128

الاحتياط

 

(28) الاحتياط هو الطريق الثالث لطاعة الله تعالى، وقد تقدم تعريفه، وهو على قسمين؛ لأنّه: تارةً يستدعي التكرار، واُخرى لا يستدعيه.

ومثال الأول: أن يجهل المكلّف في بعض الحالات أنّ الواجب عليه صلاة القصر ـ وهي صلاة الظهر مثلا تؤدّى ركعتين ـ أو صلاة التمام، وهي صلاة الظهر ـ مثلا ـ تؤدّى أربع ركعات، فإذا أراد أن يحتاط تحتّم عليه أن يعيد الصلاة مرّتين: قصراً تارةً، وتماماً اُخرى.

ومثال الثاني: أن يجهل المكلّف حكم الإقامة للصلاة، فلا يدري هل هي واجبة أو مستحبّة؟ فإذا أراد أن يحتاط أقام وصلّى، وليس في ذلك تكرار.

وكلا القسمين جائز، سواء كان المكلّف متمكّناً من التعرّف على الحكم الشرعي وتحديده بالضبط عن طريق الاجتهاد أو التقليد، أو لا.

(29) ولكنّ هذا لا يعني أنّ المكلّف الاعتياديّ يمكنه أن يستغني بالاحتياط عن التقليد؛ وذلك لأنّ معرفة الاُسلوب الذي يحصل به الاحتياط تحتاج إلى اطّلاع وانتباه فقهيّين واسعين، فلابدّ للمحتاط أن يحيط علماً بكلّ الأشياء التي من المحتمل وجوبها لكي يأتي بها، وبكلّ الأشياء التي من المحتمل حرمتها لكي يتركها، وقد يكون شيء واحد يحقّق الاحتياط في حالة دون اُخرى.

ومثال ذلك: أنّ إنشاء حياة زوجية بعقد نكاح يتمّ بلغة غير عربية مخالف للاحتياط؛ لأنّ هناك من يقول بأنّ اللغة العربية شرط في عقد النكاح، ولكن إذا

129

وقع العقد على هذا النحو فنفي الزوجية وما تستدعيه من تكاليف مخالف للاحتياط أيضاً، لأنّ هناك من يقول بصحة هذا العقد.

(30) وإضافةً إلى ذلك قد يتعذّر الاحتياط أحياناً بصورة نهائية، وذلك فيما إذا كان الإنسان يخشى من تورّطه في مخالفة حكم الله تعالى على أيّ حال، ولا يمكنه التأكّد من طاعته إلّا إذا تعرّف على الحكم بصورة محدّدة.

ومثال ذلك: أن ينذر شخص نذراً وينهاه والده عنه؛ فهو يحتمل أنّ الوفاء بالنذر واجب لأنّه نذر؛ ويحتمل أنّه حرام رعايةً لنهي الوالد، ولا يمكنه أن يحتاط والحالة هذه، فيتعيّن عليه الاجتهاد، أو التقليد للتعرّف على الحكم الشرعي بصورة محدّدة.

(31) وكثيراً ما تواجه الإنسان حالات لا يمكنه فيها أن يطمئنّ إلى أنّ تصرّفه تجاهها مرضي شرعاً ما لم يتعلّم مسبقاً أحكامها، إذ لا يتاح له الاحتياط في تلك اللحظة بدون تعلّم مسبق، ومن ذلك: حالات الشكّ في عدد الركعات، أو بعض أجزاء الصلاة، ولهذا يجب على المكلّف أن يتعلّم ويعرف حكم ما قد يعرض له من شكٍّ في ذلك، وأيضاً عليه أن يتعلّم حكم مايزيده في عباداته أو يتركه منها سهواً أو نسياناً.

وعلى العموم يجب على كلّ مكلّف ـ رجلا أو امرأةً ـ أن يكون على بصيرة من دينه، ومعرفة بالأحكام التي من الممكن أن يتعرّض لها ولا يمكن أن يعطيها حقّها إلّا بتعلمها.

ولا عذر للمكلف في ترك الفرائض والواجبات جهلا بما يجب عليه منها، ولا عذر له في الإتيان بها بصورة غير صحيحة جهلا منه بخصائصها وأجزائها وشروطها، بل يتحتّم عليه أن يتعلّم ذلك، حتّى إذا صلّى أو صام ـ مثلا ـ علم أنّه

130

أدّى لله ما عليه من هذه العبادة الواجبة على النهج المطلوب؛ لأنّه متفقِّه بقدر ما يعلم بصحّتها والاكتفاء بها، والخروج عن عهدة أمرها ووجوبها.

