما ذكرناه أنّه تعالى: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين﴾(2)، ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين﴾(3).

وسلام الله على إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) الذي قال: «يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان في البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات»(4).

 

 

 

* * *

 


(1) نهج البلاغة، الخطبة 128.

(2) س 34 سبأ، الآية: 3.

(3) س 10 يونس، الآية: 61.

(4) نهج البلاغة، الخطبة 198.

113

 

قدرته (عز وجل) واستغناؤه

 

تثبت القدرة المطلقة له عزّ وجلّ بنفس الأدلّة الثلاثة الماضية:

 

فأوّلاً ـ الدليل النقلي القطعي:

وأقتصر على ذكر عدد من الآيات التي اشتملت في مضمونها على الدليل العلمي للقدرة، قال الله تعالى:

1 ـ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْماً﴾(1).

2 ـ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾(2).

3 ـ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِر عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير﴾(3).

 

ثانياً ـ الدليل الفلسفي:

يمكن أن نستفيد هنا من برهان الصدّيقين الذي استندنا إليه في إثبات الله تعالى وفي إثبات التوحيد، فإنّ الوجود المستقلّ لا حدّ له؛ لأنّ الحدّ يأتي من الماهية وهي أمر عدمي، فإذا لم يكن له حدّ كان كمالاً مطلقاً، والكمال


(1) س 65 الطلاق، الآية: 12.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 99.

(3) س 46 الأحقاف، الآية: 33.

114

المطلق لا ضعف فيه ولا ينقصه شيء دخيل في القدرة، وبالتالي لا تنقصه القدرة ولايحتاج إلى شيء.

 

ثالثاً ـ الدليل العلمي:

وهو نفس الدليل العلمي الذي أثبتنا به وجود الله وأثبتنا به علمه وحكمته؛ إذ نقول: كيف يمكن هذا الخلق العظيم مع أوسع آيات القصد والتدبير، ومع أرقى ما يتصوّر من الإتقان والإحكام من دون قدرة واسعة لا يحدّها شيء؟! وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير﴾ فالله هو الذي خلق السماوات السبع والأرض بقشورها أو الأرضين السبع ودبّر الأمر في كلّ سماء وأرض كما أشار إلى ذلك في هذه الآية بقوله: ﴿يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾، وبقوله في آية اُخرى: ﴿يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الاَْرْض﴾(1)، وبقوله في آية ثالثة: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾(2)، فلو قطع التدبير لحظة واحدة عن كلّ هذا لهلك العالم بأجمعه، وكلّ ما نراه أو نرى إشعاعاً منه من الكواكب والنجوم إنّما هي في السماء الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة الْكَوَاكِب﴾(3)، وقوله تعالى:﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيح﴾(4)، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيح﴾(5). وهذه النجوم التي في السماء حسب التعبير المرويّ عن إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام): لها مدائن مثل المدائن التي في الأرض، مربوطة كلّ مدينة إلى عمود مربوط من


(1) س 32 السجدة، الآية: 5.

(2) س 41 فصّلت، الآية: 12.

(3) س 37 الصافّات، الآية: 6.

(4) س 41 فصّلت، الآية: 12.

(5) س 67 الملك، الآية: 5.

115

نور، طول ذلك العمود في السماء مسيرة مئتين وخمسين سنة(1)، ولعلّ المقصود بالعمود الرابط قوّتا الجاذبة والدافعة.

أقول: كلّ هذا ـ ونسبته إلى جميع آيات النظم والإحكام أقلّ من نسبة القطرة إلى البحر ـ أليس دليلاً على قدرة الله سبحانه التي لا يحدّها حدّ؟

وينفعنا في المقام ما مضى في بحث إثبات الصانع من حديث لنا حول دلائل القصد والحكمة فراجع.

وحاصل الكلام: أنّ الدليل العلمي على علم الله سبحانه وعلى قدرته هو عين الدليل العلمي على وجوده سبحانه، وهو عبارة عن دلائل القصد والحكمة المنبثّة في العالم أجمعه، ولا نريد أن ندخل في شرح ذلك؛ لأنّه مضى منّا في بحث إثبات الصانع قدر من البيان حول دلائل القصد والحكمة، فهنا نحيلك على ذاك البحث المشروح نسبيّاً، على الرغم من أنّ ما مضى لو قيس بواقع دلائل القصد والحكمة في العالم لكانت النسبة أضأل من نسبة القطرة إلى البحر، ونحيلك أيضاً على البحث الرائع الممتع لاُستاذنا الشهيد(قدس سره) في أواخر كتاب فلسفتنا تحت عنوان: «المادّة والوجدان» والذي ورد في أواخره قوله:

«وأخيراً فلنقف لحظة عند علم النفس لنطلّ على ميدان جديد من ميادين الإبداع الإلهي، ولنلاحظ من قضايا النفس بصورة خاصّة قضيّة الغرائز التي تنير للحيوانات طريقها وتسدّدها في خطواتها؛ فإنّها من آيات الوجدان البيّنات على أنّ تزويد الحيوان بتلك الغرائز صنع مدبّر حكيم وليس صدفة عابرة، وإلّا فمن علّم النحل بناء الخلايا المسدّسة الأشكال، وعلّم كلب البحر بناء السدود على الأنهار، وعلّم النمل المدهشات في إقامة مساكنه، بل من علّم ثعبان البحر


(1) تفسير البرهان 4: 15 نقلاً عن تفسير علي بن إبراهيم.

116

أن لا يضع بيضه إلّا في بقعة من قاع البحر تقرب نسبة الملح فيها 35% وتبعد عن سطح البحر بما لا يقلّ عن 1200 قدم، ففي هذه البقعة يحرص الثعبان على رمي بيضه حيث لا ينضج إلّا مع توافر هذين الشرطين؟

ومن الطريف ما يحكى من أنّ عالماً صنع جهازاً خاصّاً، وزوّده بالحرارة المناسبة وببخار الماء وسائر الشروط التي تتوفّر في عملية طبيعيّة لتوليد كتاكيت من البيض، ووضع فيه بيضاً ليحصل منه على دجاج، فلم يحصل على النتيجة المطلوبة، فعرف من ذلك أنّ دراسته لشرائط التوليد الطبيعي ليست كاملة، فأجرى تجارب اُخرى على الدجاجة حال احتضانها البيض، وبعد دقّة فائقة في الملاحظة والفحص اكتشف أنّ الدجاجة تقوم في ساعات معيّنة بتبديل وضع البيضة وتقليبها من جانب إلى جانب، فأجرى التجربة في جهازه الخاص مرّة اُخرى مع إجراء تلك العمليّة التي تعلّمها من الدجاجة فنجحت نجاحاً باهراً، فقل لي بوجدانك: من علّم الدجاجة هذا السرّ الذي خفي على ذلك العالم الكبير، أو من ألهمها هذه العمليّة الحكيمة التي لا يتم التوليد إلّا بها؟»(1).

 

إشكالان وجوابهما:

الأوّل: القدرة متقوّمة بالاختيار وقرائن النظم والتدبير والعظمة تنسجم مع الجبر أيضاً، فهل من دليل على الاختيار؟ وأقصد بذلك اختيار الله سبحانه وتعالى، أي إنّ البحث هنا بحث صغروي ولا علاقة له بالبحث الكبروي عن الجبر والاختيار، فلنفترض أنّنا قد انتهينا في بحث الجبر والاختيار من معقولية الاختيار وإبطال شبهات ضرورة الجبر، بل حتّى من البحث الصغروي لاختيار


(1) فلسفتنا: 347 ـ 348.