815

إذا لاحظنا العبادات التي مرّت بنا في هذا الكتاب بنظرة شاملة، وقارنّا بينها يمكن أن نستخلص بعض الملامح العامّة في تلك العبادات، ونذكر في ما يلي جملةً من تلك الملامح العامّة.

1 ـ الغيبية في تفاصيل العبادة:

عرفنا في ما سبق الدور المهمّ الذي تؤدّيه العبادة ككلٍّ في حياة الإنسان، وأنّها تعبّر عن حاجة ثابتة في مسيرته الحضارية.

ومن ناحية اُخرى إذا أخذنا التفاصيل التي تتميّز بها كلّ عبادة وآدابها بالدرس والتحليل فكثيراً ما نستطيع على ضوء تقدم العلم الحديث أن نتعرّف على الحِكَم والأسرار التي يعبّر عنها التشريع الإسلامي بهذا الشأن واستطاع العلم الحديث أن يكشف عنها.

وقد جاء هذا التطابق الرائع بين معطيات العلم الحديث وكثير من تفصيلات الشريعة وما قرّرته من أحكام وآداب دعماً باهراً لموقف الشريعة، وتأكيداً راسخاً على أنّها ربّانية.

ولكن على الرغم من ذلك نواجه في كثير من الحالات نقاطاً غيبيةً في

816

العبادة، أي جملة من التفاصيل لا يمكن للإنسان الممارس للعبادة أن يعي سرّها ويفسّرها تفسيراً مادّياً محسوساً، فلماذا صارت صلاة المغرب ثلاث ركعات وصلاة الظهر أكثر من ذلك ؟، ولماذا اشتملت كلّ ركعة على ركوع واحد لا ركوعين، وعلى سجدتين لا سجدة واحدة ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي يمكن أن تُطرح من هذا القبيل.

ونسمّي هذا الجانب الذي لا يمكن تفسيره من العبادة بالجانب الغيبي منها. ونحن نجد هذا الجانب بشكل وآخر في أكثر العبادات التي جاءت بها الشريعة، ومن هنا يمكن اعتبار الغيبية بالمعنى الذي ذكرناه ظاهرةً عامّةً في العبادات ومن ملامحها المشتركة.

وهذه الغيبية مرتبطة بالعبادات ودورها المفروض ارتباطاً عضوياً؛ ذلك لأنّ دور العبادات ـ كما عرفنا سابقاً ـ هو تأكيد الإيمان والارتباط بالمطلق وترسيخه عملياً.

وكلّما كان عنصر الانقياد والاستسلام في العبادة أكبر كان أثرها في تعميق الربط بين العابد وربّه أقوى، فاذا كان العمل الذي يمارسه العابد مفهوماً بكلّ أبعاده، واضح الحكمة والمصلحة في كلّ تفاصيله تضاءل فيه عنصر الاستسلام والانقياد، وطغت عليه دوافع المصلحة والمنفعة، ولم يعدْ عبادةً لله بقدر ما هو عمل نافع يمارسه العابد لكي ينتفع به ويستفيد من آثاره.

فكما تُنمّي وترسّخ روح الطاعة والارتباط في نفس الجنديّ خلال التدريب العسكري؛ بتوجيه أوامر اليه وتكليفه بأن يمتثلها تعبّداً وبدون مناقشة كذلك يُنَمّي ويرسّخ شعور الإنسان العابد بالارتباط بربّه بتكليفه بأن يمارس هذه العبادات بجوانبها الغيبية انقياداً واستسلاماً.

فالانقياد والاستسلام يتطلّب افتراض جانب غيبي، ومحاولة التساؤل عن

817

هذا الجانب الغيبي من العبادة والمطالبة بتفسيره وتحديد المصلحة فيه يعني تفريغ العبادة من حقيقتها، كتعبير عمليّ عن الاستسلام والانقياد، وقياسها بمقاييس المصلحة والمنفعة كأيّ عمل آخر.