العدالة:

(32) تقدّم في الفقرة (4): أنّ العدالة شرط في مرجع التقليد، كما أنّها شرط في مواضع عديدة شرعاً، ولهذا نشير إليها فيما يلي:

العدالة: عبارة عن الاستقامة على شرع الإسلام وطريقته، قال تعالى: ﴿فاسْتَقِمْ كَمَا اُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ...﴾(1). وقال:﴿وَأنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلى الطّرِيقَةِ...﴾(2). شريطة أن تكون هذه الاستقامة طبيعةً ثابتةً للعادل تماماً، كالعادة. ولا فرق من هذه الجهة بين ترك الذنب الكبير والذنب الصغير، ولا بين فعل الواجب المتعب وغيره ما دام الإذعان والاستسلام ركناً من أركان السمع والطاعة لأمر الله ونهيه، أيّاً كان لونهما ووزنهما.

أمّا من استثقل شرع الله وأحكامه فهو من الذين أشارت إليهم الآية الكريمة ﴿وَإنّهَا لَكَبِيرَةٌ إلّا على الخَاشِعِينَ﴾(3).

ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أنّ العدالة شرط أساسي في مواقع شرعية متعدّدة، فالمرجعية العليا للتقليد، والولاية العامة على المسلمين، والقضاء، وإمامة صلاة الجماعة، وإقامة الشهادة التي يأخذ بها القاضي، والشهادة على الطلاق، كلّ هذه المسؤوليات يشترط فيها عدالة الإنسان الذي يتحمّلها، والعدالة


(1) هود: 112.
(2) الجنّ: 16.
(3) البقرة: 45.
131

في الجميع بمعنى الاستقامة على الشرع كما تقدم، وهذه الاستقامة تستند إلى طبيعة ثابتة في الإنسان المستقيم، وكلّما كانت المسؤولية أكبر وأوسع وأجلّ خطراً كانت العدالة في من يتحمّلها بحاجة إلى رسوخ أشدّ وأكمل في طبيعة الاستقامة لكي يُعصم بها من المزالق، ومن أجل ذلك صحّ القول: بأنّ المرجعية تتوقّف على درجة عالية من العدالة، ورسوخ أكيد في الاستقامة والإخلاص لله سبحانه وتعالى.

(33) طرق معرفة العدالة: تُعرَف العدالة:

أوّلا: بالحسّ والممارسة.

ثانياً: بشهادة عادلين بها.

ثالثاً: بشهادة الثقة(1). مرّ تفسير الثقة في الفقرة (12).

رابعاً: بحسن الظاهر والسيرة الحسنة بين الناس، بمعنى: أن يكون معروفاً عندهم بالاستقامة والصلاح والتديّن، فإنّ ذلك دليل على العدالة ولو لم يحصل الوثوق والاطمئنان بسبب ذلك.

(34) إذا مارس العادل في لحظة ضعف أو هوىً ذنباً زالت عنه العدالة، فإذا ندم وتاب فهو عادل ما دام طبع الطاعة والانقياد ثابتاً في نفسه.



(1) ثبوت العدالة بجميع ما لها من الأحكام بخبر الواحد الثقة دون حاجة إلى شهادة عدلَين مشكلٌ.

133

أبْحَاث تَمهيديّة

4

التكليف وَشُروطه

 

 

○  شروط التكليف.

○  آثار عامّة للتكليف الشرعي.

○  تقسيم الأحكام.

 

 

135

(1) التكليف: تشريف من الله سبحانه وتعالى للإنسان وتكريم له؛ لأنّه يرمز إلى ماميّز الله به الإنسان من عقل وقدرة على بناء نفسه والتحكّم في غرائزه، وقابلية لتحمّل المسؤولية، خلافاً لغيره من أصناف الحيوانات ومختلف كائنات الأرض، فإن أدّى الإنسان واجب هذا التشريف وأطاع وامتثل شرّفه الله تعالى بعد ذلك بعظيم ثوابه، وبملك لا يبلى ونعيم لا يفنى. وإن قصّر في ذلك وعصى كان جديراً بعقاب الله سبحانه وسخطه؛ لأنّه ظلم نفسه، وجهل حقّ ربّه، ولم يقم بواجب الأمانة التي شرّفه الله بها وميّزه عن سائر مخلوقات الأرض ﴿ إنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلى السَّمَاواتِ والأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وَأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسانُ... الآية ﴾(1).

ويجب شرعاً وعقلا على العاصي أن يتوب عن معصيته، ويؤوب إلى ربّه، وإذا لم يتب كان ذلك معصيةً اُخرى منه. والتوبة تتلخّص في أن يندم على ما وقع منه من ذنب، ويتّخذ قراراً بالتحفّظ وعدم تكرار ذلك في المستقبل.


(1) الأحزاب: 72.
136

شروط التكليف

 

وللتكليف شروط عامّة، وهي كما يلي:

(2) أوّلا: البلوغ، فلا يتّجه التكليف إلى الإنسان ـ رجلا كان أم امرأةً ـ إلّا إذا بلغ. وللبلوغ تقدير شرعي محدّد يأتي شرحه. فغير البالغ ليس بمكلّف؛ ونعني بذلك أنّ جانب الإلزام والمسؤولية الاُخروية ـ العقاب في الآخرة ـ من أحكام الله تعالى لا يثبت بشأن الإنسان غير البالغ، فلو كذب أو ترك الصلاة لا يعاقب يوم القيامة؛ نظراً إلى وقوع ذلك منه قبل بلوغه.

ولكن ينبغي الالتفات إلى ما يلي:

(3) أ ـ إنّ ذلك لا يعني عدم كون الولي مسؤولا عن تصرّف هذا الإنسان غير البالغ وتوجيهه وإنزال العقاب به في حالات التأديب، فالولي من أهله يجب عليه أن يقيه النار والتعرّض لسخط الله تعالى عند بلوغه؛ وذلك بأن يهيّئه قبل البلوغ للطاعة، ويقرّبه نحو الله تعالى بالوسائل المختلفة للتأديب: من الترهيب والترغيب والتعويد والتثقيف، عملا بقوله تعالي: ﴿قُوا أنْفُسَكُمْ وَأهْلِيْكُمْ ناراً وَقُودُها النّاسُ وَالحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ ويَفَعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون﴾(1).

وإذا أدّى الولي كلّ ما عليه ولم يفلح في حمل ولده على الهدى والصلاح فلا وزر عليه من هذه الناحية.

(4) ب ـ إنّ إعفاء غير البالغ من المسؤولية الاُخروية وما تمثّله من الإلزام


(1) التحريم: 6.
137

لا يعني عدم استحسان الطاعة منه وعدم وقوع العبادة صحيحة إذا أدّاها بالصورةالكاملة، فيستحبّ منه ما يجب على البالغ وما يندب إليه البالغ من عبادات، على أن لا تكون مضرّةً بحاله.

وينبغي للصبي أن يبدأ بالتعوّد على الصلاة إذا أكمل سبع سنين، وعلى الصيام إذا أكمل تسع سنين، ولو بأن يصوم قسطاً من النهار ثمّ يفطر إذا أجهده الصوم وغلب عليه العطش أو الجوع.

(5) ج ـ إنّ عدم كونه ملزماً ومكلّفاً شرعاً لا يعفيه نهائياً من التبعات التي قد تنجم عن بعض تصرّفاته، كتعويض الآخرين إذا تسبّب إلى إتلاف أموالهم مثلا، وإنّما يوجب تأجيل إلزامه بهذا التعويض إلى حين البلوغ، على ما يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في المواضع المناسبة من هذا الكتاب.

(6) ثانياً: العقل، ونقصد به: أن يكون لديه من الرشد ما يمكن أن يعيَ به كونه مكلّفاً، ويحسّ بمسؤولية تجاه ذلك.

فلا تكليف للمجنون، أو الأبلَه الذي لايدرك الواضحات؛ لبلاهته وقصور عقله.

(7) وإذا كان الإنسان مجنوناً في حالة وسوياً في حالة اُخرى سقط عنه التكليف في الحالة الاُولى، ويثبت عليه في الحالة الثانية.

وقد يكون الإنسان مجنوناً أو قاصر الإدراك بدرجة مّا لا يمكن أن يعيَ معها بعض التكاليف، ولكن يعي بعضها الآخر.

ومثال ذلك: إنسان ضعيف الإدراك لا يمكنه أن يعي أعمال الحجّ ولا أن يؤديّها، ولكنّه يمكنه أن يدرك أنّه لا ينبغي للإنسان أن يقتل إنساناً، ومثل هذا المجنون تثبت عليه التكاليف التي يمكن أن يدركها ويعيها وتسقط عنه من التكاليف ما لا يمكنه إدراكها ووعيها بحكم جنونه وقصور إدراكه.