ونلاحظ أنّ هذه الغيبية لا أثر لها تقريباً في العبادات التي تمثّل مصلحةً اجتماعيةً كبيرة، تتعارض مع مصلحة الإنسان ـ العابد ـ الشخصية، كما في الجهاد الذي يمثّل مصلحةً اجتماعيةً كبيرةً تتعارض مع حرص الإنسان المجاهد على حياته ودمه، وكما في الزكاة التي تمثّل مصلحةً اجتماعيةً كبيرةً تتعارض مع حرص الإنسان المزكّي على ماله وثروته. فإنّ عملية الجهاد مفهومة للمجاهد تماماً، وعملية الزكاة مفهومة عموماً للمزكّي، ولا يفقد الجهاد والزكاة بذلك شيئاً من عنصر الاستسلام والانقياد؛ لأنّ صعوبة التضحية بالنفس وبالمال هي التي تجعل من إقدام الإنسان على عبادة يضحّي فيها بنفسه أو ماله، استسلاماً وانقياداً بدرجة كبيرة جداً.

إضافةً إلى أنّ الجهاد والزكاة وما يشبههما من العبادات لا يراد بها الجانب التربويّ للفرد فحسب، بل تحقيق المصالح الاجتماعية التي تتكفّل بها تلك العبادات، وعلى هذا الأساس نلاحظ أن الغيبية إنّما تبرز أكثر فأكثر في العبادات التي يغلب عليها الجانب التربويّ للفرد، كالصلاة والصيام.

وهكذا نستخلص: أنّ الغيبية في العبادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدورها التربويّ في شدّ الفرد إلى ربّه وترسيخ صلته بمطلقه.

2 ـ الشمول في العبادة:

حين نلاحظ العبادات المختلفة في الإسلام نجد فيها عنصر الشمول لجوانب الحياة المتنوّعة، فلم تختص العبادات بأشكال معيّنة من الشعائر،

818

ولم تقتصر على الأعمال التي تجسّد مظاهر التعظيم لله سبحانه وتعالى فقط،كالركوع والسجود والذكر والدعاء، بل امتدّت إلى كلّ قطاعات النشاط الإنساني.

فالجهاد عبادة وهو نشاط اجتماعي، والزكاة عبادة وهي نشاط اجتماعي مالي، والخمس عبادة وهو نشاط اجتماعي مالي أيضاً، والصيام عبادة وهو نظام غذائي، والوضوء والغسل عبادتان، وهما لونان من تنظيف الجسد.

وهذا الشمول في العبادة يعبّر عن اتّجاه عامٍّ في التربية الإسلامية يستهدف أن يربط الإنسان في كلّ أعماله ونشاطاته بالله تعالى، ويحوّل كلّ ما يقوم به من جهد صالح إلى عبادة مهما كان حقله ونوعه، ومن أجل إيجاد الأساس الثابت لهذا الاتّجاه وُزّعت العبادات الثابتة على الحقول المختلفة للنشاط الإنساني، تمهيداً إلى تمرين الإنسان على أن يسبغ روح العبادة على كلّ نشاطاته الصالحة، وروح المسجد على مكان عمله في المزرع أو المصنع أو المَتْجَر أو المكتب ما دام يعمل عملا صالحاً من أجل الله سبحانه وتعالى.

وفي ذلك تختلف الشريعة الإسلامية عن اتّجاهين دينيّين آخرين، وهما:

أولا: الاتّجاه إلى الفصل بين العبادة والحياة.

وثانياً: الاتّجاه إلى حصر الحياة في إطار ضيّق من العبادة، كما يفعل المترهّبون والمتصوّفون.

أمّا الاتّجاه الأول الذي يفصل بين العبادة والحياة فيدَع العبادة للأماكن الخاصّة المقرّر لها، ويطالب الإنسان بأن يتواجد في تلك الأماكن ليؤدّي لله حقّه ويتعبّد بين يديه، حتّى إذا خرج منها إلى سائر حقول الحياة ودّعَ العبادة وانصرف إلى شؤون دنياه إلى حين الرجوع ثانيةً إلى تلك الأماكن الشريفة.