(8) ثالثاً: القدرة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلّا

138

وُسْعَها ﴾(1). فمن عجز عن الطاعة كان معذوراً وسقط عنه التكليف، سواء كانالتكليف أمراً وإلزاماً بشيء وقد عجز عنه ـ كالمريض يعجز عن القيام في الصلاة ـ أو نهياً وتحريماً لشيء وقد عجز عن اجتنابه وتركه، كالغريق يعجز عن اجتناب الخطر.

(9) وقد لا يعجز بالمعنى الكامل، ولكنّ الطاعة تكلّفه التضحية بحياته، وفي هذا الفرض يسقط التكليف أيضاً؛ حفاظاً على حياته، إلّا في حالتين:

الاُولى: أن تكون تلك الطاعة ممّا يفرضها الجهاد الواجب، فإنّ الجهاد إذا توفّرت شروطه وجب على أيّ حال.

الثانية: أن يأمره شخص قادر على قتله بأن يقتل مسلماً بدون حقٍّ ويهدّده بالقتل إذا امتنع عن ذلك، فإنّ عليه في هذه الحالة أن يطيع الله تعالى بالامتناع عن قتل ذلك الإنسان، ولو تعرّض للموت.

(10) وقد يواجه المكلّف تكليفين لا يعجز عن طاعة كلّ واحد منهما بصورة منفردة عن الآخر، ولكنّه يعجز عن طاعتهما معاً.

ومثال ذلك: أن تكون عليه صلاة واجبة ضاق وقتها ويشبّ أمامه حريق، وهو قادر على أن يصلّي ويهمل الحريق، وقادر على أن يطفئ الحريق وتفوته الصلاة، وفي فروض من هذا القبيل يسقط من التكليفين التكليف الأقلّ أهميّةً في تلك الحالة، وهذا أمر لا يمكن في كثير من الأحيان لغير المجتهد البتّ فيه إلّا بالرجوع إلى مقلَّده ليعيّن له موقفه.

(11) وإذا توجّه التكليف إلى الإنسان فعلا فلا فرق في عصيانه بين أن يكون بترك ما أمر به الله اختياراً، أو بالإقدام على عمل معيّن يعلم المكلّف بأنّه


(1) البقرة: 286.
139

سوف يعجز بسببه عن الطاعة.

ومثاله: أن يحلّ عليه وقت الصلاة ويتوجّه إليه التكليف بها، فيركب القطار وهو يعلم بأنّه سوف يعجز ـ عند ركوبه ـ عن أداء فريضة الصلاة، فإنّ هذا يعتبر عصياناً أيضاً، بل لا يجوز له أن يقدم حينئذ على عمل يحتمل بأنّه يعجز بسببه عن القيام بما وجب عليه فعلا.

(12) الإسلام ليس من الشروط العامة للتكليف، فالتكاليف الشرعية كما تتّجه إلى المسلم تتّجه إلى الكافر أيضاً، ويستثنى من ذلك وجوب قضاء الصلاة والصيام، فإنّ الكافر يُخاطَب شرعاً بالصلاة والصيام في أوقاتهما، ولكن لا يخاطب بوجوب قضائهما.

البلوغ وعلاماته:

(13) عرفنا أنّ أحد الشروط العامة للتكليف: البلوغ، ويتحقّق البلوغ إذا توفّرت في الذكر أو الاُنثى أحد الاُمور التالية:

أ ـ خروج المني(1)، سواء كان ذلك في حالة النوم أو في اليقظة، في حالة جماع واتّصال جنسيّ أو بدونه.

ب ـ نبات الشعر على العانة إذا كان خشناً، ولا اعتبار بالزغب (الشعر الناعم)، والعانة تقع بين العورة ونهاية البطن.

ج ـ إكمال مرحلة معيّنة من العمر، وذلك في الذكر بأن يكمل خمس عشرة


(1) خروج المني يكون في الذكر، وأمّا الاُنثى فتخرج منها رطوبات، ومن تلك الرطوبات ما يكون مصحوباً برعشة ولذّة تشبه رعشة الرجل ولذّته لدى خروج المني، وهذا أيضاً حاله حال خروج المني في دلالته على البلوغ، أي كما أنّ خروج المني من الذكر دليل على بلوغه كذلك خروج رطوبة من هذا القبيل من الاُنثى دليل على بلوغها.
140

سنةً من السنين القمرية، وفي الاُنثى بأن تكمل تسع سنين قمرية. والأفضل والأحوط للدين استحباباً أن يعتبر الصبي نفسه مكلفاً منذ إكماله ثلاث عشرة سنةً ودخوله في السنة الرابعة عشرة، فلا يتهاون بشيء من الواجبات التي يلزم بها البالغون.

(14) وإذا شكّ الصبي وكذلك الصبية في بلوغه بنى على عدم البلوغ، حتّى يحصل له اليقين ببلوغه.

(15) وإذا شكّ البالغ المكلّف في قدرته على الطاعة والامتثال لم يسمح له بأن يفترض في نفسه العجز لمجرّد الشكّ، بل يجب عليه أن يحاول إلى أن يثبت لديه أنّه عاجز.

 

آثار عامة للتكليف الشرعي

 

(16) إذا ثبت تكليف شرعي وكان أمراً كالأمر بالصلاة والأمر بالصدقة ترتّب على ذلك أنّ كلّ مقدمة يتوقّف عليها ذلك الواجب الذي أمرت به الشريعة تصبح واجبةً ولابدّ للمكلف من القيام بها.

(17) وإذا ثبت التكليف وكان نهياً وتحريماً كالنهي عن شرب الخمر أو قتل النفس ترتّب على ذلك أنّ المكلّف لابدّ له حذراً من الوقوع في الحرام أن يجتنب كلّ موقف أو عمل يؤدّي بطبيعته إلى وقوع الحرام وصدوره منه.

(18) وإذا وجب على إنسان القيام بفعل حَرُم على أيّ إنسان آخر أن يحاول صرفه عن القيام به، وإذا حرم على إنسان القيام بفعل حرم على أيّ إنسان آخر أن يسعى من أجل أن يقوم بذلك الفعل.

ومثاله: إذا حرم على الجنب أن يدخل المسجد حرم عليك أن تُدخله، وإذا

141

حرم على إنسان أن يأكل النجس حرم عليك أن تقدّمَ له طعاماً نجساً وتستدرجهإلى أكله، وهكذا.

(19) وإذا وجب على الإنسان شيء يقيناً وشكّ في أنّه هل أتى به أو لا ؟ وجب عليه أن يأتي به ما دام في الوقت متّسع.

ومثال ذلك: أن يشكّ في أنّه هل صلّى أو لا ؟ ولا يزال وقت الصلاة باقياً.

ومثال آخر: أن يشكّ المدين في أنّه هل وفّى زيداً وسدّد له دينه ؟

ومثال ثالث: أن يشكّ من وجبت عليه الزكاة في أنّه هل أدّى الزكاة ؟ ففي كلّ هذه الحالات يجب عليه أن يأتي بالواجب ليكون على يقين بالطاعة.

(20) إذا وجب شيء على المكلّف فأدّاه، ثمّ شكّ بعد الفراغ منه أنّه هل أدّاه على الوجه الصحيح الكامل شرعاً أو لا ؟ بنى على الصحة، واكتفى بما أدّاه في حالتين.

الاُولى: أن يكون العمل الذي أدّاه غير قابل للتكميل فعلا لو لم يكن كاملا؛ لأنّه اُدّي بصورة ناقصة. ومثاله: أن يصلّي ثمّ يشكّ في أنّه هل كان على وضوء حين الصلاة ؟ أو هل استقبل القبلة في الصلاة ؟ أو هل ركع في كلّ ركعة ؟ فإنّ التكميل هنا غير ممكن لو لم تكن الصلاة كاملة، وإنّما الممكن إعادتها من الأساس، ففي مثل ذلك لاتجب الإعادة ويكتفي بما أدّاه.

وكذلك إذا ركع ثمّ قام وشكّ في أنّه هل كان مستقرّاً في ركوعه أوْ لا ؟ فإنّ الركوع الذي وقع لا يمكن إصلاحه، وإنّما الممكن إعادة الركوع ولو بإعادة الصلاة من الأساس، فلا قيمة للشكّ حينئذ.

الثانية: أن يكون ذلك العمل الذي أدّاه محدّداً شرعاً بأن يؤدّى قبل عمل

142

آخر، وقد بدأ المكلّف في العمل الآخر ثمّ شكك في صحة عمله الأول.