وهذه الثنائية بين العبادة ونشاطات الحياة المختلفة تشلّ العبادة وتعطّل

819

دورها التربويّ البنّاء في تطوير دوافع الإنسان وجعلها موضوعية، وتمكينه من أن يتجاوز ذاته ومصالحه الضيّقة في مختلف مجالات العمل. والله سبحانه وتعالى لم يركّز على أن يُعبَد من أجل تكريس ذاته ـ وهو الغني عن عباده ـ لكي يكتفي منهم بعبادة من هذا القبيل، ولم ينصب نفسه هدفاً وغايةً للمسيرة الإنسانية لكي يُطأطئ الإنسان رأسه بين يديه في مجال عبادته وكفى، وإنّما أراد بهذه العبادة أن يبني الإنسان الصالح القادر على أن يتجاوز ذاته ويساهم في المسيرة بدور أكبر، ولا يتمّ التحقيق الأمثل لذلك إلّا إذا امتدّت روح العبادة تدريجاً إلى نشاطات الحياة الاُخرى؛ لأنّ امتدادها يعني ـ كما عرفنا ـ امتداد الموضوعية في القصد والشعور الداخلي بالمسؤولية في التصرّف، والقدرة على تجاوز الذات وانسجام الإنسان مع إطاره الكونيّ الشامل مع الأزل والأبد اللذَينِ يحيطان به.

ومن هنا جاءت الشريعة ووزّعت العبادات على مختلف حقول الحياة، وحثّت على الممارسة العبادية في كلّ تصرّف صالح، وأفهمت الإنسان بأنّ الفارق بين المسجد ـ الذي هو بيت الله ـ وبين بيت الإنسان ليس بنوعية البناء أو الشعار، وإنّما استحقّ المسجد أن يكون بيت الله؛ لأنّه الساحة التي يمارس عليها الإنسان عملا يتجاوز فيه ذاته، ويقصد به هدفاً أكبر من منطق المنافع المادية المحدودة، وأنّ هذه الساحة ينبغي أن تمتدّ وتشمل كلّ مسرح الحياة. وكلّ ساحة يعمل عليها الإنسان عملا يتجاوز فيه ذاته ويقصد به ربّه والناس أجمعين فهي تحمل روح المسجد.

وأمّا الاتّجاه الثاني الذي يحصر الحياة في إطار ضيّق من العبادة فقد حاول أن يحصر الإنسان في المسجد، بدلا عن أن يمدّد معنى المسجد ليشمل كلّ الساحة التي تشهد عملا صالحاً لإنسان.

820

ويؤمن هذا الاتّجاه بأنّ الإنسان يعيش تناقضاً داخلياً بين روحه وجسده، ولا يتكامل في أحد هذين الجانبين إلّا على حساب الجانب الآخر. فلكي ينمو ويزكو روحياً يجب أن يُحرّم جسده من الطيبات، ويقلّص وجوده على مسرح الحياة، ويمارس صراعاً مستمرّاً ضدّ رغباته وتطلّعاته إلى مختلف ميادين الحياة؛ حتّى يتمّ له الانتصار عليها جميعاً عن طريق الكفّ المستمرّ والحرمان الطويل، والممارسات العبادية المحددة.

والشريعة الإسلامية ترفض هذا الاتّجاه أيضاً؛ لأنّها تريد العبادات من أجل الحياة، فلا يمكن أن تصادر الحياة من أجل العبادات. وهي في الوقت نفسه تحرص على أن يسكب الإنسان الصالح روح العبادة في كلّ تصرّفاته ونشاطاته، ولكن لا بمعنى أنّه يكفّ عن النشاطات المتعدّدة في الحياة ويحصر نفسه بين جدران المعبد، بل بمعنى أن يحوّل تلك النشاطات إلى عبادات. فالمسجد منطلق للإنسان الصالح في سلوكه اليومي، وليس محدّداً لهذا السلوك، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله)لأبي ذر: « إن استطعت أن لا تأكل ولا تشرب إلّا لله فافعل »(1).

وهكذا تكون العبادة من أجل الحياة، ويقدّر نجاحها التربويّ والديني بمدى امتدادها مضموناً وروحاً إلى شتّى مجالات الحياة.