ومثاله: الأذان المحدّد بأن يؤدّى قبل الإقامة، ويشكّ المكلّف بعد أن بدأ بالإقامة أنّه هل أتى بكلّ أجزاء الأذان أو لا ؟

ومثال آخر: الإقامة المحدّدة بأن تؤدّى قبل الصلاة، ويشكّ المكلّف بعد أن بدأ بالصلاة أنّه هل أقام أو لا ؟

ومثال ثالث: الركوع محدّد بأن يكون قبل السجود، فيسجد المكلّف ويشكّ في أنّه ركع أو لا ؟ ففي هذه الفروض يمضي ولا يلتفت إلى شكّه.

ويستثنى ممّا ذكرناه في هذه الفقرة الوضوء، فإنّ له أحكاماً خاصّةً يراجع فيها باب الوضوء الفقرة (101). وقد يخطئ المقلِّد في تطبيق الحالتين المذكورتين أحياناً، ولهذا يحسن به أحياناً أن يستعين بمقلَّده في التعرّف على أنّ هذا الفرض أو ذاك هل يدخل ضمن الحالة الاُولى أو الثانية، أو لا ؟ وسوف نذكر في الأبواب المقبلة عدداً من التطبيقات لهاتين الحالتين.

(21) كلمة « اليقين والعلم » تعني: الجزم الذي لا يبقى معه مجال لأيّ تردّد واحتمال للعكس، و « الظن » يعني: أنّ احتمال هذا الشيء أكبر من احتمال العكس، فحينما نقول: « نظنّ أنّ المطر سينزل » نعني أنّ احتمال المطر أكثر من خمسين في المائة. والاطمئنان يعني درجةً عاليةً من الظنّ يقارب العلم واليقين، على نحو يبدو احتمال العكس ضئيلا إلى درجة يلغى عملياً عند العقلاء، كما إذا كان احتمال العكس واحداً في المائة مثلا.

وكلّما جاءت كلمة « اليقين والعلم » بصدد حكم شرعيّ في الأحكام الشرعية الآتية فنريد بها الجزم والاطمئنان معاً، فما يثبت للجزم والعلم من آثار شرعاً يثبت للاطمئنان أيضاً.

143

تقسيم الأحكام

 

وأحكام الشريعة على الرغم من ترابطها واتّصال بعضها ببعض يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام كما يلي:

(1) العبادات، وهي: الطهارة والصلاة والصوم والاعتكاف والحجّ والعمرة والكفّارات.

(2) الأموال، وهي على نوعين:

أ ـ الأموال العامة، ونريد بها: كلّ مال مخصّص لمصلحة عامة، ويدخل ضمنها الزكاة والخمس، فإنّهما على الرغم من كونهما عبادتين يعتبر الجانب المالي فيهما أبرز، وكذلك يدخل ضمنها الخراج والأنفال وغير ذلك. والحديث في هذا القسم يدور حول أنواع الأموال العامة، وأحكام كلّ نوع وطريقة إنفاقه.

ب ـ الأموال الخاصة، ونريد بها: ما كان مالا للأفراد، واستعراض أحكامها في بابين:

الباب الأول: في الأسباب الشرعية للتملّك، أو كسب الحقّ الخاصّ، سواء كان المال عينياً ـ أي مالا خارجياً ـ أو مالا في الذمّة، وهي الأموال التي تشتغل بها ذمّة شخص لآخر، كما في حالات الضمان والغرامة.

ويدخل في نطاق هذا الباب: أحكام الإحياء والحيازة والصيد والتبعية والميراث والضمانات والغرامات، بما في ذلك عقود الضمان والحوالة والقرض والتأمين، وغير ذلك.

الباب الثاني: في أحكام التصرّف في المال، ويدخل في نطاق ذلك: البيع

144

والصلح والشركة والوقف والوصيّة، وغير ذلك من المعاملات والتصرّفات.

(3) السلوك الخاصّ، ونريد به: كلّ سلوك شخصيّ للفرد لا يتعلّق مباشرةً بالمال، ولا يدخل في عبادة الإنسان لربه. وأحكام السلوك الخاصّ نوعان:

الأول: مايرتبط بتنظيم علاقات الرجل مع المرأة، ويدخل فيه النكاح والطلاق والخلع والمبارات والظهار والإيلاء، وغير ذلك.

الثاني: ما يرتبط بتنظيم السلوك الخاصّ في غير ذلك المجال، ويدخل فيه: أحكام الأطعمة والأشربة، والملابس والمساكن، وآداب المعاشرة، وأحكام النذر واليمين والعهد، والصيد والذباحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأحكام والمحرّمات والواجبات.