 

3 ـ الجانب الحسّي في العبادة:

 

إدراك الإنسان ليس مجرّد إحساس فحسب، وليس مجرّد تفكير عقليّ


(1) ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصاياه لأبي ذرّ: « يا أبا ذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتى في النوم والأكل». بحار الأنوار 74: 84، الباب 4 من كتاب الروضة، الحديث 3.
821

وتجريديٍّ فحسب، بل هو مزاج من عقل وحسٍّ من تجريد وتشخيص. وحينما يراد من العبادة أن تؤدّي دورها على نحو يتفاعل معها الإنسان تفاعلا كاملا وتنسجم مع شخصيته المؤلّفة من عقل وحسٍّ ينبغي أن تشتمل العبادة نفسها على جانب حسّيّ وجانب عقليّ تجريدي؛ لكي تتطابق العبادة مع شخصية العابد، ويعيش العابد في ممارسته العبادية ارتباطه بالمطلق بكلّ وجوده.

ومن هنا كانت النية والمحتوى النفسي للعبادة يمثّل دائماً جانبها العقلي التجريدي، إذ تشدّ الإنسان العابد إلى المطلق الحقّ سبحانه وتعالى، وكانت هناك معالم اُخرى في العبادة تمثّل جانبها الحسّي.

فالقبلة التي يجب على كلّ مصلٍّ أن يستقبلها في صلاته، والبيت الحرام الذي يؤمُّه الحاجّ والمعتمر ويطوف به، والصفا والمروة اللذَانِ يُسعَى بينهما، وجمرة العقبة التي يرميها بالحُصَيّات، والمسجد الذي خُصّصَ مكاناً للاعتكاف يمارس فيه المعتكف عبادته كلّ هذه الأشياء معالم حسّية ربطت بها العبادة، فلا صلاة إلّا إلى القبلة(1)، ولا طواف إلّا بالبيت الحرام، وهكذا، وذلك من أجل إشباع الجانب الحسّي في الإنسان العابد وإعطائه حقّه ونصيبه من العبادة.

وهذا هو الاتّجاه الوسط في تنظيم العبادة وصياغتها وفقاً لفطرة الإنسان وتركيبه العقلي الحسّي الخاصّ.

ويقابله اتّجاهان آخران:

أحدهما يفرّط في عقلَنَة الإنسان ـ إن صحّ التعبير ـ فيتعامل معه كفكر مجرّد، ويشجب كلّ التجسيدات الحسّية في مجال العبادة، فما دام المطلق الحقّ


(1) وسائل الشيعة 3: 227، الباب 9 من أبواب القبلة، الحديث 2.
822

سبحانه لا يحدّه مكان ولا زمان، ولا يمثّله نَصب ولا تمثال فيجب أن تكون عبادته قائمةً على هذا الأساس، وبالطريقة التي يمكن للفكر النسبّي للإنسان أن يناجي بها الحقيقة المطلقة.

وهذا الاتّجاه لا تقرّه الشريعة الإسلامية، فإنّها على الرغم من اهتمامها بالجوانب الفكرية ـ حتّى جاء في الحديث أنّ « تفكير ساعة أفضل من عبادة سنة »(1) ـ تؤمن بأنّ التفكير الخاشع المتعبّد مهما كان عميقاً لا يملأ نفس الإنسان، ولا يُعبّئ كلّ فراغه، ولا يشدّه إلى الحقيقة المطلقة بكلّ وجوده؛ لأنّ الإنسان ليس فكراً بحتاً.

ومن هذا المنطلق الواقعيّ الموضوعي صُمّمت العبادات في الإسلام على أساس عقليّ وحسّيّ معاً، فالمصلّي في صلاته يمارس بنيّته تعبّداً فكرياً، وينزّه ربّه عن أيّ حدٍّ ومقايسة ومشابهة؛ وذلك حين يفتتح صلاته قائلا: « اللهُ أكبر »، ولكنّه في نفس الوقت يتّخذ من الكعبة الشريفة شعاراً ربّانياً يتوجّه إليه بأحاسِيسه وحركاته؛ لكي يعيش العبادة فكراً وحسّاً، منطقاً وعاطفة، وتجريداً ووجداناً.