(4) السلوك العام، ونريد به: سلوك ولي الأمر في مجالات الحكم والقضاء والحرب، ومختلف العلاقات الدولية، ويدخل في ذلك: أحكام الولاية العامة، والقضاء والشهادات، والحدود، والجهاد، وغير ذلك.

145

الفتاوى الواضحة

 

القسم الأوّل

العبادات

 

 

○   أحكام عامّة للعبادات.

○  الطهارة.

○  الصلاة.

○  الصيام.

○  الاعتكاف.

○  الحجّ والعمرة.

○  الكفّارات.

○  نظرة عامّة في العبادات.

 

 

147

العبادات

1

أحكام عامة للعبادات

 

 

○   تمييز العبادات عن التوصّليات.

○  تفصيل أحكام النيّة.

○  النيابة والاستئجار في العبادات.

○  تقسيم العبادات.

 

 

149

[تمييز العبادات عن التوصّليات:]

(1) توجد في الشريعة أشياء أمر الله سبحانه وتعالى بها، وشرط فيها على المكلّف أن يأتي بها من أجله سبحانه وتعالى، أي بنيّة القربة، فلا تقع صحيحة إلّا إذا كانت مع نية القربة، وتسمّى هذه الأشياء بالعبادات.

وخلافاً لها أشياء اُخرى أمر الله سبحانه وتعالى بها ولم يشترط على المكلّف أن يأتي بها بنية القربة فيكون المكلّف بالخيار، إن شاء أتى بها من أجله سبحانه وتعالى، وإن شاء أتى بها بدافع من دوافعه الخاصّة، وهي في الحالتين تقع صحيحةً وكافية، وتسمّى هذه الأشياء بالتوصليات، أي أنّ المقصود بها شرعاً مجرّد التوصّل إلى فوائدها بدون اشتراط نيّة مخصوصة في أدائها.

وللعبادات دور مهمّ في الشريعة الإسلامية، وسنعطي في نهاية القسم الأول ـ إن شاء الله تعالى ـ نظرةً موجزةً عامّةً عن العبادات ومدلولها التربويّ ومغزاها العقائدي.

(2) العبادات في الشريعة: هي: الطهارة (الوضوء والغسل والتيمّم)، والصلاة (الأذان والإقامة ونفس الصلاة)، والصيام، والاعتكاف، والحجّ والعمرة

150

والطواف، والزكاة، والخمس، والجهاد، والكفّارات، والعتق. وغير هذه المذكورات من الواجبات والمستحبّات فهي توصّليات: كتطهير البدن والملابس من النجاسة، والإنفاق على الزوجة والأقارب، وصلة الرحم، وتعليم الأحكام، وتكفين الأموات ودفنهم، ووفاء الدين، وأداء الأمانة، ونصح المستشير، والبرّ بالوالدين، وردّ التحية (جواب السلام)، ودفع الظلم عن المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإنقاذ الإنسان من مهلكة حريق أو غرق ونحوهما، وزيارة مشاهد النبي والأئمّة (عليهم السلام)، وقراءة القرآن، إلى غير ذلك من الواجبات والمستحبّات التوصّلية.

[تفصيل أحكام النيّة:]

(3) نية القربة معناها: الإتيان بالفعل من أجل الله سبحانه وتعالى، فهي الباعث نحو الفعل، سواء كانت هذه النية بسبب الخوف من عقاب الله تعالى، أو رغبةً في ثوابه، أو حبّاً له وإيماناً بأنّه أهل لأن يطاع، فالعبادة تقع صحيحةً إذا اقترنت بنية القربة على أحد هذه الأوجه، ولا يعتبر فيها أن ينوي كون الفعل واجباً أو مندوباً ومستحبّاً، بل يكفي أن يأتي به طاعةً لله تعالى، ولو لم يقصد الوجوب في الواجب أو الاستحباب والندب في المستحبّ والمندوب.

(4) إذا أتى المكلّف بالواجب التوصّليّ ـ كالإنفاق على الزوجة ـ بنية القربة دفع عن نفسه العقاب، واستحقّ بلطف الله تعالى الأجر والثواب. وإذا أتى به بدافع من الدوافع الخاصّة ـ كحبّه لزوجته ـ على نحو لم يكن ليقوم بذلك لولا تلك الدوافع الخاصّة دفع عن نفسه العقاب، ولكنّه لا يستحقّ بذلك الأجر والثواب. وكذلك إذا أحسن الغنيّ بالمال في سبيل من سبل الخير فإنّه إن نوى بذلك القربة إلى الله تعالى استحقّ بلطف الله الثواب، وسمّي إحسانه بالصدقة، وإن لم ينوِ القربة

151

لم يستحقّ ذلك، وكثيراً مايتفضّل الله سبحانه وتعالى عليه بذلك لأنّه أكرم الأكرمين وأوسع المعطين(1).