والاتّجاه الآخر يفرّط في الجانب الحسّي، ويحوّل الشعار إلى مدلول، والإشارة إلى واقع، فيجعل العبادة لهذا الرمز بدلا عن مدلوله، والاتّجاه إلى الإشارة بدلا عن الواقع الذي تشير إليه، وبهذا ينغمس الإنسان العابد بشكل وآخر في الشرك والوثنية.

وهذا الاتّجاه يقضي على روح العبادة نهائياً، ويعطّلها بوصفها أداةً



(1) بحار الأنوار 6: 133، عن مصباح الشريعة، باختلاف في اللفظ.

823

لربط الإنسان ومسيرته الحضارية بالمطلق الحقّ، ويسخّرها أداةً لربطه بالمطلقات المزيّفة بالرموز التي تحوّلت بتجريد ذهنيّ كاذب إلى مطلق. وبهذا تصبح العبادة المزيّفة هذه حجاباً بين الإنسان وربّه، بدلا عن أن تكون همزة الوصل بينهما.

وقد شجب الإسلام هذا الاتّجاه؛ لأنّه أدانَ الوثنيةَ بكلّ أشكالها، وحطّم الأصنام وقضى على الآلهة المصطنعة، ورفض أن يُتّخذ من أيّ شيء محدود رمزاً للمطلق الحقّ سبحانه وتجسيداً له. ولكنّه ميّز بعمق بين مفهوم الصنم الذي حطّمه ومفهوم القبلة الذي جاء به، وهو مفهوم لا يعني إلّا أنّ نقطةً مكانيةً معيّنةً اُسبِغ عليها تشريف ربّاني فربطت الصلاة بها إشباعاً للجانب الحسّي من الإنسان العابد، وليست الوثنية في الحقيقة إلّا محاولةً منحرفةً لإشباع هذا الجانب استطاعت الشريعة أن تصحّح انحرافها، وتقدّم الاُسلوبَ السَوِيّ في التوفيق بين عبادة الله بوصفها تعاملا مع المطلق الذي لا حدّ له ولا تمثيل، وبين حاجة الإنسان المؤلّف من حسٍّ وعقل إلى أن يعبد الله بحسّه وعقله معاً.

4 ـ الجانب الاجتماعي في العبادة:

العبادة في الأساس تمثّل علاقة الإنسان بربّه، وتمدّ هذه العلاقة بعناصر البقاء والرسوخ، غير أنّها صِيغَت في الشريعة الإسلامية بطريقة جعلت منها ـ في أكثر الأحيان أيضاً ـ أداةً لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وهذا ما نقصده بالجانب الاجتماعي في العبادة.

ففي العبادات ما يفرض التجمّع بنفسه وإنشاء العلاقات الاجتماعية بين ممارسِي تلك العبادة، كالجهاد فإنّه يتطلّب من المقاتلين الذين يعبدون الله بقتالهم

824

أن يقيموا فيما بينهم العلاقات التي تنشأ بين وحدات الجيش المقاتل.

وفي العبادات ما لا يفرض التجمّع بنفسه، ولكن مع هذا ربط بشكل وآخر بلون من ألوان التجمّع، تحقيقاً للمزج بين علاقة الإنسان بربّه وعلاقته بأخيه الإنسان في ممارسة واحدة.

فالفرائض من الصلاة شرّعت فيها صلاة الجماعة التي تتحّول فيها العبادة الفردية إلى عبادة جماعية، تتوثّق فيها عرى الجماعة، وتترسّخ صلاتها الروحية من خلال توحّدها في الممارسة العبادية.

وفريضة الحجّ حدّدت لها مواقيت معيّنة من الناحية الزمانية والمكانية، فكلّ ممارِس لهذه الفريضة يتحتّم عليه أن يمارسها ضمن تلك المواقيت، وبهذا تؤدّي الممارسة إلى عملية اجتماعية كبيرة.

وحتّى فريضة الصيام ـ التي هي بطبيعتها عمل فرديّ بحت ـ رُبِطَت بعيد الفطر باعتباره الوجهَ الاجتماعي لهذه الفريضة، الذي يوحّد بين الممارِسِين لها في فرحة الانتصار على شهواتهم ونزعاتهم.

وفريضة الزكاة تنشئ بصورة مواكبة لعلاقة الإنسان بربّه علاقةً له بوليّ الأمر الذي يدفع إليه الزكاة، أو بالفقير، أو المشروع الخيريّ الذي يموّله من الزكاة مباشرةً.

وهكذا نلاحظ أنّ العلاقة الاجتماعية تتواجد غالباً بصورة واُخرى إلى جانب العلاقة العبادية بين الإنسان العابد وربّه في ممارسة عبادية واحدة، وليس ذلك إلّا من أجل التأكيد على أنّ العلاقة العبادية ذات دور اجتماعيّ في حياة الإنسان، ولا تعتبر ناجحةً إلّا حين تكون قوةً فاعلةً في توجيه ما يواكبها من علاقات اجتماعية توجيهاً صالحاً.

825

ويبلغ الجانب الاجتماعي من العبادة القِمّةَ في ما تطرحه العبادة من شعارات تشكّل على المسرح الاجتماعي رمزاً روحياً لوحدة الاُمّة وشعورها بأصالتها وتميّزها. فالقبلة أو بيت الله الحرام شعار طرحته الشريعة من خلال ما شرّعت من عبادة وصلاة، ولم يأخذ هذا الشعار بعداً دينياً فحسب، بل كان له أيضاً بعده الاجتماعي بوصفه رمزاً لوحدة هذه الاُمّة وأصالتها، ولهذا واجه المسلمون ـ عندما شرّعت لهم قبلتهم الجديدة هذه ـ شَغَباً شديداً من السفهاء على حدّ تعبير القرآن(1)؛ لأنّ هؤلاء السفهاء أدركوا المدلول الاجتماعيّ لهذا التشريع، وأنّه مظهر من مظاهر إعطاء هذه الاُمّة شخصيّتها وجعلها اُمّةً وَسَطاً(2).

هذه ملامح عامّة للعبادات في الشريعة الإسلامية.

وهناك ـ إضافةً إلى ما ذكرنا من الخطوط العامّة التي تمثّل دور العبادات في حياة الإنسان، وإلى ملامحها العامّة التي استعرضناها ـ أدوار وملامح تفصيلية لكلّ عبادة، فإنّ لكلٍّ من العبادات التي جاءت بها الشريعة آثارَ وخصائص ولوناً من العطاء للإنسان العابد، وللمسيرة الحضارية للإنسان على العموم.

ولا يتّسع المجال للإفاضة في الحديث عن ذلك، فنترك الأدوار والملامح التفصيلية، واستعراض الحكم والفوائد التي تكمن في تعليمات الشارع العبادية


(1) قوله تعالى: ﴿سيقولُ السفهاءُ من الناسِ ما وَلاّهم عن قبلَتهمُ التي كانوا عليها قُلْ للهِ المشرِقُ والمغرِبُ يهدي مَن يشاءُ إلى صراط مستقيم * وكذلك جعلناكم اُمّةً وَسَطاً لِتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً ﴾. البقرة: 142 ـ 143.
(2) قوله تعالى: ﴿وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلّا لِنَعْلَمَ من يتَّبعُ الرسولَ ممّن ينقلِبُ على عَقِبيهِ... ﴾. البقرة: 143.
826

في كلّ عبادة من العبادات التي جاءت بها الشريعة إلى مستوىً آخر من الحديث، وقد كلّفنا بعض تلامذتنا بتغطية هذا الفراغ.

ومن الله تعالى نستمد الاعتصام، وإليه نبتهل أن لا يحرمنا من شرف عبادته، ويدرجنا في عباده المرضيّين، ويتجاوز عنّا بلطفه وإحسانه، وهو الذي وسعت رحمته كلّ شيء، ﴿ وما ليَ لا أعبدُ الذي فطرني وإليه تُرجَعُونَ ﴾(1).

 

وقد وقع الفراغ من هذا في اليوم الثاني من جمادى الاُولى (1396 هـ).

والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد

وآله الطاهرين وصحبه الميامين.


(1) يس: 22.
827

استدراك الطبعة السادسة لكتاب الفتاوى الواضحة

(قد اُوردت هذه التصحيحات في النسخة الموجودة من الكتاب على هذا الموقع)