(5) وإذا أتى المكلّف به بنية القربة وبالدافع الخاصّ معاً على نحو لو لم يكن هناك دافع خاصّ لقام بذلك أيضاً من أجل الله تعالى فقد برئ من العقاب واستحقّ الثواب(2). وأمّا العبادات الواجبة فلا ينجو المكلّف من العقاب بسببها إلّا إذا أتى بها بنية القربة.

(6) نية القربة كما تتحقّق في حالةِ تمييز العبادة كذلك تتحقّق في حالة عدم التمييز.

ومثال ذلك: أنّ الصلاة إلى القبلة واجبة، فقد يميّز القبلة ويعرف أنّ الصلاة إلى هذه الجهة هي الصلاة إلى القبلة فينوي بها القربة، وقد تحتاج معرفته للقبلة إلى السؤال، فلا يعلم هل المطلوب الصلاة إلى هذه الجهة أو تلك؟ فبدلا عن السؤال يصلّي إلى الجهتين معاً بنية القربة دون أن يميّز العبادة المطلوبة بالضبط.

(7) إذا علم المكلّف بأنّ هذا الفعل ليس مطلوباً لله سبحانه وتعالى حرم عليه أن يأتي به بنية القربة، ويسمّى ذلك « تشريعاً » أي « بدعة » والتشريع حرام. وأمّا إذا شكّ في أنّ هذا الفعل هل هو مطلوب لله أو لا؟ وأحبّ أن يأتي به بأمل أن


(1) وخاصّة إذا كان دافعه إلى تلك الأعمال التوصّلية عبارةً عن دوافع الخير الإنسانيّة كالرحمة والرأفة والشفقة وما إلى ذلك، بل لعلّ روايات الثواب تكون شاملةً لهذا الفرض وإن كان فرض قصد القربة هو الفرض الأتمّ والأفضل بلا إشكال.
(2) بل حتّى لو كان كلٌّ من الدافع الإلهي والدافع الخاصّ جزء المحرِّك له نحو الواجب التوصّلي فهو يحصل أيضاً على الثواب بنسبة ما لديه من الدافع الإلهي.
152

يكون مطلوباً له لم يكن آثماً، ويسمّى هذا «احتياطاً». وقد مرّ الحديث عن الاحتياط.

(8) الرياء: هو الإتيان بالفعل من أجل كسب ثناء الناس وإعجابهم، وهذا حرام في العبادات، فأيّ عبادة يأتي بها الإنسان بهذا الدافع تقع باطلةً، ويعتبر الفاعل آثماً؛ سواء أتى بالفعل من أجل الناس وحدهم، أو من أجلهم ومن أجل الله معاً، وقد سمّي ذلك في بعض الأحاديث بالشرك.

وأمّا في التوصّليات فلا يحرم الرياء، ولا يبطل العمل، فمن أنفق على الفقراء ووصل أرحامه وبرّ والديه لا لشيء إلّا من أجل الحصول على ثنائهم وحبّهم، أو من أجل أن يصبح مشهوراً بين الناس بحسن السلوك يقع العمل صحيحاً، ولا يعتبر آثماً، ولكن يفوته رضوان من الله أكبر.

(9) الرياء إذا حصل للإنسان بعد الفراغ من عبادته، بأن صلّى ـ مثلا ـ ثمّ حاول أن يتحدّث وينوِّه بذلك لكسب رضا الناس وثنائهم لا يبطل بذلك العمل.

(10) وإذا كان المكلّف مُقدِماً على العبادة من أجل الله سبحانه وتعالى مخلصاً له في نيته، ولكنّه كان مذموماً لدى الناس ومتّهماً بعدم التديّن فحاول التظاهر بعبادته تلك أمام الآخرين ليدفع عنه التهمة جاز ذلك وصحّت عبادته.

(11) ويكره للإنسان ـ ولا يحرم ـ أن يتحدّث إلى الآخرين بما يقوم به من طاعات وعبادات ﴿فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾(1).

ويستثنى من ذلك ما إذا كان يحتمل نفع الآخرين دينياً بهذا الحديث؛ لما فيه من ترغيب لهم في الطاعة وكان هذا الاحتمال هو الدافع.

 


(1) النجم: 32.